الأب يعقوب شحاتة الفرنسيسكاني[1]*
في خضم الصراع الدائر حالياً بين العالم بأسره، من جانب، والتيارات الإسلامية المتطرفة، من جانب آخر، يبرز السؤال الحتمي: إلى متى؟ وكيف يمكن وضع نهاية له؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تبدو مستعصية ومعقدة. فالمشهد مفعم بسوء الفهم والأحكام المسبقة المتراكمة عبر الأجيال. ويُطرح موضوع الحِوار ما بين الأديان كأحد الحلول للتقريب بين الحضارات عامة، وبين الحضارة الغربية (المسيحية) والحضارة الإسلامية بشكل خاص. وفي هذا الصدد أودّ أن أعرض أمامكم محاولة الحِوار التي قام بها القديس فرنسيس الأسّيزي (1182–1226)[2]، أثناء الحروب الصليبية[3].
ففي أثناء المعارك التي اندلعت بين قوات الحملة الصليبية الخامسة بقيادة “جان دي بريين” (Jean de Brienne) وقوات المسلمين تحت قيادة السلطان الأيوبي “الملك الكامل”[4]، والتي دارت رحاها في مدينة دمياط المصرية. وكانت الغلبة تنتقل ما بين طرف وآخر، حتى انسدت بهم السبل، ولم يكن هناك في الأفق ما يساعد على وضع حد لهذه المذابح. نصح فرنسيس الأسيزي -الذي كان قد حضر إلى دمياط سنة 1219- القادة بعدم الهجوم العسكري، واللجوء إلى الحِوار، والتوصل إلى سلام يرضي جميع الأطراف، لكنهم أهملوا نصيحته وكانت هزيمتهم. وبعد حصار دمياط الذي لم ينجح، وفي الفترة التي عقدت فيها الهدنة بين الجانبين، اعتقد فرنسيس أنه في إمكانه أن يجد حلاً لهذا الصراع العبثي، من خلال إقناع السلطان بالمسيحية. وطلب من المندوب البابوي المرافق للحملة الإذن بالتوجه إلى معسكر المسلمين، وبعد ممانعة من المندوب البابوي، سمح له بذلك بعد إلحاح منه، ولكن على مسؤوليته الشخصية. فترك فرنسيس معسكر الصليبيين بصحبة أحد رهبانه ويدعى “إللوميناتو” (Illuminato) قاصدين معسكر المسلمين، وطلبا مقابلة السلطان، أعزل من السلاح، كما يروي “جاك دي ڤيتري” (Jacques de Vitry)[5] في كتاباته، وهو الذي قابل «فرنسيس» في رحلته. لكن هل كان السلطان ليترك أحد أفراد العدو ليعود حيًا لبلاده؟ سؤال ربما دار بخلد «فرنسيس» وهو يرى هزيمة الصليبيين الوشيكة في أعينهم في معسكراتهم في دمياط. وفي طريقه وقع «فرنسيس» في قبضة الجنود المسلمين، ليقول لهم: «السلطان»، وظنّ الجنود بأنهما قد يكونان آتيان برسالة ما، أو أنهما قاصدان المسلمين لاعتناق الديانة الإسلامية. بالفعل اقتادهما الجنود ليقفا في مواجهة السلطان الملك الكامل. وسألهما السلطان عن سبب قدومهما إلى معسكر المسلمين، وهل أتيا برسالة إليه، أم إنهما ينويان اعتناق الإسلام دينًا؟ فأخذ فرنسيس يحدثه عن المسيحية، وأصغى إليه السلطان برحابة صدر حيث لم تكن المسيحية غريبة عليه، إذ كان ملكاً مثقفاً فضلاً عن معرفته بأحوال المسيحيين في مصر. وبطبيعة الحال لم يقبل الملك الكامل التحول إلى المسيحية، لأن إيمانه بالإسلام وعقيدته لم يكن أقل من إيمان فرنسيس بالمسيحية[6].
