دراسة نشرت في كتاب المسبار الشهري (118) “عاصفة الحزم: التحالفات والأبعاد السياسية”، أكتوبر/ تشرين الأول 2016.
تحمل بعض الحركات السياسية من الصفات التي تجعلها صيغة لمشروع فوضى في الدولة التي تظهر فيها؛ ويحدث ذلك نتيجة لأيديولوجيتها، وبنيتها السياسية والتنظيمية، وآلية عملها، وعلاقتها بالقوى السياسية الأخرى، وغيرها من الأمور التي تحول دون أن تكون قادرة على العمل ضمن نظام تعددي ديمقراطي، وعدم امتلاكها الإمكانات الكافية للاستفراد بالحكم، وضعف مؤسسات الدولة وخصومها في احتوائها سياسياً أو عسكرياً.
تعد الحركة الحوثية أنموذجاً صارخاً لهذا النوع من الحركات؛ فأيديولوجيتها، وسلوكها العسكري، وظروف نشأتها، وطريقة حصولها على السلطة، وعلاقاتها الخارجية، وطريقة تعاملها مع بقية مكونات المجتمع، وغيرها من الأمور؛ تمنعها من أن تتشارك مع غيرها العمل السياسي ضمن نظام تعددي ديمقراطي، كما أنها لا تملك من الإمكانات التي تمكنها من حكم كامل اليمن أو جزء رئيسٍ منه، وصعب -حتى كتابة هذه الورقة- احتواؤها من قبل مؤسسات الدولة وخصومها المحليين والخارجيين. وقد أدى كل ذلك إلى أن تصبح الحركة مشروع فوضى لتفكيك الدولة اليمنية سياسياً واجتماعياً وفكرياً.
والخلاصة من كل ذلك تقودنا إلى اعتبار الحركة الحوثية بمثابة معضلة، ستستمر حتى تتخلق ظروف محلية وخارجية قادرة على إنهائها أو تحجيمها، وإضعاف تأثيرها المدمر على الأقل.
هذه المعضلة هي جوهر هذا البحث، الذي سيناقش بالتفصيل العوامل التي تجعل من الحركة الحوثية مشروع فوضى. وفي هذا الشأن، ستتطرق الورقة لأيديولوجية الحركة وبنيتها السياسية، وخلفيتها الاجتماعية، وظروف نشأتها ووسائل حصولها على السلطة، والعوامل التي أسهمت في صعودها السريع، وعلاقتها بالقوى المحلية والإقليمية والدولية، وما العوامل التي ساعدت، وتساعد الحركة على البقاء.
وبعد ذلك سيتم التطرق إلى العوائق التي تمنع الحركة من حكم اليمن أو بعضه، أو أن تكون جزءاً من نظام تعددي ديمقراطي. وفي الأخير ستناقش الورقة العوامل التي حالت -حتى الآن- دون احتواء الحركة أو القضاء عليها.
المنطلقات الفكرية للحوثيين
الحركة الحوثية حركة لإحياء المذهب الزيدي، وهو المذهب الذي يشترك مع المذاهب الشيعية في أحقية سلالة الإمام علي بالحكم. ووفقاً للزيدية، فإن الإمامة أو الولاية العامة للمسلمين، تنحصر في الذكور البالغين المنحدرين من «البطنين»[1] (سلالة الحسن أوالحسين ابني علي بن أبي طالب) فهؤلاء جميعهم يمكن لأي شخص منهم الادعاء بالإمامة؛ إذا ما توافرت فيه الشروط الأربعة عشر للولاية[2]. ويجيز المذهب الادعاء بوجود إمام زيدي أو غير زيدي.
ووفقا لذلك؛ يصبح المذهب الزيدي حركة معارضة لكل المذاهب الشيعية والسنية على السواء، فكونه يمنح الحكم للبطنين، فإنه بذلك يخالف المذهبين الشيعيين الرئيسين (الاثنا عشري والإسماعيلي) اللذين حصرا الإمامة في عدد محدود من الأشخاص ينتهي بإمام غائب كما يقول الاثنا عشري وبعض الإسماعيلية[3]. كما أنه يتعارض مع معظم المذاهب السنية التي وسعت شروط الحاكم (الخليفة) وحصرتها في قريش، أو عامة المسلمين كما هو حال معظم الحركات السياسية الإسلامية في الوقت الحالي.
ومع أن الحوثية حركة إحيائية للمذهب الزيدي -كما سبقت الإشارة- فإن أدبياتها وخطاباتها العلنية -على الأقل- لا تدعو إلى عودة النظام الإمامي بشكل واضح وصريح، فكل «ملازم»[4] حسين الحوثي، وخطابات أخيه عبدالملك، والحوارات الإعلامية مع قادة الحركة ومنظريها لا تشير لعودة النظام الإمامي، بشكل صريح[5]، بل إن الكثير من خطابات الحركة أشارت إلى أنها لا ترغب بعودة الإمامة، وأنها أصبحت جزءاً من التاريخ[6].
وموقف الحركة من هذه المسألة -حتى الآن على الأقل– يتسم بالغموض المتعمد، الذي ربما يمكن إرجاعه إلى فكرة التقية، المعتمدة في المذاهب الشيعية[7]، والتي تجعلها تتجنب التصريح بفكرة تؤمن بها، حتى تتسنى لها الظروف لإعلانها. وقد تجنب حسين الحوثي الحديث عن الحكم في اليمن لرغبته في تفادي الصدام مع السلطة، وكان كل حديثه عن عموم الأمة الإسلامية، ومن له حق الولاية، وما مبررات حصر الولاية في البطنين، وفوائدها ومخاطر تولي غيرهم للحكم. وقد ركز حسين الحوثي على فكرة «العلم» الذي يختاره الله من ذرية النبي في بعض الفترات.
ومع ذلك لا يمكن لحركة إحيائية للمذهب الزيدي التخلي عن حق الحكم للبطنين، فهذه الفكرة هي جوهر المذهب الزيدي وبدونها يصبح شيئاً آخر، مثلها مثل فكرة الإمام الغائب لدى الشيعة الاثني عشرية، التي لا يمكن تخيل المذهب الشيعي بدونها.
