شروق عاشور[1]*
إن الحركات النسكية السابقة على الرهبنة، والميل السائد فيها نحو العزلة والانفراد والارتقاء بعلاقة المعبود، وظهور تلك الحركات للتنسك في مختلف الحضارات الشرقية القديمة[2] بصفة خاصة، وذلك بسبب وجود ديانات لتلك الحضارات، وكذلك وجود حكماء مثل حكماء الصين والهند وإيران ومصر القديمة، يعتبر سبباً واضحاً للأخذ بها والتمثيل بها ولو بشكل ظاهري وليس جوهرياً، ولم يقتصر مبدأ العزلة أو التنسك على الديانات القديمة فقط.
فقد ورد في سيرة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يتحنث قبل نزول الوحي عليه في غار حراء، وهو بذلك أول ناسك في الإسلام، وقد نهج كثير من الصحابة والتابعين طريقته حيث كانوا يدعون بالزهاد أو النساك.
لكن بعد قرنين من الزمن أطلقت على جميع النساك المسلمين بلا استثناء، فالناسك هو من يعيش وحده في خلوة خاصة تقشفاً وزهداً. والتنسك نوعان: نسك وقتي، وهو من الأمور الشائعة التي تمهد لبعض المراسم الدينية، والتنسك الدائم، وهو كان منتشراً في الديانة المسيحية.
الديانة البوذية
من مظاهر التنسك في بلاد شرق آسيا الديانة البوذية بالهند، وظهرت على يد حواتامابوذا واسمه الأصلي الأمير سيد هارتا، مؤسس الديانة البوذية [3]. اختلف الباحثون حول عصر بوذا وتاريخ ميلاده ووفاته. ولكن آخر ما تم التوصل إليه هو أنه ولد في 560 ق.م وتوفي عام 480 ق.م بالقرب من الهملايا وعلى مسافة (100) ميل من مدينة الهندوس المقدسة. ويسجل التراث ما لا يقل عن (24) بوذا سبقوا جواتامابوذا، وليس هناك دليل مادي على وجودهم، ولكن وجودهم حقيقة مؤكدة أعلنها جواتامابوذا حيث قال: “لقد جاء عدد من بوذا، أي المعلمين الدينيين، فلم أكن الوحيد فيما أتيت”. فكر بوذا كثيراً واهتدى إلى أنه لابد أن يكون في هذه الحياة العابرة شيء أنقى وأبقى. وعندما بلغ الحادية والعشرين من عمره[4] قرر أن يهجر الحياة وأن يتفرغ تماماً للتأمل في الوصول إلى الحقيقة، حيث يصبح إنساناً بوذياً، إنساناً مستنيراً. وتعاليم البوذية يمكن إيجازها في عدد من الحقائق التالية:
- إن الحياة في أعماقها تعيسة.
- إن سبب تعاسة الإنسان أنانيته وشهوته.
- إن أنانية الإنسان وشهواته يمكن القضاء عليهما عندما يصل الإنسان إلى حالة الزفانا أي انعدام كل شيء في أعماقه.
- إن الوسيلة إلى الهروب من الأنانية هي أن تسلك طريق الحقائق الثماني وهي:
النظرة الصحيحة – الفكرة الصحيحة – الكلمة الصحيحة – العمل الصحيح – الحياة الصحيحة – الجهد الصحيح – الفهم الصحيح – التأمل الصحيح.
بعد وفاة بوذا انتشرت الديانة البوذية وزاد عدد أتباعه، مما ترتب عليه تكوين أول مستعمرة ديرية. وقد اتخذ النساك البوذيون من الكهوف والصوامع والأديرة مأوى لهم، ولا يمنع النسك الهندي النساء من التنسك، ولهن أديرة خاصة بهن، وبها نظام صارم كالرجال تماماً. وقد انتشرت في الدول المجاورة جنوباً من سيلان، وشرقاً في بورما وإندونيسيا، وشمالاً أفغانستان، كما أنها دخلت الصين وأصبح لها أتباع كثيرون، ومن الصين انتقلت إلى كوريا واليابان[5].
وكذلك عرفت طائفة دينية أخرى بالهند وهي طائفة البراهما. إن كلمة (البرهمن) أو البراهما لها مدلولات خاصة في اللغة الآرية الأولى. ولقد أطلقت كلمة “برهمن” على العبادة والصلاة في بداية الأمر. ثم على كهنوت معين. ثم على سيد الآلهة، ثم على الطائفة المفضلة لدى الهندوس.