وقد قدر الملك الكامل هذين الراهبين المسالمين المتواضعين، اللذين لا يحملان السلاح. وبقى «فرنسيس» ضيفًا عليه لمدة من الزمن، وسمح له ولرهبانه بزيارة الأراضي المقدسة. ويُقال: إن الملك الكامل قد دعا فرنسيس للصلاة معه في أحد المساجد فلم يتردد القديس في الاستجابة لتلك الدعوة، وقال: “إنني سأدعو ربي، فالله في كل مكان”![7]. وقد جسد دانتي هذه الواقعة التاريخية في “الكوميديا الإلهية، الفردوس، الأنشودة (11)، الأبيات من (100-105)” والتي يقول فيها:
“وعندما كرز بالمسيح وبالآخرين الذين كانوا له أتباعاً،
في حضرة السلطان العظيمة، وهو إلى الاستشهاد ظمآن،
وإذ وجد القوم غير مستعدين لاعتناق دينه،
وحتى لا يبقى بغير طائل، آب لكي يجني من حصاد إيطاليا أثماره”[8]
لقد سلك فرنسيس، المتسلّح فقط بإيمانه وَوداعته الشخصيّة، دربَ الحِوار بِفاعليّة. وأصبح مِثالاً يجب أن تُستوحى منه العلاقات بين المسيحيّين والمُسلمين اليوم: تعزيز الحِوار في الحقّ، والاحترام المُتبادل والتفهُّم المُتبادل. ولا شك أن ذلك اللقاء قد صحح لدى كل من الرجلين فكرة مسبقة خاطئة عن معتقد الآخر، فاتضح لفرنسيس أنه يمكن أيضاً عبادة الله الواحد خارج المسيحية، كما تبين للملك الكامل أنّ المسيحيين الحقيقيين هم دعاة حب وسلام. وبالإجمال كانت تلك حقاً خطوة “مسكونية” قبل الأوان. وأرسل السلطان حراساً واكبوا فرنسيس ورفيقه حتى معسكر المسيحيين. لكن هذه الفترة التي قضاها فرنسيس في ضيافة السلطان لم تمر عليه دون أن تترك في نفسه أثرًا كبيرًا، حيث دار خلالها بينهما كثير من الأحاديث عن الأديان.
لم يتحدث فرنسيس مباشرة عن لقائه مع الملك الكامل الأيوبي، لكننا نرى واضحًا تأثير هذا اللقاء في القانون الرهباني الأول[9]، حيث نجده يخصّص فصلاً كاملاً في كل منهما، يتكلّم فيه عن أولئك الرهبان الذين يرغبون أن يذهبوا ويعيشوا ما بين المسلمين، كما في كتاباته الأخرى وخاصة نشيد الأخت الشمس[10].
يقول محمد سعيد البوطي في كتابه “دور الأديان في السلام العالمي”:
“… وقد أحيطت بكثير من الألغاز رحلة القديس فرنسيس الأسيزي إلى السلطان الملك الكامل، إبان الحروب الصليبية في أثناء حصار دمياط بالقرب من مصب نهر النيل، ويبدو أنه سافر في عام 1219 دونما أي معرفة عن الإسلام ودونما أي حماية، حاملاً معه خطر الاستشهاد: عندما وصل إلى القرب من دمياط نصح فرنسيس رجال الحملة بأن يقلعوا عن الحرب، ولم تكن لديه أي رغبة في أن يشترك في الهجوم. رجال الحملة لم يعيروه اهتماماً. لكن السلطان، هو الذي أصغى إليه. وهكذا يكون لدينا الدليل القاطع، بأن ما قام به القديس فرنسيس كان يتناقض مع كل هوس الحروب الصليبية”[11].
إن فرنسيس الذي اعتقد أن في إمكانه إقناع السلطان بالمسيحية قد فشل في مسعاه، فلم يعتنق السلطان الملك الكامل دينه وظل على الإسلام، ولم يستطع السلطان من جهته إقناعه بالإسلام. لكن الاثنين تعلما معًا درسًا عظيمًا في وقت عصيب، كان الدرس هو الاحترام، أو كما قال أحد الدارسين: إن قصتهما معًا دليل مادي على أنه: «عبر حوار الأديان، يمكن للأشخاص المعتنقين لأديان مختلفة أن يصلا إلى محل اتفاق لسلام عالمي وتعايش مشترك بين الجميع». عاد فرنسيس الذي ذهب باحثًا عن الشهادة بسيوف المسلمين برؤية جديدة متسامحة ومتفهمة، ويبقى احترامه في قلب السلطان كرجل سعى للخير، حتى وإن لم يدرك كل مسعاه، في زمن سدت فيه طبول الحرب آذان معظم البشر.
يقول الكاتب “ج. ك. تشسترتون” ([12](G.K. Chesterton عن هذا اللقاء بأنه لربما يكون حدثًا من أكبر الأحداث التاريخية، ولو أصغى المسيحيون والمسلمون لفرنسيس لتغيّر تاريخ العلاقات الإسلامية– المسيحية.
يعلق الأب يواكيم مبارك رائد الحِوار المسيحي- الإسلامي على هذا اللقاء:
“تبقى صورة فرنسيس نورًا يضيء التاريخ المسيحي في علاقاته مع الإسلام”. ويتابع: “نلاحظ كيف أن فرنسيس يبقى شخصًا فذًّا وفريدًا بالنسبة للمسيحية جمعاء، عندما خرج من معسكر الفرنج مشكّكًا بذلك بني قومه ورفاقه، ويناقش بحرية ملك الأعداء. بالأكيد إنه يحتلّ مكانًا مرموقًا في تاريخ الكنيسة والحِوار المسيحي– الإسلامي، الذي حتى الآن، لم يصل إليه أي شخص من رهبانه أو من المسيحيين قاطبة”[13].
