التربية على المواطنة تحدٍ كبير وجاد يواجهه النمط المؤسسسي للدولة الحديثة؛ وذلك لأسبابٍ عديدةٍ منها تنازع مؤسسات الدولة من قبل الأحزاب المسيّسة الثورية، أو محاولة تقويض العلاقة بين الإنسان وبيئته ومجتمعه ودولته بسبب الترويج للنزعات الانفصالية. والأحداث التي تعصف بين فترةٍ وأخرى تؤثر على بعض قيم المواطنة وتطرح تحديات تتعلق بالاستقرار، وهذا موضوع انتباه أمني وسياسي كبير. كما أن سكنى التاريخ، واللجوء غير المبرر لقضايا خارج سياق التماس مع الدولة وأسسها، يحتمان علينا التركيز وعدم الانسياق وراء خطابات وشعارات إعلامية عمومية تجعل أولويات الآخرين موازية لأولوية الوطن الأم، لذلك كان لزاماً على المتخصصين خوض غمار هذه الإشكالية ومواجهتها على المستويات كافة.
وقد سعدتُ حين اطلعتُ على كتابٍ مهم بعنوان: «تحديات قيم المواطنة»، صدر عن «مركز المسبار». هدف الكتاب دِراسة الدَّعائم المعزِّزة لفِكرَة الدَّولة؛ والمحصِّنة لِلمجتمع مِن أحابِيل الحركات الإسلاموية، والتركيز على التَّحدِّيات والفرص التِي تُواجههَا مَنظُومة القيم المتَّصلة بها؛ المتمثِّلة في التَّسامح والتَّضامن والاحترام والاعتراف والالتزام بِالقانون والوطنيَّة، فيتناول أنماطاً مُتَعددَة مِن المواطنة وقيمها التي طورتهَا مُلاحظات الفلاسفة والمنظِّرين السِّياسيِّين، اِستجابةً منهم لِمَا واجهَته بُلدانهم مِن نِزاعَات أهليَّة وولاءات عابرة، وتحدِّيات للعيش المشترك، وسأعرض هنا خلاصات للكتاب لتعزيز الأسئلة والنقاش حول هذا الموضوع الحيوي.
تَنَاولَت فَاتِحة دِراسَات الكتَاب، ثَلاثَة طُروحَات لِفلاسفة ألمَان؛ تَبايَن حُضُور قِيم المواطنة فِي نظريَّاتهم. فَنَاقشَت تنظيرات أكسِيل هُونيث (Axel Honneth)، وجدليات يورغن هابرماس (Jürgen Habermas)، وطروحات هانس يُوناس (Hans Jonas). إِذ اكتسَب مَفهُوم الاعتراف عِند هُونيث أهَميَّةً قُصوى فِي تَشكِيل الهوِية الذَّاتيَّة، فبِغيابه يَفقِد الفرد صِفَته الشَّخصيَّة ووضعيَّته الفرديَّة. بينمَا اِحتلَّت قِيم الحوار والتَّواصل واحترام القانون والمجال العام مَكانَة كَبِيرَة فِي كِتابَات هابرماس، الذِي نظر للِمواطنة العالميَّة، فِيمَا يُشدِّد على أخلاقيَّات النِّقَاش أو الحوار القائمة على: التَّواصل والتَّفاهم والحرِّيَّة والعقلانيَّة والتَّحرُّر. بينمَا أولَى يُوناس أهَميَّة لِلفلسفة الإيكولوجيَّة فِي تنظيراته، وأراد التَّأسيس لِأفكَار جَدِيدَة حَول حَاضِر ومستقبل البيئة والإنسان. لَم تُشِر الدِّراسة إِلى المسارات السِّياسيَّة والثَّقافيَّة التي نَشأت فِيهَا النظريّات، ولا أزمَات ألمانيَا فِي القرن الماضي، التِي أنتَجت المدارس الثَّلَاث، التي تتطوّر إلى الآن، ويمكِن مُلَاحظَة صِلة كُلِّ فيلسوف بِأزمة مِن الأزمات، نتاج الحروب، أو سياسة الذَّاكرة، والمسؤوليَّة المستقبليَّة. ولئِن اِختلَفت هَذِه المدارس ونزعاتهَا، إِلَّا أنهَا تَتفِق فِي تَعزِيز قِيم العيش المشترك والتَّسامح.
