يعد مفهوم الراديكالية من المفاهيم التي عرفت اجتهادات فكرية ضمن حقل الفكر السياسي، وداخل سياقات مختلفة. اللافت في تراكم هذه الاجتهادات حول مفهوم الراديكالية هو محاولة البعض إلحاقها ضمن سياق مفاهيم أخرى، وجعلها متجانسة ومتطابقة في معانيها، فقد أثير الجدل فيما يتعلق بدلالات كل من التطرف والعنف والإرهاب، ومدى استخداماتها في سياق مفهوم الراديكالية، وهنا تظهر الصعوبة والإشكالية في ضبط دلالات ومضامين للمفهوم.
إن النقاش حول المفاهيم وضبطها وتحديد حقولها الدلالية مبحث أكاديمي أصيل، غير أن هذا النقاش يكون عسيرًا ومتضاربًا إذا كان لهذه المفاهيم تبعات سياسية، حيث تلقي المواقف والمصالح والمنطلقات بثقلها في إدراك هذا المفهوم ووضع تصور له. ويصبح النقاش أكثر عسرًا وأشد وطئًا إذا كانت هذه المفاهيم المحملة بالظلال السياسية ذات ارتباط بالعلاقة المعقدة بين الإسلام والغرب[1]، هذا الجدل ربما يظهر أساسًا لما أخذ مفهوم الراديكالية ينحصر بداية من القرن الحادي والعشرين في مفهوم استخدام العنف والعمل الإرهابي والتطرف الديني، لتلتصق بالعديد من دول العالم الثالث ذات الأغلبية المسلمة.
دلالات الراديكالية
بالرجوع إلى دلالات الراديكالية نجد أن كلمة “راديكالي” اشتقت من الأصل اللاتيني (Radix) وتعني الجذر، ومن ثمّ فمقابل كلمة راديكالية في العربية هي الجذرية. وقد وُظفت الصفة “راديكالي”، والاسم “راديكالية” في الحقل السياسي لوصف أفعال الأفراد، والجماعات، وبالذات ممارسات الأحزاب السياسية التي تقر بالحاجة إلى التغيير الجذري للأوضاع، أو التغيير الشامل والكلي الذي يطال عمق المجتمع[2].
كما لا تشير الراديكالية إلى منظومة محدّدة من الأفكار والحجج، وإنّما قد تستعمل لوصف أي أفكار أو تيارات تناهض الأفكار والنظم المتفق عليها، أو التي أصبحت مقبولة وتعدّ موضع إجماع واتفاق في المجتمع. فاستخدام اللفظ في القرن الثامن عشر كان موجهًا مؤيدي الحركة الراديكالية، ولا سيّما في سياق النقاش حول إصلاح راديكالي وصولًا إلى حق الاقتراع العام.
الراديكالية بهذا الوصف حالة محدودة في المكان والزمان، وحركتها مرهونة بالشروط الموضوعية لأسس التغيير وأهدافه في كل مجتمع. فالراديكالية (radicalisme) هنا تمثل حالة فكرية سياسية، تنشد التغيير الجذري والإصلاح الشامل للواقع القائم في شتى المجالات، الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. فهي منهج للعمل تختلف أهدافها في حدود الزمان والمكان اللذين تمارس فيهما الحركة الراديكالية نشاطها، ولذلك عجز روادها عن الارتقاء بها إلى الحد الذي تصبح فيه مذهبًا شاملاً، على الرغم من محاولات بعض المفكرين الفرنسيين، ولا سيما في القرن التاسع عشر لتقديمها كمذهب فكري سياسي شامل. ظهور مصطلح الراديكالية كان مع بداية الفكر الأوروبي الحديث الذي أسس لبناء الدولة الحديثة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وذلك حين ساد تيار الليبرالية وهيمن على تاريخ الأفكار السياسية، مما دعا للقول: إن الراديكالية ظهرت في أحضان الليبرالية، ونما اليسار في أوساط الراديكالية[3]، وظهرت اللفظة في بريطانيا في القرن الثامن عشر، إذ استعملت لتوصيف حركة سياسية مناصرة “الإصلاح الجذري” للنظام الانتخابي من أجل توسيعه للأفراد الذكور من البرجوازية الصاعدة. بل إنّ الأمر تجاوز ذلك؛ إذ تبنّى بعض الراديكاليين “الفكر الجمهوري” ودعوا إلى إحلاله محل الملَكية، وإلغاء نظام الألقاب المعتمد من الأرستقراطية البريطانية حينئذ[4].