ووفقاً لما سبق؛ تتحدث الحركة في كل أدبياتها، عن حصر الحق في الولاية العامة لسلالة الحسن والحسين (البطنين) ففيما يسمى «الوثيقة الفكرية والثقافية»، التي حررت عام 2012 نجد الوثيقة تلخص هذه المسألة في ثلاث قضايا هي: الاصطفاء ومضمونها يقوم على أن الله اصطفى آل محمد ليتولوا المسؤولية الكاملة عن الدين، حيث تقول الوثيقة «ونعتقد أن الله سبحانه اصطفى أهل بيت رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعلهم هداة للأمة وورثة للكتاب بعد رسول الله إلى أن تقوم الساعة»[8]. ويشترك الحوثيون في هذه القضية مع بقية المذاهب الشيعية، فيما يختلفون في من يحق له الحكم من آل النبي.
والقضية الثانية، الحكم في علي وذريته من الحسن والحسين[9]، والقضية الثالثة هي قضية العلم التي كان يكررها حسين الحوثي في ملازمه، وذكرتها الوثيقة تحت مسمى المنارة. وفكرة العلم/ المنارة تصوغها الوثيقة على النحو التالي: «إن الله يهيئ في كل عصر من يكون مناراً لعباده وقادراً على القيام بأمر الأمة والنهوض بها في كل مجالاتها»[10]. وإذا سمحنا لأنفسنا بتأويل أحاديث حسين الحوثي الكثيرة حول «العلم» -والتي تظهر كفكرة مركزية في ملازمه- فإننا نتوصل لاستنتاج مفاده: إنه كان يرى في نفسه هذا العلم، والذي سيتم الإعلان عنه حين تنضج الظروف. وهو بذلك الأسلوب يكون قد تحاشى المواجهة مع السلطة اليمنية، كونه لم يكن يتحدث عن سلطة سياسية بديلة، ودعوة صريحة لعودة الإمامة، وفي الوقت نفسه الإتيان بصيغة جديدة للإعلان عن الإمامة، بدلا من الصيغة التقليدية، التي كانت تتم عبر ادعاء الإمامة ممن يعتقد بأنه قد حاز على شروط الإمامة وفق المذهب الزيدي.
ترافق صعود الحركة الحوثية مع أحداث كبيرة شهدتها المنطقة العربية والعالم في ذلك الحين (2001-2004) ومن هذه الأحداث اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) عام 2000 وهجمات 11 سبتمبر (أيلول) وما تبعها من غزو لكل من أفغانستان والعراق. وقد استغل حسين الحوثي تلك الأحداث لتسويق مشروعه السياسي، من خلال إظهارها كأنموذج لحالة ضعف الأمة، ومؤامرات أعدائها، وهو ما يستوجب الحاجة للعلم القادر على مواجهة الأعداء، واستنهاض الأمة وغيرها من الشعارات التي تعج بها ملازم الحوثي وخطابات الحركة.
ويمكن اختصار المشروع الحوثي في الفكرة التالية: إن جميع مشاكل المسلمين السياسية والاقتصادية والفكرية، وفشلهم وهزائمهم أمام «أعدائهم التاريخيين والأبديين» ترجع إلى عدم تنفيذ وصية النبي بحصر الولاية في ذريته، والذي يعتبر انحرافاً عن العقيدة، وتصويب هذا الانحراف، يتم بعودة الولاية لذرية النبي، وهو الأمر الكفيل بحل كل مشاكل المسلمين.
وعلى الرغم من أن الحركة الحوثية وقادتها توقفوا –تقريباً- عن الحديث عن قضية الولاية بالشكل المكتوب في ملازم حسين الحوثي من بعد دخولهم صنعاء، لحساسية هذه القضية، فإن الملازم يتم طباعتها والترويج لها باعتبارها الإطار الفكري للحركة. فيما موضوع الصراع الحضاري مع الآخر ما زال هو المشروع الكبير الذي تدعيه الحركة وتردده في خطابها العام.
استغلال الخلافات السياسية
أجادت الحركة توظيف الخلافات السياسية بين النخبة السياسية لصالحها، وظهر هذا الأمر بشكل واضح بعد اندلاع الاحتجاجات المطالبة برحيل صالح عام 2011، حيث بادرت الحركة بالانضمام للمحتجين دون أن تذوب معهم وتأتمر بأمرهم[11]، وفي الوقت نفسه؛ بدأت الحركة بمد خطوط اتصال وتنسيق مع صالح وفريقه. وخلال تلك الفترة سيطرت الحركة على مدينة صعدة، بالتفاهم مع الجنرال الأحمر وما سمي بقوى الثورة، وعينت الحركة أحد الموالين لها في منصب محافظ صعدة[12].
وبعد خروج الرئيس صالح من الحكم في بداية 2012 مارست الحركة نشاطاتها بشكل علني في جميع مناطق اليمن وتحديداً في العاصمة، وقامت باستقطاب الكثير من القوى والأشخاص المحسوبين على الرئيس صالح وكذلك المعارضين له. وقامت بتنصيب نفسها كخصم أيديولوجي وسياسي لحزب الإصلاح وحلفائه، والذي برز كقوة رئيسة في السلطة التي خلفت صالحاً.
وقد أدى ذلك إلى تحالفها، بشكل أو بآخر، مع جميع خصوم الإصلاح الأيديولوجيين والسياسيين، ومن هؤلاء الرئيس السابق وحزبه المؤتمر الشعبي والقوى اليسارية، كالحزب الاشتراكي والكثير من القوى المحسوبة على الليبراليين. وكان لكل طرف من هذه الأطراف هدفه الخاص من إضعاف الإصلاح وحلفائه العسكريين والقبليين.
فراغ السلطة
أدى تفكك نظام الرئيس صالح وإجباره على ترك السلطة إلى تقوية الحوثيين؛ فقد أسهم ذلك التفكك في إضعاف أجهزة الدولة، وخصوصاً المؤسسات الفاعلة منها كالجيش والأمن، وهو ما سهل للحوثيين التمدد والانتشار السياسي والعسكري. وأخطر مظاهر تفكك نظام صالح تولي عبد ربه منصور السلطة خلفاً لصالح، فهذا الأخير يفتقد للمؤهلات الذاتية والموضوعية للحكم، فقدراته القيادية والسياسية محدودة جداً، وليس له من حزب سياسي أو قوة قبلية أو اجتماعية أو جغرافية فاعلة. وأخطر ما في الأمر أنه حاول أن يقلد سياسات صالح الخطيرة، التي كانت تقوم على اللعب على التناقضات السياسية والجهوية والقبلية، بهدف إضعاف الجميع وتقوية مركزه السياسي.
وبتحييد مؤسسات الدولة وإضعافها؛ تمكن الحوثيون من التمدد بكل سهولة ويسر من معقلهم في صعدة حتى بقية اليمن، ولم يقف في طريقهم إلا مقاومة ضعيفة ومحدودة قام بها بعض خصومهم، أما قوات الجيش والأمن فقد كانت الأوامر لها من هادي ووزير دفاعه بأن يبقوا على الحياد، وفي بعض الحالات التسليم للحوثيين دون قتال[13].