وبهذا تكون البرهمن أو البرهما لها مدلولات خاصة، ولا علاقة لها باللغات السامية إطلاقاً. وقد ظن بعض الباحثين الهندوس والمسلمين أنها كلمة إبراهيم أبي الأنبياء نفسها، وذلك بمجرد وجود تشابه بين الكلمتين، وظنوا أن الكلمة السامية هذه قد انتقلت إلى الآرية. ولكن هذا الرأي بعيد عن الصواب؛ لأن سيدنا إبراهيم قد سمي في اللغات السامية الأولى وبالأخص بالعبرية: أبرام.
الديانة المصرية القديمة
فالميول النسكية وجدت في الديانة المصرية القديمة، وظهرت بوضوح في متون الأهرام[6] التي تعد بحق أهم مصدر يضع أمامنا صورة عن الحالة الدينية والعقائدية والاجتماعية في تلك الأزمان السحيقة. وسنضع لمحة عن تاريخ هذه النقوش ومحتوياتها والغرض الذي من أجلة نقشت، ومقدار أهميتها في الأدب الديني المصري والحياة المصرية[7]، حيث كان الظن أن كل الأهرام عارية من النقوش إلى أن اكتشف العمال المصريون تحت إشراف ماريت سنة 1880 هرم بيي الأول، ثم هرم مرندع، وقد وجد أن جدران أروقة هذين الهرمين مملوءة بالنقوش الهيروغليفية، ويطلق عليها الآن (متون الأهرام) وتدل هذه النقوش على حالة عصر لا يقل عن ألف سنة، وقد كان الغرض الأساسي من هذه المتون هو السعادة في حياة أخروية وهي تعتبر بحق أدلة ترجع إلى الدولة القديمة. يليها نصوص التوابيت وهي متون الأهرام نفسها بالإضافة إلى بعض الحكم الكهنوتية للكهنة في الدولة الوسطى. وكانت عادة تكتب بالجدار الداخلي للتابوت عوضاً عن جدران حجرة الدفن بالمقبرة، كذلك كتاب الموتى[8] الذي اشتمل على نصوص الأهرام نفسها ونصوص التوابيت، بالإضافة إلى بعض نصائح وإضافات كهنة آمون في الأسرة الثامنة عشرة على جدران المقابر للنبلاء والملك، بداية من المدخل حتى حجرة الدفن، وكذلك وصل إلينا مثال كامل من السلوك الخلقي المستقيم، وهو تعاليم أو نصائح من أدب الفراعنة. وأهم ما وصل إلينا من هذا اللون من الأدب هو ثماني وثائق، وهي -حسب ترتيبها وأهميتها- حكم وأمثال بتاح حتب، ومن حسن الحظ أن هذه التعاليم التي وجدت كاملة لنا لا ينقص منها شيء، وقد قسمت إلى أجزاء حيث تدل النقوش على أنه كان وزيراً للفرعون أسيس أحد ملوك الأسرة الخامسة 2670 ق.م وقد كتبها كنصائح لابنه، ومن هذه النصائح: (لا تكن متكبراً بمعرفتك، ولا تكن منتفخ الأوداج فأنت رجل علم)[9] إلا أن الشعور بالمسؤولية الخلقية قد وصل إلى أوج تطوره في عصر أخناتون فأصبح عبارة عن روح تعبدية فياضة بالاتصال بالإله، مما ساعد على ظهور الوجدان الشخصي وبداية التدين الانفرادي الذاتي بين طبقات الشعب، خصوصاً بين طائفة الكهنة، حيث اعتبر أن المعبد للإله مكان الطهارة، وعلى الكاهن المحافظة على تلك الطهارة.
