باحثة لبنانية في علم الاجتماع، عضو هيئة التحرير في مركز المسبار للدراسات والبحوث
يكتسب السجال حول الإسلام في أوروبا حضوراً لافتاً في السنوات الأخيرة. فجر الهجوم الإرهابي على جريدة «شارلي إيبدو» الفرنسية الساخرة في يناير (كانون الثاني) 2015 وأحداث باريس الدامية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، تساؤلاً أساسياً: ما الذي حدث؟
قبل ذلك طرحت منذ تسعينيات القرن الماضي في فرنسا إشكالية الهوية «من هو الفرنسي؟» (Qu’est-ce qu’un Français ?) في وسائل الإعلام والمناظرات الفكرية والكتب، نتيجة التحديات التي يفرضها ملف المهاجرين. انعكس هذا التوجس في الأدب الفرنسي. تمثل رواية «خضوع» (Soumission) (2015) التي صنفها النقاد ضمن أدب الخيال السياسي للروائي الفرنسي ميشال ويلبيك هاجساً مضمراً في اللاوعي الجمعي الفرنسي. وقد توقعت بنبرة استشرافية أدبية وصول مسلم إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية عام 2022.
في بداية الألفية الثانية أشرف الكاتب الفرنسي إيمانويل برينيه (Emmanuel Brenner) على كتاب «الأراضي الضائعة للجمهورية» (2002) وبعدها نشر كتاب «فرنسا، احذري فقدان روحك» (2004). وشهدت الثمانينيات والتسعينيات ظهور خطاب يحذر من مخاطر الدين الإسلامي في المجتمع الفرنسي. نُشر –آنذاك-: «طوف محمد» لجان بيار هوغوز (Jean–Pierre Hugues) (1983)، و«حول الإسلام عموماً والعالم العصري خصوصاً» لجان كلود بارو (Jean–Claude Barou) (1991)، حيث أطلقا صافرة الإنذار من التعاطف المفترض مع الإسلام لدى المثقفين ووسائل الإعلام الفرنسية.
وعلى الرغم من انتشار الأدبيات المحذرة من الإسلام في فرنسا، لا سيما في العقدين الأخيرين، عمل كتّاب آخرون على فهم تعقيدات «الإسلام الفرنسي» خارج إطار صدام الهويات والحضارات. ونشرت أعمال عدة اتصفت بالموضوعية والحياد، نذكر منها –على سبيل المثال- كتاب الباحث الفرنسي أوليفييه روا «نحو إسلام أوروبي» وهو لا يتخذ نهجاً تقريظياً، إنما يسعى إلى تفكيك الإسلام الأقلوي داخل فضاء علماني لا يكترس بالدين.
في كتاب «مسلمون في الحياة اليومية: تحقيق أوروبي حول المجادلة المحيطة بالإسلام»[1]، الصادر بالفرنسية عام 2015، تتناول عالِمة الاجتماع التركية- الفرنسية نيلوفير غول (Nilüfer Göle) [2] في تحقيق امتد بين عامي 2009 و2013، طاول (21) مدينة أوروبية، السجالات الدائرة حول المسلمين في أوروبا. قادت فريق عمل واسعاً ضم باحثين وطلاباً في مرحلة الدكتوراه من دول أوروبية عدة؛ لإجراء مقابلات ولقاءات جماعية مفتوحة مع المهاجرين الذين حصلوا على الجنسية الأوروبية بالإضافة إلى الأوروبيين.
تحدد الكاتبة خريطة طريق أساسية. تحاشت الدخول في فضاء البروباغندا الأكثر رواجاً، القائلة بالتعارض بين الإسلام والقيم الأوروبية، فتطرقت إلى مجال المسلمين العاديين[3]. وناقشت ست قضايا رئيسة تُعد من بين الموضوعات الأكثر عرضة للجدال في أوروبا: صلاة المسلمين، الجوامع والمآذن، الفن، المقدس والعنف في الإسلام، الحجاب، الشريعة الإسلامية، وأنماط الحلال.