ويقول آخر: “إنه لأمر مشجع، التفكير بروح فرنسيس الملائكي والمسالم ومقارنته مع الحكمة المتسامحة واللطيفة، التي تحلّى بها مضيفه المسلم الملك الكامل، لعل الروح السامي الذي تحلّى به الصديقان يروي ظمأ ذلك اللقاء البعيد”.
يقول الأنبا يوحنا قلتة المعاون البطريركي للأقباط الكاثوليك:
“حمل فرنسيس إلى السلطان شهادة إيمان وحب وسلام، فكان جواب السلطان، إعجاباً بالشجاعة، وانبهاراً بالبساطة وترحيباً بالسلام، هذا اللقاء العابر بين القديس والسلطان انتصر كما قال بعض المؤرخين العرب أكثر من أربعين معركة حربية، وغيّر مسيرة تاريخ العداء وسفك الدماء إلى رؤية جديدة للعلاقة بين الشعوب وبين الأديان، إنه الحب، إنها القداسة، إنه المسيح الذي ملأ عقل ووجدان فرنسيس…”[14].
إن هذا اللقاء الذي تناولته الكثير من المصادر التاريخية الأوروبية في العصور الوسطى[15]، والذي لم يذكره -على علمنا- أي مصدر إسلامي[16] حفّز العديد من المؤرخين والكتّاب على دراسته وتحليله، وإيجاد تفسير لهذا الحدث الفريد في ذلك العصر.
فالبعض توصل إلى أن شخصية فرنسيس المتجردة والمتواضعة والمنفتحة أثّرت على موقف السلطان منه، ودفعته للتواصل معه على الرغم من الحرب المشتعلة بين الطرفين[17].
والبعض الآخر ركز على شخصية السلطان المتسامحة[18]، وميله إلى السلم وكبح جماح الحرب[19].
وهناك فريق ركّز على النقاط المشتركة التي جمعت بين الشخصيتين، وساعدت على إيجاد نوع من التفاهم والقبول لبعضهما البعض. ومن بين هذا الفريق من فسر التفاهم بين الطرفين بميولهما الصوفية[20].
أرسى فرنسيس طريقته الجديدة هذه في الحِوار الدينيّ، فطلب من أتباعه أن يشهدوا للديانة المسيحية أمام غير المسيحيين، بدون شجار ولا عنف متّبعين الخطوات التالية:[21]
1 – العيش المشترك
على الإخوة الذين يريدون العيش مع غير الكاثوليك أو غير المسيحيين، أن يقيموا بجوارهم، ويتبادلوا الحديث معهم، وأن يتعرّفوا على بعضهم البعض. الحِوار الفرنسيسكاني يعطي الأولوية لحوار الحياة مع الآخر. إنه يبحث عن الآخر الذي يعتبره أخاً أو أختاً.
2 – تقبّل الآخرين كما هم
على الرهبان قبول غير المسيحيين أو غير الكاثوليك كما هم، ليس فقط كونهم يختلفون عنهم بالإيمان، بل أيضًا لأن بعض مبادئهم الدينيّة أو المذهبية تتناقض مع معتقداتهم الدينية.
3 – المسالمة بدون شجار
توصّل فرنسيس إلى قناعة بأن المشاجرات والمناقشات الحادة بين المسيحيين وغير المسيحيين، ليست الطريقة المثلى والفضلى للاتصال مع الآخرين وتعريفهم بالحقيقة الدينية المسيحية، لأنها طرق للتعالي على الآخر، وفرض الحقيقة بالقوة بدون قناعة. بينما الإله الذي آمن به فرنسيس هو الإله المتواضع.
على الرهبان أن يتجنّبوا المخاصمات والمناقشات الحادّة مع الآخرين وإدانتهم، بل بكل محبة واحترام وتواضع، حيث يعبّر الفرنسيسكان عن إيمانهم المسيحي بحياتهم اليومية ما بين غير المسيحيين والطوائف المسيحية غير الكاثوليكية، واحترامهم للجميع لأن المسيح أتى لخلاص الجميع. وهكذا أصبح فرنسيس بالفعل رجل السلام والاتفاق والوفاق.
