دبي
يأتي كتاب المسبار «التصوف الأكبري ابن عربي– التاريخ- النص» (الكتاب الحادي والثلاثون بعد المئة، نوفمبر/ تشرين الثاني 2017) استكمالاً لاهتمام المركز بدراسات التصوف والإسلام الشعبي والتدين التقليدي والموازي، وللبحث داخل تراث المجتمعات والجمعيات المسلمة، وتاريخ أفكارها الشعبية والرسمية. ولا يمكن إكمال دراسة الإسلام الموازي والتدين التقليدي والتصوف في نسخته البكتاشية أو المولوية، دون المرور على تأثير ابن عربي ومدرسته السلوكية والفلسفية، وتأثيره على الصعد الفكرية والثقافية.
يعاد تسويق محيي الدين بن عربي ضمن جهود محاولة إعادة الإنسان إلى إنسانيته في ظل عصر بات يُسجل «انهيارات مفاجئة» في العلاقات الإنسانية، القائم بعضها على التآخي والتعاضد وملاقاة الآخر والمحبة والغيرية واحتضان الغريب؛ وهذه علاقات بتنا نفتقدها في عصرنا الراهن، ويراهن البعض على أن مثل هذا التراث الموجود والمستعاد يعيدنا إليها، مما يساعدنا على اكتساب «هويتنا» بالانفتاح الداخلي والخارجي معاً.
الطرق إلى الله: قراءة في تجربة ابن عربي الروحية وفي نصوصه
تتناول أستاذة الفكر الإسلامي والفلسفة الصوفية في الجامعة اليسوعية (لبنان): سعاد الحكيم بعضاً من نصوص ابن عربي مرفقة الدراسة بمقدمات أربع تمهد لفهم الطرق إلى الله كما حددها “بحر الحقائق”. وتشير الحكيم إلى أن “تخليص النفس من سطوة «الهوى»، وصقل صفحة القلب من الصدأ، هما الطريق –عند الصوفي– لتحرير الروح (وهو المعبّر عنها بالولادة الثانية للروح). وهذا المطلوب يتحقق بأعمالٍ عديدةٍ، أهمّها أربعةٌ هي: الخلوات، والأذكار، والرياضات، والمجاهدات”. إن طرق الوصول إلى الله عند الصوفيين متعددة وقد حدد ابن عربي أربعة أعمال: من بينها: الخلوة والذكر: إن الإحاطة برؤية ابن عربي في الخلوة وشروطها وأركانها وأزمانها وأنواعها غير ممكنٍ في فقرةٍ واحدة، وهي تحتاج لمقالةٍ مستقلة، لذا أكتفي بذكر أربع نقاطٍ تفيد السالك وتُظهر أهمية الخلوة لكلّ طالب علمٍ أو معرفةٍ بل لكلّ إنسان. والرياضة والمجاهدة: إن الرياضة والمجاهدة هما الأكثرُ فاعليةً في ذات الإنسان السالك على طريقٍ صوفيّ. وذلك لأنهما دربٌ أكيدٌ لتحرير روحه الإنسانيّ وتخليصها من أسر طبْعه ومزاج بدنه. ولذا، نرى ابنَ عربي ينصح السالك بالرياضة والمجاهدة قبل الدخول في الخلوة، وذلك حتى لا تتشوّش عليه خلوته، ولا تنخرق بخُلقٍ سيّئ أو ضعفٍ بدنيّ.
تتطرق الدراسة إلى وصيّة ابن عربي للسالكين بالبحث عن شيخ تربية، ناصحاً المريد بجعل “مسألة البحث عن «الأستاذ» أولويّةً عنده. ولكنْ، وحيث إنّ هذا البحث قد يطول وقته وقد يقصر، فينصحه بألا يضيّع وقته، بل يقوم بأعمالٍ بانتظار العثور على «شيخ تربية». وهذه الأعمال هي تسعة أشياء. وهي بحسب نصّ ابن عربي الذي يخاطب فيه المريد: «أربعةٌ في ظاهرك وخمسةٌ في باطنك. فالتي في ظاهرك: الجوع، والسهر، والصمت، والعزلة.. أما الخمسة الباطنة فهي: الصدق، والتوكّل، والصبر، والعزيمة، واليقين.. فهذه التسعة: أمّهات الخير (…) والطريقة مجموعةٌ فيها، فالزمْها حتى تجدَ الشيخ».