السيطرة على مؤسسات الدولة
يتمتع الحوثيون بميزة نسبية كبيرة على جميع الأطراف الأخرى، بعد أن سيطروا على جميع مؤسسات الدولة –تقريباً- وسخروها لصالحهم. وقد تمت السيطرة في البداية من خلال ما أسموها «اللجان الثورية»، التي أصبحت –عملياً- هي المتحكمة بشؤون المؤسسات الحكومية، وفي مرحلة لاحقة قاموا بتعيين عناصرهم في الوظائف الرئيسة، دون أي اعتبار للمؤهلات أو الخبرات أو القوانين المنظمة للعمل في هذه المؤسسات، فعلى سبيل المثال، تم ترفيع بعض عناصرهم في وزارة الداخلية من رتبة جندي إلى رتبة لواء، وهي أعلى رتبة في هذه الوزارة[14]. في الوقت نفسه؛ تم فصل الكثير من الموظفين الذين شكوا في معارضتهم، وكانت النتيجة أن أصبحت جميع مؤسسات الدولة في صنعاء والمناطق التي يحكمونها تحت سيطرتهم المباشرة.
وقد تمت هذه السيطرة عبر الأقلية الهاشمية، التي استحوذت على جميع الوظائف العليا والحساسة، ومعظم الوظائف الوسطى، وأصبحت -عملياً- بمثابة الأقلية المختارة صاحبة الامتيازات والحظوة. وبهذه الإجراءات تكون الحركة الحوثية قد جمعت في سلوكها هذا ما بين الأنظمة الشمولية، التي يسيطر أعضاء التنظيم فيها على مؤسسات الدولة، والأنظمة الاستبدادية التقليدية التي تحصر المناصب الرئيسة في سلالة معينة.
وعملت هذه السيطرة على زيادة نفوذهم بشكل واضح، حيث أظهر الكثير من الموظفين ولاءهم للحوثيين رغبة في الحصول على منافع أو خوفا منهم، أما من لم يرغب في القبول بهم فقد انسحب من موقع عمله.
تمثيل الحركة
بما أن الحركة قد قامت من أجل إحياء المذهب الزيدي، الذي يحصر الحكم في السادة الهاشميين -كما سبقت الإشارة- فإن هؤلاء هم الأنصار الطبيعيون للحركة؛ لكونها ستمنحهم حق الحكم والمكانة العليا في المجتمع، وهو ما يجعلهم أقلية ذات امتيازات خاصة؛ تشمل التمتع بالوظائف العليا في الدولة، والمكانة الاجتماعية المرموقة، وغيرهما من الامتيازات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
وقد تأكد هذا الأمر في كل المناطق والمواقع التي سيطر عليها الحوثيون، فجميع المناصب المهمة والحساسة داخل الحركة يشغلها أشخاص ينتمون للسادة الهاشميين، وجميع التعيينات الرسمية في المواقع الحساسة في الدولة، والتي صدرت عن الحوثيين بعد دخولهم صنعاء، مُنحت لأشخاص من هذه الفئة نفسها. ومعظم الوظائف في المستويات الوسطى أعطيت لهم أيضاً. وقد تم ذلك دون أي اعتبار للكفاءة أو الخبرة أو الشهادة العلمية.
وبنظرة سريعة لجميع التعيينات التي تمت من قبل الحوثيين في مؤسسات الدولة، نجد أن أكثر من (70%) -على أقل تقدير- قد تمت لهاشميين، وهو ما يؤكد توجه الحركة لجعل هؤلاء بمثابة الأقلية المهيمنة على الدولة، وصاحبة الامتيازات الخاصة بها، وأداة السيطرة العسكرية والمالية والاجتماعية والثقافية. والحركة الحوثية تعيد استنساخ أنموذج الحكم الإمامي، الذي كان يمنح السادة الهاشميين معظم المناصب السياسية والإدارية والقضائية والعسكرية في الدولة.
الهاشميون: اختلاف المذاهب
ويوجد في اليمن فئات عدة من السادة الهاشميين؛ فهناك سادة ينتمون للمذهب الزيدي، وسادة ينتمون للمذهب الشافعي، وبين هؤلاء سادة لا ينتمون للبطنين. وخلال حكم الأئمة اقتصر الحكم على السادة الزيود من «البطنين» فيما كان السادة السنيون منفصلين بشكل شبه كلي عن السلطة الزيدية، بمعنى أنهم لم يكونوا من الفئات المستفيدة من الحكم الإمامي كأقرانهم الزيود، خصوصاً وأن معظمهم كانوا شيوخاً لطرق صوفية يتعارض فكرها والمذهب الزيدي، الذي كان يعادي الطرق الصوفية ويعتبرها خروجاً على الدين، ونوعاً من أنواع الشعوذة والدجل، وخلال تاريخ الأئمة كان يتم نهب وتدمير مقرات الأولياء التابعين للصوفية.
مشروع الحركة
حتى الوقت الحالي، لم تقدم الحركة على تبيان مشروعها السياسي بشكل واضح ومحدد، وكل ما هنالك ليس إلا شعارات عن العداء لأمريكا وإسرائيل، ونهوض الأمة وغيرها من الخطابات التي لا تقدم مشروعاً سياسياً للحكم. ويمكن إرجاع ذلك إلى عدم قدرة الحركة على إظهار مشروعها الحقيقي المتمثل بعودة النظام الإمامي، الذي هو جوهر المذهب الزيدي، كما سبق وأشرنا. فالنظام الإمامي أصبح لدى شريحة واسعة من اليمنيين جزءاً من الماضي، ولا يمكن القبول بعودته إلا لدى فئة صغيرة جداً من المتعصبين للمذهب الزيدي، ومع ذلك، فكل أدبيات الحركة الحوثية، وتحديداً «ملازم» حسين الحوثي، تتحدث عن حق احتكار الحكم لسلالة الحسن والحسين، وهو الأمر الذي لم تبلور الحركة وسائل تطبيقه حتى الآن.
وفي الوقت الحالي تمارس الحركة السلطة بغموض مقصود اقتضته الضرورة، فزعيم الحركة يشار له بوصف «قائد الثورة» وهي صفة تشبه الوصف الذي أطلق على الخميني وخليفته خامنئي في إيران، ومعمر القذافي في ليبيا. ولقب قائد الثورة يحمل الكثير من الدلالات، فهو من جهة منصب ليس له أصل رسمي أو قانوني أو حتى تاريخي، ومن جهة أخرى يعد منصباً مطاطاً كونه يعتبر أعلى من المناصب الرسمية في الدولة حالياً.