أولاً: كان على الكاهن أن يغتسل في كل يوم مرتين أثناء الليل، وهذا هو الشرط الأساسي للقبول في المعبد، وأن يحلق شعره تماماً، ولزاماً عليه الكف عن الاتصال الجنسي أثناء مدة خدمته، ولا يلبس أي شيء مصنوع من أي صوف أو جلد أخذ من حيوان حي. وتعتبر تلك هي الشروط التي يتحتم أن يتبعها أي رجل يرغب في ممارسة الخدمة الكهنوتية بالمعبد، ولزاماً عليه أن يتعلم العلوم اللاهوتية للقيام بواجبه. ومن المظاهر النسكية في الديانات المصرية ما كان يفعله كهنة إيزيس من حلق رؤوسهم، ونذرهم الصوم لآلهتهم، وامتناعهم عن شرب الخمر وأكل اللحوم والسمك[10]، وقد كان أهم معبد لعبادة إيزيس هو جزيرة فيلة. وتعتبر إيزيس في قلوب المصريين أنها المثل الأعلى للأم الحنون التي تفانت في حب ابنها حورس، وفي الإخلاص لزوجها، وكانت قصة إيزيس وأوزوريس وحورس من أشهر أساطير الديانة المصرية في العصر البطلمي 332 ق.م. في عهد بطليموس الأول ظهرت عبادة سيرابيس وعرف المنقطعون لعبادته باسم “نساك سيرابيس”، وسيرابيس صورة من أوزوريس المصري لكن في صورته الهيلينية والعجل أبيس[11].
كانت خلاصة حياة هؤلاء النساك هي تكريس حياتهم لخدمة سرابيس. فعاشوا داخل المعبد وكانوا منتشرين بجوار المعابد المصرية، خصوصاً سيرابيوم منف، حيث قاموا بدور الواسطة بين الإله سيرابيس وبين الناس الذين جاؤوا إليه لتفسير الأحلام وطلب الشفاء[12]بواسطة نوافذ ضيقة للمكان القائمين به. وكان بعضهم يلجأ إلى المقابر إمعاناً في الزهد والبعد عن ملذات الحياة، وكانوا يستعملون فيما بينهم مصطلح الأب والأخ بالمدلول الروحي نفسه الذي يستخدمة الرهبان المسيحيون[13].
ومن الجماعات النسكية جماعة عرفت باسم جماعة نحلة (أورنيوس) الشاعر اليوناني الذي تصوره الأساطير اليونانية وهو ينشد على قيثارته أنشودة حزينة لفقده حبيبته وزوجته التي خطفها الموت. وكان له أتباع من الرومان يدينون بالزهد والتقشف، ويحرمون اللحم ولا يذوقون الخمر إلا في مراسم القربان، ويلبسون ملابس بيضاء[14].
جماعة الفلسفة الأفلاطونية
نشأت هذه الجماعة في الإسكندرية على يد زعيم هو أفلوطين، ومن أشهر أتباعة أمونيوس وهو من أبناء أسيوط في صعيد مصر في القرن الثالث[15]، حيث بدأت الوثنية تضعف أمام انتشار المسيحية.
وقد جمعت بين الفلسفة اليونانية والفكر الشرقي، فهي تدعو إلى التحرر من عبودية الجسد بالنسك والتقشف، ورغبة التحرر من الملذات المادية بواسطة الانعزال والنسك، فهي لم تكن مجرد فلسفة، وإنما كانت نظاماً دينياً، ويذكر أنها حولت الهيلينية إلى لاهوت.
ومن أهم ما تدعو إليه الأفلاطونية ما يلي:
- الدعوة إلى التحرر من عبودية الجسد بالحياة النسكية التقشفية.
- مراعاة الجانب التأملي في الحياة. نادى بعض أتباعه بأنه إذا تطهرت الروح أمكنها أن تصل إلى درجة من الروحانية النورانية للتأمل في الله.
- تحرر الروح من الملذات المادية والنزوات الدنيوية عن طريق التقشف وإذلال الجسد، والاعتزال عن العالم ومباهجه والزهد فيه.
إضافة لما ذكر، فقد عرف النسك أيضاً بين اليهود فقد ظهرت في فلسطين إحدى الجماعات النسكية حوالي 150 ق.م واستمرت حتى 74م. هذه الجماعة عرفت باسم الآسين أو الآسنين وقد كانت منتشرة بين أورشليم وعين جادي على الشاطئ القريب من البحر الميت، وأفرادها يتجنبون المدن الكبيرة، والمتوحدون منهم يعيشون بين أشجار النخيل.