ابن عربي والطريقة الشاذلية
يدرس الأكاديمي المصري أحمد الجزار مكانة ابن عربي عند أصحاب الطرق الصوفية، وتحديداً عند شيوخ الطريقة الشاذلية، محدداً بعض الشواهد التي كشفت عن هذه العلاقة: “فإذا أضفنا إلى ذلك أن ابن عطاء الله السكندري (709هـ) قد ذكر فيلسوفنا ابن عربي في غير ما موضع من مؤلفه (لطائف المنن) تبينا إلى أي حد حظي بمكانه ممتازة عنده. فإذا أضفنا أيضاً إلى هذا كله ما أفاده ابن عطاء الله السكندري من فكر ابن عربي وبصفة خاصة من مبدأ إسقاط التدبير، والذي جعله مداراً للطريق إلى الله، وجعله عنواناً لمصنفه (التنوير في إسقاط التدبير)، تبينا مكانة ابن عربي لدى الطريقة الشاذلية ولدى ابن عطاء الله السكندري بصفة خاصة، ولكي لا يكون هذا القول منا مصادرة على المطلوب، ننتقل لبيان مبدأ إسقاط التدبير لدى ابن عربي أولاً، ثم نتابع تجلياته لدى ابن عطاء الله السكندري من بعده”. يقارن الباحث حدود تأثير ابن عربي في ابن عطاء الله السكندري سواء عبر طريق المجاهدات أو المقامات التسعة، ويخلص إلى أن “ابن عطاء الله السكندري متأثر تماماً بما قاله ابن عربي؛ بدليل أنه يورد أقواله بنصها، الأمر الذي يعني أنه قد عرف مؤلفاته واطلع على بعضها، وأنه قد أخذ منها ما يوافق تعاليم الطريقة الشاذلية التي ينتمي إليها ابن عطاء الله. والأهم من هذا كله –أن المقامات التسعة عنده، والتي هي قوام الطريق إلى الله، أقامها كلها على إسقاط التدبير تماما كابن عربي، فقد ذهب الأخير في مصنفه (الصبر) إلى أن المقامات التسعة لا تصح إلا بإسقاط التدبير بدليل قوله: وأدرك المقامات قبل الممات، وهي: التوبة والزهد والصبر والشكر والخوف والرضا والرجاء والتوكل والمحبة، فأسقط مع الله تدبيرك واجعل الله أميرك”.
ابن عربي في مصر: ضده الإخوان
يعالج الباحث المصري في الإسلاميات والتصوف: خالد محمد عبده مواقف بعض المؤسسات والجماعات الدينية من الشيخ الأكبر ابن عربي، ومن بين المواقف التي درسها وجهات نظر علماء الأزهر من ابن عربي مستشهداً بمواقف قديمة وأخرى حديثة وقد حثّ بعض المشايخ، من بينهم الشيخ ابن الفالاتي المصري، في خطبة بالجامع الأزهر “جمهور المؤمنين على تجنّب البدع، وتجنّب مطالعة الكتب المشتملة على القبيح والمنكر، جاعلاً الفتوحات المكّية وفصوص الحِكم من جملة تلك الكتب البدعية، وسائر ما يشبهها من المتون والشروحات”. وبخصوص موقف الأزهر من ابن عربي في الوقت الراهن يسشتهد الباحث بموقف “شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، فقد سبق له منذ وقت ترجمة العمل الأهم والأبرز لعثمان يحيى: (Histoire et classification de l’oeuvre d’Ibn Arabi 2 Volumes) إلى اللغة العربية، بعنوان: “مؤلفات ابن عربي، تاريخها وتصنيفها”. ربما رأى الشيخ أحمد الطيب أن ترجمة هذا العمل التحقيقي ستحل مشكلة من مشاكل التعامل مع النصوص الأكبرية، ففي مقدمة الشيخ الطيب لترجمة عمل ميشيل شودكوفيتش يرى أن مشكلة تراث ابن عربي تعود إلى أمرين: الأول: موسوعية هذا التراث وتنوع مجالاته وحقوله المعرفية، وتوزعه بين مئات المؤلفات، ما بين مجلدات ضخمة، وكتب متوسطة، ورسائل صغرى، وما بين مطبوع ومخطوط، وما بين صحيح النسبة ومشكوك في نسبته إليه ومنحول. والثاني: الغموض الشديد الذي يستحكم من وراء تعبيرات من أجمل التعبيرات وأكثرها دقة، وتحديدًا على المستوى اللغوي أو الدلالي، مما يثير في ذهن القارئ ظنين متناقضين تمام التناقض، فقد يُحسن الظن بما يقول، ويعود به –بعد تأويل ميسور أو متكلف- إلى المتعارف عليه من قواعد الإسلام، وقد لا يُحسن الظن فيتوقف عند بعض المواضع ليكثف من حولها أبعادًا وظلالاً من الارتياب، يتأذى منها آخر المطاف إلى أن هذا أو ذاك من نصوص ابن عربي يصطدم ويتعارض مع هذا الأصل أو ذاك من أصول الإسلام”.