الراديكالية والتغيير والتطرف
عدت الراديكالية في القرن التاسع عشر نفسها وريثة فلسفة الأنوار ومبادئ الثورة الفرنسية، حيث مثل الراديكاليون في هذه الفترة الجانب العقائدي من حالة العقل، وانتشرت أفكارهم بشكل كبير في فرنسا، ومثلت تخطيطاً لتنظيم اجتماعي من الناحيتين الاجتماعية والسياسية، وهي تصور لعالم برجوازي يجمع بين مخاوفه ومثله الأعلى[5]، من بين أهم مفكري الراديكالية نجد الفرنسي القانوني ليون بورجوا (Léon Bourgeois) (1851-1925)[6] والفيلسوف الفرنسي سلستان بوغليه (Célestin Bouglé) (1870-1940) والأستاذ في جامعة السوربون إميل شارتييه ( Émile Chartier) (1868-1951).
هنا لفظ الراديكالية صفة ارتبطت بالفعل المنادي بضرورة اقتلاع ما هو سابق من فكر ومعتقدات؛ كونها تعارض ركائز جديرة بإحداث التغيير المراد -حسب رأي تلك الفئة- خلال مرحلة زمنية وبيئة معينة، فنجد -مثلا- مع القرن (21) ارتبط مفهوم الراديكالية بدول العالم الإسلامي أو التي تحتوي أكبر عدد من المسلمين، حيث تم وصف الحركات الإسلامية بالراديكالية انطلاقًا من مواقفها تجاه دول العالم الغربي، ومناداتها بالأصولية التي تقتضي الامتثال إلى مرجعية دينية إسلامية في إقامة أنظمة سياسية كاملة الأركان.
هذا المعنى للراديكالية الذي يميل للتشدد في الرأي والبقاء على القوالب الفكرية القديمة، ومنها صيغ معنى العنف أو الإرهاب الراديكالي، حاول الغرب إلصاقه بالإسلام برغم أن جذوره الأولى غربية، وقد صرح بذلك المنظِّر الهندي البريطاني في دراسات ما بعد الاستعمار هومي بابا (Homi K. Bhabha)[7]، وهو ما جعل الالتباس والغموض حول المفهوم يتطلب مزيدًا من الموضوعية في طرحه: “هنا نبه بروفيسور الأمن الدولي بجامعة واريك السيد ستيوارت كروفت (Stuart Croft) إلى أننا في حاجة ماسة إلى فهم واضح لمفهوم الراديكالية. والحصول على تصور صحيح لهذا المفهوم المركب مكسب طموح، خصوصًا وأنه ظل في الأدبيات الغربية مرتبطًا بالإسلام والمسلمين. وهذا التصور خاطئ بالأساس خصوصًا إذا نظرنا إلى مفهوم الراديكالية من خلال ثنائية المركز والأطراف فإننا سنجد ما يلي[8]:
- هنالك ربط للراديكالية بالدين في حين أن مصدرها قد يكون الفن أو الشعر مجالات أخرى غير الدين.
- اعتقاد المجموعة الراديكالية أنها صفوة، وأنها تمتاز بنوع من الخصوصية ينبغي الحفاظ عليها حتى لا تنمحي هويتها. فعند كل مجموعة راديكالية وعي بالنقاء الذاتي، وأن غيرها وعيه مزيف حسب المفهوم الماركسي.
