تقديم
أوْلى مَركز المسبار للدراسات والبحوث، المسارات التَّعلِيمِيَّة الإصلاحيّة اهتمامه، وفي كتابه الشهري الجديد «التَّرْبِيَة على الْمُوَاطَنَة في المناهج العربيّة» (الكتاب الثاني والثمانون بعد المئة، فبراير (شباط) 2022) يَستكمِل التّراكم المعرفي في هذا المجال، مركِّزاً في هذا العدد؛ على حضور الْمُوَاطَنَة في مناهج التعليم في نماذج عربيّة مختارة، غَطّت الجزائر والعراق والأردن ولبنان والإمارات العربية المتحدة وتونس. كما شملت فَحص بَرامج التدّريب على الْمُوَاطَنَة في بعض المراكز البحثيّة.
بَدأ الكتاب بالتجربة الجزائرية في التَّرْبِيَة على الْمُوَاطَنَة؛ إذ جَعَلَت المَنظومة التَربَوِيَّةُ في الجزائر تكوين المواطن الإيجابي الصَّالح الواعي بحقوقه وواجباته تجاه وطنه، أحَد أهدافها، خصوصاً بعد عشريَّة الدَّم السوداء التي مثَّلت ذروة العنف؛ والتطرف الإسلاموي، وأكبر مهددات النسيج الاجتماعي. آمَن المختصون التربويون، أن التنشئة الاجتماعية، تتم بواسطة التعليم، فحظيت التَّرْبِيَة على الْمُوَاطَنَة باهتمامٍ وافرٍ عندما وُضِعت المناهج التَّعلِيمِيَّة الحديثة، منذ آمرية 16 أبريل (نيسان) 1976، حيث تبنت مبادئ تَربَوِيَّةً، لتلقين التلاميذ مبدأ العدالة والمساواة بين المواطنين والشعوب، وإعدادهم لمكافحة أشكال التفرقة والتمييز. لاحقًا، تضمّنت مناهج التّعليم الجزائرية مفاهيم أساسيّة في التَّرْبِيَة على الْمُوَاطَنَة، ركَّزَت على تَزويد الطُّلَّاب بمجموعةٍ من المَعَارف والقِيَم والمَهَارَات لتَرسِيخ الانتِمَاء الوَطني والْمُوَاطَنَة؛ لتَطوِير الوَعي الفَردي والجمعي بهما.
أمّا الأنموذج العِرَاقيّ، فتناولته دراسةٌ أعدّها الأكاديميان وليد سالم وحسام الدين مجيد، حلل الباحثان البيانات المتعلّقة بقِيم الْمُوَاطَنَة ضمن المناهج التَربَوِيَّة للدراسة الابتدائية والمتوسطة والإعدادية في العراق عدا إقليم كردستان، وغطت الدراسة وجود (11) قيمة رئيسة تشتمل عليها الْمُوَاطَنَة بصفة عامة، وتتمثل هذه القيم في كل من: العدل والمساواة والحرية والحقوق والنزاهة والتسامح والمحاسبة والولاء للوطن والسلام والحفاظ على المال العام والتعاون. خلصت الدراسة التي تضمنت جداول إحصائية غطت السنوات الدراسية المدرسية، إلى مجموعة من النتائج من بينها: أن الانخفاض الحاد في مستوى التركيز على قيم الْمُوَاطَنَة يعد سمة مهيمنة على المناهج الدراسية في العراق، بل إن بعض هذه القيم مثل العدل والتسامح والمحاسبة لم يرد ذكرها إلاّ في (17) موضعاً لكل منها من مجموع (1812) صفحة للدراسة الابتدائية، هذا نَاهِيكَ عن نسبها الإجماليّة المنخفضة للغاية التي تتراوح بين (1.06 و8.52%) على امتداد إجمالي (5459) صفحة للكتب المنهجية، مَحَل التحليل، والتي غطت التَّرْبِيَة الإسلامية، وكتاب القراءة العربيّة، وكتاب الاجتماعيّات، وقواعد اللغة العربيّة. لمِست الدراسة نقصاً حاداً في تناول قِيَم الْمُوَاطَنَة في المناهج التَربَوِيَّة العراقية، ولعل ذلك يعود إلى نقصٍ تربويّ في إدراك أهميّة تنشئة الطلاب على مبادئها.
في التّجربة الأردنية؛ تناولت دراسةٌ اهتمام النّظام التّعليمي والمركز الوطني للمناهج بالمُوَاطَنَة؛ ضِمن الرّافعة القانونيّة، التي تُرجِمت في الإطار العام للمناهج التَربَوِيَّة، تحت عنوان «القضايا المشتركة والمفاهيم العابرة للمواد الدراسيّة»، وفيها حُددت مجالات ذات صلة بالْمُوَاطَنَة منها: المهارات الحياتية، والقضايا البيئية، وحقوق الإنسان، وبناء الشخصية، والقضايا الوطنيّة والإنسانيّة. اقترحت الدراسة أنموذجاً تضمّن استراتيجيات تنفيذ منهاج الْمُوَاطَنَة في المدارس على مستوى تدريب المعلمين، وتعزيز قيمها في وعي الطلاب، مقدماً أنشطة تطبيقية يمكن تنفيذها على الطلبة.