4– الخضوع للسلطة القائمة
يجب على الرهبان طاعة السلطات المحلية الحاكمة، بغض النظر عن كونها مسيحية أو غير مسيحية، لأنّ كلّ سلطة هي من الله، حيث يقول بطرس الرسول في هذا الصدد: “اخضعوا لكل نظام بشريٍّ من أجل الرب(…) أكرموا جميع الناس، أحبّوا إخوتكم، اتقوا الله، أكرموا المَلِك (1بط 2: 13-17)، ونحن نعلم بأن ملوك ذلك العصر كانوا كلهم وثنيّين، ومع ذلك يطلب القديس بطرس أن نطيعهم. ويحق للراهب أن يرفض طاعة الحاكم، عندما تتعارض أوامر هذا الأخير مع الشريعة الإلهية أو مع صوت الضمير.
إن دعوة فرنسيس للرهبان أن يخضعوا للسلطات الحاكمة، تعبّر عن رغبته في بناء مجتمع جديد، خالٍ من العنف والتسلّط والقوة والتعالي.
5 – الشهادة بالإيمان المسيحي
إن احترام الآخرين وطاعة السلطات الحاكمة لا يعنيان إنكار الإيمان، بل التعبير عنه بالكلام والشهادة له بالحياة، وعلى الآخرين أن يحترمونا كما نحترمهم نحن. على الراهب أن يشهد للإنجيل بالحياة أولاً، وبعدئذ يبشّر بالإنجيل علانية وبصراحة تامة، عندما يحسّ أن الله يدعوه لذلك، وعليه إذاً أن يكون مستعدًّا لمواجهة الاضطهادات والعذاب لأجل الإنجيل، والشهادة له بحياته، وعليه أن يكون مستعدًّا للشهادة بالدم، إن فرضت عليه.
الحضور الفرنسيسكاني في الأراضي المقدسة ومصر بعد القديس فرنسيس
تتحدث الوثائق الفرنسيسكانية عن بداية الحضور الفرنسيسكاني في مدينة القدس ما بين سنتي (1229-1230)، في عهد الإمبراطور فريدريك الثاني، الذي كان قد عقد اتفاق هدنة سنة 1229 مع السلطان الملك الكامل لمدة عشر سنوات، يُسمح فيها للمسيحيين أن يزوروا ويعيشوا في مدينة القدس، وبيت لحم والناصرة وأماكن أخرى في الأراضي المقدسة. وبفضل هذه الهدنة استطاع الرهبان الفرنسيسكان أن يستقروا في القدس حتى سنة 1245، عندما غزا الأتراك السلاجقة مدينة القدس وقتلوا كل السكان المسيحيين فيها.
في 22 أبريل (نيسان) سنة 1272 عقد ملك صقلية “شارل دانجو” (Charles d’Anjou) اتفاق هدنة مع السلطان الظاهر بيبرس لمدة عشر سنوات يسمح فيها للفرنسيسكان بالعودة إلى الأراضي المقدسة وممارسة عبادتهم بحرية.
العودة النهائية للرهبان الفرنسيسكان للأراضي المقدسة، والاستقرار في أماكن محددة لخدمة الحجاج المسيحيين، يعود الفضل فيها إلى ملك نابولي “روبيرت دانجو” (Roberto d’Angiò)، والملكة “سانشيا دي مايوركا” (Sancia di Maiorca). ففي سنة 1333 ومن خلال ممثلهما الفرنسيسكاني “روجيه غيرين” (Roger Guérin)، حصلا من السلطان المملوكي في مصر الناصر محمد بن قلاوون (1309-1340) على كنيسة العشاء الأخير، والحق في ممارسة الطقوس في كنيسة القيامة. ومن ضمن بنود الاتفاق تقرر أن يكون الإخوة الأصاغر الفرنسيسكان هم فقط من لهم حقوق الحفاظ على الأماكن المقدسة باسم المسيحيين الغربيين.
منذ استقرار الرهبان الفرنسيسكان في القدس أخذوا يترددون على مصر ليقوموا بالخدمة الروحية والرعوية للأوروبيين[22]:
ففي سنة 1231 أرسل البابا غريغوريوس التاسع أحد الرهبان الفرنسيسكان برسالة إلى السلطان الملك الكامل يلتمس فيها بطريقة ودية الإفراج عن بعض التجار من مدينة “أنكونا” الإيطالية كانوا قد أسروا ظلماً في الإسكندرية[23].
وبين سنتي (1240–1250) تبادل الباباوات وسلاطين مصر الرسائل من خلال الرهبان الفرنسيسكان. وفي منتصف القرن الثالث عشر (1274-1279) حضر إلى مصر الطوباوي “كورّادو داسكولي”، وتبعه الأخ “جوڤانينو دا أوليسي” من بارما (1279-1282) لمساعدة العبيد المسيحيين[24].
منذ منتصف القرن الثالث عشر استقر الرهبان الفرنسيسكان في الإسكندرية، حيث تكثر الجاليات الأوروبية. وكانت أول جالية من “پيزا” الإيطالية سنة 1225، ومن “جنوا” 1229، وتبعتهم فرنسا 1230، وبعدها “فلورنسا” 1423[25].