إلى جانب ذلك؛ مارس الحوثيون السلطة عبر ما سمى باللجنة الثورية العليا، التي انبثقت من الإعلان الدستوري الذي أعلنوه في 6 مارس (آذار) 2015، وكان من المفترض وفقاً لذلك الإعلان، إنشاء مجلس وطني، يكون بمثابة برلمان، ينتخب مجلس رئاسة، ويكون هذا المجلس مراقباً من قبل اللجنة الثورية العليا. ويمكن التخمين بأن الحوثيين كانوا يخططون لأن تكون السلطة على الشكل التالي: تشكيل اللجنة الثورية العليا التي تقوم بتشكيل المجلس الانتقالي، الذي يقوم بانتخاب مجلس رئاسة، تكون اللجنة الثورية هي السلطة العليا على هذا المجلس، ثم تأتي سلطة عليا وهي سلطة قائد الثورة عبدالملك الحوثي. وهذا النظام يمكن اعتباره نسخة معدلة من النظام الإيراني، الذي يدار من قبل سلطة ما فوق دستورية، وهي سلطة مرشد الثورة الولي الفقيه. ولكن ولأسباب كثيرة لم يتمكن الحوثيون من استكمال تنفيذ هذا النموذج[15]. وفي الفترة الأخيرة اتفقوا مع الرئيس السابق على تشكيل ما سمي بـ«المجلس السياسي» مناصفة، وهو الأمر الذي لم تتضح معالمه حتى كتابة هذه الورقة.
ونتيجة لغياب المشروع السياسي الواضح للحركة فإنها تعاني من نقطة ضعف جوهرية، حيث لا يمكن للحركة أن تستمر بالحكم لفترة طويلة، في ظل حالة الغموض والفوضى التي تدير بها الدولة في الوقت الحالي، واستنساخ نموذج ملالي إيران أو قذافي ليبيا وحزب الله لبنان، لا يمكن تطبيقه في اليمن.
صعوبة الحكم
من خلال معرفة الطبيعة العامة للحركة الحوثية، يتضح أنها لا يمكن أن تحكم اليمن إلا بشكل منفرد وبآلية قمعية شمولية، وحتى لو تمكنت من التحالف مع بعض القوى الأخرى؛ فإن هذا التحالف يبقى هشاً ولا يمكن استمراره. وما يجعل الحركة تمارس السلطة عن طريق القمع والاستبداد ضعفُ شرعيتها السياسية. وهذا الضعف ناتج عن مشروع الحركة الركيك، الذي لا يحظى بدعم شريحة واسعة من السكان، فكما ذكرنا مراراً، فإن مشروع الحركة لا يخدم –عملياً- إلا فئة الهاشميين، وهي الفئة التي لا يتجاوز عدد أفرادها (3%) من السكان[16]، وقلة صغيرة من السكان الذين تمت أدلجتهم من قبل الحركة، وأصبحوا مقتنعين بها ومؤمنين بمنطلقاتها الفكرية/ الدينية.
وحتى الأقلية الزيدية من غير الهاشميين ليسوا أنصاراً طبيعيين للحركة الحوثية، فكما سبق وذكرنا،فهم على المذهب السني، ومن تبقى منهم على المذهب الزيدي لا يمكن اعتبارهم حلفاء تلقائيين للحركة الحوثية، كون الحركة تمارس التمييز ضدهم لصالح الهاشميين. وأفضل ما سيقدمه هؤلاء للحركة في رأيي أن يكونوا حلفاء مرحليين، وأدوات خشنة في أيديها، كون الزيود ينتمون لمنطقة القبائل اليمنية المحاربة.
أما الأغلبية السنية من السكان، فإنها تبقى في مجملها معارضة للمشروع الحوثي، وإن كانت هذه المعارضة غير كاملة في الوقت الحالي نتيجة الاختراقات التي قام بها الحوثيون لدى بعض المحسوبين على السنة، وتحديداً أنصار المؤتمر الشعبي، وبعض القوى التي هي في تحالف موقت معهم نتيجة سيطرتهم على الدولة، وغياب أي طرف آخر قادر على استيعابهم.
ولكون هذا التحالف لا يحمل صفة الديمومة ومعرضاً للانهيار؛ فإن من الممكن الجزم بأن الغالبية العظمى من السنة في اليمن هم معارضون بالطبيعة للمشروع الحوثي. وهذا الأمر يؤكد ضعف التأييد الشعبي للحوثيين، والذي يتخذ أكثر من طابع (سياسي، مناطقي، مذهبي، قبلي) وهو ما يجعل الحركة تخوض حرباً وصراعاً على أكثر من جبهة، وضد أكثر من طرف.
وكل ذلك يعني أن الحركة لا تتمكن من الحكم إلا عبر نظام شمولي قمعي، فالاستبداد التقليدي لا ينفع معها، حيث إن هذا النمط من الاستبداد يتم عبر حكومة ملكية تمتلك قدراً معقولاً من الشرعية وتتحكم بجهاز الدولة، أو من خلال حكومة عسكرية تستخدم الجيش وقوات الأمن أدواتٍ للسيطرة.
وما يجعلنا نجزم بالطابع الشمولي للحركة، آلية ممارستها للحكم في المناطق التي تحت سيطرتها، وفكرها وبنيتها التنظيمية السياسية والعسكرية، وآلية وصولها للحكم.
والنظام الشمولي يحتاج إلى شروط معينة تضمن له النجاح والاستمرارية لفترة زمنية معقولة. ومن هذه الشروط يمكننا أن نشير إلى:
التنظيم السياسي الفاعل بقاعدة شعبية واسعة ومنتشرة في جميع مناطق الدولة، وهذا غير متوافر للحركة بسبب طبيعتها السلالية/ المذهبية/ الجهوية، فالأقلية الهاشمية المنتشرة في جميع مناطق اليمن لا تكفي الحركة.
أجهزة قمع فاعلة (جيش، أمن) وهذه متوافرة نسبياً في بعض مناطق سيطرة الحركة، إلا أنها في حالة تراجع بسبب الحرب الدائرة.
الموارد الضخمة القادرة على تغذية أجهزة القمع والسيطرة، وتقديم خدمات ضرورية للسكان تبرر بها حكمهم، وهذه غير متوافرة في بلد فقير كاليمن لا يمتلك موارد ريعية ضخمة (محروقات، موارد طبيعية) وهي الأساس الذي تعتمد عليه النظم الاستبدادية. فكل موارد البلد المتاحة قبل الحرب الأخيرة لم تكن قادرة على تغطية النفقات العامة للدولة.