يلفت عبده إلى نقطة هامة قال فيها: “قبل عشرة أعوام من ترجمة الشيخ الطيب لعمل عثمان يحيى مؤلفات ابن عربي، تاريخها وتصنيفها، كان كتاب الفتوحات المكية بتحقيق يحيى قد صدرت أجزاء عدة منه في مصر، بتقديم إبراهيم مدكور، وقد اعترض التيار الإسلامي في مصر ممثلاً في بعض الإخوان المسلمين على طبع الكتاب، وكانت حصيلة تلك الاعتراضات أن أصدر أحدهم كتابًا في القاهرة عام 1989 بعنوان: (كتاب الفتوحات المكية وما وراءها من أيادٍ خفية)، نشرته دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية. وجسد صلاح جاهين عبر رسوماته في جريدة الأهرام مطالبة بعض الإخوان المسلمين بحرق كتاب الفتوحات المكية، ودار الزمان مرة أخرى وتجدد الحديث في وقت تولي الإخوان المسلمين سدة السلطة في مصر (2012-2013)، ونوقش في مجلس الشعب إتلاف كتاب الفتوحات المكية”.
استشكال بعض المسائل المتصلة بابن عربي
ليس ابن عربي (638هـ/1240م) بالشخصية العادية في مجال التصوف الإسلامي، بل هو وجه بارز من وجوهه النضرة؛ وقامة عالية من قممه الشامخة؛ إذ يجري اسمه سراً وجهراً كلما احتاج محتاج إلى الحديث عن الإشارة أو العبارة في لغة القوم وأحوالهم. ولذلك ليس غريباً أن يحظى بعناية عظيمة من لدن المؤرخين والعلماء. يتناول الأكاديمي المغربي محمد بلال أشمل موقع ابن عربي في التصوف الإسلامي، واستشكال بعض المسائل التي تتصل بـ«مذهبه» في التصوف.
يشير الباحث إلى أن “هناك العديد من المسائل التي يمكن أن تكون مدار استشكال من لدن الباحثين نظراً لطبيعة الخطاب الصوفي عموماً”، وخصوبة تجربة ابن عربي خصوصاً. ويعد مفهوم وحدة الوجود من بين أكثر المفاهيم الأكبرية إثارة للجدل بين الباحثين، ويلاحظ أشمل أن “ابن عربي وإن صرح في غير ما موضع من «الفصوص» و«الفتوحات» بما يسمى بـ«مذهب وحدة الوجود»، كما يقول محقق «فصوص الحكم»، إلا أن ذلك من صميم التأويل، وليس من عين التنزيل. والرأي لدينا هو أن مذهب «وحدة الوجود» قائم في فكر ابن عربي، ولكنه ليس يأتي في صورة نسق معقول، بل هو ثمرة تأويل من لدن النظار الذين جمعوا معاني المذهب، وأقاموه بناء محكما طبقات فوق طبقات”. ولا ريب أن لغة ابن عربي أثارت العديد من الأسئلة بين المتخصصين والفقهاء وقد توخى دائماً ترميز لغته وعمل أيضاً على “اصطناع القول الشعري للتعبير عن بعض أحواله، تكثيفا للرمز، وإمعاناً في الستر. ولذلك نجده، يحمل العبارة الرمزية مما يجعلها تنقاد إلى مقصوده، دون أن تنقاد إلى كمال مقصوده، فيصير كمن لاحت له الكمالات النهائية، لكنه عجز عن تحصيلها بالوسائل الابتدائية”.
