تمهيد:
روسيا. التي نسمع عنها أكثر مما نسمعها، وكلما تخيلنا أننا نعرفها نجد أنفسنا نجهلها، تُحير بسياساتها الكثير من حلفائها قبل خصومها وأعدائها، توهمنا في العالم العربي. بلحظة فارقة من تاريخنا في ستينيات القرن الماضي أننا بتنا نفهمها، وباتت تفهمنا، فاكتشفنا أن سوء الفهم هو القاسم المشترك بيننا وبينها، ولذلك لم يكن غريباً أن يصف رئيس مجلس الوزراء البريطاني الأشهر ونستون تشرشل. سياساتها بالأحجية الروسية!
إلا أن تشرشل. بعبقريته السياسية التي عُرف بها. لم يكتف بالتوقف عند اللغز الروسي، بل سعى لفهمه، وتفكيكه حيث قال في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1939. بحديث مع هيئة الإذاعة البريطانية – BBC:
(لا أستطيع أن أنبئكم بأفعال روسيا. إنها لغز مغلف بالسر داخل أحجية؛ لكن قد يكون هناك مفتاح. هذا المفتاح هو مصالح روسيا القومية)[1].
ظل الموقف الروسي. وفهم رؤيته واستراتيجياته عامة، وفي ملف الإرهاب خاصة، يعاني فيه القارئ العربي من بعض التشويش، وعدم القدرة على فهمه وتقييمه، وذلك لأسباب عديدة، منها الحرب والتأثيرات الدعائية بين الغرب؛ وروسيا. وتأثر البعض بها، وأهمها حالة سوء الفهم التي لازمت العلاقات العربية– الروسية. منذ انطلاقتها الكبرى في منتصف القرن الماضي. فمازال حتى الآن يرى بعض العرب روسيا. بعيون سوفيتية. وغير قادرين على استيعاب المتغيرات التي طرأت عليها والبعض الآخر ينظر لها نظرة طائفية على أساس أنها دولة ذات أغلبية أرثوذكسية. “حاقدة، ومعادية للإسلام، والمسلمين” كما ترى بعض التيارات الإسلامية، ووسط هذه الحالة من فوضى التحليلات السياسية ومع تنامي دورها المؤثر بالمنطقة سواء أعجب البعض هذا الأمر أم لا، وجدنا من المفيد إلقاء الضوء على الاستراتيجية الروسية في مكافحة الإرهاب، لعلنا نتمكن عبر هذا التقرير من تقديم صورة أقرب إلى الواقع.
التعريف الروسي للإرهاب:
التعريف الروسي للإرهاب يختلف بشكل كبير عن نظيره الغربي. نتيجة للأحداث التاريخية التي مرت على الدولة الروسية. حيث كان لهذا المصطلح تعريف أكثر شمولاً ويحتوي على خصوصية روسية، حيث رأت السلطة الجديدة للدولة ما بعد الاتحاد السوفيتي. أن الإرهاب الذي تم استخدامه من قبل السلطة والمعارضة، لا بد من وضع تعريف جامع له، وقطع الطريق على الراغبين بالاستعانة به لتحقيق أهدافهم السياسية.
بدأت الدولة الروسية بنفسها، على أساس أنها السلطة الحاكمة في ظل الدولة الجديدة (روسيا الاتحادية). وحتى تُنهي عهوداً طويلة من الإرهاب، والاستبداد الذي مارسه حكام روسيا عبر عصورها المختلفة، فقد وضعت عدة مواد بالدستور الروسي الصادر عام 1993. وهي (المادة الثالثة عشرة). البنود من (1 إلى 5)[2]. والتي تنص على التالي:
يجب الاعتراف بالتنوع الأيديولوجي في الاتحاد الروسي.
لا يجوز اعتماد أيّ أيديولوجية كأيديولوجية للدولة أو اعتبارها ملزمة.
يجب الاعتراف بالتنوع السياسي والتعددية الحزبية في الاتحاد الروسي.
يجب أن تكون الجمعيات العامة على قدم المساواة أمام القانون.
يحظر إنشاء الجمعيات العامة ذات الأهداف والأنشطة الموجّهة نحو التغيير القسري لأساس النظام الدستوري وانتهاك سلامة الاتحاد الروسي، أو تقويض أمنه، أو إنشاء وحدات مسلحة، أو التحريض على الفتنة الاجتماعية أو العرقية أو القومية أو الدينية، وكذلك تُحظر أنشطتها.
مستفيدة من تجاربها السابقة، ومُبادرة بنفسها قبل غيرها، وضع النظام السياسي لروسيا الاتحادية. تعريفاً واضحاً للإرهاب يشمل أي قول أو فعل يؤدي لتقسيم المجتمع على أسس دينية، أو طائفية، أو عرقية، أو مناطقية، أو كراهية، واعتبرت أن التصريح -في حد ذاته- يعتبر عملاً من أعمال الإرهاب الفكري، والذي قد يؤدي فيما بعد إلى العمل الفعلي، ولا بد من مواجهته في مهده حتى لا يتمدد، وكذلك اعتبرت أي محاولة للاستيلاء على السلطة من السلطة الشرعية عبر القوة أو الثورة، شكلاً من أشكال الإرهاب، وأن السبيل الوحيد للوصول إلى السلطة يكون حصراً عبر العملية السياسية الانتخابية، أو التوافقات السلمية بين السلطة والمعارضة، حال نشأت أزمة سياسية تهدد الاستقرار، والسلم العام للدولة.
روسيا تحت نير الإرهاب الديني:
شهدت حقبة التسعينيات في (روسيا الاتحادية). مرحلة فوضى عارمة على كافة المستويات، وصراعات سياسية لا تنتهي وصولاً للحادث الشهير الذي استخدم فيه الكرملين الدبابات لقصف مبنى الحكومة الروسية “البيت الأبيض” يوم 4 أكتوبر (تشرين الأول) 1993. وفي ظل الصراع المشتعل على السلطة في موسكو. وجدت الحركات الانفصالية أن لديها فرصة ذهبية لكي تنتزع انفصالها عن السلطة المركزية الروسية الضعيفة.
لم يكن في ذلك الوقت لدى الدولة الروسية. استراتيجية واضحة لمحاربة الإرهاب، ولا معرفة بكيفية التعامل معه، كما أن ظاهرة اقتران الإرهاب بمسلمي روسيا، وبدافع -ولو ظاهرياً- ديني كان أمراً جديداً عليها، وعلى أجهزتها الأمنية، مما أدى لشعورها بالإرباك الشديد.
كذلك تعرضت روسيا لضغوط خارجية، وتحديداً أمريكية لمقايضتها. على قبولها ببعض الشروط الغربية مقابل تخفيف الضغط الإعلامي عليها فيما يخص ملف الشيشان. بجانب صحافة محلية كانت تتلقى أموالاً من المقاتلين الشيشان وبعض دوائر النفوذ الغربية، لخلق معارضة شعبية لهذه الحرب. كما يزعم الكرملين.
تعاملت حكومة الرئيس الروسي الأسبق (بوريس يلتسن). مع هذا الملف بلا أي استراتيجية واضحة، ووفق المصالح الآنية، فكانت تصعد مع عملياتها العسكرية عندما تجد نفسها بحاجة لدعم داخلي، وتوحيد الشعب خلفها، وحال تغيرت الظروف لصالحها، ولو كان الجيش الروسي على مشارف تحقيق نصر ينهي من خلاله الصراع، تعلن وقف إطلاق النار، ورغبتها في السلام[3]. مما أدى لتجرؤ هذه الحركات الراديكالية، والتي حولت الشيشان. إلى نقطة انطلاق لأعمالها لتشمل كافة الأراضي الروسية، وصولا لقلب العاصمة موسكو. وبعدة تكتيكات مختلفة منها التفجيرات، والانتحاريون، واحتجاز الرهائن.