الأوروبيون… قلق الهوية
منذ نهاية القرن التاسع عشر ظهر المسلمون في أوروبا في المشاهد المدينية على خلفيات إثنية ومذهبية عدة. بقي هذا الحضور «لا انفعالياً» في مجتمع الأكثرية. وما إن أصبح الإسلام مرئياً في المجال العام حتى أدى إلى إحداث اضطراب في المتخيل الجمعي الأوروبي في موازاة مبادئ «الدَّنْيَوة» (sécularisation) والحرية. تثير غول الإشكالية التالية: هل الإسلام قابل للتكيف مع القيم الغربية أم لا؟
تعود بنا إلى سياقات بارزة جعلت من الإسلام الأوروبي مسألة سياسية وثقافية يتخللها الكثير من التوتر: الإرهاب الإسلاموي، فتاوى التكفير، المحجبات في أوروبا، كما لو أننا أمام حرب يتنافس على ساحتها المسلمون المهاجرون والأوروبيون. وفي ملاحظة دالة تعقيباً على الهجمات الإرهابية التي تعرض لها الغرب، خصوصاً في الولايات المتحدة (2001)، ولندن (2005)، تشير الكاتبة إلى أن الجهاديين يعمدون إلى مهاجمة الأماكن العامة الجامعة للألوان: الطرقات، المراكز التجارية، المتاحف، المكتبات، والمدارس، من أجل كسر روابط التلاقي التي تشكل قاعدة مشتركة[4].
طغى على الكتاب هم معرفي يمكن إدراجه في الثنائية التالية: عالم أوروبي قطع مع الديني مقابل مرئية الإسلام برموزه الدينية والشعائرية. لا تهدف غول إلى تبني اتجاه تعارضي «إما أننا مع القيم الأوروبية، أو أننا مع الإسلام». تفادت الدخول في السجالات الهوياتية بغية التركيز على ما هو يومي والمعيوش لدى المسلمين الأوروبيين الذين تناولهم التحقيق الميداني.
نظر بعض الأوروبيين إلى القوى التقليدية حاملة لواء الشريعة وتحجيب النساء داخل أوروبا كـــ«هجمة» ترفعها قوة الإسلام الوافدة من أرض المسلمين، أي كواقع متحقق عندهم، مما أدى إلى إنتاج تهديد يتقاذفه عالمان متقابلان. هذا «التوتر القيمي» ضاعف من التشابك، حيث مُنع في عدد من الدول الأوروبية حمل الرموز الدينية داخل المدارس والمسابح والمحاكم من أجل تحجيم مرئية الإسلام.
تُعد إشكالية العلمانية والإسلام من أكثر الإشكاليات إثارة للجدل في فرنسا. شكل تقديس العلمانية كمبدأ سياسي وثقافي عقبة أمام أشكال التعبير الديني، إذ تعاملت العلمانية الفرنسية بقسوة مع المظاهر الدينية. يطرح المؤرخ الفرنسي جان بوبيرو (Jean Baubérot) في كتابه (Les laïcités dans le monde) (العلمانيات في العالم) رؤية مختلفة، محدداً أربعة مبادئ تنهض عليها العلمانية: فصل الكنيسة عن الدولة، حياد السلطة العامة تجاه المؤمنين، حرية الوعي، والمساواة في الحقوق. بحسب بوبيرو، النقاش حول الإسلام وتحريم الرموز الدينية في المجال العام أدى إلى تضخم مبدأ الحيادية، إلى درجة تحليله كتحييد للمجال العام وليس حياد السلطة التي تحترم القواعد. وقد صنف هذا المفهوم ضمن خانة «العلمانية الرادعة» المانعة للتعابير الدينية التي أباحها قانون 1905، حيث أعطى مكانة خاصة للأديان على الرغم من عدم اعترافه بأي ديانة، أي إن حرية المعتقد تكفلها الجمهورية الفرنسية للجميع.
