تقديم
يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «الذكاء الاصطناعي في الحقل الديني والمجال الحركي: الفرص والتحديات» (الكتاب الرابع بعد المئتين، ديسمبر (كانون الأول) 2023)، بحث وسائط صناعة ونقل المعرفة والعلوم الجديدة، وأثرها على إدارة الحقل الديني، والتفاعل مع الظاهرة الإسلاموية، فيرصد توظيف الذكاء الاصطناعي فنيًّا في الحقل الفقهي، وتوظيفه في المؤسسات الدينية، وتطبيقاته المستجدة المتوجهة لعامة المؤمنين، مع التركيز على تجارب السعودية ومصر وأوكرانيا والمغرب ودول إفريقية عدة. كما يناقش التشابك غير التقليدي بين التطرف والذكاء الاصطناعي؛ واستغلال الجماعات المتطرفة إياه؛ في حملاتها الدعائية، والتضليل المعرفي؛ وإثارة السخط.
في فاتحة دراسات الكتاب قدم الباحث شامل حسين لمفاهيم وخصائص الذكاء الاصطناعي وأهدافه وأنواعه ومحاوره المختلفة ومجالاته وتطبيقاته، مشيرًا إلى التحديات التي يفرضها؛ كاشفًا عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي، في المجال الديني؛ لإيضاح العلاقة بين متغيرين (مستقل – تابع)؛ المستقل هو الذكاء الاصطناعي، أما التابع فهو نتاج الاستخدام في مختلف المجالات.
تناول الباحث السيد محمد علي الحسيني توظيف الذكاء الاصطناعي في الحقل الفقهي، مُفصِّلًا رؤيته لمزاياه وتحدياته، ومستعيدًا تحديد دور الذكاء البشري في استنباط الفقه، بما في ذلك استنباط الأحكام من النصوص الدينية. تطرق الباحث إلى دور الفقيه في هذه العملية، ومساهمة الذكاء الموازي المفترضة في تسهيل استنباط الفقه، لافتًا إلى أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا المجال، ومجالات أخرى مثل: «تطبيق نسك» و«تطبيق توكيل» و«روبوت الإرشاد» وهي تقنيات استُخدمت أثناء العمرة والحج، وعملت بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وكان من ضمن مهامها إصدار الفتاوى والاستشارات الموثوقة وعرضها، مما أدى إلى تسهيل الفروض الدينية.
في اتجاه مختلف، تناول الباحث الأردني محمد صبحي العايدي، التكييف الفقهي للذكاء الاصطناعي، فبدأ بتحليل الإدراك في الشخصية الآلية، وافتقاره إلى الشمولية والمشاعر، على عكس الإدراك الإنساني بأبعاده الروحية والأخلاقية، معتبرًا أن إدراك الفقه يتجاوز المعلوماتية؛ ويقتضي الخروج من العلة الجليّة إلى علةٍ خفيّةٍ مبنية على إدراكات كليّة تحصل في نفس الفقيه، نتيجة التمرّس في المعاني الكلية المُرادة للشارع، ويحجب -الباحث- بذلك أداء الروبوت لما تقتضيه النيّة، أو المعاني الإدراكيّة النفسيّة، أو ما يقتضيه معنى الذمّة الإنسانية أو أهليتي الوجوب والأداء، مستشهدًا بقول الغزالي: «أما أهلية ثبوت الأحكام في الذمة فمستفاد من الإنسانية، التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به فهم التكليف في ثاني الأحوال». ولكنه يثبت أن الذكاء الاصطناعي غدا نوعًا من السلطة العالمية، لا بد من ضبط مخرجاتها، عبر مبادرات، على غرار عملية هيروشيما للذكاء الاصطناعي، والقوانين الناظمة، التي ترعى القيمة الأخلاقية، مُقترِحًا ابتدار ذلك عبر مراعاة حرمة الإنسان، والخصوصية. وفي المجال الديني حصره في الروبوت المفتي للفتاوى العامة، وتعليم النسك كالحج والعمرة، ورصد الأهِلَّة.
وعرض أستاذ الاتصال الدولي الخضر عبدالباقي محمد، للعلاقة بين الذكاء الاصطناعي والحقل الديني، عبر الإضاءة على موقف الإسلام من التكنولوجيا الحديثة، وتطبيقاتها من ناحية التكييف الفقهي والأحكام التكليفية، فقاربها من باب فقه المصالح، والمقاصد.
ركّز الباحث جابر بناصر على صلة الذكاء الاصطناعي بالمؤسسات الدينية، محددًا خصائصها المفيدة في تسهيل نقل المعرفة، وتعظيم البحث التجريبي، والتعامل مع المعلومات الناقصة، والتعلم والاستدلال.
تناول الباحث محمد رمضان، تطور الذكاء الاصطناعي وتأثيره في الحقل الديني؛ في مجال توجيه مسار التفكير، بما يوفره من فرص التخصيص الفكري، الذي يجعل البرمجيات والتطبيقات تعتمد عليه في تقديم محتوى مخصص لكل فرد، مما يسهم في توسيع نطاق وصول المعلومة. يلفت الباحث إلى احتمال تأثير الذكاء الاصطناعي في نظام المعتقدات والقيم الأخلاقية؛ وتقليل دور المجال الديني، متسائلًا: هل يمكن أن تؤدي تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى الاستغناء عن الزعيم الديني؟ مبيِّنًا تيارات الإجابات التي تُركّز في بعضها على جزئية سيطرة رجال الدين على الذكاء الاصطناعي، عبر نداء روما لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي في ٢٠٢٠، والذي تلاه اجتماع ممثلي الديانات الإبراهيمية في قمة ٢٠٢٣ التي تهدف لجعل مبادئ أنظمة الذكاء الاصطناعي قابلة للتفسير وشاملة وغير متحيّزة، مع التأكد من أن البشر يتحملون مسؤولية أي قرارات يُسهِّلها الذكاء الاصطناعي.