وفي الوقت الحالي لا تسيطر الحركة على المناطق التي بها نفط وغاز، ومن ثم فإنها لا تمتلك إلا موارد محدودة جدا لا تمكنها من دفع الرواتب الأساسية لموظفي الدولة، ناهيك عن تقديم الخدمات الأساسية أو الاستثمار الاستراتيجي، أو تطوير أجهزة القمع والإكراه. ولن يعوض نقص الموارد المحلية الدعم الخارجي المتوقع من إيران، فهذا الدعم لن يصل إلى الحد الذي يقيم نظاماً شمولياً في دولة سكانها يقتربون من (30) مليون نسمة.
الدعم الخارجي الكبير وهذا غير متوافر، فكل الدعم الخارجي الذي تحظى به الحركة يأتيها من إيران والدول والجماعات الدائرة في فلكها، وهؤلاء لا يمكن الاعتماد عليهم في دعم نظام شمولي لفترة طويلة، خصوصاً وأن هناك عدم تواصل جغرافي بين اليمن وهذه الدول، الأمر الذي يصعب عليهم تقديم الدعم البشري والاقتصادي والعسكري للحركة.
في مقابل ذلك، تعاني الحركة من رفض في محيطها الجغرافي، وتحديداً من المملكة السعودية التي تعد الدولة الأكثر نفوذاً وتأثيراً في اليمن، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وهو الرفض الذي يُترجم في الوقت الحالي على شكل حرب تخوضها السعودية وبعض دول الخليج بشكل مباشر، وأخرى حرب غير مباشرة من خلال دعم القوى المعارضة للحوثيين.
وقد تأكدت صعوبة حكم الحوثيين خلال المرحلة الماضية؛ فلم تقدر الحركة أن تترجم إعلانها الدستوري إلى واقع حقيقي، نتيجة ممانعة حليفها المرحلي (المؤتمر الشعبي). وعدم تمكن الحركة من تنفيذ الإعلان، ومن ثم الحكم وفق الطريقة التي ترغب بها يشير إلى هشاشة السيطرة الحوثية وضعفها، الذي يتأكد مع استمرارها في الحكم.
والأنموذج الذي تحاول الحركة الحكم من خلاله هو أقرب للأنموذج الشمولي الإيراني، غير أن افتقار الممارسة الحوثية لأي تبرير فكري أو سياسي، كما عمل الخميني وملالي إيران في نظامهم، يجعل هذا الأنموذج غير قابل للتطبيق.
والصيغة الحالية لنظام حكم الحوثي ليس لها ملامح واضحة، وهي أشبه ما تكون بممارسة أمر واقع بآليات غير رسمية، لتكون النتيجة نظاماً مسخاً ليس له ملامح ثابتة أو تبريرات فكرية.
والخلاصة مما ذكرنا؛ أن الحركة الحوثية لا يمكنها أن تحكم اليمن أو حتى جزءاً منه، وأكثر ما يمكنها هو البقاء قوة رئيسة في معادلة الحرب والصراع في اليمن.
صعوبة المشاركة
هناك نماذج عدة لمشاركة الحركة الحوثية في السلطة، أهمها: أن تكون جزءاً من نظام تعددي ديمقراطي، أو أن تكون جزءاً من نظام محاصصة طائفي/ جهوي، أو أن يصبح لها منطقة جغرافية محددة تديرها ضمن نظام حكم ذاتي/ فدرالي. وفيما يلي مناقشة لإمكانية مشاركة الحركة في النماذج المذكورة من عدمها:
في النمط الأول يصعب على الحركة أن تصبح جزءاً من عملية تعددية ديمقراطية؛ لأن هذه العملية لا تتناسب وطبيعتها العامة التي ذكرناها؛ فالنظام التعددي يقوم على فكرة جوهرية تتلخص في قبول أطراف العملية السياسية بقواعد لعبة ملزمة لهم، ومعظم هذه القواعد يتم ذكرها في الدساتير والقوانين النافذة، فيما البعض الآخر تكون مستبطنة في الحس العام للمجتمع ضمن الثقافة السياسية السائدة. ومن أهم قواعد اللعبة عدم استخدام العنف أو التهديد به، والاستقواء بطرف خارجي، وتكافؤ الفرص لجميع اللاعبين، يضاف إلى ذلك؛ انسجام عقائد وبرامج أطراف اللعبة مع هذه القواعد.
ووفقاً لما ذكر؛ نجد أن هذا الأمر لا ينطبق على حركة الحوثي، فالحركة مثلها مثل الحركات والأحزاب الشمولية المتطرفة من أقصى اليمين وأقصى اليسار، والتي لا يمكنها أن تعمل ضمن نظام تعددي؛ لأن أيديولوجياتها وأهدافها وسلوكياتها، لا تنسجم وقواعد اللعبة في النظام التعددي. فأيديولوجية هذه الأحزاب تقوم على تبني أنموذج شمولي خاص بها، لما يجب أن يكون عليه المجتمع، والعالم. ويشمل ذلك؛ النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ويمتد إلى أدق تفاصيل الحياة الشخصية من هيئة، ولباس وغيرهما من الأمور الخاصة، وهذا النموذج يتناقض والدساتير الديمقراطية والتعددية، والحقوق الأساسية للفرد، والتي هي في مجملها حقوق عالمية ومتشابهة في جميع الأنظمة الديمقراطية.
إضافة إلى ذلك؛ تعتمد الكثير من الأحزاب الشمولية على العنف، ووسائل الضغط والتأثير غير الشرعية في الحصول على السلطة.
وفي معظم الدول الديمقراطية يمنع القانون قيام هذا النوع من الأحزاب؛ لخطورتها على العملية الديمقراطية، وعلى سلامة المجتمع. فالأحزاب النازية والفاشية والعنصرية والفوضوية محظورة في جميع الدول الديمقراطية، تقريباً، وإن كان في بعض الدول يتم السماح لبعض الأحزاب المتطرفة بالعمل، إلا أن هذه الأحزاب لا تمارس العنف أو تحرض على استخدامه، كما أنها لا تعلن بشكل مباشر عن رفضها لقواعد الديمقراطية.