نقد العقل في تيوصوفيا ابن عربي
يعرض الأكاديمي المغربي أحمد كازى للعلاقة بين التجربة والتأمل النظري، في حقل التيوصوفيا ويقول: “إن التجربة الحية والمعيشة، هي خاصة وذاتية، وشرط للتحقق، وأما ممارسة النظر ذوقياً، فتحول صاحب الطريق «إلى ترجمان» للتجربة ذاتها: فالوضع الأول محكوم بحال الصمت والإنصات، والثاني بحال الكلام والمشاهدة”. وفي إطار درس بعض الأمثلة حول العلاقة بين التجربة والتأمل النظري يعتبر أن “المحرك إلى نقد العقل عند «الشيخ الأكبر» هو أفقه النظري، الباحث عن معنى الوجود الحق، الذي يندرج ضمن البحث عن الهوية لا الماهية. والغرض هو الإحاطة بالمعنى في كليته من خلال تحديداته أو تجلياته، لأن المبحوث عنه هو ما وراء ذلك. ولهذا عمل ابن عربي على نقد المقولات العشر لإبراز حدود العقل، وبيان أن الوجود الحق هو جمعي، أو كما يقول ابن عربي: «دائرة من حيث جمع الصورة بين المعنى الروحاني والظاهر للبصر».
في حديثه عن الفلسفة يميز ابن عربي بين حكمة الفلاسفة وحكمة «أهل الذوق» وذلك من خلال كيفيات إدراك «المفصّل مجملاً» و«المجمل مفصلاً»: فأهل الحكمة الفلسفية يقفون عند معرفة «المجمل مفصلاً» وأما أهل الذوق فيتخطون ذلك إلى معرفة «المفصل مجملاً»، يقول: «وأما الحكماء أعني الفلاسفة، فإن الحكمة عندهم عارية فإنهم لا يعلمون التفصيل في الإجمال، وصورة ذلك كما يراه صاحب هذا المقام الذي أعطاه الله الحكمة التي عنده عناية إلهية، وهي عند الحق تعيين الأرواح الجزئية المنفوخة في الأجسام المسوّاة المعدلة من الطبيعة العنصرية، من الروح الكل المضاف إليه. ولذلك ذكر أنه خلقها قبل الأجسام أي قدرها وعينها لكل جسم وصورة روحها المدبر لها الموجود بالقوة في هذا الروح الكل المضاف إليه، فيظهر ذلك في التفصيل بالفعل عند النفخ، وذلك هو النفس الرحماني لصاحب الكشف».
في نظرية المعرفة عند ابن عربي
يناقش الباحث والأستاذ الجامعي التونسي: توفيق بن عامر “نظرية المعرفة عند ابن عربي”. لقد أسهم كبار الصوفية عبر مراحل متعاقبة في البناء المفهومي والمنهجي لهذه النظرية، فأضاف كل واحد منهم لبنة في صرح ذلك البناء، وفق ما أتاحت له التجربة وأفضى إليه التأمل والنظر. فما هي الخلاصات التي وضعها ابن عربي حول هذا المفهوم وخصائصه؟ يميز الشيخ الأكبر بين نوعين من المعرفة: معرفة تنتمي إلى العقل، وهي التي تعتمد منهج الاستدلال والتعليل والترجيح والاحتمال والارتباط، وغير ذلك من الآليات العقلية والمنطقية، وهي معرفة مكتسبة تتناول مظاهر الوجود ويشتغل بها الفيلسوف. ومعرفة ذوقية تنتمي إلى النفس، وهي التي تعتمد التجربة الروحية الباطنية، وتلقِّي الفيض الإلهي وليست نتاجاً لنظام ما ولا تخضع لآلية انضباط، وإنما هي معرفة بالفطرة تقع وراء الاستدلال وتتناول حقائق الوجود، ويشتغل بها الصوفي العارف ولذلك فهو في الفتوحات يميز بين ما يسميه «علم العقل» و«علم الأحوال» و«علم الأسرار» ويتبنى المعرفة الذوقية انسجاماً مع توجهه الصوفي”.
