تعاني الدول الأفريقية من تداعيات الإرهاب على أمنها القومي، وشهدت في العقود الأخيرة ظهور حركات إرهابية انتشرت في دول أفريقية مضطربة، فنمت جماعات جهادية مثل «بوكو حرام» في نيجيريا و«الشباب المجاهدين» في الصومال وميليشيا «إكس سيليكا»، والتي قابلها «الأنتي بلاكا» الحركة المسيحية المتطرفة والعنيفة، في جمهورية أفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى جماعات دينية متطرفة أخرى تعمل على زعزعة الاستقرار السياسي والأمني، وعلى تهديد المجتمعات في القارة السمراء، وقد تزايدت خطورتها مع التغيير في طبيعة أنشطتها التي أصبحت عابرة للحدود.
تنمو الحركات الإرهابية المنتشرة في عدد من الدول الأفريقية في بيئات جاذبة، إذ لم تستطع السلطات المتعاقبة، منذ حقبة الاستقلال والتحرر من الاستعمار، تثبيت وتوطيد دعائم الدولة القوية مما سمح بانتشار أسرع لـــ«فرق وجماعات الموت» التي تستغل ضعف الأنظمة السياسية وعوامل التهميش الاقتصادي والسياسي والصراعات القبلية والإثنية، وتعقيد التركيبة الاجتماعية وتداخلاتها، وتوسع أطر التداخل بين الدين والقبيلة والأيديولوجيا والإثنية؛ كل ذلك وغيره يتطلب دراسة ظاهرة الإرهاب في أفريقيا في سياقات مغايرة لأساليب الفهم التقليدي، فأنشطة الحركات الإرهابية لا تقتصر على تنفيذ الأجندة الدينية والسياسية، إذ تتقاطع مع تعقيدات التركيبة القبلية وفشل سياسات الاندماج الاجتماعي، أي غياب أو عدم قدرة الحكومات على تحديث البنى المجتمعية، مما آل وساعد على تفجر الصاعق الإرهابي وانتشار جماعاته.
يتناول كتاب المسبار «الحركات الإرهابية في أفريقيا: الأبعاد والاستراتيجيات» (الكتاب الثاني والأربعون بعد المئة، أكتوبر (تشرين الأول) 2018) الحركات الإرهابية في عدد من الدول الأفريقية، فيسعى إلى تحديد الظروف التاريخية والعوامل الاجتماعية والسياسية والإقليمية المساعدة على ظهورها، مما يسمح بتشكيل فهم أعمق حولها بهدف وضع استراتيجيات قادرة على النفاذ إلى جذور المشكلة الإرهابية، خصوصاً أن الدول الأفريقية ليس لديها رؤية استراتيجية موحدة أو مشتركة لمكافحة الإرهاب.
إن «التركة الاستعمارية» في أفريقيا خلفت وراءها آثاراً سلبية كان لها تداعيات شديدة الخطورة على النسيج الاجتماعي والقبائلي والإثني، فأصبحت الدول الأفريقية عرضة لاستقبال الحركات المتطرفة نتيجة «الإرث الاستعماري» دون نفي العوامل الداخلية الأشد تأثيراً في انتشار التنظيمات الدينية المتطرفة بشقيها الإسلاموي والمسيحي. لقد بيَّن الكتاب «أن فشل النخب السياسية الأفريقية في إدارة التنوع والموارد، وبناء الدولة وتحقيق الاندماج الاجتماعي، وتحقيق طموحات الشعوب الأفريقية بعد الاستقلال» فاقم من الإرهاب، فلا بد من وضع خطط تنموية واجتماعية تؤدي إلى تحديث المجتمعات والنهوض بها باتجاه الانسجام العام، وتكريس الثقة بالدولة ومؤسساتها مع ما يتبع ذلك من تطبيق للعدالة الاجتماعية والشفافية السياسية ومحاربة الفساد، ووضع استراتيجيات مشتركة بين الدول المعنية لمحاربة الإرهاب. وفي هذا السياق تقترح الدراسة الأولى بناء منهج مزدوج «يجمع بين القوة الخشنة والقوة الناعمة؛ أي البحث عن الخيارات الأخرى لتجفيف منابع الإرهاب»، بدل الاكتفاء فقط بالعمليات العسكرية، يرافق ذلك التأسيس لاستراتيجيات أفريقية موحدة وشاملة، على أن «تعكف على ذلك لجنة من الخبراء يشكلها الاتحاد الأفريقي. وأن تشمل جهود اللجنة مقترحات لتوحيد التكوينات العسكرية الإقليمية في القارة مثل مجموعة حوض بحيرة تشاد ومجموعة الإيكواس».
