ضخت الحكومات في جميع أنحاء العالم بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 أكثر من ثلاثة تريليونات دولار في النظام المالي. كان الهدف هو تحرير أسواق الائتمان من الجمود وإعادة الاقتصاد العالمي للعمل مرة أخرى. ولكن بدلاً من دعم الاقتصاد الحقيقي، الجزء الذي يشمل إنتاج السلع والخدمات الفعلية، توجّه الجزء الأكبر من المساعدات إلى القطاع المالي. أنقذت الحكومات البنوك الاستثمارية الكبرى التي ساهمت بشكل مباشر في الأزمة. وعندما عاد الاقتصاد إلى العمل مرة أخرى، كانت تلك الشركات هي التي حصدت ثمار الانتعاش. أما دافعو الضرائب فقد تُركوا مع اقتصاد عالمي كان محطمًا وغير متساوٍ وكثيف الكربون كما كان من قبل. تقول المقولة الشائعة: “لا تدع أزمة جيدة تذهب سُدى“. لكن ذلك ما حدث بالضبط.
الآن نظرًا لأن الدول تعاني من ( كوفيد-19)، وعمليات الإغلاق الناتجة عن الجائحة، يجب عليها تجنب ارتكاب الخطأ نفسه. في الأشهر التي تلت ظهور الفيروس للمرة الأولى، تدخلت الحكومات لمعالجة الأزمات الاقتصادية والصحية المصاحبة له، وطرحت حزم تحفيز لحماية الوظائف، وإصدار قواعد لإبطاء انتشار المرض والاستثمار في البحث وتطوير العلاجات واللقاحات.
إن جهود الإنقاذ هذه كانت ضرورية. لكن لا يكفي أن تتدخل الحكومات باعتبارها الملاذ الأخير عندما تفشل الأسواق أو تحدث الأزمات. يجب عليها تشكيل الأسواق بحيث يتم تقديم نوع من النتائج طويلة الأجل التي تفيد الجميع. أضاع العالم فرصة القيام بذلك عام 2008، لكن القدر منحه فرصة أخرى. مع خروج الدول من الأزمة الحالية، يمكن فعل ما هو أكثر من تحفيز النمو الاقتصادي. عبر توجيه هذا النمو لبناء اقتصاد أفضل بدلاً من تقديم مساعدة غير مقيدة بشروط للشركات، يمكن أن توضع شروط لعمليات إنقاذها عبر سياسات تحمي المصلحة العامة وتعالج المشاكل المجتمعية.
يمكن للحكومات أن تطلب من الشركات توفير لقاحات كوفيد-19، ودعمها حتى يتاح الوصول إليها عالميًا. كذلك يمكن رفض إنقاذ الشركات التي لم تحد من انبعاثات الكربون أو لم تتوقف عن إخفاء أرباحها في الملاذات الضريبية. لفترة طويلة جدًا تبنت الحكومات سياسات تنطوي على مخاطر اجتماعية، أدت إلى تفجر الفوضى، وقد تحملت الجماهير عبء تنظيفها، لكن فوائد عمليات التنظيف هذه تراكمت بشكل كبير[a]. في أوقات الحاجة تسارع العديد من الشركات إلى طلب المساعدة الحكومية، ولكن في الأوقات الجيدة فإنها تطالب الحكومة بالتنحي. تقدم أزمة كوفيد -19. فرصة لتصحيح هذا الخلل من خلال أسلوب جديد لعقد صفقات تُجبر الشركات التي تم إنقاذها على العمل بشكل أكبر للمصلحة العامة وتسمح لدافعي الضرائب بالمشاركة في فوائد النجاحات التي تُنسب تقليديًا للقطاع الخاص وحده. لكن إذا ركزت الحكومات بدلاً من ذلك فقط على إنهاء الألم الفوري دون إعادة كتابة قواعد اللعبة، فإن النمو الاقتصادي الذي يلي الأزمة لن يكون شاملاً ولا مستدامًا. كما أنه لن يخدم الشركات المهتمة بفرص النمو على المدى الطويل. سيكون التدخل ضياعًا والفرصة الضائعة لن تؤدي إلا إلى تأجيج أزمة جديدة.