أصبح تقليد العلمانية منظومة تُعرف بها الهوية الفرنسية، فغدت شرطاً لاندماج المسلمين المهاجرين. في التسعينيات ظهرت أدبيات تحمل أسئلة الهوية الفرنسية: أيُّ هوية نريد؟ وهل هويتنا كفرنسيين مهددة بعودة الديني المتمثل بالإسلام؟ لم تكن فرنسا استثناء. طرحت ألمانيا سؤال الهوية نفسه حيث صدر كتاب «ألمانيا تسعى إلى حتفها» (L’Allemagne court à sa perte) (2010) للسياسي الألماني تيلو سارازين (Thilo Sarrazin) وامتد هذا القلق من الإسلام إلى إيطاليا عندما نشرت الصحفية الإيطالية أوريانا فالاتشي (Oriana Fallaci) (1929-2006) بعد هجمات سبتمبر (أيلول) «الغضب والكبرياء» ( La Rage et l’orgueil) فاستعادت على طريقتها مقولة صدام الحضارات التي أسس لها برنارد لويس، واستعان بها لاحقاً صموئيل هنتنغتون، معتبرة الإسلام عدو الغرب. وخلصت عبر مقارنة دينية إلى أن رب المسيحيين ليس لديه أي جامع مشترك مع الله في الإسلام، فالأول رب الحب والغفران والثاني على طرف نقيض.
في المقابل، فتح بعض الكتّاب الأوروبيين السجال حول «أزمة التعددية الثقافية» في أوروبا. بالنسبة للفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، تمثل عودة النقاش العام حول الإسلام مؤشراً منبهاً حول كراهية الأجانب (xénophobie) في أوروبا. تناول طارق مودود (عالم السياسة ومفكر التعددية الثقافية في بريطانيا) تعبير «العنصرية الثقافية» مقابل جماعات أخرى مختلفة ثقافياً. أما السوسيولوجي الفرنسي فنسان جيسير(Vincent Geisser) فقد ميَّز في كتابه (الإسلاموفوبيا الجديدة) (La nouvelle islamophobie) بين الإسلاموفوبيا والعنصرية، ناظراً إليها من خلال العلاقات بين الأكثرية والأقلية عبر جعل أوروبا الضحية.
حرب كلامية عن صلاة المسلمين والمساجد
طرحت صلوات المسلمين –لا سيما صلاة الجمعة- في الأماكن العامة مشكلة في فرنسا[5] بدءاً من عام 2000. كانت مارين لوبان (زعيمة الجبهة الوطنية) من أوائل الذين نظروا إلى هذه المسألة من الزاوية السياسية. في ديسمبر (كانون الأول) 2010 وصفت الصلوات في الشوارع بـ«الاحتلال» مقارنة إياها بالاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية الثانية. في بولونيا التي تضم أكبر كاتدرائية في العالم سجل نقاش حاد حول صلاة المسلمين في الشوارع والساحات. فتحت التظاهرة التي قام بها المسلمون تضامناً مع أهالي غزة إثر الاعتداء الإسرائيلي عام 2009 والتي تلاها صلاة جماعية باب المخاوف. وقد أدرجت الممارسات الدينية في سياق «أسلمة أوروبا» و«التهديد الإسلامي في إيطاليا» ونُظر إليها كعلامة دينية تفاخرية مقلقة.
أجرت غول لقاء في بولونيا (يونيو/ حزيران 2009) ضم ثلاث مسلمات محجبات وإمام جامع وشاباً مسلماً مقابل ثلاثة من رابطة الشمال الإيطالية المعروفة بطروحاتها الشعبوية والعنصرية، وهؤلاء ينشطون في مجال منع بناء المساجد. كشف الحوار عن استقطاب حاد بين أعضاء الفريق، وعن اختلاف في وجهات النظر. لقد بدا خطاب الإسلاموفوبيا مدمراً للفضاء العام الأوروبي، لا سيما في إيطاليا، وأظهر التحقيق المخاوف المتبادلة بين الطرفين.