يعقد ابن عربي مقارنة بين المعرفة العقلية والمعرفة الذوقية بهدف المفاضلة بينهما، فإذا الأولى عنده هي تأمل لا يفضي بالضرورة إلى نتائج مؤكدة، بل تظل نتائجه عرضة للاحتمال، فهي معرفة لا تدرك الحقيقة في ذاتها، وإنما تبقى مقتصرة على إدراك ظلالها أو على بعض مظاهرها، بينما تتميز المعرفة الذوقية عنده بالإدراك الجوهري والشامل لطبيعة الحقيقة، وإذا ما حدث تعارض بين الاستدلال العقلي والتجربة الذوقية على الصوفي أن يضحي بالاستدلال لصالح الذوق، فما يستفاد من الأنبياء والأولياء أهم مما يستفاد من عقل الفيلسوف، فلئن كان في الاستدلال المنطقي صحة وصدق، فإن ما يقف عليه هو صواب عرضي وجزئي لا يضاهي المعرفة الشاملة بجوهر الحقيقة. ولا نعدم لدى ابن عربي أمثلة توضيحية تدعم هذه المفاضلة وتؤكد نتائجها. تطرق الباحث إلى آليات تحصيل المعرفة كما أرساها ابن عربي والتي حددها بـ”وظيفة القلب”، “عين البصيرة”، “العقل الجزئي”، “عين اليقين”، “نور اليقين”، “وظيفة الخيال”.
أنموذج الحب عند ابن عربي
يعالج أستاذ التصوف الإسلامي في جامعة مرمرة التركية: سليمان درين مفهوم الحب عن ابن عربي، فقد قدم الشيخ الأكبر “في فتوحاته عرضًا مفصلًا وشاملًا ومطولًا لمفهومه للحب. فيبدأ نقاشه للحب من خلال النظر فيما إذا كان الحب هو قابل للتحديد أو لا. فالجواب -من وجهة نظره- أن جوهر الحب لا يوصف: هو الظاهرة التي لا يمكن فهمها إلا من خلال التجربة وما أسماه الصوفية بــ «الذوق». والنتيجة الطبيعية لمثل هذا الرأي هي أن ابن عربي يأخذ موقفًا متشككًا بعض الشيء تجاه أولئك الذين وضعوا خبرات حبهم في كلمات. ووفقًا له، أولئك الذين يدَّعون وصف الحب هم في واقع الأمر يجهلون الطبيعة الحقيقية للحب؛ لأن ما وصفوه ليس الحب، وإنما هو مجرد مظهر أو انعكاس للحب”.
يبين درين أن فهم ابن عربي في الحب يتوقف عن كثب على نظرته الفلسفية العامة التي تستند بقوة إلى مفهوم «وحدة الوجود»؛ وعنده “لا يوجد سوى موجود واحد، وكل موجود غيره ما هو إلا مظهر من مظاهره أو الإشعاع الخارج من الموجود الواحد. ومن هنا، كل شيء آخر غير الموجود الواحد، (وهذا الغير يشمل الكون كله في امتداده المكاني والزماني) هو غير موجود في حد ذاته. ومع ذلك، فإنه يمكن اعتباره موجودًا من خلال الذات الواجبة الوجود”.
وفيما يتعلق بمفهوم الحب –كما نظر إليه ابن عربي- “وكنتيجة طبيعية لهذه التعاليم، يصبح من غير الممكن أن نحب شيئًا يكون حقيقة غير الله تعالى. فإنَّ محبة أي كائن مخلوق، تستتبع تلقائيًّا محبة الله، فهو الباطن في الكائنات كافة التي تتجلى في الكون: ففي الحقيقة، لا يوجد سوى موجود واحد. وفي واقع الأمر هناك حبيب واحد فقط، وهو الله تعالى. لهذا فإن مفهوم ابن عربي لــ«وحدة الوجود» يمكن وصفه بدقة أكثر بأنه «وحدة الحب». لذلك فكل ما نحب، فنحن نحب الله فيه. وعلى حد تعبير ابن عربي، فإن موضوعات الحب المتعددة ما هي إلا الحجاب الوحيد بين الإنسان والله: «في الواقع، الجميع يحب الخالق ولكن الله احتجب بزينب، وسعاد، وهند، والمال أو المنصب».