انتقلت هذه الطائفة من فلسطين إلى الإسكندرية من خلال المجتمع اليهودي في الإسكندرية. وقد بلغ عدد أفراد هذه الجماعة أوائل القرن الأول قبل الميلاد أربعة آلاف، ولم يكن يدخل بها إلا الرجال الذين عاشوا بدون مال وبدون نساء. وفي حالة الزواج يعفى الناسك من قيود النسك. وتنتظم هذه الجماعة على ثلاث درجات: درجة التلميذ، ودرجة المقسمين، وهم الذين يقسمون اليمين ويقضون سنة في الرياضة والاطلاع على الأسرار، ثم درجة الواصلين، ويقضي المريد فيها سنتين ثم يلبس زي الجماعة، وهو ثوب أزرق وزنار، ويحمل فأساً دلالة على العمل الشاق، وأتباعه يتطهرون ويعملون، ويحرمون العمل يوم السبت.
ومن الحركات النسكية اليهودية أيضاً جماعة المتبطسين أو الأطباء (جماعة الأطباء) وهذه الجماعة ظهرت في القرن الميلادي الأول. وكان أتباعها من الرجال، واشترك معهم عذارى، وكانوا يعيشون حول مريوط القديمة، وبعض مناطق منعزلة في الوجه البحري في منازل وأكواخ بسيطة تخلو من الترف. وكانوا يعيشون حياة التقشف والصوم[16] ويتقابلون مرة كل أسبوع -غالباً السبت- وكانوا يحتفلون بيوم الفصح[17] بالجلوس على الأرض الخشنة إمعاناً في النسك، ثم تناول الطعام من الخبز والملح، ثم يقيم أفرادها بعد ذلك ترنيمات يتلوها رقصٌ ديني –ربما فعلوا هذا إحياء لذكرى رفض أخت هارون بعد عبور بني إسرائيل البحر الأحمر وخلاصهم من يد فرعون.
بعد أن استعرضنا العقائد المختلفة والحركات النسكية السابقة على الرهبنة المسيحية، نستطيع أن نذكر أن اختلاف آراء العلماء حول الأصول الأولى للرهبنة المصرية لم يكن من فراغ، فمنهم من ذكر أن الرهبنة المصرية مستقلة، بينما يرى فريق آخر أنها تطورت عن بعض الحركات السابقة عليها، سواء في مصر أو خارجها، ويرى فريق ثالث أنه لم يكن تطوراً، بل مجرد تأثر فقط وُجِد في مظاهر ثانوية.
ساد في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي أن نظام الرهبنة مستقل النشأة، إلا أن إفلين وايت (E.White)[18] تذكر أن فينجارتن (Veingarten) عارض هذا الرأي وزعم أن الرهبنة المسيحية قد تأثرت بجماعة المعتزلين في السرابيوم في ممفيس سابقة الذكر في العصر البطلمي (332 ق.م – 30 ق.م) ويدلل على ذلك بالاستعانة بمظهر ثانوي، وهو عيشهم فيما يشبه القلالي واستخدامهم مصطلح الأب والأخ بالمدلول نفسه الذي يستخدمه الرهبان المسيحيون.
ويذكر كواجيبور (Jan Quaegebeur ) أن ظاهرة معتزلة سيرابيس من بين الأسباب التي أدت إلى ظهور المجتمعات الرهبانية في مصر، حيث العقائد المصرية القديمة قد أثرت على المسيحية بصفة عامة، وبالتالي على الرهبنة. ويرى فريق آخر أن طقوس إيزيس وأوزوريس قد تطورت في العصر المسيحي، ويتضح هذا في تقديس الشهداء والالتفاف حول قبورهم واعتبارهم شفعاء لهم، مثال مار جرجس ومار مينا وأبي سيفين.
يعتقد بعض المؤرخين أن جماعة المتبطسين (الأطباء) التي ذكرها الفيلسوف فيلو هي التي أثرت على الرهبنة المصرية[19]، بينما يرى فريق آخر أن الرهبنة المسيحية قد تأثرت بالجماعات النسكية اليونانية، خصوصاً في مظهر ارتداء راهبات الطائفة الكاثوليكية الملابس البيضاء، والبعض يعتقد أن الرهبنة القبطية قد تأثرت بجماعة الفلسفة الأفلاطونية التي وجدت بالإسكندرية. إلا أن هذا الرأي يؤخذ بشيء من الحذر، حيث يبعد عن التأثر بها باعتبار أن الرهبنة نشأت من طبقة الفلاحين الذين كانوا يجهلون اللغة الإغريقية، وأن الظروف السياسية تجعل من المتعذر عليهم التنقل إلى المدن قبل أن يصبحوا رهباناً، كما أن من اعتنق هذه الفلسفة طائفة قليلة، ومعظم أفرادها يمتازون بسعة العيش[20].