شكل الاستفتاء المؤيد لحظر المآذن في سويسرا (2009) ضربة للحريات الدينية والتسامح. أيّد نحو (57.5%) من السويسريين مبدأ الحظر على خلفية نمو أيديولوجيا إسلامية. ويشار إلى أن نظام «الديمقراطية المباشرة» في سويسرا يسمح للأحزاب ومجموعات من الأفراد بطرح قوانين يصوت عليها من خلال استفتاءات شعبية في تجاوز للبرلمان. بعد أسبوع على الاستفتاء قادت غول فريق عمل في جنيف. أظهر لقاء مع مجموعة من السويسريين والمسلمين الحاصلين على الجنسية السويسرية، تبايناً واضحاً في الآراء: طرف اعتبر أن من حق أتباع الديانات ممارسة شعائرهم الدينية، مع ضرورة احترام القوانين العامة، وآخرون رأوا أنها تهدد الهوية السويسرية. في سراييفو أدت المطالب التي رفعها مسلمون لبناء مسجد جديد في حي «علماني» إلى تنامي رهاب الأسلمة. خلال التحقيق الميداني يوم 27 يونيو (حزيران) 2010 كشفت الأفكار خلال الحوار المفتوح عن قلق عام لدى المشاركين من البوسنيين إزاء مخاطر السلفية. وعلى الرغم من سيطرة مظاهر الإسلاموفوبيا كما تطرحها مسألة بناء المساجد والمآذن، ثمة استثناءات في المجال الأوروبي. تخرج مدينة كولونيا الألمانية على القاعدة، حيث تمكنت الهندسة الجديدة لمسجد كولونيا المركزي المتآلف مع نمط العمارة الأوروبية من إنتاج مساحات للتعارف والتعايش بين الديانات، على الرغم من الاعتراضات[6] التي رافقت مراحل البناء.
الفن والمقدس والعنف
تناقش غول في الفصل الخامس إشكالية الفن والمقدس لدى المسلمين في الدول الأوروبية. وتنطلق من مجموعة ملاحظات أساسية، من ضمنها اللامبالاة المسيحية إزاء أنماط السخرية التي تتعرض لها المعتقدات الدينية في المجال المسيحي[7]، بينما يشدد المسلمون الأوروبيون على ضرورة احترام الديانات دون المساس بالمقدسات. فكيف يمكن فهم هذا التعارض بين منظومتين تنظران إلى الفن والمقدس بأسلوب مختلف؟ تبرز الكاتبة بعض الأحداث التي شكلت جزءاً من السجال العام في أوروبا، مثل الرسوم الدنماركية الشهيرة التي ظهرت في 30 سبتمبر (أيلول) عام 2005، وسيناريو الفيلم القصير الذي وضعته الناشطة أيان حرسي علي «خضوع»[8] للمخرج الهولندي ثيو فان غوخ، الذي أدى إلى مقتله عام 2004. بدءاً من التسعينيات أصبحت الروابط بين الفن والأدب والإسلام جزءاً من النقاش العام الدائر في الأوساط الثقافية الأوروبية، مع استعادة متكررة لما تعرض له سلمان رشدي الذي صدرت فتوى بهدر دمه من قبل الخميني، على خلفية كتابه ذائع الصيت «آيات شيطانية».
تقدم الأنثروبولوجية الأميركية صبا محمود (1962-2018)، تحليلاً مهماً حول كيفية تفاعل المسلمين مع الرسوم الدنماركية. ترى أنها أحدثت جرحاً معنوياً كونها طاولت شخصية الرسول الذي يتمتع بقدسية متعالية، وجددت السجال حول الانتقادات العلمانية الأوروبية، حيال إشكالية الفن والعنف في الإسلام.
العلمانية الإرشادية والحجاب التفاخري
يحمل الحجاب لدى غالبية الأوروبيين معنيين: الرمزية التفاخرية والعزل الجنسي. بدأ النقاش حول الحجاب في فرنسا عام 1989 على خلفية طرد ثلاث طالبات مغربيات من معهد كابريال هافاز في ضواحي باريس، بعدما رفض مدير المدرسة قبولهن بالحجاب كونه تحدياً صريحاً لعلمانية الدولة[9]. وُضع السجال حول الحجاب على طاولة البحث في فرنسا مجدداً عام 2003 على خلفية حوادث اجتماعية عدة، فتم تشكيل لجنة ستازي، وهي لجنة تضم علماء ومفكرين متخصصين في قضايا المجتمع المدني، من بينهم: ريجيس دوبريه، وجيل كيبل، ورينيه ريمون، ومحمد أركون (1928-2010)، بالإضافة إلى موظفين وبرلمانيين يمثلون مختلف الأحزاب، وممثّلين عن منظمات المجتمع المدني. دعا التقرير الذي تقدمت به اللجنة إلى تطبيق مبدأ العلمانية[10] في الجمهورية الفرنسية، وطالب بسن قانون يشدد على علمانية المدارس وحيادها، ويمنع كل الرموز الدينية الواضحة في المدارس والدوائر الحكومية والبلدية والمستشفيات العامة، بما في ذلك الحجاب والقلنسوة اليهودية والصلبان الكبيرة والألبسة، وكل ما يمكن أن يدلل على انتماء ديني أو سياسي.