واستقر الفرنسيسكان نهائياً في مصر بداية من القرن السابع عشر، حيث بدؤوا في إنشاء الأديرة في كل من القاهرة والإسكندرية والدلتا والصعيد.
إن روح لقاء القديس فرنسيس مع السلطان الملك الكامل، ونتائجه من حوار وانفتاح على الآخر، أضحى جزءاً أساسياً من رسالة الرهبان الفرنسيسكان يحرصون على أن يحيوها يومياً. والذين توافدوا من بعده ركّزوا جهودهم على إقامة الحِوار، سواء مع المسلمين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من السكان، أو مع الطوائف الشرقية الأرثوذكسية وغير الأرثوذكسية، وهي تشكل غالبية السكان المسيحيين في البلاد، فهم لن يمكنهم أبداً أن يقنعوا هؤلاء أو أولئك بأن يتركوا قناعاتهم الدينية ويعتنقوا المسيحية الغربية. إن رسالتهم تتلخص فيما يلي:
- في الحِوار مع غير المسيحيين يعطي الرهبان الفرنسيسكان الأولوية للمحاور الآخر.
- يتميز الراهب الفرنسيسكاني في حواره مع الآخر بالحكمة والصراحة والتواضع والوداعة، والبساطة.
- لا يتسلّط الفرنسيسكاني ولا يستقوي على الآخر، بل يشهد للإنجيل قبل أن يبشّر به، لا يبرهن ولكنه يبيّن.
- تتصف رسالة الرهبان الفرنسيسكان بين الآخرين بالتأقلم والحضور الأخويّ، بالاحترام والحِوار والتضامن مع الجميع خصوصاً مع المنبوذين، والمهمّشين والمضطهدين.
إن الفرنسيسكان بوحي من لقاء القديس فرنسيس الأسيزي والملك الكامل في مدينة دمياط سنة 1219، يمدون يدهم إلى ذوي الإرادة الصالحة حتى يسهم حوار القديس فرنسيس والملك الكامل في إضفاء مزيد من الصفاء على النفوس الطامحة والتواقة إلى أن يذوب الإرهاب لا في منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل في أرجاء العالم كله.
وعلى كل شخص مهما كان دينه أو معتقده أن يقبل العيش في عالم تعددي، يشعر فيه بحريته في عيش العقيدة الإيمانية التي يرتئيها صالحة لنموه الروحي. وتأكيد أن التسامح والتعايش والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، هي البيئة الضرورية والصحية لنمو جميع أفراد المجتمع. فلا يمكن لأحد أن يدعي امتلاك الحقيقة امتلاكاً كاملاً. فالحق الكامل من خصائص الله الذي يكشفها لبشر محدودين في الزمان والمكان، بينما هو يفوق كل الحدود. ولا يمكن لأي شخص أن يمتلك الحق كاملاً إلا عندما يرى الله وجهاً لوجه. وفي إطار تعددية المجتمع، على كل مواطن التعرف على المبادئ الدينية والأخلاقية التي يعتنقها الطرف الآخر بغية فهمه واحترامه.
وقد سعى الرهبان والراهبات الفرنسيسكان في تطبيق هذه العناصر التي تتميز بها رسالتهم من خلال أنشطتهم المختلفة:
ففي المجالات الرعوية، يعمل الفرنسيسكان على أن يعي المسيحيون الكاثوليك كونهم قنطرة أو جسراً يقرب بين الطوائف الأخرى، وبين مسيحيي العالم الغربي.
ومن خلال وجودهم في مصر على مدى التاريخ، أتاح الفرصة لإقامة حوار بين الكنيسة الكاثوليكية من ناحية وبين كنيستي الأقباط الأرثوذكس والروم الأرثوذكس وإقامة علاقات تعاون ومحبة بينهم.
في مجال التعليم (حضانات للأطفال -مدارس) لم يكن لوجودهم في رسالة التربية والتعليم أي نزعة استغلالية أو اقتناص للآخر، بل كان هدفهم يصبُّ في الخدمة المجانية والعطاء بدون مقابل لكلِّ إنسان مهما كان انتماؤه أو عقيدته، وأسهموا في إدخال الحداثة والتطوير في المناهج التعليمية، وتعليم اللُّغات الحيّة. ومدارس الفرنسيسكان هي مدارس وطنية تخدم جميع أبناء الوطن (في بعض المدارس أكثر من نصف الطلاب والمعلمين والعاملين بالمدارس من المواطنين المسلمين)، وتهدف إلى نشر التفوق العلمي والانتماء للوطن، واحترام الآخر، والحِوار، والسلام، وتؤكد المواطنة، والمهنية والمنهج العلمي في حل المشكلات. كما أنها تعمل على تعميم القراءة، وتبادل الخبرات.