يظن البعض أن الرهبنة المسيحية قد تأثرت بالنسك الهندي الذي انتقل عن طريق فئة من التجار الهنود الذين وفدوا إلى مصر، وكانوا يدينون بالديانة البوذية، ولكن هذا الرأي لم يستند إلى أدلة ملموسة تؤيد لنا هذا.
على خلاف هذا الفريق من العلماء والدارسين الذين يعتقدون بتأثر الرهبنة المسيحية بالحركات النسكية السابقة، هناك فريق مؤمن باستقلالية نشأة الرهبنة المصرية عن أي حركات سابقة عليها، ومن هؤلاء القس البولندي بول بيترز (Paul Peeters) فالرهبنة من الناحية الدينية والتاريخية نشأت من شخصية مصرية، فالرهبنة والديرية كانت -أغلب الظن- ثمرة إنتاج مصري قومي -إلى حد ما- فالكنيسة المصرية ذات طابع قومي قوي[21]، فالرهبنة لم تكن مبنية على الأمور العقلية، لأن ظهورها كان بين البسطاء والفلاحين وغير المتعلمين.
من هذه الآراء السابقة يمكن الوصول إلى استبعاد تأثر الرهبنة المصرية بالثقافات السابقة عليها، واستقلاليتها في نشأتها وفي مصادرها عن أي حركة من حركات النسك السابقة عليها، لاسيما بعض الظواهر فقط، وعدم الاقتراب الجوهري من العقيدة، فقد استمدت أصولها من الكتاب المقدس.
عهد قديم: إيليا النبي – إليشع النبي – إرميا
عهد جديد: السيد المسيح – السيدة العذراء – يوحنا الحبيب – يوحنا المعمدان
حياة الرسل: بولس الرسول
لكن الرهبنة المسيحية نظام ديني ارتبط مفهومه ومعناه ارتباطاً وثيقاً بالدين المسيحي، وهو ليس فرضاً على أي فرد مسيحي، بل هو لتلك الصفوة المختارة من الله للنعمة السماوية التي اختصهم بها الله دون سواهم. والراهب هو المنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة.[22]
ومصطلح الرهبنة (Monasticism) معناه لغوياً: يعيش وحيداً، وقد استعمل للدلالة على الأشخاص المنعزلين عن العالم، ويتبعون نظاماً دينياً تحت تعاليم وإرشاد أستاذ لهم[23].
كلمة الرهبنة في اللغة القبطية مونا خوروم (Mona Chorom) وهي من الكلمات اليونانية المستعارة في اللغة القبطية، ومنها اشتقت كلمة راهب. وبالرغم من اختلاف معاني كلمة الرهبنة، فإنها توحي بالتعبد، وارتبطت كذلك بالنسك والتوحد، وقد برزت هذه المعاني في أقوال الشيوخ الأوائل والرعيل الأول من المسيحيين، فهي التطبيق العملي لحياة اجتماعية روحها النسك، والنسك ينشأ من الميل الفطري نحو الكون المكون من قوتين: الروح والمادة، والخير والشر.
وكذلك فهي ميل فطري يوجد في كل الأديان، فيذهب بالشخص إلى تجربة ذاتية يعيشها وحده ولا يستطيع نقلها، بل ينقل منها الرياضيات والصوم والصلاة.