تعفن النظام
كانت الاقتصادات المتقدمة تعاني من عيوب هيكلية كبيرة قبل أن يضربها فيروس كورونا ( كوفيد -19)[3] . لسبب واحد هو التمويل نفسه، وتآكل أساس النمو طويل الأجل. يتم إعادة استثمار معظم أرباح القطاع المالي في التمويل في البنوك وشركات التأمين والعقارات. بدلاً من توجيهها نحو الاستخدامات الإنتاجية مثل البنى التحتية أو الابتكار. على سبيل المثال تدعم 10٪ فقط من جميع قروض البنوك البريطانية الشركات غير المالية، بينما يذهب الباقي إلى العقارات والأصول المالية. في الاقتصادات المتقدمة شكل الإقراض العقاري حوالي 35% من إجمالي الإقراض المصرفي في عام 1970. بحلول عام 2007، ارتفعت إلى حوالي 60% وبالتالي فإن الهيكل المالي الحالي يغذي نظامًا تحركه الديون وفقاعات المضاربة، والتي عندما تنفجر تندفع البنوك إلى التوسل للحكومات لكي تنقذها.
ثمة مشكلة أخرى تتمثل في أن شركات كبيرة عدة أهملت الاستثمارات طويلة الأجل، لصالح مكاسب قصيرة الأجل، بسبب هوس العوائد الفصلية وأسعار الأسهم، كافأ الرؤساء التنفيذيون ومجالس إدارة الشركات، المساهمين من خلال إعادة شراء الأسهم، وزيادة قيمة الأسهم المتبقية، وبالتالي باتت خيارات الأسهم تشكل جزءًا من معظم حزم رواتب المسؤولين التنفيذيين.
في العقد الماضي، أعادت شركات عدة حسب (فورتشين 500) شراء ما قيمته أكثر من 3 تريليونات دولار من أسهمها. وتأتي عمليات إعادة الشراء هذه على حساب الاستثمار في الأجور وتدريب العمال والبحث والتطوير. هناك تفريغ لقدرات الحكومة. لا تتدخل الحكومات عادة إلا بعد فشل واضح في السوق، وتكون السياسات التي تطرحها قليلة جدًا ومتأخرة جدًا. عندما لا يُنظر إلى الدولة على أنها شريك في خلق القيمة ولكن على أنها مجرد عامل مساعد فإن الموارد الممولة من القطاع العام تصبح بلا قيمة. في وقت تعاني فيه البرامج الاجتماعية والتعليم والرعاية الصحية من نقص التمويل.
أضافت هذه الإخفاقات مزيد من الأزمات الضخمة الاقتصادية. كانت الأزمة المالية إلى حد كبير بسبب التدفق المفرط للائتمان إلى قطاعي العقارات والقطاع المالي، مما أدى إلى تضخم فقاعات الأصول وديون الأسر بدلاً من دعم الاقتصاد الحقيقي وتحقيق نمو مستدام. في الوقت نفسه أدى الافتقار إلى الاستثمارات طويلة الأجل في الطاقة الخضراء إلى تسريع ظاهرة الاحتباس الحراري، لدرجة أن اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ حذرت من أن العالم أمامه عشر سنوات فقط لتجنب آثار لا رجعة فيها. مع ذلك تدعم الحكومة الأمريكية شركات الوقود الأحفوري بما يصل إلى 20 مليار دولار سنويًا، إلى حد كبير من خلال الإعفاءات الضريبية التفضيلية. يبلغ إجمالي دعم الاتحاد الأوروبي حوالي 65 مليار دولار سنويًا. في أحسن الأحوال يفكر صانعو السياسات الذين يحاولون التعامل مع تغير المناخ في الحوافز، مثل ضرائب الكربون والقوائم الرسمية التي تعتبر استثماراتها خضراء. لقد توقفوا عن إصدار نوع اللوائح الإلزامية المطلوبة لتجنب الكارثة بحلول عام 2030.
في الوقت الحالي يتركز اهتمام العالم على النجاة من الأزمة الصحية، وليس على منع أزمة المناخ القادمة أو الأزمة المالية التالية. أدت عمليات الإغلاق إلى تدمير الأشخاص الذين يعملون في اقتصاد الوظائف المؤقتة، المحفوف بالمخاطر. حيث يفتقر الكثير منهم إلى المدخرات ومزايا صاحب العمل المستدام، أي الرعاية الصحية والإجازة المرضية اللازمة للتغلب على العاصفة.
