في حزيران (يونيو) المنصرم، حلّ الأمين العام لـ”منتدى أبو ظبي للسلم” الشيخ المحفوظ بن بيه، في قصر الأليزيه، حيث التقى مستشار الرئيس الفرنسي لشؤون أفريقيا والشرق الأوسط باتريك ديرل، وتداول معه في “أهمية استعادة الفاعلية للمشتركات الإنسانية وتعزيز السلام ونشر روح الوئام في العالم”.
بعده شارك بن بيه في احتفال وزارة الخارجية الأميركية بعيد الفطر، بدعوة من وزير الخارجية الأميركي آنطوني بلينكن، وبحضور سفير الولايات المتحدة للحريات الدينية رشاد حسين.
هذه التفاصيل الصغيرة مهمة لفهم المشهد الأوسع، الذي يتنقل فيه الأمين العام لـ”منتدى أبو ظبي للسلم” بين أكثر من عاصمة دولية، مفعلاً “الدبلوماسية الروحية” من أجل بناء شبكة أمان عالمية. وهو في ذلك يسعى إلى أن يمأسس العمل في الحقل الديني، متجاوزاً الرؤية الكلاسيكية، ومنفتحاً على مفاهيم “رحمانية الدين” و”أنسنته”.
العاصمة البريطانية لندن، احتضنت في تموز (يوليو) الماضي، لقاءً في قصر وستمنستر، حيث عقدت جلسة تحت عنوان “الرّحمة والتّعاطف”، بدعوة من مجلس اللوردات، ألقى فيها العلامة عبد الله بن بيه كلمة، إلى جانب الحاخام إفرايم ميرفس، كبير حاخامات المملكة المتحدة والكومنولث.
بن بيه دعا إلى “استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، الذي يعيد الفاعلية لقيم الرحمة والغوث ومعاني التعاون والإحسان”، مشيراً إلى أن “الصراعات التي يشهدها العالم تُبيّن أن شياطين الحروب لا تزال كامنة في النفوس”، لذا فإن “من مسؤولية القيادات الدينية كما رجال السياسة معالجة هذه الأفكار في النفوس والأذهان، قبل أن تخرج إلى العيان”.
بعدها جرى لقاء مع “الأئمة والقادة الدينيين في المملكة المتحدة”. وفي الزيارة نفسها تسلم المحفوظ بن بيه خطاباً رسمياً من رئيس “منتدى مجموعة الدول العشرين للحوار بين الأديان G20” كول دورهام، عبر فيه المنتدى عن رغبته في “استضافة أبو ظبي عاصمة التسامح دورته القادمة”.
الجهود لم تكن منصبّة على الغربِ فقط، فـ”عقدة الخواجة” لا تتحكم أبداً بذهنية فريق عمل “المنتدى” الذي توجه تالياً شرقاً، وتحديداً إلى دولة إندونيسيا، ملتقياً نائب رئيس الجمهورية كياهي الحاج معروف أمين، الذي تلقى دعوة رسمية للمشاركة في الدورة القادمة للمنتدى.
إندونيسيا، خزان مهم عددياً وفكرياً للمسلمين، وهي دولة فيها العديد من التيارات والمدارس الفقهية والعقدية؛ وأيضاً تمتاز بنفوذ واسع لـ”الإسلام الشعبي” البعيد من التسييس، والمتخفف من أدبيات “الإسلام السياسي” المتداولة في أوساط المتأسلمين في الشرق الأوسط.
هذا لا يعني أن جماعات كـ”الإخوان المسلمين” أو “القاعدة” ليس لها تأثير في الشارع الإندونيسي، ولكن هذا الحضور يبقى محدوداً مقارنة بالشارع العام القريب من روح التصوف والرحمة.
عربياً، ليس هنالك كثير التفاتٍ إلى قراءة الخُطب الدينية في إندونيسيا، والكتابات في هذا المضمار محدودة، وربما من أهم ما تم إصداره مجموعة كتب ودراسات نشرها “مركز المسبار للدراسات والبحوث”، منها: «الإيمان البشوش.. إندونيسيا: التنوع وقلق التعدد»، «إندونيسيا: الإسلاميون، الشيعة، الصوفية»، «الإسلامية في إندونيسيا: بين الاتجاهات الراديكالية ومسارات الدولة الحديثة»، «الإسلام السياسي والإسلام اللاسياسي.. صراع الجماعات والجمعيات في إندونيسيا»، وسواها من الأوراق البحثية الجادة.
بعد جاكرتا، توجه وفد “منتدى أبو ظبي للسلم” إلى مدينة جدة، غرب السعودية، ملتقياً الأمين العام لـ”منظمة التعاون الإسلامي” حسين إبراهيم طه، ومن ثم العاصمة الرياض، بهدف تعزيز العمل المشترك مع “رابطة العالم الإسلامي” وأمينها العام د. محمد العيسى، الذي يعمل على تجديد الأفكار الدينية، وتراكم وعي بأهمية احترام “سيادة القانون” و”المواطنة”.
بناء علاقات فاعلة وواسعة مع المؤسسات الدولية والإقليمية المهمة، سيسهم مع الوقت في تخفيف التوترات، وتعزيز تحالف “الحكماء”، وتقليل الأثر السلبي لخطابات الكراهية والعنف والطائفية. وهذه “الدبلوماسية الروحية” تتواءم مع الرؤية التي طرحها رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، عندما أكد أهمية “إقامة شراكات استراتيجية نوعية مع مختلف الدول”، و”تعزيز دورنا ضمن الدول الرائدة عالمياً في تقديم المساعدات التنموية والإنسانية والعمل الخيري”، كما “الاستمرار في مد يد العون إلى المجتمعات في جميع أنحاء العالم من دون النظر إلى دين أو عرق أو لون”.
إن العمل المثابر بهدوء وفاعلية وحصافة وخطة بعيدة المدى من أجل “تعزيز السلم”، بات ضرورة ملحة في الوقت الحالي الذي تتصاعد فيه حدة الخطابات المتمذهبة والصدامات المسلحة، ويسود فيه القلق وحالة من الريبة بين البشر والدول؛ لذا، على المؤسسات والحكومات إذا ما أرادت الحفاظ على السلم الأهلي والأمن والتنمية، أن ترسخ “القانون العادل” و”المساواة” وتتعاضد في ما بينها، وتشكل شبكة أمانٍ واسعة ومتينة، تحمي البشرية من الحروب والصراعات العبثية.