الجامي وابن عربي: خاتم الشعراء وخاتم الأولياء
يتناول أستاذ الدراسات الفارسية في كلية دراسات الشرق الأدنى في جامعة كاليفورنيا: حامد ألجار، جهود عبدالرحمن الجامي –من مشاهير شعراء فارس- لفهم التعاليم الأكبرية “كمقدمة لشرحها كانت طويلة الأمد وغير مقيّدة بالدراسة النصيّة، إذ تفيد المخطوطات بأنّه سعى أكثر من مرة إلى الاستنارة بآراء أشخاص آخرين حول الموضوع. وقد كان على رأس مستشاريه خواجه عبيد الله أحرار (ت 895هـ/ 1490م)، شيخ النقشبنديّة الأبرز في ذلك العصر، والمقيم أساساً في سمرقند. وعلى الرغم من أنّ أحرار يكبر الجامي بما يقارب اثنتي عشرة سنة، فيبدو أنّ الرجلين كانا يعتبران بعضهما ندّين؛ إذ يقال: إنّهما تعلّما من بعضهما كلّما التقيا. وبمناسبة لقائهما الرابع والأخير، وقد حدث في طشقند عام 884هـ/ 1479م وتواصل على مدى خمسة عشر يوماً، طلب الجامي مساعدة أحرار في فهم مقطع أشكل عليه في كتاب ابن عربي الفتوحات المكيّة، لأنّ مطالعته وتأمّله، كما أقرّ، لم ييسّرا له سبيل الفهم. حينها أمر أحرار أحد مريديه المقرّبين، وهو مولانا أبو سعيد أوباهي، بجلب نسخة من الفتوحات إلى المجلس، وقرأ الجامي بصوت عالٍ المقطع المقصود، لكن بدل التعليق عليه فوراً، وضع أحرار المجلّد جانباً وتحدّث عن بعض المسائل التمهيديّة بخطاب فيه كثير من «الكلام العجيب والغريب»، وحين فتحوا الكتاب مرّة أخرى، ظهر المقصود وصار في غاية الوضوح”.
اهتم الجامي بمفهوم وحدة الوجود عند ابن عربي وعلاوة على النزعة الوجودية “نتج اهتمام الجامي بابن عربي عن إدراك انسجام تعاليمه مع مبادئ الطريقة النقشبنديّة وممارساتها، وهي التي كانت تمثّل المركز الآخر لولاءات الجامي الروحيّة. وقد جاء على لسان أبي نصر بارسا، نجل محمد بارسا الذي تفرّس على نحو خيّر في الجامي حين كان لا يزال طفلاً: إنّ فصوص الحكم كان لوالده مثيل الروح، والفتوحات المكيّة بمثابة القلب؛ وإنّه اعتقد أنّ القراءة المجتهدة للفصوص تؤدّي إلى التزام أكمل بسنّة النبيّ، وهي إحدى المثل النقشبنديّة العليا”.
«أرض الحقيقة» في التصوّف الوجوديّ لمحيي الدين بن عربي
من المعاني العامة في تصوف محيي الدين بن عربيّ معنى البرزخية، وهي الرتبة الوجودية الوسطى التي تجمع بين الضدين، فليس في الوجود طرفان إلا وبينهما برزخ، يجمع ما فيهما من الخصائص والسمات، أو يكون وُصْلة رابطة بينهما، فيكون معنى الكمال فيه أتم؛ فإن الكمال في البرازخ أظهر منه في غير البرازخ؛ لأنه يعطيك العلم بذاته وبغيره، وغير البرزخ يعطيك العلم بذاته لا غير، لأن البرزخ مرآة للطرفين، فمن أبصره أبصر فيه الطرفين.
يناقش الأكاديمي والباحث المصري عبدالرزاق محمد مفهوم أرض الحقيقة وصفتها عند ابن عربي وهي رتبة من الوجود المثاليّ، من جُمْلة مظاهر حضرة الخيال؛ وقد وقف على بيانها وشرح عجائبها الباب الثامن من الفتوحات المكية: «في معرفة الأرض التي خلقت من بقية خميرة طينة آدم، وتسمّى (أرض الحقيقة)، وذكر ما فيها من الغرائب والعجائب»، ويضاف إلى هذا الباب، الذي أفرد لها، بعض الإشارات المتفرقة في أسفار «الفتوحات». يضع ابن عربي مراتب معرفية للوقوف على معرفة أرض الحقيقة: «وأهل هذه الأرض أعرَفُ الناسِ بالله، وكل ما أحاله العقلُ بدليله عندنا وجدناه في هذه الأرض ممكنًا قد وقع، و«إن الله على كل شيءٍ قدير»، فعلمنا أن العقول قاصرة، وأن الله قادر على جمع الضدين، ووجود الجسم في مكانين، وقيام العَرَض بنفسه، وانتقاله، وقيام المعنى بالمعنى، وكل حديث وآية وردت عندنا مما صرفها العقل عن ظاهرها، وجدناها على ظاهرها في هذه الأرض».