أما الباحث المغربي محمد عدي، فبحث في دور تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تدبير الحقل الديني؛ فشرح مصطلح رقمنة الدِّين؛ والذكاء الاصطناعي، وحضور الدِّين فيه، وربط التطبيق العملي بالنموذج المغربي، وقرارات تنظيم وزارة الأوقاف؛ إذ سمحت التقنيات المتعددة بتكريس قيم التعايش والانفتاح والتسامح، مشيرًا إلى الألعاب التربوية؛ والترجمة النصية، وتوظيف التجارب في التكوين الديني، والتحليلات التنبؤية، عوضًا عن خطوات، مراقبة النصوص والمحتوى لكشف إشارات التطرف، وتحليل الأنماط النشطة، ومراقبة الصور والفيديو، وتحليل سياقها، والتعاون مع منصات التواصل الاجتماعي.
يرصد الباحث محمد كمال محمد تأثير الذكاء الاصطناعي في الحقل الديني بمكوّناته كافة، من نصوص وعبادات ومؤسسات وعلاقات بين الأديان وفرقها، وتنظيمات التطرف والإرهاب. يقدم الباحث مقترحات أولية تسعى إلى التخفيف من مخاطر الذكاء الاصطناعي، وتعظيم الفرص التي يقدمها للحقل الديني، بالتركيز على الإسلام.
تُسلّط دراسة الباحث عماد أبو الرب الضوء على استخدام الذكاء الاصطناعي في الحقل الديني، فتحدد مجالات استخدامه في القضايا الدينية، وإمكانات توظيفه من قبل الإدارات الدينية المسلمة في العالم، في عملها على نشر خطاب التسامح، ومدّ جسور التواصل الحضاري بين مكوِّنات المجتمع الإنساني.
أما الباحث المصري إبراهيم نجم، فبحث في العلاقة بين التطرف والذكاء الاصطناعي، وكيفية توظيف الأخير لنشر الأيديولوجيات المتطرفة، عبر تكثيف حملات الدعاية وخلق ثغرات تهدد أمن المجتمعات، محدّدًا أبرز النماذج التحريضية التي تستخدمها الجماعات الإرهابية في الفضاء الافتراضي والأمن السيبراني. استعرضت الدراسة مخاطر التطرف في العصر الرقمي، عبر تطويع خوارزميات الذكاء الاصطناعي لإنتاج مادة ضخمة سريعة الانتشار، تعتمد على الصور والفيديوهات، وهي تحتاج إلى تحليل دقيق. يشير الباحث إلى أن الأتمتة المستندة إلى الذكاء الاصطناعي، استفادت من التطبيقات الرقمية، فقد كشفت التحقيقات الصحفية والدراسات الحديثة عن عشرات الحسابات الموالية لتنظيم داعش الإرهابي فيها، وهذا يتطلب وضع استراتيجيات جديدة في مكافحة الإرهاب.
طرح الباحث الإماراتي محمد البشاري، الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، قضية الذكاء الاصطناعي وسؤال الأخلاق، مُلاحِظًا أن ثمة إمكانات للمواءمة بين حماية الكرامة الإنسانية، وتطويع الآلة والتقنية والإفادة منها، لا تطويع البشر وتجريدهم من إنسانيتهم ومعاييرهم. ينطلق الباحث من إمكانية أن البحث والحوار المستمر في تشكيل مستقبل أخلاقي للذكاء الاصطناعي، يعتبر أحد الأساسات، ولكن في ضوء مجموعة الضوابط الأخلاقية التي تحددها التجارب الإنسانية، مثل احترام الخصوصية وحماية البيانات والكرامة الإنسانية، والإشراف والتحكم البشري.
أما الباحث أحمد النحوي، فعرض للعلاقة بين الذكاء الاصطناعي وصناعة التطرف في إفريقيا، وشرح كيف تستخدم التنظيمات الإرهابية مثل: داعش والقاعدة وبوكو حرام، التطور الكبير الحاصل في هذا المجال التقني، من أجل الترويج لإرهابٍ عابر للحدود. قام الباحث في القسم الميداني بإجراء مقابلات مع العديد من الخبراء المختصين في هذا الموضوع في النيجر، والمغرب، ونيجيريا، وجزر القمر، ومالي، وموريتانيا، والسنغال.
ويركز الباحث ماهر فرغلي على منهج تدوير التطرف عبر الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وكيفية استغلال تنظيم داعش الإرهابي للمنصات الافتراضية عبر التجنيد والاستقطاب ونشر التطرف، مُحدّدًا كيفية استخدام الحرب النفسية، وتعميق التناقض وتدوير المنهجية الفكرية والخلافات العقدية بين التنظيمات المتطرفة، خلال العشر سنوات الماضية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخصّ بالذكر الزميل ماهر فرغلي منسق هذا الكتاب، الذي نأمل أنْ يسد ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
ديسمبر (كانون الأول) 2023