من خلال ما ذكر نستطيع أن ندرك أن فكرة الزهد في الحياة، والاهتمام بالروح والسعي لخلاص النفس التي أوحت بها تعاليم الدين المسيحي، وجدت من المصريين -دون سواهم من الشعوب المسيحية- آذانا صاغية، وقلوباً واعية، وإدراكاً روحياً عميقاً نتيجة لأسباب عدة لعل من أهمها:
العقائد المصرية القديمة: حيث سيطرت العقائد الدينية على عقول قدماء المصريين، وتغلغلت في نفوسهم حتى نسجت خيوطها في كيانهم الأدبي، ومن أهم تلك العقائد عقيدة الحياة بعد الموت، فقد أدرك المصريون منذ فجر التاريخ أن حياة الإنسان ليست من العبث بحيث تنتهي في هذه الدنيا الفانية، واهتدوا إلى الآخرة، فنراهم بنوا لدنياهم بيوتاً من اللبن والخشب، بينما اتخذوا لآخرتهم القبور المنحوتة في الصخر[24]، والأهرامات المشيدة بالأحجار، وكذلك المحافظة على الجسد بالتحنيط ضماناً لبعثه وخلوده في الحياة الأخرى، وأغلب الظن أن تفكيرهم كان روحياً، ولكنهم لم يستطيعوا التحرر جملة من المظاهر والاتجاهات المادية. ولدينا في متون الأهرام، وهي أقدم وأغنى المصادر التاريخية للعقائد المصرية، وكذلك كتاب الموتى، نصوص صريحة تدل دلالة واضحة على أنهم يعتبرون أن مصير الإنسان في الآخرة يترتب على سلوكه في هذه الدنيا. وقد ظلت تلك العقائد متغلغلة في نفوس المصريين طوال عصور تاريخهم، حتى أتت المسيحية فصار المصريون أكثر الناس إدراكا لمبادئها واستجابة لتعاليمها.
ظروف الحياة العامة: سنلجأ للخوض فيها إلى نوع مهم من المصادر وهو الوثائق، وهو الاصطلاح الذي أطلق على مجموعة النقوش وأوراق البردي والعملة التي اكتشفت، حيث توضح لنا الأوضاع السياسية، فنرى منذ تولية بطليموس الأول ملكاً لمصر، أنه أخذ مقاليد الحكم في يده، وبدأ في الاندماج والمزج المباشر مع الإغريق[25]. حيث تغلغلوا في أنحاء البلاد كافة، وأصبحوا طبقة مهمة استولت على أفضل الأراضي وأرفع المناصب والوظائف، ولم يكن شرهم يقتصر عند هذا الحل، بل امتدت أيديهم إلى ديانة المصريين فمسحوها بعقائدهم المادية التي خلت من كل معنى روحي، بل وفرضوا لغتهم على المصريين. فقد دمرت القومية المصرية.
ثم يأتي الرومان حيث يعتبرون أرقى طبقة في مصر في ذلك الوقت، وتمتعوا بقدر كبير من الامتيازات. فكانوا شر خلف لشر سلف، فقد كان عصراً يسوده الانحطاط والفساد بصورة كبيرة في شتى نواحي الحياة، حتى بلغت منتهى القسوة في القرن الثالث الميلادي.
بعد هذا يجب أن ندرك ما وصل إليه المصريون المتعبون حقاً، مثقلين بالأحمال، فما أن اعتنقوا المسيحية واستمعوا إلى نداء السيد المسيح: “تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ” (إنجيل متى 11: 28). حتى لاح لهم في الأفق البعيد أن يذهبوا إلى البراري والقفار للتقوى والفضيلة، فقد رأى أوائل الرهبان والنساك أن أحاديث الناس تفيض هزلاً، فدفعهم ذلك إلى أن ينطووا على نفوسهم في عزلة وصمت وتأمل، ورأوا أن الثراء لا يأتي إلا عن طريق الحق، فآثروا الفقر الاختياري والتجرد عن مباهج الحياة وإذلال الجسد بعيداً في البراري.
الكنيسة المصرية: تعتبر نفسها كنيسة الشهداء والقديسين دون كنائس العالم، حيث وجد الرهبان التمثل بالشهداء وما عانوه من ظروف التعذيب، وما أظهروه من إيمان عجيب وبطولة روحية فائقة، فكل ذلك أثار الوازع الديني في قلوب الكثيرين، فطالما لم يستطيعوا أن يستشهدوا فهو اختبار من الله، فالطريق واحد إلى السماء، فالغاية واحدة في النهاية، حيث حياة الزهد والعبادة ما دامت ستؤدي في النهاية إلى الغاية السامية نفسها.
الأسس الاشتراكية: وهي القائمة في النظام الرهباني، بحيث كان جميع الأغنياء والفقراء والمتعلمين والجهلاء -في آن واحد- يعيشون عيشة واحدة، ويسعون لغاية واحدة، وهي السمو بالروحانيات في جو مصري خالص بعيداً عن تسلط واستبداد الإغريق، وكان الاندماج في هذا الطريق سهلاً وميسراً لمن يشاء، وممهداً لمن يريد أن يستقل باشتراكية بعيداً عن جو تسوده الدكتاتورية والتميز للفئات الموجودة الأخرى.