وفي المجال الثقافي، يقوم الفرنسيسكان بدور كبير حيث أسسوا مراكز الدراسات والأبحاث: مركز الدراسات المسيحية الشرقية بالموسكي، المركز الثقافي الفرنسيسكاني بالجيزة –المركز الكاثوليكي للسينما، بالإضافة إلى مساهمتهم الثقافية والفكرية، كما أنهم أغنوا المكتبات بالمؤلفات والترجمات.
أما في المجالات الصحية (العيادات والمستوصفات المنتشرة في ربوع مصر) فيسعى الفرنسيسكان إلى العمل على التخفيف من آلام الناس، وتقديم الرعاية الصحية دون تمييز بينهم، مجاناً إن استطاعوا أو بأقل التكاليف الممكنة.
وقد كانت الخدمات الصحية من جوهر رسالة الفرنسيسكان منذ بدء استقرارهم في مصر، ويحدثنا المؤلف “أنجيلو كولومبو” عن هذا بقوله:
“كان لأمير منطقة أخميم في الصعيد محمد قاسم حفيد مريض محبب جداً إليه. وقد نما إلى سمعه أن الراهب الفرنسيسكاني يوسف من أورشليم عالم بفنون الطب، ولكنه عاجز عن مداواة حفيده نظراً لنقص الدواء المطلوب، فحصل على وعد من الراهب المرسل بالعودة ومداواة الحفيد السقيم. وعند عودته مع رفيقه استضافهما في قصره، مخصصاً لهما جناحاً خاصاً يمارسون فيه صلواتهما، ويلتقون بالأقباط العاملين في ديوان هذا الأمير، حيث يتم التحاور معهم بكل حرية”[26].
وختاماً نورد هنا ما ذكره الأنبا يوحنا قلتة المعاون البطريركي للأقباط الكاثوليك في تقديمه لكتاب “أضواء على تاريخ الرهبنة الفرنسيسكانية”، الجزء الأول:
“… وأهم من ذلك كله أن لقاء فرنسيس بالسلطان زرع بذرة الرهبنة الفرنسيسكانية على أرض مصر(…) الرحلة المقدسة للرهبان الفرنسيسكان، في الصعيد، في العاصمة، في الدلتا، رجال ونساء، عاهدوا المسيح أن يحققوا رسالة التجسد والفداء، وهاموا حباً بكل إنسان على أرض مصر، احتضنوا اليتامى والفقراء، ساندوا الضعفاء والمهملين، أنشؤوا المدارس والملاجئ والكنائس، ليس لهم هدف إلا نشر المحبة، والخير، والقداسة. كم تألموا وكم عانوا من ضيقات، كم حوربوا، وكم واجهوا الإهمال، ونكران الجميل، ذلك كله، وروح المسيح، تدفعهم إلى التقدم وإلى الرجاء”[27].
[1]* الأب يعقوب شحاتة الفرنسيسكاني
[2]– ولد فرنسيس، في مدينة “أسيزي” (Assisi) بإيطاليا الوسطى سنة 1182، وهو ابن لتاجر إيطالي غنيّ يدعى “بييترو بيرناردوني” (Pietro Bernardone)، وامرأة فرنسية تقية تدعى “بيكا” (Pica). تبع فرنسيس المسيح بعد أن سمع صوته يدعوه إلى ترميم كنيسته، وترك حياة المرح والصخب والحرب، وأنشأ نظاماً رهبانياً للرجال يتبنى الفقر الاختياري لأجل الملكوت على مثال المسيح الفقير سنة 1208. كما أسس رهبانيتين أخريين: الأولى كان قد أنشأها للعلمانيين المتزوّجين وغير المتزوجين الذين يريدون اتباع روحانيته وهم يعيشون حياتهم العادية سنة 1209، والثانية للنساء سنة 1211. وأسس فرنسيس فرعاً لرهبانيته في الشرق والأراضي المقدسة عام 1217. وحضر إلى مصر أثناء الحملة الصليبية الخامسة على دمياط، حيث التقى بالسلطان الأيوبي الملك الكامل عام 1219، وأتباعه الآن هم ممثّلو الكنيسة الكاثوليكية في الأماكن المقدسة في فلسطين. توفي في مساء 3 أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1226.
[3]– هي تلك الحروب التي شنها مسيحيو أوروبا الغربية على مسلمي الشرق، بعدما أصبح شبه مستحيل وصول المسيحيين إلى قبر السيد المسيح في القدس ومهده في بيت لحم، نتيجة استيلاء الأتراك السلاجقة على فلسطين. دامت هذه الحروب ما يقارب القرنين (1099-1291).
[4]– هو الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد ابن السلطان العادل (1180-1238)، وهو ابن أخي السلطان صلاح الدين الأيوبي.