الرؤية الروسية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر:
اتسمت العلاقة الروسية- الغربية بالفترة التي سبقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001. بالبرود، وشعور النخبة الروسية الجديدة ما بعد الاتحاد السوفيتي، وعلى رأسها الرئيس الأسبق (بوريس يلتسن). بخيبة الأمل تجاه أمريكا. وفشل جميع مساعي روسيا. لتصبح عضواً فاعلاً بالنادي الغربي، وعدم احترام الغرب لمصالح روسيا. ولو بالحد الأدنى والهجوم الإعلامي الدائم عليها، والانتقادات الواسعة على مساعيها لتطويق حركة التمرد في شمال القوقاز. واحتضان العديد من قيادات هذه الحركات المسلحة، كما شكل تدخل حلف شمال الأطلسي “الناتو” في يوغسلافيا، وتعرض صربيا الحليف التاريخي لروسيا، للقصف المتواصل لمدة (68). يوماً بدءًا من 24 مارس (آذار) 1999. وتأييد انفصال إقليم كوسوفا المتنازع عليه، مع ما يمثله هذا الإقليم من أهمية جيوسياسية، فبدت روسيا. أمام العالم في هذا الوقت كهلاً عاجزاً وداخل أوروبا. بلداً بلا قيمة، ولا يؤخذ برأيها في أي أمر هام من شؤون القارة، وفي أعين حلفائها بمرحلة خريف العمر لا تحرك ساكناً وأصبح يلتسن. ونظامه أضحوكة للمعارضين بالداخل، مع تصاعد أصوات الأحزاب القومية واليسارية المنددة بحالة العجز الروسي، وفي ظل هذه الظروف وجد الرئيس الأسبق يلتسن. أنه من المفيد الاستعانة بشخص شاب، وقوي، وقادر على خوض معركة الداخل والخارج في آن واحد.
فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين. كان هو الشخص الذي رأى فيه يلتسن. الشخص المناسب للقيام بهذه المهمة، تمكن بوتين. من عقد صفقة مع الأوليغارشية الروسية اليهودية في غالبيتها الساحقة، والموالية للغرب والمرتبطة به بشكل وثيق، وكان مفاد الصفقة: اطمئنوا على أموالكم، وما تم كنزه من ثروات، أنا الشخص الوحيد القادر على حمايتكم وتأمين مصالحكم، لكن بالمقابل لا بد أن توقفوا الدعاية الإعلامية الداخلية الرافضة للتدخل العسكري بالشيشان. هذه الحرب حربي ولا بد أن أحقق فيها النصر لتكون بوابة عبوري نحو الكرملين. والحصول على دعم الجيش الروسي لأصبح رئيساً، كما ينبغي عليكم أن تتحدثوا مع أصدقائكم الغربيين لإطلاق يدي في هذه الحرب، حيث توعد بوتين. وقبل تسلمه منصبه الرئاسي بسحق هذا التمرد أثناء لقائه بالعسكريين الروس في أكتوبر (تشرين الأول) 1999[4].
ظهرت قيمة هذه الحرب بالنسبة لبوتين. منذ اليوم الأول لتوليه مهام منصبه بالوكالة رئيساً لروسيا الاتحادية. حيث ذهب بنفسه في ليلة رأس السنة إلى الشيشان[5]. ليلتقي بجنود، وضباط الجيش الروسي الذي خرج جريحاً من الحرب الشيشانية الأولى، ويود الانتقام لكرامته من الهزيمة المذلة التي تعرض لها نتيجة التدخل السياسي المشين كما وصفه القادة العسكريون، كذلك تم تجنيد الإعلام الرسمي، ومعه الإعلام الخاص التابع للأوليغارشية الروسية للترويج لهذه الحرب.
تحققت أهداف بوتين. ونال ما يريد ببدء الحرب الشيشانية الثانية، وقبول غربي بها على مضض، حيث كان الموقف الغربي في ذلك الوقت يريد تقييم شخصية بوتين. دون أن يتسرع، فلقد كان بالنسبة لهم شخصاً مجهولاً، وعلى الرغم من توليه عدة مناصب حكومية فإنها في الغالب كانت ذات طابع أمني، ويصعب فهم توجهاته السياسية من خلالها، وعليه فقد كان الصمت الغربي مؤقتاً، وبحاجة إلى الوقت لفهم أعمق لشخصيته بجانب تضارب التقييمات حوله.
جاءت زيارة رئيس مجلس الوزراء البريطاني (توني بلير). إلى موسكو في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2000. والتي التقى فيها بوتين. لمدة طويلة وتناول اللقاء مواضيع عديدة كما تم التطرق لقضية الشيشان. حيث صرح بلير قائلاً[6]:
“عن الشيشان. لقد أوضحنا دائمًا في هذا الملف مخاوفنا الإنسانية، والقلق من أن أي استخدام للقوة يجب أن يكون متناسبًا، وأن هذه الصراعات في النهاية لا بد من حلها بالطرق السلمية. ولكن من المهم أن ندرك القلق الروسي بشأن زعزعة الاستقرار في روسيا. واحتمال أن ينتشر ذلك إلى مناطق أخرى، وقلقهم من أعمال الإرهاب والتخريب. من المهم فقط أن نجعل هذه الأشياء في حالة توازن”.
بدا من هذا الرد أن الغرب يريد أن يمسك العصا من المنتصف، فلا يريد أن يقدم الدعم للرئيس الروسي الجديد –وقتذاك- بوتين. في حربه على الشيشان. دون أن يعرف حقيقة توجهاته، ولا يود في الوقت نفسه الدخول معه في صراع منذ اللحظة الأولى، كذلك عرض بوتين. في هذا اللقاء رغبته في عقد شراكة مع الغرب، وتأكيد ألا مجال للعداء بين الطرفين، نظراً لأن روسيا الجديدة تخلت عن العقيدة الاشتراكية، والتي كانت تشكل خطراً أيديولوجياً على الغرب، وما تبعه من تفكك الاتحاد السوفيتي الذي شكل تهديداً جيوسياسياً مع حلفه العسكري وارسو. كذلك ظل بوتين. يؤكد دوماً في تصريحاته ولقاءاته مع وسائل الإعلام الغربية بتلك الفترة أن الإرهاب خطر يهدد الجميع، وأن روسيا تحارب نيابة عن الغرب. وأن هذا الخطر لو تمكن من الانتصار في شمال القوقاز. لن يتوقف عند هذه المنطقة، وسيكتسح أوروبا. كلها ويشكل تهديداً للحضارة الإنسانية عامة، والغربية على وجه الخصوص، وهي تلك الحضارة التي ترى روسيا نفسها جزءاً لا يتجزأ منها.
ظلت العلاقة بين الطرفين قائمة على هذه المعادلة من منتصف عام 2000. حتى وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر )أيلول( 2001. التي بادر الرئيس بوتين. فور وقوعها. بالاتصال بالرئيس الأمريكي بوش. وكان أول رئيس دولة أجنبية يتصل به، ليعلن تعاطفه مع الضحايا، ودعمه المطلق لأمريكا في هذا الحادث، وتأكيد الشراكة معها، وبعد أن تبين أن الحادث ذو طابع إرهابي، أعاد الرئيس بوتين ما سبق وأكده من خطورة الإرهاب على الحضارة الغربية، وذهب بنفسه في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 2001. لزيارة موقع الحادث في نيويورك[7]. مقدماً التعازي لضحايا الحادث، وداعماً لأمريكا في حربها ضد الإرهاب، ومؤكداً أنها حرب مشتركة بين روسيا وأمريكا، كذلك أكد المصير المشترك بين البلدين عبر التذكير بسقوط ضحايا روس، وأمريكيين من أصل روسي في تفجير مبنى التجارة العالمي.
شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). فرصة ذهبية للكرملين، أراد أن يستغلها أفضل استغلال لخدمة مصالحه وأهدافه من عدة اتجاهات، من ناحية الحصول على دعم غربي في مواجهة التمرد بمنطقة شمال القوقاز. وعقد شراكة روسية– غربية كانت تطمح لها روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفيتي. هذه الشراكة قائمة على احترام مصالح روسيا بدول الاتحاد السوفيتي السابق بمنطقة أوروبا الشرقية، وآسيا الوسطى، والقوقاز. على أن يكون لها في هذه المناطق اليد العليا مقابل أن تحترم روسيا مصالح الغرب حول العالم، وأن يكون للأخير اليد العليا ببلدان البلطيق الثلاثة (ليتوانيا – لاتفيا – إستونيا). وأن ينخرط كلا الطرفين في الحرب ضد الإرهاب، وقد شرح هذه الرؤية الروسية بشكل مفصل الكاتب الصحفي الروسي (أرتيوم كريشتنيكوف). في مقاله الشهير المنشور على موقع هيئة الإذاعة البريطانية – BBC الروسي والذي كان بعنوان:
(الصدى الروسي لأحداث 11 سبتمبر – Российское эхо событий 11 сентября 2001 года). المنشور بمناسبة هذه الذكرى عام 2011[8].
لم تحصل روسيا. من الغرب على دعم صريح وواضح لحربها ضد الإرهاب بالداخل الروسي، ولكنها في الوقت نفسه لم تعاني من الهجمة الإعلامية، والسياسية الناقدة لها كما كان يحدث قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وبالمقابل غضت الطرف عن الاجتياح العسكري الأمريكي لأفغانستان، وإقامة قاعدة عسكرية أمريكية في (كارجي الجنوبية). بجمهورية أوزباكستان القريبة منها، والحليف القوي لها.
تباينت آراء النخب السياسية الروسية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001. أبدت جميع النخب السياسية تعاطفها مع الشعب الأمريكي، وإدانتها للحادث، مع عتاب لا يخلو من الشماتة تحديداً من التيارات السياسية القومية واليسارية، التي لا تثق بالغرب، والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، وتعتقد أن روسيا هدف دائم لهذه القوى أياً كانت أيديولوجيتها أو توجهاتها، كذلك كان التيار الليبرالي، والموالي في عمومه للقيم الغربية، والقريب من الولايات المتحدة الأمريكية. من أكثر المتعاطفين مع هذا الحادث، مع شعور بعضهم المبكر وتحديداً الملياردير الروسي– الإسرائيلي (بوريس بيريزوفسكي). بأن الكرملين سيستغل هذ الحادث لسحق التمرد في شمال القوقاز. وكافة الأطراف المرتبطة به لذلك بادر في نهاية عام 2001. بالهرب إلى بريطانيا.
روسيا والإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر:
استغلت روسيا. أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). أفضل استغلال، حيث استغل بوتين. الحرب على الإرهاب في أفغانستان. للترويج بأن روسيا. جزء منها عبر مقاومة فروع هذه الجماعات في شمال القوقاز. مع تزايد وتيرة حرب الكرملين على الانفصاليين الإسلاميين. شعر التيار الليبرالي الموالي للغرب، والأوليغارشية اليهودية، أن بوتين يخوض حرب حسم، لا مجرد حرب لتثبيت مواقعه بالسلطة، كما استعاد الجيش الروسي ثقته في نفسه وقيادته، وبدأت روسيا تأخذ بزمام المبادرة وتقترب أكثر من أي وقت مضى من حسم هذا التمرد لصالحها، وفي هذه اللحظة تحالفت عدة أطراف داخلية وخارجية ضدها، فعادت الصحافة والإعلام الروسي الخاص من جديد لتهييج الرأي العام الداخلي على الكرملين وتأكيد رفض الحرب، وأنها ليست حلاً، وأن الحل يكمن في التفاوض مع المسلحين! كذلك بدأ المسلحون “الإسلاميون” حملة جديدة على الكرملين. لم يسبق لها مثيل، عبر قيامهم بعدة عمليات إرهابية بالعمق الروسي بالفترة من (2002 إلى 2004).
أدى تحالف الأوليغارشية المحلية الروسية المرتبطة بالغرب، والمقاتلين في شمال القوقاز، والذين ساد “الإسلاميون” فيهم قيادة العمل المسلح، وتمدد هذا العمل ليشمل كافة الأراضي الروسية، والأماكن الحيوية، بجانب عودة الضغط الإعلامي الداخلي بالتزامن مع الخارجي في الغرب، وتحديداً بعد الرفض الروسي الواضح والصريح لعملية غزو العراق، مع حالة الزعر التي أصابت المجتمع الروسي، والعدد الكبير من الضحايا الذين سقطوا، بجانب نشاط المافيا الشيشانية في تهريب العملة وتزييفها، وتجارة المخدرات، والسلاح، وأنشطة الدعارة، وتجارة الرقيق الأبيض عبر خطف الفتيات الروسيات، وتهريبهن لعصابات الدعارة بالخارج، أو لطلب فدية مالية من أهاليهن، فوجدت روسيا. نفسها وحيدة في هذه الحرب، ويتم تحميلها مسؤولية الضحايا، وأن الحرب على المقاتلين في الشيشان. هي السبب في كل ما يحدث، وأدركت عندها أن هذه الحرب هي حربها منفردة، وأن الشراكة التي كانت مأمولة مع الغرب ما هي إلا محض خيال.
تمكن الكرملين. من خلق طبقة جديدة من الأوليغارشية التي تدين للدولة الروسية أولاً بالولاء، ولنظامه ثانياً واستخدمها في الاستحواذ على وسائل الإعلام، وأفسح المجال للتيارات السياسية الروسية المناهضة للغرب، والتي لا تنتمي لحزبه، ولديها بعض الملاحظات على سياساته لكنها تتفق معه في ضرورة المواجهة الحاسمة للإرهاب، وكانت هذه السياسة ناجحة للغاية بأن وجد المواطن الروسي المعارضين من القوميين والاشتراكيين بالمقام الأول، مؤيدين لخط الدولة بالمواجهة الواضحة والصريحة مع الإرهاب، مع تحول بالموقف الإعلامي الروسي من التعاطف مع أمريكا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). إلى التشكيك في مصداقية الرواية الأمريكية، وإبراز الكتابات الغربية، والأمريكية التي يمكن أن تندرج تحت بند “نظرية المؤامرة” يعاونهم في ذلك نخبة من ضباط الجيش، والاستخبارات السوفيت السابقين، والذين تحدثوا بشكل مفصل عن عدم إمكانية قيام مجموعة صغيرة، وغير مؤهلة بعملية كبرى مثل هذه العملية، وأن الحادث خلفه ربما بعض الأجهزة الأمنية الأمريكية، في إطار خطة لبقاء الهيمنة الأمريكية على العالم.
الاستراتيجية الروسية لمواجهة الإرهاب بالداخل:
يمكن أن نسمي هذه الاستراتيجية بالاستراتيجية الشهيرة القائلة (خير وسيلة للدفاع الهجوم). إلا أن الاستراتيجية الروسية كانت فريدة من نوعها في عدة نواحٍ، وعبر عدة خطوات متوازية، وسنذكر أبرزها وهي:
الخطوة الأولى: مواجهة داخلية مع العناصر الأوليغارشية الفاسدة الموالية للغرب، والتي كما أسلفنا، وذكرنا من قبل غالبيتها الساحقة كانت من اليهود، وحملة الجنسية الإسرائيلية، وكانوا يمتلكوا حوالي (70%). بشهادتهم أنفسهم من الحجم الكلي للاقتصاد الروسي، وأسسوا أول مجلس يهودي روسي، وكانت أنشطتهم متنوعة ما بين الصناعة، والنفط، ومواد البناء والإعلام هذا السلاح الذي تم إرهاب الكرملين به لسنوات طويلة، ولذلك بدأ بوتين. حملة قاسية للقضاء عليهم، وتمكن من التخلص منهم جميعاً إما عبر الاعتقال، ومصادرة أموالهم، أو هربهم للخارج، ونفيهم من البلاد، وملاحقتهم قضائياً[9]. [10].. بالتزامن مع هذه الخطوة عمق بوتين. علاقته بالقيادات الروحية اليهودية، والمجتمع المدني الروسي اليهودي، وقدم لليهود تسهيلات لم يحصلوا عليها طيلة تاريخ وجودهم في روسيا، وذلك لينفي أي شبهة عداء أو استهداف موجه ضد اليهود.