الجو الروحي المتوافر في مصر: حيث اقتراب الصحراء والجبال للراغبين في العزلة، حيث تمكنهم الطبيعة المصرية من العيش طيلة أيام السنة في الخلاء، فالتأمل والانفرادية من أسس النظام الرهباني المساعدة للراهب على خوض تجربته القاسية مع نفسه. ويظهر هذا جلياً في حياة الأنبا بولا الذي هرب من الوادي في الصعيد الأوسط وتوغل في الصحراء الشرقية وهو في سن مبكرة، إلى أن ألقى عصا في أحد الكهوف المطلة على البحر الأحمر حتى سكن بها، إلى أن بلغ من العمر عتيا. إذ يذكر أنه مات في العام الثالث عشر بعد المئة من عمره.
شخصيات مؤسسي الرهبنة وزعماؤها: لا شك كانت عاملاً له أثر لا ينكر في تكوين النظام الرهباني، فلقد اجتذبوا القلوب للتشبه به، فقد جعلوا أمامهم كلماتهم كأنها نبراس يهتدون به إلى الطريق الصحيح، وهو الرهبنة. مثلما ذكر من قول الأنبا أنطونيوس: “ثمة أناس أفنوا أجسادهم بالنسك” لكنهم ظلوا بعيدين عن الله كونهم لم يقتنوا فضيلة التمييز، وكذلك قوله: “ضع مخافة الله نصب عينيك دائماً”[26]. وقد قال الأنبا باخوميوس: “الرهبنة هي الصوم بمقدار والصلاة بمداومة، وعفة الجسد، وطهارة القلب، وسكوت اللسان، وحفظ النظر، والتعب بقدر الإمكان، والزهد في كل شيء[27]. وكذلك من أقوال الأنبا بيمن من ثلاثة أعمال للراهب وهي صوم إلى المساء، وصمت دائم، مع عمل اليدين كل يوم[28].
تعاليم الآباء الأوائل: وتمجيدهم لحياة البتولية والنسك ألهب قلوب الشباب والعذارى في الجيلين الثاني والثالث، وجعلهم مستعدين للانطلاق وراء النسك والتأمل. فمن الأقوال المشهورة للقديس كيريانوس “إن العذارى هن النصيب الأمجد في قطيع المسيح” (200 – 258م) وقد تلقى هؤلاء النساك مبادئهم وتعاليمهم في جامعة شعبية ديمقراطية، وقد كان التعليم نظرياً وعملياً في وقت واحد، إذ كانوا يلقنون هذه التعاليم وهم في الوقت نفسه أمثلة حية لها أمام ناظري مشاهديهم والمستمعين لهم.
حركة مقاومة سلبية وعصيان مدني: أو تمرد على الإمبراطورية الرومانية واستبدادها، وتأكيد لشخصية مصر واستقلالها الفكري طالما عز عليها الاستقلال السياسي، خاصة وأن نشوء هذه الحركة تزامن مع جهاد الكنيسة القبطية الوطنية للحفاظ على معتقدها في الوحدة والطبيعة الواحدة ضد الهرطقات المناوئة، وبعد أن وجد المواطنون في الإيمان الجديد أساسيات ديانتهم المصرية القديمة، الثالوث المقدس والحياة الأخرى.
حركة شعبية في الدلتا والصعيد: ولم تنشأ في الإسكندرية (العاصمة اليونانية لمصر) فالإسكندرية في ذلك الوقت كانت منبع العلوم ومهد الثقافات وملتقى الحضارات التي تهوي إليها النفوس. فقد تردد عليها كثير من الزائرين بثقافاتهم المختلفة[29]، فالبعد كل البعد عنها، والاقتران باستخدام اللغة القبطية، لغة قومية وحيدة، قدس بها الآباء الأولون، ووعظوا بها وكتبوا بها رسائلهم وقوانينهم، فلم يكن الأنبا أنطونيوس (أبو كل الرهبان) يعرف اللغة اليونانية[30]، وكانت كتابات الأنبا شنودة الذي يوصف بأنه أعظم كاتب باللغة القبطية، سبباً في دعم اللهجة الصعيدية وازدهار آدابها طوال عدة قرون. فالأديرة كالمؤسسات المصرية الخالصة، تطور فيها ما يعرف بالقبطية في لغتها وفنونها. حيث أيقظت بين الطبقات والشعوب الاتجاهات والثقافات المحلية بحيث تكون مستقلة بعد أن رضخت بواسطة روما للهيلينية بكونها الثقافة الوحيدة.