إِذن، فَقيَم المواطنة تَبرُز عن تحدٍّ بِعينه، وتترافق مع ظَرف الوعي السِّياسيِّ والقانونيِّ بِأهمِّيَّة السِّلم المجتمعيِّ، لِذَا تَنَاولَت المادَّة الثَّانية سِياقَات وِلادة الوعي بِالمواطنة فِي ثَلاثَة نَماذِج: الأول الأنموذج الرَّاوندي، الذِي بَانَت فِيه صَدمَة الإبادة والحرب، فتَطرّقَت إِلى المعاناة والدُّروس المستفادة مِنهَا؛ فِي سبيل إِعادة البنَاء الدَّاخليِّ وتحقِيق المصالحة، وكيفِية بُلُوغ العدالة والعَمل مِن أجل المستقبل، أمّا النَّموذج الثَّاني؛ فهو السِّويسريُّ الذِي تَسببَت فِي صناعته، مُشَاركَة المرتزقة السِّويسريِّين فِي الحُروب الخارجيَّة؛ إِذ اِنتهَى مُسلسَل النِّزاعات السِّويسريَّة عام 1515 على إِثر هَزِيمَة فِي مَعرَكة خَارجِية، إِذ كان لِلمشاركة فِي مَعرَكة مارينيانو تحديداً دَور أساسِي فِي تَظهِير عَقد اِجتماعيٍّ جديد لِلعيش معاً فِي الكانتونات، وإعادة النَّظر بِالمشاركة فِي الحُروب الإقليميَّة، بَعد الخسائر الفادحة فِي الأرواح التِي تَكَبدهَا المحاربون السِّويسريُّون. فبدأت تَتَبلور قناعَات لَدى المجموعات السِّويسريَّة بِضرورة تَشكُّل مَنظُومة مُواطنيَّة، تَحصُر قِيم التَّضحية والفداء بِالحدود السِّياسيَّة لِلوطن، مِمَّا يَستدعِي عدم المشاركة فِي حُرُوب الآخرين. وقد وصفَت سِويسرَا نفسهَا بِأنَّهَا مُحَايدَة مُنذ عام 1674، فانتهجت الحيَاد سياسةً خَارجِيةً. بينمَا الأنموذج اللُّبنانيُّ الثَّالث لَا يَزَال يَتَخلَّق عَبر جُهُود لافِتة فِي الجانب النَّظَريِّ لِجهود المجتمع المدَنيِّ، بينمَا تَرتَفِع التَّحدِّيات والعقبات، التِي تَسببَت بِهَا الأزمات السِّياسيَّة الإسلامويَّة؛ وكَثافَة الولاءات الدِّينيَّة العابرة لِلحدود، التِي يتقدَّمهَا إِشكَال «حِزب اللَّه» اللُّبنانيِّ، إِذ أفرَزت تمزُّقاً دَاخلِياً، اِستجَاب لَه البعض بِطَرح صِيغ مُواطنَة مُجَزأة مِن فَرط الإحباط!
لَم يُمَثِّل الإِسلَامُ السِّيَاسِيُّ عَقَبَةً لِمَنظُومَةِ قِيَمِ المُواطَنَةِ فِي لُبنَانَ فَحَسبَ، بَل تَتَرَابَطُ نَظَرِيَّتُهُ الأسَاسِيَّةُ بِتَفكِيكِ الولَاءِ لِلدَّولَةِ ومُجتَمَعِهَا، هَذَا مَا عَالَجتْه دِرَاسَةٌ دَرَسَت جُذُورَ مُنَافَاةِ المُواطَنَةِ فِي حَالَتِي تَنظِيم «الإِخوانِ» فِي مِصرَ، وفِي العِرَاقِ.