تطرّق الكتاب إلى تجارب التدريب على الْمُوَاطَنَة في لبنان، وتوقف عند تجربتين: الأولى: «معهد الْمُوَاطَنَة وإدارة التنوع» التابع لمؤسسة أديان، والثانية: «مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية». فعرضت دراسةٌ لتقييم برامج تدريبية لتدريب المدربين والمدربات، وندوات عن الْمُوَاطَنَة والعيش المشترك، ومشاريع التَّرْبِيَة على الْمُوَاطَنَة، التي نُفِّذت عبر التفاعل المجتمعي بالمؤتمرات والندوات التعليمية والدورات التدريبيّة، وبحثت أثرها في الفضاء العام.
طرحت الباحثة والأكاديمية الإماراتية فاطمة الصايغ؛ ملامح أوليّة لتجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، في غرس الْمُوَاطَنَة عبر المناهج، فألقت الضوء على قيم الْمُوَاطَنَة وارتباطها في الهوية الوطنية والثقافية، وناقشت تفاعل الدولة والمجتمع الناجح معها، وسُبل التدريب على الْمُوَاطَنَة الصالحة، فعالجت أولاً: آليات ووسائل تحفيز التَّرْبِيَة على الْمُوَاطَنَة، خصوصاً في مناهج التعليم، وعرضت ثانياً: واقع الْمُوَاطَنَة في الوعي الوطني الإماراتي.
كما سعى الكتاب إلى التعرف على قدرة المجتمع المدني التونسي على تعزيز عقلية الْمُوَاطَنَة الفاعلة، ومكانة التَّرْبِيَة على الْمُوَاطَنَة في مناهج التعليم التونسية. فحاولت دراسةٌ الإجابة عن إشكاليات عدة: هل تطورت التَّرْبِيَة على الْمُوَاطَنَة في النظام التربوي التونسي منذ الاستقلال إلى اليوم؟ وإذا ما كان النّظام التربوي يضطلع بمهمة التَّرْبِيَة على الْمُوَاطَنَة وحده، أم إنها شأن يخص المجتمع برمته؟ إلى جَانِب الهَمِّ التَّربَويّ السَّاعِي إلى تَعزِيزِ قِيَم الْمُوَاطَنَة في الكِتَاب المدرسي، عَقدَت تونس اتفاقيات عدة في سبيل توطيدها، نظريّاً وتدريبيّاً، ولعِب المجتمع المدَنيّ دورًا مُؤَثرًا في هذا السِّيَاق لَا سِيَّما بعد عام 2011.
تَضمَّن الكتاب ببليوغرافيا لمُلخَصاتٍ موجزة لـــ(54) دراسة نُشرت في كتب مركز المسبار الشهريّة، في مجال إصلاح التّعليم الديني ودراسات التّسامح، صَدرَت بين عامي (2010-2019)، بهدف تزويد القارئ والجهات التَربَوِيَّةً المختصة بتطوير المناهج، بالخلفية التاريخية الوافية حول معالجة الإشكاليات والتحديات، وتعزيز طرائق العيش معاً؛ في مساحاتٍ جغرافية غطّت الدول العربيّة وتركيا وإيران وباكستان، وانكشف بها المأزق الخطر الذي تواجهه عملية الإصلاح التربوي، حين يتدخل الإسلامويون في وضع المناهج وتغييرها لصالح الأجندة الحزبية والانغلاق الحضاري.
لا يتيسر المضي في قيم الْمُوَاطَنَة دونَ تشرّب قيم التسامح وقبول الآخر والإيمان بالعيش المشترك، ومن أجل حفز وتيرة تطوير المناهج، حاولت دراسة، توفير مادة تراثية يمكنها المساعدة في تجذير مفهوم التسامح، فنشر الكتاب دراسة تحت عنوان «التسامح في التجربة الروحانية الإسلامية من خلال تراث جلال الدين الرومي»، بهدفين: الأول: رفع الوعي بأهمية التسامح الذي يعد أحد دعائم قيم الْمُوَاطَنَة، والثاني: التنويه بقيمة التسامح في الثقافة الإسلامية ومركزيتها في التصوف. وتوفير مادة تلفت لموادَّ يمكن محاكاتها واستخلاصها من التراث، للبناء عليها، في المناهج.
فِي اَلخِتَام، يَتَوَجَّهُ مَركَزُ اَلمِسبَارِ لِلدِّرَاسَاتِ وَالبُحُوثِ، بِالشُّكرِ لكُلّ فَريق العَمَلِ، والبَاحِثِينَ اَلمُشَارِكِينَ في الكِتَاب؛ ويَخُصُّ بالذِّكرِ، اَلزَّميلَةَ ريتا فَرج الَّتي اقترحت العَدد وأشرَفَت عَليه ونَسَّقَته, والمثقف والمُفَكر السّعودي الزميل فهد بن سليمان الشقيران الذي دعّم المشروع.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
فبراير (شباط) 2022