الخطوة الثانية: عقد مصالحة مع المجتمع الروسي المسلم، وإيقاف بل والتصدي لأي حملات إعلامية، أو أفكار فاشية تدعو للكراهية باتهام المسلمين، والإسلام، وكتابه المقدس القرآن، بالترويج للعنف والإرهاب، وإصدار قانون يجرم كل من يلصق بالمسلمين صفة الإرهاب، ويتناول القرآن الكريم بالنقد، كما حرص الرئيس على استقبال القيادات الروحية الإسلامية، والاستماع إلى مشاكلها، وتسهيل عملية بناء المساجد التي كانت متعثرة، وقبل ذلك متوقفة بالحقبة السوفيتية وإعادة الدولة للكثير من أملاك، ومساجد المسلمين، لتدار بشكل مباشر من قبل الإدارات الدينية.
الخطوة الثالثة: تبني الدولة والمؤسسات الدينية الإسلامية، لخطاب مشترك في مواجهة ظاهرة الإرهاب، يؤكد عمق الإسلام في تاريخ روسيا، وتضحيات القادة المسلمين عبر العصور المختلفة في سبيل نهضة، وحماية الدولة الروسية، وأن ظاهرة الإرهاب أكثر من يكتوي بنارها هم المسلمون أنفسهم قبل غيرهم، والاتفاق على استخدام مصطلح “الإرهاب الوهابي” ليكون هو المصطلح المعتمد من قبل الطرفين في وصف هذه الجماعات، مع تأكيد القيادات الدينية الطابع العالمي لهذه الظاهرة، وارتباطها بالمؤامرات الغربية الراغبة في استهداف روسيا الاتحادية ووحدتها، وضرب إسفين بين المسلمين وروسيا الصديق الدائم للعالم العربي والإسلامي، والتي تصدت ورفضت بوضوح الغزو الأمريكي للعراق، وأبدت انزعاجها من العمليات العسكرية الأمريكية في أفغانستان.
الخطوة الرابعة: الاهتمام بالتعليم الديني، وزيادة عدة المبعوثين للدراسة في جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة، وإغلاق الباب عبر القيادات الروحية الإسلامية نفسها، وبدء تكوين جيل جديد من الدعاة الروس والاستعانة بهم بدلاً من الأجانب، والتوسع مع الوقت في افتتاح الجامعات الإسلامية، ومعاهد إعداد الدعاة داخل روسيا.
الخطوة الخامسة: إفساح المجال للقيادات الروحية الإسلامية، بالظهور على الفضائيات الروسية، والتحدث للمسلمين ولباقي المجتمع الروسي، وتأكيد رفض هذه العمليات، بالتزامن مع تصعيد للقيادات السياسية الروسية المسلمة وتعيينها في قيادة الجمهوريات الفيدرالية لشمال القوقاز، وزيادة عدد الأعضاء المسلمين في مجلس الدوما الروسي “البرلمان” بغرفتيه مع عدد من الوزراء، وزيادة وتيرة عملية دمج المسلمين بمنظومة الدولة الروسية، وداخل القوات المسلحة الروسية ليكونوا شركاء في منظومة الحكم، وأصحاب مصلحة مباشرة في استقرار الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية بجانب منح الدولة الروسية دعماً مالياً لإدارة الإفتاء لتفتتح قناة فضائية إسلامية ناطقة باللغة الروسية، وموجهة للداخل الروسي المسلم.
الخطوة السادسة: ترسيخ قيم الفيدرالية، والتعددية الثقافية، والتنوع الديني، عبر شعارات واضحة، ومحددة ذات معانٍ مفهومة للجميع مثل (دولة واحدة ذات أنظمة متعددة). والمقصود بها أن تنال الجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة، حكماً ذاتياً في ظل نظام فيدرالي، يكون لهم فيه علم، ودستور، وبرلمان، وسلام وطني، ورئيس، وحكومة تنتمي للأغلبية تحت مظلة الدولة الواحدة، وهي روسيا الاتحادية.
شعار (هوية وطنية جامعة ذات ثقافات متنوعة). والتي تعني الإيمان بوجود هوية وطنية يجتمع حولها جميع مواطني روسيا الاتحادية، وهي الوطن الروسي الأم جغرافياً، واللغة الروسية ثقافياً، والنظام الجمهوري، والتاريخ الذي اشترك ويشترك الجميع في صنعه لهذه الدولة، مع حق كل الطوائف، والأعراق، والأديان في الاحتفاظ بلغتها، وإرثها الثقافي، وتراثها القومي وعقيدتها الدينية، وتأكيد أن هذا التنوع ثراء للهوية الوطنية الروسية الجامعة لكل الروس، وجزء لا يتجزأ من تراث روسيا الاتحادية.
شعار (سيادة القانون لا وحدته). أي إن الأصل هو مبدأ سيادة القانون، واحترام المبادئ العامة للدستور الروسي، مع حق كل قومية، وجمهورية فيدرالية في إصدار قوانينها الخاصة بها، وعلى سبيل المثال أفسحت موسكو المجال للجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة، في اختيار منظومة القوانين المناسبة لها ولشرائعها الدينية، وبناءً على الاختيار الحر، لم ترغب أي من هذه الجمهوريات في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية باستثناء جمهوريتي إنغوشيا، والشيشان. الفيدراليتين، والتي أقرت أحكام الشريعة الإسلامية في قوانين الأحوال الشخصية وأباحت حق الرجال في تعدد الزوجات، ولم تعترض موسكو على هذه القوانين، ولذا تعتبر روسيا الدولة الأوروبية الوحيدة، التي يُسمح فيها قانونياً بتعدد الزوجات للمسلمين.
شعار (الثروة أهلها أولى بها قبل جيرانهم). وقد شكل هذا الشعار، وتطبيقه على أرض الواقع دحضاً لحجج كافة التيارات المتطرفة، حيث كانت تعاني جمهورية الشيشان الفيدرالية، من فقر شديد، بينما تنتج أفضل أنواع النفط الخام، وتدر على خزينة موسكو عشرات المليارات من الدولارات، وعليه فقد أصبحت موارد كل جمهورية فيدرالية، توجه بالأساس لحاجتها وتنميتها الداخلية أولاً، والفائض يذهب للحكومة الفيدرالية في موسكو، وقد حققت جمهورية الشيشان الفيدرالية الروسية بالفترة من عام (2005 إلى 2015). أعلى معدلات نمو في كافة أنحاء روسيا الاتحادية، وتم إعادة إعمارها بالكامل، ويوجد فيها الآن أكبر مسجدين في أوروبا، مسجد (قلب الشيشان). ومسجد (فخر المسلمين). ونقطة جذب هامة للاستثمارات الأجنبية، وفي هذه الدراسة الشاملة، بيانات كاملة عن الاقتصاد الشيشاني ما بعد الحرب[11].