[5]– جاك دي فيتري (1240 –1160/70)، أحد مؤرخي العصور الوسطى، فرنسي الأصل، عين أسقفاً لمدينة عكا ثم رقي إلى درجة كاردينال، عاصر بعض الحملات الصليبية، خصوصاً الحملة الخامسة، وتعرف على القديس فرنسيس، وكان فيتري من أوائل المؤرخين غير الفرنسيسكان الذي أخبرنا عن البدايات الأولى للفرنسيسكان.
[6]– أليسكي، جورافسكي، الإسلام والمسيحية، في سلسلة عالم المعرفة رقم (215)، نوفمبر (تشرين الثاني) 1996، ص77.
[7]– عبدالحميد، الصمادي ، القديس فرنسيس الأسيزي .. حياة كالصلاة، على الرابط التالي:
http://www.peregabriel.com/saintamaria/node/3850
[8]– دانتي أليجييري، الكوميديا الإلهية، كتاب الفردوس، الأنشودة رقم (11)، ترجمة: حسن عثمان، دار المعارف، القاهرة، 1968، ص237،238.
[9]– “على أن الإخوة الذين يذهبون لتبشير غير المؤمنين، يمكن تنظيم علاقاتهم الروحية باتباع إحدى الطريقتين. الطريقة الأولى وهي: تجنب كل جدال ومنازعة، “الخضوع الكل خليقة بشرية من أجل الرب” (1بط 2: 13) والاعتراف بأنهم مسيحيون. والطريقة الثانية وهي: أنهم متى رأوا أن الأمر فيه مسرة الله، فليذيعوا على الشعب كلمة الله، لكي يؤمنوا بالإله القدير على كل شيء…” (مجموعة مؤلفات القديس فرنسيس الأسيزي، تعريب الأب لويس برسوم الفرنسيسكاني، القاهرة، 1993، ص30).
[10]– راجع: مجموعة مؤلفات القديس فرنسيس الأسيزي، تعريب الأب لويس برسوم الفرنسيسكاني، القاهرة، 1993.
[11]– محمد، سعيد رمضان البوطي، هانز كينغ، سلسلة حوار مع الغرب، دور الأديان في السلام العالمي، منشورات دار الفكر المعاصر، بيروت، 2013، ص91،92.
[12] -CHESTERTON G. K., ST. FRANCIS OF ASSISI, London 1923.
[13]– حليم، نجيم ، فرنسيس الأسيزي رائد الحوار رائد الحوار المسيحي الإسلامي، الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية، 1 أبريل (نيسان) 2008، على الرابط التالي:
http://old.dmgm.org/Links/ar133.htm
[14]– عمانوئيل، ماكن، أضواء على تاريخ الرهبنة الفرنسيسكانية بمصر، القاهرة، 2006، ص16.
[15]– نذكر هنا بعض منها:
– Tommaso da Celano, Vita di S. Francesco d’Assisi (Le Fonti Francescane, Padova 1982).
– S. Bonaventura, Lejenda Major (Le Fonti Francescane, Padova (1982).
– Giuliano da Spira, Vita di S. Francesco d’Assisi (Le Fonti Francescane, Padova (1982).
– Giordano da Giano, La Cronaca (Le Fonti Francescane, Padova (1982).
– Enrico d’Avranches, Vita versificata (Le Fonti Francescane, Padova (1982).
– frate Illuminato, le testimonianze (Le Fonti Francescane, Padova (1982).
– Angelo Clareno, la “Storia delle sette Tribolazioni dell’Ordine Minoritico” (Le Fonti Francescane, Padova (1982).
– Marin Sanudo il Vecchio, Secreta fidelium crucis” (Le Fonti Francescane, Padova (1982).
– Ernoul, Chroniques (1227-1229).
– Jacques de Vitry, Historia Orientalis +Lettere:
[16]– يذكر الباحث الشهير “لويس ماسّينيون” (Louis Massignon )، أنه وجد مصدراً عربياً يتحدث عن أن السلطان الملك الكامل استشار الشيخ فخر الدين الفارسي أحد كبار المتصوفين المسلمين في موضوع “الراهب الشهير” (Maurizio Sabbadini, Francesco d’Assisi, l’Islam e Maulana Rumi)؛
Storici arabi delle cruciate, a Cura di Francesco Gabrieli, Venezia 1999, 261.