إن ديون الشركات وهي سبب رئيسي للأزمة المالية السابقة آخذة في الارتفاع مع حصول الشركات على قروض جديدة ضخمة للتغلب على انهيار الطلب. كما أن هوس العديد من الشركات بإرضاء المصالح قصيرة الأجل لمساهميها قد تركهم بلا استراتيجية طويلة المدى خلال الأزمة. كما كشف الوباء عن مدى عدم توازن العلاقة بين القطاعين العام والخاص. في الولايات المتحدة، تستثمر المعاهد الوطنية للصحة (NIH) حوالي 40 مليار دولار سنويًا في الأبحاث الطبية وكانت ممولًا رئيسيًا للبحث والتطوير في علاجات ولقاحات كوفيد-19. لكن شركات الأدوية ليست ملزمة بجعل المنتجات النهائية في متناول الأمريكيين.
طورت شركة جلعاد (Gilead)، التي تتخذ من كاليفورنيا مقراً لها دواء ( كوفيد-19) الخاص بها وهو (Remdesivir)، وذلك عبر دعم من الحكومة الفيدرالية بمبلغ يُقدر بحوالي 70.5 مليون دولار. في يونيو (تموز) الماضي أعلنت الشركة السعر الذي ستفرضه على الأمريكيين مقابل الدورة العلاجية وكان: 3120 دولارًا.
أسعار الأدوية في الولايات المتحدة، هو الأعلى في العالم. تعمل شركات الأدوية أيضًا ضد المصلحة العامة من خلال إساءة استخدام عملية براءات الاختراع. لدرء المنافسة يقدمون براءات اختراع واسعة جدًا ويصعب ترخيصها.
يعد وادي السيليكون نتاجًا لاستثمارات الحكومة الأمريكية في تطوير تقنيات عالية المخاطر. قامت مؤسسة العلوم الوطنية بتمويل بحث خوارزمية البحث التي جعلت (Google). مشهورة عالميًا. فعلت البحرية الأمريكية الشيء نفسه بالنسبة لتقنية (GPS). التي تعتمد عليها أوبر، ودعمت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة وهي جزء من البنتاغون، تطوير الإنترنت وتكنولوجيا الشاشة التي تعمل باللمس. خاطر دافعو الضرائب عندما استثمرت الحكومة في هذه التقنيات، ومع ذلك فإن معظم شركات التكنولوجيا التي أفادت منها تفشل في دفع نصيبها العادل من الضرائب. ثم بعد ذلك لديهم الجرأة لمحاربة اللوائح التي من شأنها حماية حقوق الخصوصية للجمهور. على الرغم من أن الكثيرين أشاروا إلى قوة الذكاء الاصطناعي والتقنيات الأخرى التي يتم تطويرها في وادي السيليكون، فإن نظرة فاحصة تظهر لنا أنه في هذه الحالات أيضًا، كانت الاستثمارات العامة الحكومية عالية المخاطر، هي التي أرست الأسس لبروز هذه التقنيات وخروجها للنور.
تحتاج التكنولوجيا الممولة من القطاع العام إلى أن تحكمها الدولة بشكل أفضل، وأن تصبح في بعض الحالات مملوكة للدولة من أجل ضمان إفادة الجمهور من استثماراته الخاصة. كما أوضح الإغلاق الجماعي للمدارس أثناء الجائحة، فإن فقط بعض الطلاب لديهم إمكانية الوصول إلى التكنولوجيا اللازمة للتعليم في المنزل، وهو تفاوت يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة. يجب أن يكون الوصول إلى الإنترنت حقًا متاحًا للجميع وليس امتيازًا.
إعادة النظر في القيمة
تتطلب العلاقة بين القطاع العام والخاص، أولاً معالجة مشكلة أساسية في الاقتصاد: لقد حدث خطأ كبير في مفهوم القيمة. يفهم الاقتصاديون المعاصرون القيمة على أنها قابلة للتبادل مع السعر. قد يكون هذا الرأي لعنة بالنسبة للمنظرين الأوائل مثل فرانسوا كيسناي وآدم سميث وكارل ماركس، الذين رأوا أن قيمة المنتجات الجوهرية تتعلق بديناميات الإنتاج، وهي قيمة لم تكن مرتبطة بالضرورة بسعرها.