شعار (الأمن مسؤولية الجميع). عبر هذا الشعار تم تشكيل قوات مسلحة، وشرطة، وحماية أمن المنشآت العامة، من أبناء الجمهوريات الفيدرالية، فهم ليسوا ميليشيات متعاونة مع الدولة، ولا قوات عسكرية منفصلة عنها، بل جزء لا يتجزأ من أجهزة الدولة الأمنية، والعسكرية والاستخباراتية، ويتلقون تدريباتهم على يد الضباط الروس، ولهم رؤساء فيدراليون مباشرون في موسكو، ومساوون للروس في الرتب، والمزايا والمهام، والأعباء، وعليهم حماية مناطقهم، وعدم انتظار الحكومة الفيدرالية في موسكو. لتقديم الحماية والدعم لهم، كما كان يحدث في ظل السلطة المركزية السوفيتية، والعقد الأول من عمر جمهورية (روسيا الاتحادية). وعليه فتم تشكيل جهاز أمن متكامل، وتشرف عليه الحكومة في موسكو، ومن أبناء هذه الجمهوريات، فأصبحت الحرب بشكل مباشر بين عناصر الدولة، والجيش، والشرطة من الشيشانيين، ومواطني شمال القوقاز، ومتمردين على السلطة، ومتعاونين أجانب معهم، وقد شكل هذا الأمر، وبحكم الدافع القومي، والقبلي القوي والذي يصل حد التعصب لدى الشركس رفضاً مجتمعياً لوجود هذه العناصر الأجنبية وضرورة خروجها من الشيشان، أو التخلص منها، وهو ما حدث بالفعل.
الخطوة السابعة: ترك مهمة القيادة والأمن لأبناء الجمهوريات الفيدرالية، واكتفاء السلطة الفيدرالية في موسكو بعمليات نوعية، وبالتنسيق مع السلطات الفيدرالية، على أن تكون هذه العمليات محددة المهام، ولأغراض واضحة، وتقوم بها قوات من النخبة عالية التدريب، لضمان نجاحها، وعدم قدرة المسلحين على التعرض لهم، وقد تنوعت هذه العمليات ما بين إنزال جوي، وعمليات اقتحام من قوات “الكوماندوز” أو عمليات “تصفية” جسدية لأهم القادة الميدانيين، والمؤثرين في مجرى الأحداث، وقد حققت هذه العمليات نجاحاً كبيراً عبر التخلص من القادة الكبار من العرب، والشيشانيين مثل القائد الميداني الشيشاني (شامل باساييف). والقائد الميداني السعودي (خطاب). وخليفته (أبو الوليد الغامدي). وغيرهم من القادة.
الخطوة الثامنة: اختراق الجماعات المسلحة استخباراتياً، عبر استقطاب بعض القادة من الصف الثاني، أو المقاتلين، أو الدفع بمقاتلين جدد ينضمون إليهم بعد حصولهم على تدريب استخباراتي عالي المستوى، وقد حققت هذه السياسة نجاحاً كبيراً في اختراق هذه الجماعات ومعرفة خططها المسبقة، وتوجيه ضربات استباقية لها.
الخطوة التاسعة: فتح المجال للعفو العام لمن يلقي سلاحه، والدفع ببعض المقاتلين للهروب من معسكرات المسلحين وطلب العفو العام والحصول عليه، وتناول قصصهم إعلامياً على نطاق واسع، والاستعانة بأسر بعض المقاتلين الشباب لتشجيعهم على الهرب من معسكرات الجماعات المسلحة، مع تأكيد ضمان أمنهم، وسلامتهم، وتوفير فرص عمل لهم من قبل الحكومة، خلقت هذه السياسة حالة من الهلع لدى قيادات المسلحين من فرار العديد من المقاتلين، وأدى هذا الأمر لنشوء حالة من عدم الثقة بين المقاتلين بعضهم البعض.
الاستراتيجية الروسية لمواجهة الإرهاب بالخارج والربيع العربي:
حتى تتمكن روسيا. من ترسيخ المكتسبات الداخلية التي حققتها، عبر الخطوات السابق ذكرها في مكافحة الإرهاب، كان لا بد لها من القيام بعدة أعمال خارجية، تمكنها من إيقاف كافة أشكال الدعم المادي، واللوجستي لهذه الجماعات المسلحة، وقد بدأت أولاً بملف الحدود مع الدول المجاورة، والتي كانت متورطة في هذا الملف، وهي (أوكرانيا – جورجيا – أذربيجان – تركيا).
استغلت روسيا حالة الفوضى التي سادت أوكرانيا. بعد ما تسمى “الثورة البرتقالية” التي انتهت عام 2005. بصعود حلفاء الغرب للسلطة ودعمت حلفاءها هناك بقوة، وعادت لدورها النشط بعد ترك ملف دول الجوار لأمريكا، وأوروبا، وعززت من الروح القومية للأوكرانيين ذوي الأصول الروسية في منطقتي (دونيتسك). و (لوغانسك). وشبه جزيرة القرم. التي “استعادتها” عام 2014. ليشكلا منطقة حدودية عازلة لا تسمح بمرور المقاتلين عبرها إلى داخل الأراضي الروسية، كما قايضت حكومات كييف على ملفي الغاز، والنفط وعبر منحها أسعاراً تفضيلية تمكنت من ضمان أمن حدودها مع أوكرانيا.
فيما يخص جورجيا. وهي البلد الذي عبر من حدوده العدد الأكبر من المقاتلين لمنطقة شمال القوقاز. فقد استغلت ما يسمى “ثورة الزهور” عام 2003. التي أدت لوصول حلفاء الغرب للسلطة في تبليسي. وعلى رأسهم حليف الغرب المقرب (ميخائيل ساكاشفيلي). وفي ظل الفوضى التي عمت البلد، عادت روسيا. من جديد لتمارس دورها المؤثر على هذه الجمهورية السوفيتية السابقة، واستعادت تحالفاتها السابقة، عبر دعم الأرمن في جنوب جورجيا بمنطقة (سمتسخى-جڤاختي). المطالبين بالانفصال عن جورجيا، والانضمام إلى روسيا الاتحادية، كذلك قدمت روسيا. الدعم لكلٍ من (أبخازيا). و (أوسيتيا الجنوبية). القوقازيتين، وأشغلت جورجيا. في صراع داخلي، وخلقت حاجزاً حدودياً معها عبر دعم حلفائها، مما دفع حكومة تبليسي. لشن حرب على هاتين الجمهوريتين، لكي تُخضعهما بالقوة لسلطتها، وهو ما أدى لتدخل الجيش الروسي عام 2008. وإعلان كلا الجمهوريتين الانفصال عن جورجيا، وطلب الانضمام لروسيا، وسقوط حليف الغرب ساكاشفيلي. ودخول جورجيا في حالة فوضى داخلية، توقفت معها أدوارها التخريبية الموجهة ضد روسيا، وأمنت حدودها معها عبر حلفاء موالين لها.
أما أذربيجان. بعد وفاة أول رئيس لها بعد الاستقلال (حيدر علييف). عام 2003. وتولي نجله (إلهام علييف). السلطة بوقت اقتربت روسيا فيه بشكل كبير من حليفتها التاريخية أرمينيا. ودعمتها سياسياً، وحدثت جيشها، ودفعت بعدد من كبار جنرالات الجيش الأحمر السوفيتي السابقين من ذوي الأصل الأرميني للعمل كمستشارين عسكريين في يريفان. ولوحت بهذه الورقة في وجه الرئيس الأذري الجديد، مع توثيق علاقات التعاون مع إيران، مما أشعر باكو بأنها قد أصبحت بين فكي كماشة أرمينيا، وإيران، وبدعم من روسيا، والتي تبدو مختلفة عما كانت عليه في حقبة يلتسن. وقد دفعت هذه التطورات أذربيجان. للتوقف عن الدخول في هذه اللعبة، وبالمقابل قبلت روسيا أن تسامح دون أن تنسى، فعقدت علاقات طيبة معها، دون أن تفقد علاقاتها مع طهران، ويريفان، لتبقى باستمرار باكو تحت الضغط، والرصد، والمراقبة.