وبالنظر إلى طبيعة وسلوك الحركة الحوثية وتاريخها السياسي، وممارستها للحكم؛ نجد أنها تمثل الصيغة المتطرفة من الأحزاب والحركات التي لا يمكن أن تعمل ضمن نظام تعددي. فالصفات العامة للحركة تجعلها في تناقض واضح مع النظام الديمقراطي؛ فهي في الأساس مشروع حكم لأسرة الحوثي، وللأسر الهاشمية، وهذه الأسر هي أقلية صغيرة من السكان، وتستمد وجودها الاجتماعي من المذهب الزيدي، والذي هو مذهب لأقلية صغيرة في اليمن. كما أن الأساس الفكري للحركة ليس له علاقة بالنظام التعددي.
ولهذا، فإن حركة بهذه الكيفية لا يمكنها أن تكون جزءاً من نظام سياسي تعددي؛ لأنها في الأساس لا تعترف بالتعددية، التي تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، وحق الناس في انتخاب حكامهم عبر التفويض الحر.
لا تقتصر صعوبة عمل الحركة في نظام تعددي بسبب طابعها الفكري فقط، إذ إن تاريخ الحركة العنيف يجعلها في حالة صراع وجودي مع عدد كبير من القوى السياسية التي تصارعت معها، وجميع القوى السياسية –تقريباً- التي لا بد أن تتصارع معها نتيجة طابعها العنيف وفكرها الإقصائي.
والخلاصة أن الحركة لا يمكن أن تكون عنصراً طبيعياً وفاعلاً ضمن نظام ديمقراطي تعددي.
أما أنموذج المحاصصة السياسية/ الجهوية/ المذهبية، فإنه هو الآخر لا يملك أي فرصة للنجاح في اليمن وفق الظروف الحالية؛ والأسباب المانعة لنظام كهذا تتمثل في صعوبة المحاصصة السياسية بعد الصراع العنيف على السلطة، وسيطرة الحوثيين على الدولة، والتدخل الخارجي الكثيف في اليمن، وتملُّك الأطراف الرئيسة للأسلحة. وكل تلك العوامل تمنع قيام محاصصة سياسية، لأن نظاماً كهذا يحتاج لحد أدنى من الثقة بين القوى السياسية، وهذا الأمر مفقود بين الحوثيين وخصومهم، كما أنه يحتاج إلى وجود مؤسسات دولة ضامنة ومحايدة وإن بالحدود الدنيا، من قبيل القوات العسكرية والأمنية والقضاء وغيرها؛ وفي الوقت الحالي والمستقبل القريب -على الأقل- لن يكون هناك مؤسسات دولة محايدة.
وفي كل الأحوال، فإن تجربة اليمن مع نظام المحاصصة السياسية كانت سيئة، ففي الفترة التي تلت الوحدة، اتصف هذا النظام بالصراع والأزمات بين أطرافه، وانتهى بحرب طاحنة.
أما المحاصصة وفقاً للجغرافيا أو المذهب الديني؛ فإنها لا تملك مقومات حقيقية للتحقق، وهناك صعوبة كبيرة في التنفيذ، وأهم مشكلة تواجهها تتعلق بحجم حصص كل طرف والجهة التي يمثلها، فاليمن وعلى الرغم من الخلافات الجهوية والتعدد المذهبي، يبقى متجانساً -إلى حد كبير- خصوصاً في الجانب الاجتماعي، فالثقافة العامة متداخلة والعلاقات الاجتماعية (الزواج، الروابط الحزبية، والصداقات) قوية، وهناك انصهار واضح لليمنيين في المدن الكبرى كصنعاء وعدن وتعز. وهذا التجانس يعني غياب الحدود الفاصلة الجغرافية والمذهبية، التي يقوم عليها نظام المحاصصة الدينية كما هو حال لبنان مثلاً. إلى جانب ذلك، ليس هناك من زعامات واضحة ومقبولة لأي جماعة دينية أو جغرافية، يمكنها أن تدعي تمثيل هذه المنطقة أو المذهب، فالحوثيون ليسوا ممثلين للمناطق الزيدية أو للزيود كمكون سكاني، كما يتم الإيحاء أو الإشارة حين يقال بأن الحوثيين يمثلون جزءاً من المكونات الاجتماعية اليمنية؛ فليس كل الزيود، بالمعنى المذهبي أو السكاني، يرون في الحوثيين ممثلين عنهم، وبالتالي يسمح لهم بأن يتولوا السلطة نيابة عنهم، كما هو حال حزب الله بالنسبة لشيعة لبنان مثلاً.
والأنموذج الثالث لمشاركة الحوثيين عبر منحهم منطقة جغرافية يمارسون فيها شكلاً من أشكال الحكم الذاتي يبدو أكثر النماذج سهولة، قياساً بالأنموذجين السابقين، وتنبع السهولة من اعتقاد البعض بأن الحوثيين في النهاية سيكتفون بالحصول على المنطقة الزيدية ليحكموها. وهذا التصور نجده لدى الكثير من دعاة انفصال الجنوب، وبعض الأطراف الخارجية، وجزء معتبر من الحوثيين، وإن كانوا لا يصرحون به بشكل واضح. وهناك أفكار تطرح في هذا الشأن مفادها تقسيم اليمن إلى ثلاث مناطق، الأولى: هي المناطق الجنوبية بحدود ما قبل الوحدة، والثانية: منطقة جنوب اليمن الشمالي السني، والثالثة: المنطقة الزيدية.
وبغض النظر عن طبيعة هذا التقسيم، أكان على شكل أقاليم ضمن اتحاد فدرالي، أم كونفدرالي أم انفصال للجنوب وتقسيم الشمال؛ فإن هذا الأنموذج أمامه صعاب كثيرة تجعله غير قابل للتنفيذ، أهمها: تحديد الحدود الواضحة للمنطقتين الزيدية والسنية في الشمال؛ فالحوثيون لن يكتفوا بحشرهم ضمن المناطق الزيدية الفقيرة والخالية من الموارد النفطية، والتي ليس لها منفذ بحري، وهم لن يقبلوا بهذا التقسيم إلا في حال ضموا إلى منطقتهم محافظات مأرب والجوف، وحجة والمحويت -على الأقل- كي يكون لهذه المنطقة موارد ومنفذ على البحر، وهذه المحافظات ليست محافظات زيدية خالصة. وإلى جانب ذلك؛ لن يقبل سكان المناطق الزيدية بهذا التقسيم، وأن يكونوا تحت حكم الحوثيين، فالقبول بالحوثيين لدى هؤلاء غير مضمون، خصوصاً وأن معظمهم قد تحولوا إلى المذهب السني كما سبق وذكرنا.