المفهوم المعاصر للقيمة له آثار هائلة على طريقة هيكلة الاقتصادات. إنه يؤثر في كيفية إدارة المؤسسات وكيفية حساب الأنشطة، وكيفية تحديد أولويات القطاعات، وكيفية النظر إلى الحكومة، وكيفية قياس الثروة الوطنية. لا تدخل قيمة التعليم العام، على سبيل المثال في الناتج المحلي الإجمالي لبلد ما لأنه مجاني، ولكن تكلفة رواتب المعلمين يتم احتسابها. من الطبيعي إذن أن يتحدث الكثير من الناس عن “الإنفاق” العام بدلاً من “الاستثمار” العام. يفسر هذا المنطق أيضًا تصريح الرئيس التنفيذي لشركة (Goldman Sachs) عام 2009 أي بعد عام واحد فقط من حصول شركته على خطة إنقاذ بقيمة 10 مليارات دولار، حينما قال: إن عمال شركته كانوا “من بين الأكثر إنتاجية في العالم“. وفق هذه “النظرية” إذا كانت القيمة هي السعر، وإذا كان دخل الموظفين في (Goldman Sachs) من بين أعلى المعدلات في العالم، فبالطبع يجب أن يكون عمالها من بين الأكثر إنتاجية في العالم!
يتطلب تغيير الوضع الراهن الخروج بإجابة جديدة لسؤال: ما هي القيمة؟
هنا من الضروري التعرف على الاستثمارات والإبداع الذي توفره مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة عبر الاقتصاد، ليس فقط الشركات ولكن أيضًا العمال والمؤسسات العامة. لفترة طويلة كان الناس يتصرفون كما لو كان القطاع الخاص هو المحرك الرئيسي للابتكار وخلق القيمة، وبالتالي يحق لهم الحصول على الأرباح الناتجة. لكن هذه النظرية ببساطة غير صحيحة. تم تطوير الأدوية الصيدلانية، والإنترنت، وتكنولوجيا النانو، والطاقة النووية، والطاقة المتجددة، بكميات هائلة من خلال الاستثمار الحكومي والمخاطرة في تشغيل عدد كبير من العمال، وذلك بفضل البنية التحتية والمؤسسات العامة. إن تقدير مساهمة هذا الجهد الجماعي سيجعل من الأسهل ضمان حصول جميع الجهود على أجر مناسب وتوزيع المكافآت الاقتصادية للابتكار بشكل أكثر إنصافًا. مما يمهد لبدء طريق جديد نحو شراكة أكثر تكافلية بين المؤسسات العامة والخاصة عبر الاعتراف بأن القيمة يتم إنشاؤها بشكل جماعي.
عمليات الإنقاذ السيئة
إلى جانب إعادة التفكير في القيمة، تحتاج المجتمعات إلى إعطاء الأولوية للمصالح طويلة الأجل لأصحاب المصلحة بدلاً من المصالح قصيرة الأجل للمساهمين. في الأزمة الحالية يجب أن يعني ذلك تطوير “لقاح للناس” وأن يكون اللقاح هذا متاح للجميع.
يجب أن تُحكم عملية ابتكار الأدوية بطريقة تعزز التعاون والتضامن بين البلدان، أثناء مرحلة البحث والتطوير وعندما يحين وقت توزيع اللقاح. يجب تجميع براءات الاختراع بين الجامعات والمختبرات الحكومية والشركات الخاصة مما يسمح للمعرفة بالتدفق بحرية في جميع أنحاء العالم. دون هذه الخطوات، نخاطر بأن يصبح لقاح )كوفيد-19( باهظ الثمن ويتم بيعه من قبل المحتكرين، ويتحول لسلعة فاخرة لا يستطيع تحملها سوى أغنى البلدان والمواطنين.