درس الكتاب «الجماعات الإرهابية» في عدد من الدول الأفريقية من بينها: جمهورية أفريقيا الوسطى، ونيجيريا، وموزمبيق، والصومال، ومالي، وأوغندا، آخذاً بالاعتبار عوامل النشأة والأيديولوجية ورقعة الأنشطة الإرهابية. وفي المقابل قدم تحليلاً وافياً حول المؤثرات التي تتركها المنظومات القبائلية والإثنية والدينية، سلباً أو إيجاباً، في مجمل الظاهرة الإرهابية العابرة للحدود، إلى جانب الظروف الإقليمية والدولية.
تعتبر حركتا «إكس سيليكا» الإسلامية و«أنتي بلاكا» (مقاومو المناجل) المسيحية في جمهورية أفريقيا الوسطى من أكثر الحركات الدينية دموية، وتتبنى الحركتان أيديولوجية دينية متطرفة، فالأولى تأخذ بأكثر الآراء الفقهية الجهادية منزعاً نحو العنف «فترى أن الإسلام شريعة حرب» ولا بد من مقاتلة كل جماعة «كافرة» لا تتوافق مع «قيم الإسلام» وفق خلاصاتها، ومن بينها شنّ العمليات الإرهابية على المسيحيين؛ والثانية توظف آيات من الإنجيل خارج سياقها التاريخي لتبرير أعمال العنف ضد المسلمين. لم تكن الأهداف الأساسية للدراسة التي تطرقت إلى هاتين الحركتين وضع نظرة عامة حول النشأة والأيديولوجيا والعنف المتبادل بينهما فحسب، وإنما محاولة تقديم بانوراما واسعة تشمل المعطيات الداخلية والخارجية المؤثرة، يضاف إليها المبادرات التي تقوم بها دول الجوار للحد من انتشارها والقضاء عليها على الرغم من الانتكاسات التي مُنيت بها.
سلط الكتاب الضوء على الحركات الدينية الإرهابية في أوغندا والصومال وركز على حركتين: «جيش الرب للمقاومة» و«حركة الشباب المجاهدين» متناولاً نشأتهما التاريخية والأيديولوجية المتطرفة المتبناة من قبلهما ونشاطهما الإرهابي وكيفية مواجهتهما. وفي ما يخص موزمبيق عرضت إحدى الدراسات البعد الديني للصراع السياسي في هذه الدولة الأفريقية بالتركيز على المحاور التالية: جذور الصراع السياسي والحرب الأهلية؛ المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية وأثرها على تجدد الصراع؛ البعد الديني في الصراع السياسي وتطوره، ومستقبل الصراع السياسي والسيناريوهات المقترحة.
ولا تقل درجة خطورة التنظيمات الجهادية المنتشرة في مالي عن بقية الدول الأفريقية الأخرى، بالإضافة إلى استنادها للأبعاد الدينية المتطرفة، فهي على علاقة مع تنظيمات إسلاموية أخرى، نذكر -على سبيل المثال- «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» التي تُعد امتداداً للجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية، و«حركة أنصار الدين» التي تأسست من قبل إياد غالي عام 2011، وكتيبة «المرابطون» التي ولدت عام 2013 من اندماج جماعة «الموقعون بالدم» بزعامة مختار بلمختار، مع «حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا». وفي حالة نيجيريا شكلت «بوكو حرام» إحدى النماذج الأكثر عنفاً بين التنظيمات الجهادية في القارة الأفريقية، وقد عمل الكتاب على الإحاطة بالظروف التاريخية لبروز هذه الجماعة المتطرفة، محدداً النظريات الساعية إلى تفسير نشأتها على مستويات مختلفة، من ضمنها البعدان الاقتصادي/ الاجتماعي والديني.
نشر الكتاب «دراسة عدد» عن التنوع الاجتماعي في المغرب الذي يتميز بثرائه الثقافي؛ فقد ظلّ هذا البلد على امتداد التاريخ ملتقى للحضارات والثقافات المختلفة التي أسهمت في إغنائه، وراكم في السنوات الأخيرة مجموعة من الجهود والتدابير الرامية إلى تمتين وحدته الداخلية وإدارة التنوع بالشكل الإيجابي المثمر.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة فريدة بنداري والزميل إبراهيم أمين نمر اللذين نسقا العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهدهما وفريق العمل.
هيئة التحرير
أكتوبر (تشرين الأول) 2018