لا يخرج توظيف الراديكالية في سياقات مختلفة متعددة عن كونها تمثل شكلين أساسيين؛ يتمثل الأول في الدعوة إلى التغيير الجذري العنيف، وهنا يمكن حصرها في الثورة التي يميزها فعل وممارسات تحمل من أعمال العنف والإكراه أشكالاً ومستويات مختلفة، أما الثاني فيتمثل في التغيير بوسائل سلمية عن طريق الدعوة إلى تغيير جذري، ورفض ما هو قائم مع توافر شرط السلمية في مواجهة مقاومة التغيير، واستخدام الآليات التي لا وجود للعنف ضمن تنفيذها للتغيير.
فيما يتعلق باستخدام الراديكالية مع مصطلح “التطرّف”، يُعتبر مصطلح “الراديكالية” موضوع جدالٍ كبير، خصوصًا عندما يُستخدم في سياق التطرف العنيف. ويمكن تعريف “الرّاديكالي” بصيغ متنوّعة تبعا للظرف السائد. ففي بعض السّياقات، قد يشير المفهوم -بكل بساطة- إلى “من يريد التسبّب بتغييرٍ سياسي”. وفي سياق الجهود الرامية إلى منع التطرّف العنيف، يُستخدم مصطلح “الراديكالية” بشكل شائع لوصف العمليّات التي يعتمد الشخص من خلالها وجهات نظر أو ممارساتٍ متطرّفة، إلى حدّ تشريع استخدام العنف أو تبريره. والمفهوم الأساسي هنا هو عمليّة تبني العنف. فإذا أردنا أن نشير إلى العمليّة التي يصبح الشخص من خلالها متطرّفا عنيفا، فستكون عبارة “الرّاديكالية المؤدّية إلى العنف” ملائمة أكثر من “التطرّف العنيف”[9].
في سياقات أخرى، الراديكالية هي التمسك بالأسس والمبادئ الأولى، أو التطابق بين المبادئ النظرية والبرامج العملية، غير أنها قد تستخدم سلبيًا أحيانًا فقط في حالة إلصاق الصفة بأفكار الخصم وآرائه، فتتحول في هذه الحالة إلى رديف للتطرف؛ ففي معجم كامبريدج مثلًا: تعني الراديكالية أن يحمل الإنسان معتقدات وآراء ترى الغالبية أنّها غير عقلانية وغير مقبولة. وفي معجم أوكسفورد الكبير نجد تاريخ الكلمة في الفيلولوجيا وغيرها بمعنى الجذر… ونجدها في التخصصات كافة بمعنى الأساسي، والجوهري، والعميق… وفي السياسة الراديكالي هو “المدافع عن الإصلاح الراديكالي… الذي يحمل أكثر الأفكار تقدّمًا عن الإصلاح على المسار الديمقراطي. في القرن التاسع عشر استُخدمت التسمية للفرع المتطرف من الحزب الليبرالي. وحاليًا تعني بصورة عامة من يدافع عن أيّ تغيير سياسي أو اجتماعي شامل، من ينتمي إلى الفرع المتطرف في (حزب من الأحزاب… مُنتمٍ إلى جناحٍ يساري أو ثوري)[10].