بشكل عام يجب على البلدان أيضًا هيكلة الاستثمارات العامة بشكل أقل شبهاً بالمنشآت وأكثر شبهاً بمحاولات تشكيل السوق لصالح الجمهور، مما يعني خلق روابط مع المساعدة الحكومية. أثناء الوباء يجب أن تعزز هذه الظروف ثلاثة أهداف محددة: أولاً الحفاظ على التوظيف لحماية إنتاجية الشركات وتأمين دخل الأسر. ثانيًا تحسين ظروف العمل من خلال توفير السلامة المناسبة، والأجور اللائقة، ومستويات كافية من الأجر المرضي ودور أكبر في صنع القرار. ثالثًا دعم المهام طويلة المدى مثل تقليل انبعاثات الكربون وتطبيق فوائد الرقمنة على الخدمات العامة من النقل إلى الصحة.
توضح استجابة الولايات المتحدة الرئيسة لــ (كوفيد-19) عبر حزم المساعدات التي أقرها الكونغرس في مارس (آذار) هذه النقاط في الاتجاه المعاكس. وبدلاً من توفير دعم فعال لكشوف الرواتب، كما فعلت معظم الدول المتقدمة الأخرى، منحت الولايات المتحدة إعانات بطالة مؤقتة.
أدى هذا الاختيار إلى تسريح أكثر من 30 مليون عامل مما جعل الولايات المتحدة، لديها واحدة من أعلى معدلات البطالة المرتبطة بالوباء في العالم المتقدم. نظرًا لأن الحكومة قدمت تريليونات الدولارات في شكل دعم مباشر وغير مباشر للشركات الكبيرة دون شروط ذات مغزى، فقد كانت العديد من الشركات حرة في اتخاذ الإجراءات التي يمكن أن تنشر الفيروس، مثل رفض الإجازات المرضية المدفوعة لموظفيها وتشغيلهم في أماكن العمل غير الآمنة.
تظهر بلدان أخرى كيف تبدو الاستجابة المناسبة للأزمة. عندما عرضت الدنمارك دفع 75% من تكاليف رواتب الشركات في بداية الجائحة، فعلت ذلك بشرط ألا تقوم الشركات بتسريح العمال لأسباب اقتصادية. كما رفضت الحكومة الدنماركية إنقاذ الشركات التي تم تسجيلها في الملاذات الضريبية ومنعت استخدام أموال الإغاثة لتوزيعات الأرباح وإعادة شراء الأسهم. في النمسا وفرنسا، تم إنقاذ شركات الطيران بشرط أن تقلل من انبعاثات الكربون.
على النقيض من ذلك منحت الحكومة البريطانية شركة (إيزي جيت) إمكانية الحصول على أكثر من 750 مليون دولار من السيولة في أبريل (نيسان) على الرغم من أن شركة الطيران قد دفعت ما يقرب من 230 مليون دولار من الأرباح للمساهمين في الشهر السابق. رفضت المملكة المتحدة إرفاق شروط بإنقاذها للشركة وغيرها من الشركات المتعثرة باسم حيادية السوق، والفكرة القائلة بأنه ليس من مسؤولية الحكومة وضع تعليمات للشركات الخاصة حول كيفية إنفاق أموالها. لكن خطة الإنقاذ لا يمكن أن تكون حيادية: بحكم التعريف تتضمن خطة الإنقاذ أن تختار الحكومة إنقاذ شركة دون أخرى من كارثة. بدون شروط تتعرض المساعدة الحكومية لخطر دعم الممارسات التجارية السيئة، من نماذج الأعمال غير المستدامة بيئيًا إلى استخدام الملاذات الضريبية.
عقلية الرأسمالي المغامرة
لا يمكن للدولة أن تستثمر فقط؛ يجب أن تعقد الصفقة الصحيحة. للقيام بذلك يجب أن تبدأ في التفكير فيما أسميه “دولة ريادة الأعمال“. تتمثل إحدى طرق القيام بذلك في الحصول على حصة في الصفقات التي تجريها.