ومن المواضع القليلة التي ذكر فيها ابن عربيّ «أرض الحقيقة» -كما يلف الباحث- في غير الباب الذي عقده فيها، ذِكْره لها باسم «الأرض الواسعة»، أخذًا من قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت: 56)، قال: «يعني: فيها، ولي مُذْ عبدت الله فيها من سنة تسعين وخمسمئة، وأنا اليوم في سنة خمسٍ وثلاثين وستمئة، ولهذه الأرض البقاء، ما هي الأرض التي تقبل التبديل؛ ولهذا جَعَلها مسكن عباده ومحل عبادته، والعبد لا يزال عبدًا أبدًا، فلا يزال في هذه الأرض أبدًا».
وحـدة الوجـود عنـد ابـن عربـي: طرائـق التمثيـل ومسالك التأصيـل
شكل مفهوم “وحدة الوجود” أحد أكثر المفاهيم تعقيداً بالنسبة لدارسي ابن عربي يدرس الأستاذ في كليّة الآداب والفنون والإنسانيات في جامعة منوّبة (تونس): محمد بن الطيّب أهمّ طرائق الشيخ الأكبر في التمثيل لوحدة الوجود، وأبرز مسالكه في التشريع لها تأصيلاً، ساعياً إلى الكشف عن بعض خصائص الخطاب الصوفي عند ابن عربي باعتباره أحد كبار أقطاب التصوف في الثقافة الإسلامية. فما هي أبرز صور التمثيل ووسائل التقريب التي اعتمدها لشرح مذهبه وبيان مقاصده؟
يحدد الباحث صور التمثيل بالآتي: التمثيـل بالصـورة والمـرآة، التمثيـل بالدائـرة والنقطـة، التمثيـل بالواحـد والأعـداد. أما مسالك التأصيل فهي عند ابن عربي: التأويل، التوقف، الدعـوة إلى تفريـغ المحـلّ، التبشيــر.
يخلص بن الطيّب في خاتمة دراسته إلى أن “مسالك التأصيل تكشف لنا عن مقصد كلّي من مقاصد ابن عربي وهو إرادة غرس مذهبه العقائديّ في صميم الإسلام، فلذلك طغت آليّة التأويل على غيرها من مسالك التأصيل، ولم تكن المسالك الأخرى من توقّف وتجويز وترغيب وترهيب وتبشير سوى روافد مساعدة على تقبّل العقيدة وتلقّي المذهب. ولم يعدُ التأويل أن يكون تضمينا لمعان ورؤى ومواقف ولطائف وإشارات ورقائق هي من مكوّنات وحدة الوجود ولوازمها، أُريد صرف معنى النصّ القرآنيّ إليها وحمله على أن ينطق بها، فهو في نظرنا نوع من الاحتماء بالقرآن اعتضاداً به واستناداً إليه تأصيلاً للمذهب في الدّيانة وإسباغاً للمشروعيّة عليه وإخراجه في لبوس إسلاميّ، بل قرآنيّ يتّقي به طعن المنكرين وتشنيع المتفقّهين من أهل الظاهر و«علماء الرّسوم»”.
ابن عربي في دراسات «أبو العلا عفيفي» و«عثمان يحيى»
يتطرق الباحث المصري في التصوف الأكبري: خالد محمد، إلى دراسات أبي العلا عفيفي (1897-1966) (عالم بالفلسفة والتصوف الإسلامي) وعثمان يحيى (1919-1997) (أستاذ الدراسات الصوفية في جامعة السوربون بباريس، عرف بتحقيقه لتراث ابن عربي) حول ابن عربي، فبمجرد أن يذكر الشيخ الأكبر يحضر في الذهن عمل الأول الدراسي وعمل الثاني التحقيقي، لذا توجب تخصيص ورقة خاصة بكليهما، نعرّف بهما، ونقدّم مادة من موادهما التي أضحت مجهولة للقارئ العربي اليوم، لعل بعض ما ورد فيها من أفكار يتم تطويره على يد بعض الباحثين ومناقشته.
وزعت ورقة الباحث على المحاور الآتية:
- تعريف بأبي العلا عفيفي
- مقالة في الفتوحات المكّية
- تعريف بعثمان يحيى
- موسوعة الفتوحات المكية وأَسْلَمَة المعرفة الإنسانية
عالج الباحث أبرز الأفكار التي توصل إليها عفيفي ويحيى حول ابن عربي، متناولاً بالتفصيل مذهب ابن عربي والمفاهيم التي أسس لها وفقاً لخلاصات هذين العالمين.