فيما يخص العلاقة مع تركيا. تعاملت روسيا مع هذا الملف الحساس بالنسبة لها بعقلانية شديدة، واستغلت وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وعلى الرغم من كل ما يقال عن خلفياته فهو أفضل لها من الأحزاب العلمانية الليبرالية المرتبطة بشكل وثيق ثقافياً مع الغرب، أو حكم المؤسسة العسكرية، فكلا الطرفين يُكنان عداء عقائدياً تجاه روسيا، وكذلك لديهم كامل الاستعداد لخدمة الأجندة الغربية بكل إخلاص كما تعتقد موسكو. وللعلاقات التركية مع روسيا خصوصية خاصة، من المفيد للقارئ العربي فهمها، لأنه قد يستشكل عليه في بعض الأحيان تقييم مواقف موسكو منها، فالغالبية الساحقة من مسلمي روسيا الاتحادية عرقياً هم من (التتر – الترك). يليهم القوقازيون الشركس أو “الأديغة” والترك – المغول، وقلة من السلاف، وهناك ارتباط تاريخي وعرقي، وقومي بين الترك، وتركيا التي ينظرون إليها نظرة الدولة التي تمثل إرثهم التاريخي القديم، بجانب ذلك للإدارات الدينية التركية تأثير كبير بالداخل الروسي، وهؤلاء مهما قيل فيهم، وفي دوافعهم السياسية فرؤيتهم، وفهمهم للإسلام يتوافقان مع المجتمع الروسي العلماني، وليسوا دعاة عنف وإرهاب، ويغلب التصوف عليهم، وبكل تأكيد كانت تتمنى روسيا أن يكون لدولة عربية نفوذ ديني واسع على مسلمي روسيا، إلا أن الوجود العربي ما بين المعدوم أو الضعيف، إن لم يكن سلبياً، وبالتالي كان الدور التركي ضرورة لا بد منها، ولا مجال للاستغناء عنه، ولكن ما خططت إدارة بوتين. له هو استغلال وصول تيار سياسي “مدني” جديد لحكم تركيا عام 2002. وحاجته لتثبيت نجاحه بالحكم بعد نجاحه بالانتخابات، حيث سعت بشكل هادئ لربط الاقتصاد التركي بالروسي وقدمت لأنقرة احتياجاتها من النفط، والغاز وبأسعار تفضيلية، وبالتقسيط مما ساهم في نمو الاقتصاد التركي، وفتحت المجال للشركات والاستثمارات التركية داخل روسيا، ومنحتها تسهيلات خاصة دون باقي الشركات العالمية، حتى إن قطاع المقاولات –تقريباً- مُسيطر عليه بالكامل وكذلك الشركات السياحية من الأتراك، بجانب تسهيل حركة الأفراد بين البلدين، وتشجيع الروس على السياحة في تركيا، واستيراد غالبية الاحتياجات الغذائية والزراعية من تركيا، وبالتالي أصبحت روسيا بالنسبة لتركيا رئة اقتصادية أساسية، وهامة للغاية، ومصدراً للدخل القومي التركي لا غنى عنه، والتلاعب باستقرار هذه العلاقة قادر على هز الاقتصاد التركي بشكل عنيف، وهو ما شاهدناه بعد حادثة إسقاط الطائرة العسكرية الروسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015. وقد تطورت هذه العلاقة وصولاً للتعاون العسكري في توريد منظومة الدفاع الجوي المتحرك (S-400). وهي ما يستلزم تغييراً في أنظمة الرادار والأقمار الصناعية التركية، وتوافقها مع الأنظمة الروسية، وتدريباً للعسكريين الأتراك في موسكو، بجانب مشروع المفاعلات النووية، مما سيخلق علاقة طويلة الأمد بين الطرفين، وعبر هذه السياسة، التي أكدت نجاحها تمكنت روسيا من احتواء تركيا، ولجمها بمصالح اقتصادية تمنعها من لعب أي دور سلبي أو تخريبي ضد روسيا. سواء برغبة ذاتية، أو تحريض غربي، وبغض النظر عمن في موقع السلطة، وحتى لو أراد فالظروف لن تمكنه من ذلك، وعليه يمكن فهم الرؤية الروسية لتركيا من هذا المنظور.
بالإضافة إلى ما سبق قامت روسيا. بتأمين حزامها الحدودي مع بلدان آسيا الوسطى، وكذلك دعمت موسكو. علاقاتها مع جمهورية روسيا البيضاء، وبالتالي تمكنت من ضمان أمن حدودها.
مع الخطوات التي اتخذتها موسكو في الداخل وتكثيف أعمالها العسكرية، وصولاً لإنهاء هذه الحرب، وإغلاق هذا الملف حانت معه ما يمكن تسميتها “ساعة الحقيقة” والتي أعلنت فيها موسكو. عن نفسها، وبدأت تشق طريقها نحو عودة دورها على الساحة العالمية، بعد تأمين ساحتها الداخلية، ومجالها الحيوي، وذلك في خطاب الرئيس بوتين. الشهير في مؤتمر ميونخ للأمن. يوم العاشر من فبراير (شباط) 2007. حيث صرح بأن روسيا. غير راضية عن شكل العالم الحالي، ولن تقبل بقيادته من قبل قوة واحدة وحيدة، وأن هذا الوضع الشاذ لا بد أن يتغير، ويصبح العالم متعدد الأقطاب، والقانون الدولي هو المرجعية لحل النزاعات والصراعات، والحروب حول العالم[12].
ما قبل مرحلة “الربيع العربي” ظهرت نظرية أمريكية جديدة مفادها أن تمكين التيارات الإسلامية التي تعتبرها وفق نظرتها الخاصة “معتدلة” مثل جماعة (الإخوان المسلمين). والتي تتميز بكونها أكبر جماعة “إسلامية” سنية لها تشعبات، وفروع حول العالم الإسلامي، وقيادة مركزية، وتنظيم دولي، يمثله المرشد العام للجماعة بدولة التأسيس (جمهورية مصر العربية). سيؤدي لاحتواء ظاهرة الإرهاب، وخلق أنظمة مستقرة قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه واشنطن. وإنهاء الصراع بينها وبين “التيارات الإسلامية” وتأمين مصالحها، ونقل المعركة لداخل العالم الإسلامي، بدلاً من توسعها، وتمددها خارجه، بل وذهب البعض لقدرة الإسلاميين على إنجاز مشروع “السلام” المتعثر مع إسرائيل!
لم تغب الأحداث، والتطورات السابقة عن صانع القرار الروسي، وذهبت بعض التحليلات الروسية إلى أن واشنطن. في إطار استغلالها لأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). تريد استخدام هذه الجماعات المسلحة، وعبر تنسيقها مع جماعة (الإخوان المسلمين). لضرب خصومها السياسيين، وبناء عليه تتخلص من شرورهم، وتعيد استخدامهم لضرب القوى الجديدة الصاعدة المناوئة لها، وعلى رأسها (روسيا الاتحادية). في منطقة شمال القوقاز. التي شهدت عدة حروب أهلية وصراعات مع السلطة الروسية، منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. وتجاه المنافس الاقتصادي القوي (الصين). في منطقة (تركستان الشرقية). أو “شينجيانغ” بالصينية، ثم تقسم القوى بالمنطقة لمحاور ثلاثة، تتمكن عبرهم من إدارة تناقضاتها وضمان عدم انفراد أي محور بقيادتها، وتؤمن من خلالهم مصالحها، وتغلق الباب أمام أي من القوى الجديدة الصاعدة على تحقيق أي اختراق يقاسمها النفوذ بالمنطقة.