لنأخذ على سبيل المثال شركة الطاقة الشمسية (Solyndra). التي حصلت على قرض مضمون بقيمة 535 مليون دولار من وزارة الطاقة الأمريكية قبل إفلاسها في عام 2011، وأصبحت أنموذجًا لعجز الحكومة على الاختيار الصحيح. في الوقت نفسه تقريبًا منحت وزارة الطاقة قرضًا مضمونًا بقيمة 465 مليون دولار لشركة (Tesla)، والتي شهدت نموًا هائلاً. خسر دافعو الضرائب مقابل فشل (Solyndra) لكنهم لم يكافئوا على نجاح تسلا. لن يقوم أي رأسمالي يحترم نفسه حتى لو كان مغامراً بشيء من هذا القبيل. الأسوأ من ذلك قامت وزارة الطاقة بتنظيم قرض تسلا بحيث تحصل على ثلاثة ملايين سهم في الشركة إذا لم تتمكن تسلا من سداد القرض لكن لماذا تريد الحكومة حصة في شركة فاشلة؟
كانت الاستراتيجية الأكثر ذكاءً هي القيام بالعكس ومطالبة تسلا بدفع ثلاثة ملايين سهم إذا كانت قادرة على سداد القرض. لو فعلت الحكومة ذلك لكانت قد ربحت عشرات المليارات من الدولارات مع نمو سعر سهم الشركة على مدار فترة القرض، وكانت هذه الأموال قادرة على أن تغطي تكلفة فشل (Solyndra).
يجب على الحكومة أيضًا أن تضع شروطًا قوية على صفقاتها لضمان أنها تخدم المصلحة العامة. يجب تسعير الأدوية التي تم تطويرها بمساعدة حكومية. يجب أيضاً أن تكون براءات الاختراع التي تصدرها الحكومة ضيقة وقابلة للترخيص بسهولة، من أجل تعزيز الابتكار وتعزيز ريادة الأعمال وكبح السعي وراء الريع.
تحتاج الحكومات أيضًا إلى النظر في كيفية استخدام عوائد استثماراتها لتعزيز توزيع أكثر إنصافًا للدخل. هذه ليست مفاهيم اشتراكية كما يظن البعض. بل يتعلق الأمر بفهم مصدر الأرباح الرأسمالية. أدت الأزمة الحالية إلى تجدد النقاشات حول الدخل الأساسي الشامل حيث يتلقى جميع المواطنين رواتب منتظمة متساوية من الحكومة، بغض النظر عما إذا كانوا يعملون أم لا. الفكرة من وراء هذه السياسة جيدة، لكن الدخل الأساسي الشامل يُنظر إليه على أنه صدقة، وبالتالي يساهم في الترويج لتلك الفكرة الخاطئة القائلة بأن القطاع الخاص هو الخالق الوحيد للثروة في الاقتصاد وليس المشارك في تكوينها، وأن القطاع العام هو مجرد جامع للرسوم ويستحوذ على الأرباح ويعيد توزيعها في شكل صدقات.
البديل الأفضل هو عائد المواطن. بموجب هذه السياسة، تأخذ الحكومة نسبة مئوية من الثروة الناتجة عن الاستثمارات الحكومية وتضع تلك الأموال في صندوق، ثم تشارك العائدات مع الناس. الفكرة هي مكافأة المواطنين مباشرة بنصيب من الثروة التي كونوها. قامت ألاسكا على سبيل المثال، بتوزيع عائدات النفط على السكان من خلال عائد سنوي من صندوقها الدائم منذ عام 1982. تفعل النرويج شيئًا مشابهًا مع صندوق التقاعد الحكومي. تفكر كاليفورنيا، التي تستضيف بعضًا من أغنى الشركات في العالم، في القيام بشيء مماثل.
عندما تم إنشاء شركة (Apple). التي يقع مقرها الرئيسي في كوبرتينو بولاية كاليفورنيا، قامت شركة تابعة لها وهي الأكثر دخلاً، بفتح مكتبها في مدينة رينو بولاية نيفادا، وذلك لتستفيد من معدل ضريبة الشركات الصفري بهذه الولاية وخسرت كاليفورنيا قدرًا هائلاً من عائدات الضرائب لشركة تعمل على أراضيها. لا ينبغي حظر مثل هذه الحيل الضريبية فحسب، بل يجب على كاليفورنيا أيضًا أن تؤسس صندوق ثروة حكومي، والذي من شأنه أن يوفر لها وسيلة إلى جانب الضرائب للاستيلاء مباشرة على حصة من القيمة التي أنشأتها التكنولوجيا والشركات التي ترعاها.