انبَنَى الجِذرُ الأول لِهَذِهِ المُنَافَاةِ عَلَى حُزمَةِ مَفَاهِيمِ التَّكفِيرِ والتَّنفِيرِ القُطبِيَّةِ، وعَلَى رَأسِهَا «الجَاهِلِيَّةُ والحَاكِمِيَّةُ». أمَّا مُحَمَّد الحَدَاد، فَأكَّدَ عَلَى إِشكَالِيَّةِ الإِسلَامِ السِّيَاسِيِّ ودَورِهِ فِي تَشكِيلِ مَا يُسَمِّيهِ حَالَةَ «الدَّولَةِ العَالِقَةِ»؛ الَّتِي لَا يَستَطِيعُ المُجتَمَعُ إِكمَالَ مَدَاميكِهَا بِسبَب الفِخَاخِ الاسترَاتيجيَّةِ الَّتِي يَنصبُهَا الإِسلامَويُّون، ولَكنَّهُ حَاولَ تَقديمَ دَعوةٍ لدرَاسَة تَجَاربَ مُتعدِّدَةٍ، منها الحَالَةُ الإِندُونِيسِيَّةُ في الوُصُولِ إِلى دَولَةٍ بمَبَادِئَ مَدَنِيَّةٍ تُدِيرُ التَّنوُّع، مُنطَلِقَةً مِن حيَادِ تجَاهَ الدِّينِ والإثنِيَّةِ. ولتَقيِيمِ أثَرِ التَّجربَة التَّاريخيَّة، عَلَى رجال الدين المُعَاصرِينَ؛ تنَاولَت دِرَاسَةٌ تَعَقيبِيَّةٌ الوضعَ الإِندُونيسِيَّ الرَّاهِنَ، فِي شَخصِ الأمين العَامِّ الجَدِيد لجَمَاعَة «نَهضَة العُلَمَاء»؛ وأفكَاره الَّتي تُعَالجُ القَضايَا ذَاتَهَا، ممَّا يَدُلُّ عَلى أنَّ الجِدَالَ المَفتُوحَ لَم يَنغَلِق، ولَكِن تَخلَّق قِيَم المُواطَنَةِ، والمُمَانَعَة لَهَا، يَكتَسي بحَالةِ كُلّ دَولة، وأنَّ المفَاهِيمَ الكونيَّةَ وإِن تمَادَى صَلاحُهَا، يَجِبَ أن تَتَأقلَمَ.
تلك خلاصات من الكتاب هدفها الكشف عن حيل الحَرَكَات اَلمُتَطَرِّفَة؛ والجَمَاعَاتِ اَلإِسلَامَوِيَّة، اَلَّتِي تُحَاولُ توظِيفَ ثِمَارِ «قِيَمِ اَلْمُوَاطَنَةِ» لأَغرَاضٍ سِيَاسِيَّةٍ، نَزَعَت قِيَمَ المُوَاطَنَةِ مِن سِيَاقَاتِهَا، ووظَّفَتهَا ضِدَّ مَرَامِيهَا، وأَهمَلَت النَّظَرَ فِي جَوَانِبِهَا اَلْإِنسَانِيَّةِ اَلرَّئِيسَةِ مِن مُسَاوَاةٍ، وَتَسَامُح، وَحِوَار.
يثبت صدى الحدث أن القيم التي تغرسها المواطنة قد تتعرض للتحديات العالية، وهذا مما يؤرق استقرار مفهوم الدولة في مخيال المجتمعات في هذه المنطقة، ويزيد التحدي حين تكشّر الحركات المتطرفة عن أنيابها مستغلةً الحروب، ومستفيدةً من عاتيات الرياح. إن قيم المواطنة جزء لا يتجزأ من ضرورات تمتين مفهوم الدولة للاتجاه نحو قضايا الوطن بدلاً من الانغماس بمفاهيم أممية شمولية هي ضد المواطنة ومفارقة لقيمها.