على الرغم من حال التجاذب المحموم الذي يحمله السجال حول الحجاب في أوروبا، سجلت المسلمات المحجبات حضوراً فاعلاً داخل الأوساط السياسية والثقافية والاجتماعية. كن مرئيات وفاعلات في وسطهن الاجتماعي. وفي سبيل الإضاءة على هذه الفاعلية الأنثوية الإسلامية، كشفت اللقاءات مع المحجبات عن انخراطهن في الثقافة الأوروبية، وعن فاعليتهن كأقلية واعية بحقوقها، بعضهن دافعن عن الحرية الجنسية وعن حقوق المثليين وعن أحقية النساء المسلمات في المشاركة بالحياة السياسية ودخول البرلمان والانتماء إلى الأحزاب. غالبيتهن اعتبرن أن المواطنة الأوروبية تتقدم على كل هويات فرعية أخرى.
ماذا نفعل بالشريعة؟ وأساليب حياة الحلال
خلصت غول إلى أن سؤال الشريعة المطروح في الوسط الإسلامي الأوروبي يتخذ معنيين: الحتمية والمرونة. وأشارت إلى أن الجيل الثاني من المسلمين يبتكرون أساليب توافقية بين الضوابط الإسلامية التي تطالب بها الشريعة وحياتهم كأوروبيين معاصرين مندمجين في ثقافاتهم الأوروبية.
لا يطبق الجيل الشاب في المجتمعات الأوروبية الشريعة بأنماطها التقليدية. يفضلون الاستخدام الانتقائي لـ«الحلال». يتجهون إلى ابتكار مفاهيم جديدة أكثر مرونة وعصرية حول الذبح الحلال والصلاة، والفن، والعلاقة مع الجسد، والجنس والحب والموسيقى. ويعملون على توفير توافقات خاصة تؤهلهم للعيش اليومي ضمن سياقات تجمع بين الدين والحداثة. لقد أنتجوا توليفة خاصة بهم امتدت إلى استهلاك الأكل الحلال، وممارسة الهيب هوب الإسلامي، والمشاركة في الاحتفالات دون شرب الكحول.
يعيش الشباب المسلم تقاليده الدينية وفقاً للسياق الأوروبي، من أجل بناء «تسوية موقتة» (modus vivendi)[11] إسلامية في حياتهم اليومية، استناداً إلى انتقائية تسمح لهم بالولوج إلى حياة عصرية دون التخلي عن الممارسات الدينية، وعن خصوصيتهم كمسلمين مؤمنين.
يكشف الكتاب عن التوليفات الدينية والمجتمعية التي أنتجها الجيل الثاني من المسلمين في مجالٍ أوروبي يتخذ مواقفاً حادة من الدين برموزه المادية والرمزية. لقد دمجوا مظاهر الحداثة مع إيمانهم الديني، فأضفوا أشكالاً جديدة من التهجين تختلط فيها الهوية الدينية مع العرق والثقافة الأوروبية.
[1] Nilüfer Göle, Musulmans au quotidien. Une enquête européenne sur les controverses autour de l’islam, Paris, La Découverte,1 er Édition, 2015, 294 p.