تسمح أرباح المواطن بتقاسم عائدات الثروة المشتركة مع المجتمع الأكبر سواء كانت تلك الثروة تأتي من الموارد الطبيعية التي تشكل جزءًا من الصالح العام أو من خلال عملية مثل الاستثمارات العامة في الأدوية أو التقنيات الرقمية التي تنطوي على جهد جماعي. لا ينبغي أن تكون مثل هذه السياسة بديلاً عن جعل النظام الضريبي يعمل بشكل صحيح، ولا ينبغي للدولة أن تستخدم نقص مثل هذه الأموال كذريعة لعدم تمويل السلع العامة الرئيسية. لكن يمكن للصندوق العام تغيير هذه السردية من خلال الاعتراف صراحةً بالمساهمة العامة في تكوين الثروة لتشكل المفتاح في لعبة القوة السياسية بين القوى.
الاقتصاد الذي يحركه الغرض
عندما يجتمع القطاعان العام والخاص سعيًا لتحقيق مهمة مشتركة، يمكنهم القيام بأشياء غير عادية. هذه هي الطريقة التي وصلت بها الولايات المتحدة إلى القمر عام 1969. لمدة ثماني سنوات تعاونت ناسا والشركات الخاصة في قطاعات متنوعة مثل الفضاء والمنسوجات والإلكترونيات، حيث استثمرت وابتكرت معًا. حتى حققوا ما أسماه الرئيس الأمريكي جون كينيدي: “أكثر المغامرات خطورة وأعظم مغامرة قام بها الإنسان على الإطلاق.” لم يكن الهدف هو تسويق تقنيات معينة أو حتى تعزيز النمو الاقتصادي. كان من أجل إنجاز شيء ما معًا.
بعد مرور أكثر من 50 عامًا، في خضم جائحة عالمية، أمام العالم فرصة لمحاولة تحقيق هدف أكثر طموحًا:
إنشاء اقتصاد أفضل. سيكون هذا الاقتصاد أكثر شمولاً واستدامة. سوف ينبعث منه قدر أقل من الكربون ويولد قدرًا أقل من عدم المساواة، ويبني وسائل النقل العام الحديثة، ويوفر الوصول الرقمي للجميع، ويوفر رعاية صحية شاملة على الفور، ويجعل لقاح كوفيد-19. متاحًا للجميع. سيتطلب إنشاء هذا النوع من الاقتصاد نوعًا من التعاون بين القطاعين العام والخاص لم نشهده منذ عقود.
يستشهد بعض الذين يتحدثون عن التعافي من الجائحة بهدف جذاب: عودة الحياة إلى طبيعتها. لكن هذا هو الهدف خاطئ. بدلاً من ذلك يجب أن يكون الهدف كما قال الكثيرون: “إعادة البناء بشكل أفضل”. قبل اثني عشر عامًا، قدمت الأزمة المالية فرصة نادرة لتغيير الرأسمالية لكنها تبددت. الآن قدمت أزمة أخرى فرصة للتجديد. هذه المرة لا ينبغي للعالم أن يتركها تذهب سُدى.
[1] Capitalism After the Pandemic – Foreign Affairs – Mariana Mazzucato – November/December 2020, at:
https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/2020-10-02/capitalism-after-covid-19-pandemic
[2]* أستاذة اقتصادات الابتكار والقيمة العامة في جامعة كوليدج لندن (University College London)، ومؤلفة كتاب: “قيمة كل شيء: صناعة الاقتصاد العالمي والإفادة منه” (The Value of Everything: Making and Taking in the Global Economy).
[3] أصدر مركز المسبار للدراسات والبحوث كتاباً شهرياُ درس فيه تداعيات جائحة كوفيد -19 وقد جاء تحت عنوان ” جائحة (كوفيد -19) والمُسَتَجَدّ في المجتمع والسياسة والاقتصاد” (الكتاب الحادي والستون بعد المئة، مايو (أيار) 2020)، شارك فيه مجموعة من الباحثين المتخصصين والأكاديميين، وغطى موضوعات أساسية، اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية. للمزيد انظر الرابط التالي:
https://www.almesbar.net/%D8%AC%D8%A7%D8%A6%D8%AD%D8%A9-%D9%83%D9%88%D9%81%D9%8A%D8%AF-19-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8F%D8%B3%D9%8E%D8%AA%D9%8E%D8%AC%D9%8E%D8%AF%D9%91-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85/