ما يسمى “الربيع العربي” وما أنتجه في موجته الأولى، زاد من شكوك موسكو. من أن هذه النظريات ليست مجرد أوهام أو مبالغة بل واقع بدأ تطبيقه على الأرض، خصوصاً مع ما رأته من تخلٍ سريع للإدارة الأمريكية عن حليفها المهم بالمنطقة (حسني مبارك). وفي بلد مهم مثل مصر. ثم قبول تصعيد (الإخوان المسلمين). للسلطة، والخداع الذي تعرضت له في ليبيا. وتصاعد الأحداث في سوريا. حليفها الوحيد المتبقي لها بالشرق الأوسط، وقد تناولت عدة مقالات صحفية هذه المخططات مبكراً، ولعل أبرزها ما كتبه الكاتب الروسي الشهير، المتخصص بالشؤون الدولية، والعقيد السابق بالاستخبارات السوفيتية:
(أرتور ألكساندروفيتش بلينوف). في الخامس من مايو (أيار) 2011. حيث شن هجوماً عنيفاً على الكرملين، وتساهله في الملف الليبي، وحذره من تكرار السيناريو نفسه في سوريا، ودعا الرئيس الروسي للتنسيق مع الصين، واستخدام حق النقض (الفيتو) في أي قرارات مشابهة بالمستقبل، وهي السياسة التي طبقها الكرملين فيما بعد بالملف السوري، وعبر عن أفكاره في مقال بعنوان:
(الربيع العربي وعقيدة أوباما – Арабская весна и доктрина Обамы)[13].
شكلت العوامل السابقة جرس إنذار لموسكو، والتي بدأت تدرك أنها أمام مخطط كبير يستهدفها، وبناء عليه بدأ دورها ينشط بشكل أكبر وثبتت في دعمها للنظام السوري، لتمحو من الذاكرة العربية، والعالمية، السمعة التي التصقت بها منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. بتخليها السريع عن حلفائها، مقابل مساعدات اقتصادية، أو شراء سكوتها بالمال، كما أن المخطط هذه المرة كان يطالها، ويطال أمنها القومي بشكل مباشر.
وقفت روسيا. مند اليوم الأول مع النظام السوري سياسياً، ودعمته بكل طاقتها عسكرياً، واستخدمت مع حليفتها الصين. حق النقض “(لفيتو) في مجلس الأمن أكثر من مرة، وقدمت الدعم العسكري بالمعدات، ثم تدخلت بشكل مباشر، وتحديداً بعد تصاعد الأحدث في جارتها أوكرانيا. وإسقاط حليفها (فيكتور يانوكوفيتش). في أحداث الميدان الأوروبي 2014. والذي تدفق عليه المسؤولون الأوروبيون والأمريكيون لدعم هذا الانقلاب، والذي تراه روسيا. أحد أعمال الإرهاب، حيث تم استخدام القوة لإسقاط سلطة شرعية لتحل محلها سلطة أخرى، ونظراً لقرب سوريا الجغرافي منها، وما تدركه من إمكانية عموم الفوضى بأوكرانيا، وما يدبر لها من نقل المقاتلين من سوريا إليها عبر الحدود، وإغراقها في صراع داخلي من جديد مع الإرهاب، ومما عزز هذا التصور لديها تصريح زعيم (القطاع الأيمن). القومي الأوكراني المتطرف (ديمترو ياروش). بضرورة عقد تحالف بين “الثوار” الأوكرانيين، وإمارة القوقاز الإسلامية. التي كان يتزعمها (دوكو أخمدوفتش عمروف)[14]. (وإن كان نفى هذا الأمر فيما بعد) المهم حدث التدخل العسكري الروسي المباشر، في الثلاثين من سبتمبر (أيلول) 2015. في سوريا، والذي كان يهدف بالمقام الأول للتخلص من كافة المقاتلين القادمين من روسيا، وشمال القوقاز، وبلدان آسيا الوسطى، حتى لا يمكن إعادة استخدامهم من جديد في إثارة أي قلاقل لروسيا أو حلفائها، وبالتالي انتقلت روسيا من سياسة الدفاع للهجوم بالداخل، ثم الحروب الاستباقية بالخارج وقبل أن يفكر العدو في القدوم إليها.
في ظل هذه الأحداث عززت روسيا من علاقاتها مع بلدان الخليج العربي، وإيران، وتركيا بجانب حليفتها سوريا، وإسرائيل والمنظمات الفلسطينية بكافة أطيافها، والحكومات التي تعاني من أزمات سياسية، وحركات المعارضة، وحكومة طرابلس الغرب في ليبيا، وبرلمان طبرق وقائد الجيش الليبي خليفة حفتر. في الشرق، وحركة أنصار الله (الحوثيون) في شمال اليمن والحكومة الشرعية في الجنوب، بجانب علاقة مميزة مع قطر، ودول الخليج المقاطعة لها، كذلك وقفت منذ اليوم الأول مع الجيش المصري في حربه ضد الإرهاب بعد بيان القائد العام للجيش في الثالث من يوليو (تموز) 2013. ومن خلال هذه السياسة تمكنت من اعتماد مبدأ الحوار مع كافة الفرقاء كوسيلة لحل الأزمات، وأصبحت موسكو قبلة لجميع المتخاصمين عبرها يمكنهم فتح قنوات اتصال بين الأطراف المتخاصمة، وهو ما تسعى للتميز به عن الغرب وأمريكا. التي لا تمتلك علاقات تواصل مع جميع أطراف الصراعات الدولية، والإقليمية بالشرق الأوسط.
استخدمت روسيا. خبرتها السابقة في أفغانستان، ولم تتركها ساحة فارغة للسياسة الأمريكية، وتمكنت من فتح اتصالات مباشرة مع حركة (طالبان). ودعوة أقطابها إلى موسكو، والتفاوض معهم، بجانب علاقتها المميزة مع الحكومة الأفغانية الشرعية، وبالتالي فرضت نفسها كطرف فاعل في أي ترتيبات أمنية، وسياسية، تخص مستقبل أفغانستان، وهي المحاذي لأهم حلفائها وجيرانها في آسيا الوسطى، مع علاقاتها التاريخية المميزة بالهند، ونمو علاقتها مع باكستان، وبالتالي تمكنت موسكو من أن تشكل إجماعاً على كونها رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه في أي مرحلة، مع الانفتاح على أوروبا، وعلاقة التحالف الوثيقة مع الصين. التي تصفها بجارتها العظيمة.
على الجانب العسكري شكل التدخل العسكري في سوريا، فرصة للعسكريين الروس للقيام بمناورات حية، وتجربة حقيقية للاستراتيجيات العسكرية التي وضعتها لمواجهة الإرهاب، مما عزز من ثقة مؤسستها العسكرية في نفسها، وسوق لها عالمياً كقوة عظمى قادرة وجادة في حربها ضد الإرهاب، وحليف يمكن الاعتماد عليه وقت الأزمات، مع ما أبرزته من قوة، وقدرة للسلاح الروسي، مما زاد من مبيعاته، وشكل نموذجاً مغايراً للنموذج الأمريكي في مكافحة الإرهاب.
الرؤية الروسية لدوافع الإرهاب الديني وكيفية مكافحته:
عبر ما تقدم من شرح، ولخصوصية روسيا كبلد قديم، ومتعدد الطوائف، والأديان، والقوميات، وله تجربة يمكن القول: إنها الأقدم بالعالم كله في مكافحة الإرهاب، شكلت هذه العوامل رؤية روسية خاصة لأسباب التطرف الديني، وكيفية مكافحته، يمكن إجمالها بالنقاط التالية:
ترى روسيا أن الإرهاب هو أداة لتحقيق أهداف سياسية داخلية، والسبيل الوحيد للقضاء عليه قطع الطريق على الساعين للوصول إلى السلطة عبر استخدام القوة أو الثورات، وذلك بالتزام موقف صارم وواضح وغير قابل للنقاش أو المساومة برفض أي محاولة للقفز على السلطة بشكل غير شرعي، وضرورة تكاتف المؤيدين لها بهذا النهج في شكل تحالف موحد يرفض هذه التحركات، مما سيؤدي لإدراك هذه الجماعات ألا مجال للوصول إلى السلطة باستخدام هذه الوسائل مما سيساهم في القضاء عليها.