وهناك معارضة خارجية ستأتي من السعودية، التي لن تقبل بوجود كيان زيدي بزعامة الحوثيين على حدودها الجنوبية، وهو الكيان الذي سيرتبط بإيران بشكل أو بآخر، والرفض السعودي يعد أمراً حيوياً بالنظر إلى نفوذها الكبير في اليمن.
ومن كل ما ذكر نستطيع الجزم بصعوبة إشراك الحوثيين وفق الصيغ المذكورة، الأمر الذي يجعل فكرة المشاركة غير عملية وغير ممكنة وفق الظروف الحالية على الأقل.
إن انعدام وجود صيغ واقعية للتعايش مع الحركة الحوثية، يجعل الحل الوحيد الممكن هو إضعاف الحركة من خلال احتوائها عسكرياً وسياسياً، وهي المهمة التي لا بد أن تتم يوماً ما، لأجل استقرار اليمن وعودته دولة طبيعية. غير أن المعطيات الحالية تشير إلى صعوبة هذه الصيغة، والتي سنشير لها بتوسع في الصفحات القادمة.
صعوبة الاحتواء
الاحتواء الذي نقصده هنا هو إنهاء تأثير الحركة الحوثية، أو جعل تأثيرها محدوداً جداً وثانوياً. وهذا الفعل سيتم من خلال الهزيمة العسكرية، أو التفاهمات السياسية المدعومة بالضغط العسكري. ولإنجاح عملية الاحتواء، يتطلب الأمر تفكيك البنية العسكرية، والذي يعني حل الجهاز العسكري ومصادرة الأسلحة الثقيلة والمتوسطة. وقد تصل مرحلة الاحتواء إلى حد إلغاء الحركة وحظر نشاطها، وملاحقة أعضائها وأنصارها ومحاكمتهم، وغيرها من الإجراءات التي تطال بعض الحركات العنيفة.
وبالنظر إلى الخريطة العسكرية/ السياسية لليمن في الوقت الحالي، نجد أن عملية الاحتواء ما زالت بعيدة من التحقق حتى في الصيغة المخففة منه (نزع الأسلحة الثقيلة من الحركة، وحصر نفوذها ضمن منطقة جغرافية صغيرة، وتحويلها إلى حزب سياسي). فالحركة ما زالت أهم الأطراف المؤثرة في المشهد العام لليمن، وبنيتها العسكرية والسياسية قوية وفاعلة، على الرغم من الحرب التي شُـنت عليها منذ بدء عملية عاصفة الحزم، ويمكن إرجاع قوة الحركة إلى عدد من العوامل التي ذكرنا معظمها حين الإشارة إلى عوامل صعود الحركة، وسنعيد الإشارة لها بشكل مقتضب في النقاط التالية:
ضعف خصومها وتشتتهم بين أطراف كثيرة ذات أجندات مختلفة، فهناك القوى الانفصالية التي يهمها أن تبعد الحركة عن المحافظات الجنوبية، ولا تمانع من أن تسيطر الحركة الحوثية على المناطق الشمالية، بل إن بعضها يتمنى أن يبقى الحوثيون مسيطرين على الشمال؛ لما في ذلك من فوائد عليهم، حيث يرى هؤلاء أن الحوثيين سيكتفون بالشمال؛ كونه المنطقة التي كان يحكمها الأئمة الزيود، وهم في هذه الحال أفضل من القوى السياسية الأخرى، كالمؤتمر الشعبي، وحزب الإصلاح، اللذين تشمل اهتماماتهما جميع مناطق اليمن.
استمرار حالة فراغ السلطة الرسمية، فالحكومة الشرعية لم تتمكن حتى الآن من بناء مؤسسات دولة موازية لتلك التي يمتلكها الحوثيون في صنعاء، ففي المناطق الخاضعة اسمياً للحكومة الشرعية، تسود حالة من الفوضى السياسية والإدارية والأمنية، ويرجع جزء من هذه الفوضى إلى المشروع الانفصالي في المناطق الجنوبية، والذي يعمل على تعطيل بناء مؤسسات الدولة اليمنية في العاصمة الموقتة عدن، وبقية المناطق الجنوبية، حيث يتم التركيز في هذه المناطق على إحياء سلطات محلية تحت عناوين مختلفة، بعضها يتم من أجل استعادة دولة الجنوب السابقة، كما هو الحال في محافظات عدن ولحج والضالع وأبين، والبعض الآخر لصالح سلطات محلية غير واضحة، كما هو الحال في حضرموت وشبوة وسوقطرة والمهرة. أما في المناطق الشمالية، فإن المحافظات الخارجة عن سيطرة الحوثيين تقع -عملياً- تحت سيطرة بعض القوى السياسية، كحزب الإصلاح والقوى السلفية. والنتيجة من كل ذلك أن السلطة الشرعية ومؤسساتها هي الحلقة الأضعف في هذه المناطق، ودورها يقتصر على توفير الغطاء السياسي والقانوني لهذه القوى.
استمرار تحالفها التكتيكي مع الرئيس السابق صالح، الذي ساعد الحركة على اختراق مؤسسات الدولة اليمنية وتجييرها لصالحها. إضافة إلى ذلك، وفر أنصار المؤتمر للحركة حاضناً سياسياً في المناطق التي غاب فيها الحاضن المذهبي كمحافظة تعز وإب والحديدة.
استمرار الدعم الإيراني الذي يمد الحركة بالأموال، وربما بالأسلحة، ويبدو أن هذا الدعم سيستمر، وقد يتصاعد في حال أصبحت الحركة في وضع عسكري وسياسي صعب.
القيادة المركزية الصارمة للحركة، وهي الصفة التي تنفرد بها الحركة قياساً بالقوى الأخرى.
استمرار سيطرتها على مؤسسات الدولة، الذي يجعلها تُسخِّر موارد الدولة وأجهزتها لصالح الحركة.
امتلاك الحركة موارد خاصة، بعد أن تمكنت من السيطرة على أهم المؤسسات الحكومية المدرة للدخل، والقطاعات الاقتصادية المربحة، كتجارة الوقود والاتصالات والبنوك والصرافة، وقد مكنها ذلك من خلق اقتصاد خاص بالحركة، وجهاز مصرفي بعيد عن الجهاز المصرفي الرسمي.
سيطرتها على المنطقة الأصعب جغرافياً والأقوى سكاناً، حيث إن المناطق التي تقع تحت سيطرتها هي المناطق الوعرة ذات الجبال العالية، التي يأتي على رأسها مناطق الهضبة العليا، مما كان يعرف باليمن الشمالي، وهي المناطق التي كانت معقل الإمامة الزيدية، ويتصف سكان هذه المناطق بنزعتهم القبلية وسلوكهم الحربي، وهم بذلك يعتبرون المخزون الحربي الرئيس لليمن. وتمنح هذه المناطق الحوثيين قدرة كبيرة على التحصن في أوضاع الدفاع، والحشد والتجييش في أوضاع الهجوم.
