تقديم
يقدم مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «السلالة الجديدة للتنظيم الدولي للإخوان: التحوّرات- الصراعات- الإرهاب» (الكتاب السبعون بعد المئة، فبراير (شباط) 2021)، قراءة تفصيلية لأبرز محاور التنويعات الجديدة للتنظيم الدولي للإخوان، والمحاولات الحثيثة التي تبذلها أذرع الجماعة ورؤوسها، للتأقلم مع الواقع الجديد، والاستثمار في مستقبلٍ بديل، ويلفت إلى التمويه الذي تقوم به عبر تنويع درجات الخطاب تبعًا للظروف المحيطة بها. ويركز على التغيرات التنظيمية بعد صدمة 30 يونيو (حزيران) عام 2013، وتأثيراتها في التنظيم الدولي والخاص، وأفرعه العربية والإقليمية والعالمية، وعلاقاته مع الدول الداعمة له.
بدأ الكتاب بشهادة مفصلّة، قدمها قيادي سابق من داخل الجماعة، يتناول بدايات عولمة التنظيم وجذورها، بدءاً من حسن البنا وسعيد رمضان وتأهيلهما لكوادر تقوم بدور وكلاء للدول «الكبرى»، واستغلال الأزمات السياسية والإقليمية للدخول فيها، عبر أنظمةٍ عسكرية وسياسية اعتادت تجاوز الإطار الوطني، والقفز على الحدود الوطنية إلى الأممية الإسلاموية، متى اقتضت المصلحة التنظيمية الضيقة. وفنّدت الشهادة عبر مشاهدات ومحاضر المزاعم التي تنفي وجود التنظيم الدولي، مشيرة إلى اللائحة التنظيمية التي وصفتها بالمتوحشة، وكيفية اعتماد عقيدتها الجوهرية على تكفير الدول والمجتمعات، لتنتهي بظهور التنظيمات مثل القاعدة وداعش. تزعم الشهادة أن الجماعة بتنظيمها الدولي، طرقت باب العلاقات الدولية من خلال نقد النظام العالمي، والدخول في صفقات نقده، والدعوة إلى تأسيس شرق أوسط جديد، ولو عبر منهج الفوضى الخلاقة، والتوظيف الصريح للإرهاب، مُحِيلةً دعمه إلى قيادات بعينها داخل التنظيم، دون أن تنفي فكرة تبني الجماعة لتبادل الأدوار، التي انتهت إلى أن يظهر تيار علماني داخلها يتاجر بالعلمانية كما تاجر بالإسلام!
تستغل التيارات الإسلاموية هشاشة الفكرة الأساسية للجماعة وميوعتها، وتحاول تشكيلها بمرونة ضد التحديات التي تواجهها في كل بلد تعمل فيه، لذا تأخذ الاستجابات التنظيمية للأزمات الوطنية أنماطاً عدة، وتمنح الفرع والجماعة الأم والتنظيم الدولي قدرةً على المناورة، ولكنّها سرعان ما تُظهِر وجهها العنيف عند كل استحقاق سياسي حقيقي. فالفرع السوداني كان المبادر إلى تنفيذ الانقلابات، حين غدر بالنظام الديمقراطي عام 1989؛ قبل الانتخابات بأشهر، ونفّذ تقنية الانقسام الخشن عام 1999 بانشطاره إلى حركتين، حافظتا على علاقةٍ بالتنظيم الدولي؛ وتوحدتا جزئياً بعد سقوط نظام البشير عام 2019. بالمثل، تطرق الكتاب إلى استجابة فروع إخوان الأردن وتونس، وتعاملها مع الأزمات مثبتًا أن الاختلافات بينها في الدرجة لا في النوع.