[1]* أستاذة الآثار المسيحية والإسلامية في أكاديمية المستقبل (مصر).
[2] محمد، غلاب، التنسك الإسلامي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة التعريف بالإسلام، الكتاب رقم (68)، مطابع الأهرام، 1970.
[3] محمد، إسماعيل الندوي، الهند القديمة وحضارتها وديانتها، دار الشعب، 1980.
[4] كامل، سعفان، معتقدات آسيوية، طبعة ثانية- بدون تاريخ.
[5] Achala moulik: Monuments and Sites: India National Scientific Committees of ICOMOS (1996. P.17(.
[6] متون الأهرام فى مقابر الأسرتين الخامسة والسادسة عرفت واكتشفت منذ عام 1880م ونشرها ماسبيرو عام 1882 وقد احتفظ بالطابع الأصلى لها. انظر: أدولف، أرمان، متون الأهرام، ديانة مصر القديمة، ترجمة: عبدالمنعم أبو بكر، محمد أنور شكري، القاهرة، 1973.
[7] سليم، حسن، أدب الفراعنة، الجزء الثاني في الدراما والشعر وفنونه، الطبعة الأولى، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1945.
[8] حكيم، أمين، دراسات في تاريخ الرهبنة والديرية المصرية، القاهرة، 1963.
[9] محرم، كمال، الحكم والأمثال والنصائح عند المصريين القدماء، الهيئة المصرية للكتاب، دون تاريخ.
[10] عباس، محمود العقاد، حياة المسيح، دار النهضة للطباعة والنشر، مصر، دون تاريخ.
[11] هارولد، ادريس بل، الهيلينية في مصر من الإسكندر الأكبر إلى الفتح العربي، ترجمة: زكى علي، دار المعارف، القاهرة، 1948.
[12]. Dictionnaire d’archéologie chrétienne et de liturgie VTT. P3053.
[13] Evylen, White: The Monasteries of the Wadi ‘n Natrun, 1977, pp 4.5.
[14]John, Pinsent: Greek Mythology, Peter Bedrick Books; Reprint edition, 1991.
[15] ) مصطفي، العبادي، مصر من الإسكندر الأكبر إلى الفتح العربي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص173.
[16] يوسابيوس، القيصري، تاريخ الكنيسة، ترجمة: القمص مرقص داود، مكتبة المحبة، 1979.
[18] Evylen, White: The Monasteries of the Wadi ‘n Natrun, pp 4.5 .
[19] Fedden, Henry, Romilly Study of the monastery of Saint Anthony in The Eastern Desert, University of Egypte, 1937.
[20] رؤوف، حبيب، تاريخ الرهبنة والديرية في مصر وآثارهما الإنسانية على العالم، القاهرة، مكتبة المحبة، دون تاريخ.
[21] هاردلد أدريس بل، الهيلينية في مصر من الإسكندر الأكبر إلى الفتح العربي، مرجع سابق.
[22] ) ابن خلدون – كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، القاهرة، 1978.
[23] Charles G Herbermann , The Catholic Encyclopedia, (Cambridge, United Kingdom) 1913.
[24] ) أدولف، أرمان، ديانة مصر القديمة نشأتها وتطورها ونهايتها في أربعة آلاف سنة، ترجمة: عبدالمنعم أبو بكر ومحمد أنور شكري، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995.
[25] مصطفى، العبادي، مصر من الإسكندر الأكبر إلى الفتح العربي، مرجع سابق.
[26] ) أقوال الآباء الشيوخ، منشورات النور، 1983، أقوال الأنبا أنطونيوس، القول (8).
[27] ) بستان الرهبان لآباء الكنيسة القبطية، لجنة التحرير والنشر بمطرانية بني سويف، الطبعة السادسة، 1977.
[28] ) متى، المسكين، الرهبنة القبطية في عصر القديس أنبا مقار، القاهرة، 1972، الجزء الأول.
[29] محمد إسماعيل الندوي، الهند القديمة وحضاراتها وديانتها، مرجع سابق.