[17]– يقول الكاتب اللبناني محمد السماك في محاضرته أمام المؤتمر الفرنسيسكاني العام حول القديس فرنسيس والحوار الإسلامي –المسيحي الذي انعقد في لبنان سنة 2009: “أما الحوار الإسلامي مع المسيحيين غير العرب (نستثني هنا الاتصال الإسلامي المباشر مع الحبشة، وكانت دولة مسيحية هاجر إليها مسلمون بتوصية من النبي؛ تخلّصاً من ظلم مشركي مكة)، فقد بدأ بمبادرة من القديس فرنسيس الأسيزي عام 1219. كان (الأب) فرنسيس في ذلك الوقت مرافقاً لحملة الفرنجة (الحملة الصليبية) التي غزت مصر في عهد الملك الكامل ناصر الدين الأيوبي [الملقب بالعادل وشقيق السلطان صلاح الدين (يوجد خطأ في هذه المعلومة، فالعادل كان والده، وصلاح الدين كان عمه) [. وكانت الاشتباكات المسلحة بين المسلمين والفرنجة تشهد مراحل متعددة من الكرّ والفرّ. وكان يسقط في كل مرحلة المئات من الضحايا. وفي خضم هذه الاشتباكات الدامية، خرج من بين صفوف الفرنجة الأب فرنسيس بلباسه الكهنوتي البسيط ، متجرداً من كل سلاح، سوى سلاح الإيمان بربه وبتعاليمه التي تدعو إلى المحبة ، وحتى إلى محبة الأعداء . فوجئ المسلمون بالرجل يتقدم نحوهم. وفوجئوا به كاهناً. ثم فوجئوا به لا يحمل بيده سلاحاً ولا حتى عصا يتوكأ عليها. وكانت مفاجأتهم الكبرى أنه طلب منهم أن ينقلوه إلى الملك لمقابلته .
[18]– “كان السلطان الكامل ملكاً جليلاً حازماً مهيباً يميل إلى العفو والمسامحة، عفيفاً عن سفك الدماء…، وكان محباً للعلماء ومجالستهم، وسماع مناظراتهم في الفقه والنحو، ويكرم وفادتهم، ويمنحهم العطايا…، وكان يبيت عنده جماعة من العلماء في بعض الليالي يأنس بهم، ويسامرونه، ويحاورونه في العلوم والآداب. أحمد، تمام، السلطان الكامل.. فرّط فيما لا يملك (في ذكرى وفاته: 21 من رجب 635هـ)، أرشيف إسلام أون لاين، على الرابط التالي:
http://archive.islamonline.net/?p=8888
[19]– “أبدى الكامل _وهو الحريص على مصر، والمتبع لسياسة أبيه العادل في مسالمة الصليبيين_ استعداده لإعادة بيت المقدس لهم، ومعظم البلدان التي فتحها صلاح الدين لقاء رفع حصارهم عن دمياط، والجلاء عن مصر، إلا أن عرضه السخي هذا قوبل بالرفض من قبل الصليبيين، بل إنهم تمكنوا من الاستيلاء على دمياط في شعبان سنة 616هـ/1219م، وآثروا البقاء فيها منتظرين قدوم حملة إضافية بقيادة الإمبراطور فريدريك الثاني.” موقع المعرفة، على الرابط التالي:
http://www.marefa.org/index.php
[20]– فيما يتعلق بميل الملك الكامل إلى التصوف راجع: علي، محمد محمد الصلابي (د)، الأيوبيون بعد صلاح الدين، طبعة أولى، القاهرة، 2008، ص160. أما فيما يتعلق بالقديس فرنسيس، فيعقد البعض مقارنة بينه وبين جلال الدين الرومي رائد التصوف الإسلامي، وأبو الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية. انظر:
Maurizio Sabbadini, Francesco d’Assisi, l’Islam e Maulànà Rumi; http://www.puntosufi.it/temi49.htm
[21]– حليم، نجيم، فرنسيس الأسيزي، رائد الحوار المسيحي- الإسلامي، محاضرة في المؤتمر الفرنسيسكاني العام في “حلب” بسوريا، عن القديس فرنسيس والحوار المسيحي –الإسلامي (2010).
[22]– راجع: الدليل العام للكنيسة الكاثوليكية في مصر، القاهرة، 2011، ص187.
[23]– عمانوئيل، ماكن، أضواء على تاريخ الرهبنة الفرنسيسكانية بمصر، الجزء الثاني (الفرنسيسكان في الوجه البحري)، القاهرة، 2009، ص24.
[24]– المرجع السابق، ص25.
[25]– نفسه، ص26.
[26]– أنجيلو، كولومبو، نشأة الكنيسة القبطية الكاثوليكية في النصف الأول من القرن الثامن عشر، ترجمة: الأب يعقوب شحاتة، في مجلة “صديق الكاهن”، المقال الرابع، العدد الثاني، أبريل (نيسان) 2007، السنة السابعة والأربعون، ص149-150.
[27]– عمانوئيل ماكن (الأب)، أضواء على تاريخ الرهبنة الفرنسيسكانية بمصر، القاهرة، 2006، ص17.