دعم السلطة الشرعية أياً كانت، وبقاء الدولة ومؤسساتها في وجه أي حركات انفصالية أو تمرد مسلح واعتماد الحوار وسيلة وحيدة لحل أي إشكالية بين الطرفين، حيث ترى أن تساهل الغرب في هذا الملف ودعمه للثورات، هو ما ساهم في زيادة وتيرة ونشاط الحركات الإرهابية، فإن لم تستجب فلا بد من استخدام القوة لمواجهتها حتى لا يبدو التساهل معها دعوة للتمرد.
الاستخدام الغربي للجماعات المسلحة وتسهيل عملية عبورها وسيطرتها على بعض المناطق وفق النظرة البراغماتية قصيرة النظر أحد أسباب تطور هذه الظاهرة وتزايد أعداد أتباعها، وعليه لا بد من مواجهة أي قوى غربية تحاول استخدام هذه الجماعات أو تسوق لها تحت أي مسمى مثل مسميات الحرية أو الثورة أو الدفاع عن النفس.
سوء توزيع الثروة والتفاوت الطبقي الكبير والظلم الذي تتعرض له بعض المناطق، تدفع لليأس وهو ما يؤدي لانخراط بعض الشباب في العمل مع هذه المنظمات الإرهابية. وعليه لا بد من النظر بعناية لمناطق الأطراف والمناطق المحرومة ودعمها بشكل دائم وعدم إهمالها.
محاولات الغرب فرض ثقافته وسياساته الشمولية على البلدان الإسلامية والعربية، مثل ضرورة تبني القيم الليبرالية أو الديمقراطية الغربية والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية، واعتبارها معياراً لتقييم هذه الحكومات سلباً أو إيجاباً والضغط عليها ورضوخ بعضها لهذه الإملاءات أحد أسباب تثوير المجتمعات، وتشكل دعاية لهذه الحركات المسلحة وزيادة في شعبيتها وقدرتها في استقطاب الشباب، حيث ترى روسيا ضرورة احترام القيم الدينية والتعددية الثقافية والقيم التقليدية، خصوصاً أن لها تجربة في محاولة فرض قيم ليبرالية غربية على شعوب روسيا الإمبراطورية، مما أدى لتفككها ثم محاولة فرض قيم شيوعية مغايرة لقيم المجتمع الروسي بالحقبة السوفيتية، مما أدى لتحلل المجتمع ومحاولة فرض سياسة رأسمالية متوحشة في حقبة التسعينيات لا تتناسب مع المجتمع الروسي، مما خلق دولة مفككة وبالتالي ينبغي احترام خصوصية الدول وثقافتها وقيمها التقليدية، وبمرور الوقت ستنضج هذه المجتمعات وستتغير لأن التغيير أمر ستفرضه الظروف، لكن دون ضغوط خارجية أو إرغام وتسرع لا يؤدي سوى لنتائج عكسية وفوضى مدمرة.
عدم احترام سيادة الدول والتلاعب بالقانون الدولي يؤديان لفقدان فكرة النظام والقانون لمغزاها، وهو ما يشجع على الخروج على القوانين ونشوء ظاهرة التطرف والإرهاب، مع عدم حسم الصراعات السياسية وعلى رأسها الصراع العربي– الإسرائيلي.
استخدام الأيديولوجيات الدينية لخدمة أهداف سياسية يؤدي لتحول الدين لمنظمة ثورية، ولا يكمن الحل -وفق وجهة النظر الروسية- في القضاء على الدين أو حتى تنحيته من الحياة الاجتماعية لمجتمعات تقليدية تؤمن به ولا التدخل في شؤونه، بل في وضعه بخانة العبادات والطقوس ومنح الجميع حريتهم الكاملة في ممارسته وفق ما يعتقدون دون استخدام سياسي له، وبالتالي لا تجد هذه الجماعات مبررات مقنعة لتثوير المجتمع عبر الادعاء بمحاربة الدولة للدين أو التدخل في شؤونه، وكذلك قطع الطريق على الاستخدام السياسي بإعلاء شأن الفهم التقليدي القديم المرتكز على العبادات والطقوس والجوانب الروحية الأخلاقية وبناء دور العبادة، وإبراز الدولة الدائم لاحترامها للدين بل وحتى وضع تشريعات قانونية مستمدة منه حال كان لدى المجتمع رغبة في ذلك، وهو ما قامت به روسيا في شمال القوقاز، وقام بالمثل النظام السوري في تعديلات قوانينه الأخيرة التي اتخذت ولأول مرة صبغة دينية مغايرة لقوانينه العلمانية وذلك بنصيحة روسية[15].
المركزية المفرطة والتدخل ببعض الأمور التي تمس حياة الشعوب اليومية، والتي لا ينبغي للحكومة المركزية التدخل بها قد يؤدي لمشكلات تساعد على بروز ظاهرة الإرهاب، ولذلك لا بد من وجود نظام حكم قوي وفق مبدأ “الديمقراطية السيادية” المعتمدة على الداخل، وعدم تدخل الخارج فيها ونظام حكم قوي لكنه يفسح المجال للسلطات المحلية أو لإدارات الحكم الذاتي أو الفيدرالي، حسب طبيعة وحجم كل دولة في إدارة شؤون مجتمعاتها اليومية، لتبدو الحكومة المركزية في موقع من يستجير به المُعرَّض للظلم أو التقصير من هذه الإدارات التي تدير شؤون حياته اليومية وتنتمي إليه، لا طرفاً في الصراع، وهو ما قامت روسيا بتطبيقه بتعيين رؤساء جمهوريات شمال القوقاز من أبناء هذه المناطق، وعندما تحدث مشكلة تلجأ الشعوب فيها للسلطة الفيدرالية في موسكو لتكون حكماً بينهم لا طرفاً يتحمل مسؤولية أخطاء مسؤوليه بالأطراف، كما كان يحدث بالماضي وأدى لنشوء هذه الظاهرة، بينما الحكومة المركزية لا تدري شيئاً عنها إلا بعد تفاقمها.
الفتاوى والتفسيرات الأممية للدين والعابرة للقارات والحدود والثقافات أحد الأسباب التي ترى موسكو أنها تؤدي لظاهرة الإرهاب، ولذلك لا بد من تدعيم القيادات الروحية المحلية ومنحها حرية تبدو معها حرة وغير مرتبطة بالسلطة، ليثق المجتمع فيها ويسترشد برأيها، فهي الأجدر على تقديم الفهم الديني المتناسب مع طبيعة المجتمع وثقافته، مع الربط الدائم بين الإسلام والوطنية أو القومية، وتأكيد أن صفة الأممية تعبير عن المحبة ووحدة الإيمان، ولا تعني إذابة التناقضات أو تحولها لوحدة سياسية وتوضيح شكل الحكم المبني على الخلافة أو الإمبراطورية، بأنه نظام حكم غير ديني بل كان ينتمي لعصره وبكل الثقافات والأديان، وقد سقط بالعالم كله ولو كان المسلمون الأوائل بيننا الآن لاختاروا نظام الدولة القومية لأن الإسلام لم يضع إطاراً لشكل الدولة، وترك الأمر لما هو متعارف عليه وفق قيم كل عصر مع التأكيد والحرص على إظهار القيادات الروحية مستقلة عن السياسة وغير مرتبطة بها حتى لا تفقد مصداقيتها لدى الجمهور.
التمويل وإيقاف مصادره التي تأتي من مصادر معروفة للجميع، وضرورة التكاتف حول هذا الأمر الذي هو –بدوره- كفيل بتجفيف منابع هذه الجماعات المالية وفقدانها القدرة على تنظيم نفسها وتجميع مقاتلين حولها.
وبهذا نكون قد ختمنا هذا التقرير الذي حاولنا فيه بشكل مختصر للغاية شرح الاستراتيجية الروسية لملف الإرهاب.