صراعها الوجودي مع خصومها، فالحركة وضعت لنفسها خيارات صفرية، فإما النصر الكامل أو الهزيمة الماحقة، ولهذا نجد أن الحركة تقاتل تحت ضغط هذا الخيار، وهو ما يجعلها في وضع حربي وإداري فعال، فالهزيمة تعني خسارة كل شيء.
الوجه الليبرالي للحركة، الذي يجعلها قادرة على التسويق لدى الكثير من الدول والمنظمات الحقوقية، فنواتها الصلبة وهم الهاشميون ليسوا جماعة متطرفة ذات نسخ سيئة المظهر والمضمون، كما هو حال الحركات الإسلامية العنيفة، فهؤلاء جماعة متنوعة جدا تنتمي إلى النخبة الاجتماعية والثقافية في اليمن، والكثير من سكانها المدنيين يمكن وصفهم بأنهم ليبرليون وعلمانيون بشكل من الأشكال، وهم بهذا الشكل لديهم قدرة إقناع عالية للكثيرين.
توظيفها للعنف لأغراض سياسية واضحة، وليس عنفاً فوضوياً كما تعمل الجماعات الإرهابية، فالحركة حتى الآن لم تمارس الإرهاب وفق التعريف المتعارف عليه في الغرب.
وفقاً للمعطيات الحالية، فإن الحركة الحوثية ما زالت بعيدة من أن تُهزم أو تنتهي، كما يتمنى خصومها، فمنذ إعلان عملية عاصفة الحزم، وحتى كتابة هذه السطور، ما زالت الحركة مسيطرة على مناطق رئيسة في اليمن، بما في ذلك العاصمة صنعاء وأكثر من (70%) من سكان اليمن تقريباً.
إن من الممكن القول: إن الحركة الحوثية بصفتها مشروع فوضى مولدة للعنف والانقسامات، لا يمكنها أن تستمر لفترة طويلة، وإن حركة التاريخ حتماً ستتجاوزها، ولكن السؤال المركزي هنا هو: متى وكيف سيتم ذلك؟
[1] يقصد بالبطنين ذرية الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب.
[2] يحدد المذهب الزيدي شروط الإمامة في (14) شرطاً، أهمها شرط الانتساب للبطنين، ويعتبر هذا الشرط هو أساس المذهب الزيدي.
[3] هناك طائفة من الإسماعيلية تؤمن بغيبة الإمام.
[4] نسخ لأحاديث حسين الحوثي التي ألقى معظمها خلال الأعوام (2003-2004)، وقد تمت طباعتها على شكل الملازم التي توزع على طلاب الجامعات في اليمن، وقد أصبحت هذه الملازم بمثابة الإطار النظري للحركة الحوثية.
[5] في مقابلة شهيرة لبدر الدين الحوثي مع صحيفة الوسط اليمنية أجريت في 9/8/2004 أنكر فيها أن يكون ابنه قد ادعى الإمامة، وتجنب الحديث عن احتكار الحكم للبطنين وقال بجواز أن يحكم غيرهم. نص المقابلة في موقع الوسط، على الرابط التالي:
http://www.alwasat-ye.net/?ac=3&no=32290
[6] رسالة عبدالملك الحوثي للرئيس السابق صالح، التي قال فيها: «نكتب إلى فخامتكم هذه الرسالة للتأكيد على ما أكدنا عليه مراراً من أنا لسنا ضد النظام الجمهوري ولا ضدك، وأنا لا نسعى أبداً إلى فرض الإمامة كما يشيعونه عنا» موقع صحيفة الوسط، على الرابط التالي:
[7] مبدأ شيعي يقول بجواز إظهار شيء واستبطان شيء آخر في حال الاضطرار، وتفادياً لقمع السلطات.
[8] الوثيقة الفكرية والثقافية، الصفحة الرابعة، متوافرة على الرابط التالي:
https://dl.dropboxusercontent.com/u/24926962/zaidi.pdf
[9] الصفحة الثانية من الوثيقة (المرجع السابق).
[10] الصفحة الرابعة من الوثيقة (المرجع السابق).
[11] خلال الاعتصام الشهير فيما سمي بـ«ساحة التغيير في صنعاء»، أسس الحوثيون ما يمكن اعتباره جناحاً خاصاً بهم داخل هذه الساحة، سمي بـ«ساحة شباب الصمود»، وقد استقطبوا من خلال وجودهم في الساحة جزءاً من المحتجين، وبالذات المناوئون لحزب الإصلاح بجناحيه العسكري الممثل بعلي محسن الأحمر، والقبائل الممثل بالشيخ حميد الأحمر، وقد استمر وجود أنصار الحوثيين في الساحة حتى بعد أن غادرتها القوى الأخرى.
[12] تم تعيين فارس مناع، أحد كبار تجّار الأسلحة في اليمن، محافظا لصعدة، في مارس (آذار) 2011، بإيعاز من الحوثيين وموافقة من القوى الثائرة على الرئيس السابق صالح. انظر: موقع المصدر أونلاين، على الرابط التالي:
http://almasdaronline.com/article/17844
[13] هناك الكثير من الشهادات لضباط في القوات المسلحة، أفادت بأنهم أبلغوا من قبل وزير دفاع هادي، بأن لا يقاتلوا الحوثيين، وأن يسمحوا لهم بالسيطرة على المعسكرات التابعة لهم، ونهب الأسلحة والمعدات. وقد ذكر الكاتب مروان الغفوري الكثير منها في سلسلة كتاباته «ليلة سقوط الجمهورية»، للمزيد انظر: موقع المصدر أون لاين، على الرابط التالي:
http://almasdaronline1.com/article/63729
[14] في قرارات من قبل اللجنة الثورية العليا تم ترقية عدد كبير من الحوثيين من رتب دنيا إلى أعلى رتبة في وزارة الداخلية، يمكن الاطلاع على هذه الترقيات على هذا الرابط:
http://sjl-news.info/n/1171581/
[15] رفض المؤتمر الشعبي حليف الحوثيين الاعتراف بالإعلان الدستوري، وهو الأمر الذي حال دون استكمال الحوثيين تنفيذ ما ورد في الإعلان.
[16] لا يعرف بالضبط حجم الهاشميين في اليمن، غير أن الانطباع العام يوحي بأنهم لا يتجاوزون مئات الآلاف.