في الحقيقة، إن الراديكالية اليوم خليط من فكرتين، فهي تمثل البحث في جذور المشكلات الأصلية تمهيدًا للتغيير المنشود، وفي الوقت ذاته تمثل تشدداً ناعماً يتخفى خلف قناع العولمة، لتحقيق غايات تغلب عليها الأيديولوجيا، مما يعني إمكانية إنتاجها عنفًا مضرا لكنه لا يُرى، لكنه عنف بالمحصلة. أما التطرف، فهو يشير إلى قضايا الانغلاق والابتعاد عن الاعتدال والمنهجية الوسطية، فضلاً عن التمسك بالمتبنيات الفكرية والتشدد في البقاء عليها حتى مع الاعتقاد بضرورة تغييرها. والتطرف هنا يتناقض مع مفهوم الراديكالية، وفيه خروج على القيم والمعايير الإنسانية، مما يتيح للأفراد إنتاج العنف بشكل فردي أوجماعي متخذًا أشكالاً فكرية واجتماعية ودينية، وهذه الثالثة من أخطر مظاهر التطرف؛ لارتباطها بالعقائد الدينية، وهي بمثابة الخط الأحمر الذي لا خروج عليه، وهو ما ظهر بوضوح على الساحة العالمية بعد تفكك المعسكر الشيوعي وبروز الجماعات التكفيرية المتطرفة، التي تجسدت في تنظيم طالبان والقاعدة وداعش وبوكو حرام، وما تلا وجودها من تأثير على الأحداث العالمية من خلال تداعيات سلبية ذات ممارسات عنفية وخطيرة[11].
[1]– سيدي، أحمد سالم، رؤى حول الإرهاب والمقاومة والراديكالية، 11 أكتوبر (تشرين الأول) 2010، على الرابط الآتي:
https://studies.aljazeera.net/ar/events/2010/10/2011721124326875775.html
[2]– انظر : العياشي عنصر، العولمة والتطرف: نحو استكشاف علاقة ملتبسة، مجلة سياسات عربية، العدد 21، (يوليو/ تموز 2016) ص12-13 . انظر أيضًا:
Radicalism, vocabulary.com:
https://www.vocabulary.com/dictionary/radicalism
[3]– سامي، هابيل، الراديكالية، الموسوعة العربية، على الرابط الآتي:
http://arab-ency.com.sy/ency/details/3981
[4]– العياشي عنصر، العولمة والتطرف: نحو استكشاف علاقة ملتبسة. مرجع سابق، ص13.
[5] – أسعد عبدالوهاب عبدالكريم، محاضرات الفكر السياسي الغربي المعاصر، ص4، على الرابط الآتي:
https://cpos.tu.edu.iq/psd/images/2017/political_thoughtwest/م3_الاتجاه_الراديكالي_32-41.pdf
[6]– قام المحامي والسياسي الفرنسي ليون بورجوا، بوضع البرنامج الاجتماعي والاقتصادي الذي يحتاجه الحزب الراديكالي لتمييز نفسه عن كل من الليبرالية الفردية والاشتراكية الجماعية. تم التعبير عن أفكاره في سلسلة من المقالات التي نشرتها مجلة (Revue Nouvelle) عام 1896، والتي تم جمعها لاحقًا في مجلد بعنوان (Solidarité) (1896) كان على بورجوا أن ينشر أيضًا مقالًا عن فلسفة التضامن (1902)، وفكرة التضامن وعواقبه الاجتماعية (1902)، وسياسة الرفاه الاجتماعي (1914). تأسست جمعية لنشر الأفكار الجديدة عام 1895 تحت اسم جمعية التربية الاجتماعية. انظر:
Guy CAIRE, BOURGEOIS LÉON (1851-1925):
https://www.universalis.fr/encyclopedie/leon-bourgeois/
[7]– عادل، الصويري، بين الراديكالية والتطرف.. قراءة في جذور العولمة العنفية، شبكة النبأ المعلوماتية، 13 مارس (آذار) 2017، على الرابط الآتي:
[8]– سيدي، أحمد سالم، رؤى حول الإرهاب والمقاومة والراديكالية، مرجع سابق.
[9]– فتحي، الجراي، من أجل استراتيجية عربية لمكافحة التطرف العنيف والفكر المتشدد ومعالجة آثارهما، تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 2020، ص10.
[10]– المرجع نفسه، ص8.
[11]– عادل، الصويري، الراديكالية والتطرف.. قراءة في جذور العولمة العنفية، مرجع سابق.