[2] أستاذة علم الاجتماع في كلية الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية (EHESS) في باريس. صدر لها:
)Musulmanes et modernes: voile et civilisation en Turquie)، (Interpénétrations: L’Islam et l’Europe.(
[3] تركز غول على الطبقات المتوسطة المندمجة في الثقافة الأوروبية. مصطلح «المسلمون العاديون» -كما تفسره- هو مفهوم متعدد، بل هو تحدٍ سوسيولوجي، لأن هذه الفئة غير موجودة كوحدة، لكنها مع ذلك، تلقي الضوء على صورة لمسلمين منخرطين كلياً في الحياة الاجتماعية في الدول الأوروبية، ينتمون لتقليد إسلامي دون أن يكونوا منخرطين في «النضال» باسم الإسلام. غطت الدراسة الميدانية الرجال والنساء من جنسيات مختلفة تتراوح أعمارهم بين 19 و 45 سنة ويعملون في ميادين مختلفة. بالنسبة لأغلبهم، ممارسة إيمانهم بشكل عادي في السياق الأوروبي، يعني التأقلم والتعامل مع القوانين المدنية، ولكن أيضاً إعادة دراسة التعاليم الإسلامية. تشير الكاتبة إلى أن مفهوم «عادي» لا يعني أن الشخص غير مرئي أو سلبي. فالتعبير عن الإيمان مثل وضع الحجاب أو أداء الصلاة هو شكل للفعل الذي يمكن أن يكون ذاتياً خاصاً أو عمومياً مرئياً. وتضيف: «هؤلاء مندمجون تماماً لأنهم متمكنون من اللغة ويتوفرون على عمل ويعرفون تقاليد بلدانهم. ولكن عندما يريدون ممارسة تدينهم يصبحون مرئيين بدل أن يذوبوا في المجتمع السائد». راجع: حوار مع عالمة الاجتماع التركية نيلوفير غول حول كتابها الأخير، 20 ديسمبر (كانون الأول) 2015، موقع الإسلام الديمقراطي، على الرابط التالي:
http://democraticislam.org/news_details.php?lang=ar&id=88
[4] تقدم الصحفيَّة والكاتبة السياسيَّة النرويجيَّة أوسنه سييرتاد تحليلاً مميزاً في تفسيرها لمصطلح «المنطقة الرَّماديَّة» قاصدة بذلك أن الجهاديين وعلى رأسهم داعش يعملون على استهداف الأماكن المشتركة أي المنطقة الرمادية التي تحتوي على خليط من الثقافات والأديان؛ أي تلك المنطقة الَّتي بين الأسود والأبيض؛ بين «نحن» و«هم»؛ بين «مع» و«ضدّ». تخلص سييرتاد إلى أن داعش تعرف ماذا تريد، وهي لا تخفي دوافعها. في نشرته «دابق» لشهر شباط (فبراير) 2015 ذكر تنظيم داعش أنَّ هدفه هو «شطب المنطقة الرَّماديَّة». وتقول النَّشرة إنَّ الكفاح ضدَّ المنطقة الرَّماديَّة بدأ مع هجمات 11 سبتمبر 2001 عندما وجدت البشريَّة نفسها إزاء معسكرين عليها أن تختار بينهما: معسكر الإسلام ومعسكر الكفَّار. وتحيل إلى قول لأسامة بن لادن: «بوش كان محقًّا عندما قال: »أنت إمَّا معنا أو مع الإرهابيين«، فإمَّا إنّك مع الصليبيين وإمَّا إنَّك مع الإسلام». فداعش، ببساطة، يمكنها أن تتبنى خطاب بوش عن محور الشَّر، ولا يتطلَّب الأمر سوى أن يتبدّل المحور من منطقة إلى أخرى، ومن دولة إلى أخرى. فمثل بوش، تطالبك داعش بأن تكون إمَّا مع أو ضدّ. والمشكلة، وما تكرهه داعش أكثر من أيّ شيء آخر، هي المنطقة الرَّماديَّة. والدَّائرة الحادية عشرة من باريس هي المنطقة الرَّماديَّة المثاليَّة لداعش: فهنا يعيش الكفَّار جنبًا إلى جنب مع المسلمين الَّذين هم – بالمناسبة – ليسوا مسلمين حقًّا في نظر داعش وإنّما «خونة ومنافقون وعملاء»، أي من ندعوهم عادةً علمانيين أو مسلمين معتدلين يعيشون حياتهم في أوروبا». انظر: سييرستاد، أوسنه، داعش ورهاب الإسلام: الدَّوافع المشتركة، موقع الأوان، 1 ديسمبر (كانون الأول) 2015، على الرابط التالي:
http://www.alawan.org/article14696.html
[5] يطالب المفكر علي حرب المسلمين في أوروبا بـ « التوقف عن التعريف بأنفسهم من خلال الصفة الدينية، باستبعاد عبارات الجالية أو الطائفة (…) والامتناع عن استخدام العلامات الدالة على الهوية في الفضاء العمومي وفي المؤسسات العامة، كبناء المآذن والذبح الحلال وأداء الصلاة خارج المسجد، فضلاً عن الحجاب نفسه». ويضيف: « لقد اتخمنا إشهاراً وتسجيلاً للهويات في الساحات وعبر الشاشات، لكي نحصد كل هذه المساوئ والمفاسد أو المآسي والكوارث، حروباً أهلية في البلاد العربية، أو تخريباً للعلاقة بين المسلمين وبين مجتمعاتهم الأوروبية». ويعتبر حرب « أن الإشهار للهوية، خصوصاً في المجتمعات الأوروبية ينمّ عن جهل وعنصرية، تماماً كما ينمّ في المجتمعات العربية عن ادعاء أو تعصّب أو نفاق. وإلا كيف نفسر كل هذه الانهيارات والتراجعات بعد صعود رجال الدين على المسرح؟ فالأحرى والأوْلى أن يتصرّف المسلم كمواطن فرنسي، على قِدم المساواة مع سواه من المواطنين، أياً كانت أصولهم أو مذاهبهم». انظر: حرب، علي، «لا مصالحة بين الإسلام والحداثة»، الملحق الأسبوعي، جريدة النهار اللبنانية، 21 مارس (آذار) 2015، على الرابط المختصر التالي:
http://cutt.us/bhTU0
[6] تأتي حركة «من أجل كولونيا/ برو كولونيا» اليمينية في مقدمة من بدأ بشن الحملة ضد بناء المسجد. وتطالب هذه الحركة اليمينية المتطرفة بوقف البناء معتمدة في ذلك على شعارات معادية للإسلام.
[7] خلص علي حرب في تحليله للهجوم الإرهابي على مجلة «شارلي إيبدو» إلى أن «المسلم الفرنسي يتمترس وراء هويته الأركيولوجية وطوطمه النبوي. إذ هو يطالب بمنع وسائل الإعلام من التعرّض بالنقد لرموزه ومقدساته. ولكن لماذا تعطيه الدولة الفرنسية امتيازاً خسرته الطائفة الكاثوليكية، إذ في فرنسا من الجائز التعرّض للمسيح ولآباء الكنيسة بالنقد السافر، الساخر أو الفاجر». انظر: حرب، علي، «لا مصالحة بين الإسلام والحداثة»، مرجع سابق.
[8] تناول الفيلم القصير (12 دقيقة) سوء معاملة الإسلام للمرأة. وقد حاولت أيان حرسي علي نقل فكرة مفادها أن النساء المسلمات يتعرضن للإهانة في العالم الإسلامي. ويعكس الفيلم كما تلاحظ غول التجاور الصادم بين المقدس وعري جسد المرأة.
[9] دعا ليونيل جوسبان، وزير التربية الوطنية آنذاك، إلى اعتماد الحوار، ورفع الأمر إلى مجلس شورى الدولة. في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1989 أعطى مجلس شورى الدولة رأيه، مشيراً إلى أن «ارتداء الطالبات إشارات غايتها إظهار انتمائهن الديني لا يتعارض، بحد ذاته، مع مبدأ العلمانية». إلا أن هذا المبدأ المنفتح أُرفق بشروط أخرى تؤدي في النتيجة إلى منع ارتداء الحجاب الإسلامي. وفي عام 1994 أصدرت وزارة التربية الوطنية تعميماً جاء فيه: «إن ارتداء تلك الإشارات بشكل ظاهري هو عنصر من عناصر التبشير الديني». انظر: شاهين، جيروم، فرنسا تناقش تحجّب المسلمات، جريدة المستقبل اللبنانية، الثلاثاء 20 مايو (أيار) 2003.
[10] في كتابه «العلمانية الزائفة» (La laïcité falsifiée) ساجل جان بوبيرو تقرير لجنة ستازي معتبراً أنه يعكس عدم حيادية الدولة تجاه المجال الديني.
[11] كلمة لاتينية تعني “تسوية موقتة” (Modus Vivendi).