تناولت دراساتٌ وكتبٌ ودورياتٌ متعددة، استقرارَ الإخوان المصريين في تركيا بالدراسة والبحث، تولدت عنها فرضيات متباينة، أضاف إليها الكتاب فرضيةً أجابت عن سؤال: هل اختطفت جهات تركية التنظيم وقلبه وحولته إلى أداة تركية بالكامل؟ حاولت الدراسة الإشارة إلى جذور هذا الاختطاف، حتى قبل احتجاجات 2010، وتتبّعته بعد هرب الإخوان إلى تركيا، وألمحت إلى وجود صراع مكتوم بين أطراف استسلموا للأردوغانية أو التتريك بالكليّة؛ راضين بلعب دور الأداة الوظيفية بيد أنقرة، بينما يزعم وجود آخرين يرغبون في قلب الآية واستعادة التأثير على مسار الجماعة، في وقتٍ تحاول فيه إعادة تسويق نفسها لدورٍ سياسي داخل المنظومة السياسية المصرية الجديدة، يشبه دورها في نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك! تتعرض الدراسة إلى الفرضية باستفاضة؛ مستصحبة التنازع المفترض بين التنظيم الدولي، والجماعة، أو بين قلب الجماعة وعقلها، وجيبها.
تطرق الكتاب إلى تنامي ظهور حركة رشاد في الحراك الجزائري ضد الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، فرصدها منذ بدايتها وألمح إلى أنّ محاولتها التّماهي مع حركة الشارع لم تنتهِ، إلا بعد أن ادّعت سيطرتها عليه، فتصاعد موقفها لتدعو إلى العنف ضد الدولة، وحوّلت الشعارات من «سلمية سلمية» إلى «حربية حربية». تنفي الحركة أنها حزب سياسي، ولكنّ دراسة أخرى وصفتها بأنها، تمثل حركات «الأخويات الضيقة»، ضمن التشكيلة الإخوانية، والتحوّر المناسب للعمل في بيئة الجزائر، التي تؤمن بأهمية المحافظة على وجود فيها، إذ ينظر التنظيم الدولي إلى دول شمال أفريقيا المشاطئة للبحر الأبيض المتوسط نظرة اهتمام، بسبب موقعها الجغرافي.
ينظر التنظيم الدولي للساحل الأفريقي للبحر الأحمر بالاهتمام نفسه، لذا تتبعت دراسة أبرز محطاته فيها، بدءًا من زيارة عبدالحكيم عابدين إلى جيبوتي، وصولاً إلى علاقة التشكّلات السياسية الراهنة بالأجندة التنظيمية في إريتريا وجيبوتي والصومال، خصوصًا بعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في السودان، وضياع سيطرته على هذه الملفات؛ التي تحاول جهات إسلاموية خلافته عليها.
يتغذى التنظيم الدولي على تنويعات فكرية يتستر خلفها، ويسعى لتجديدها تماشيًا مع الثقافة الحداثية والرؤى الغربية؛ بما يواكب احتقان وتطلعات الشباب الغاضب في المجالين العربي والإسلامي، فتتعدد مستويات التنظير والمنظرين، فكان الاهتمام بمشروع التغيير من المسمّيات التي أنتجتها الشبكة الدولية التي يرعاها التنظيم، فاختارت دراسة طروحات جاسم سلطان، أنموذجاً لتفكيك غطاء المنظومة الفكرية عبره، وإخضاع أفكار المراجعات للنقد والتمحيص.
طالت التحولات الهيكلية -التي تخفّى خلفها التنظيم الدولي- كل الدول، ولكنّ البقاء في الحاضنة الأوروبية كان لافتًا لاهتمام الدارسين. فقد أعادوا نشاطه فيها إلى هامش الحركة، باستغلال الديمقراطية التي تتيحها المجتمعات الغربية في إشراك الجماعات الوظيفية في حل مشاكل اندماج المسلمين. لاحظ الكتاب استقدام المصالح الاستراتيجية الغربية في إطار المماهاة بين الجماعة وبعض الأنظمة، مما يتيح إعادة التدوير الغربي للإسلاموية.
يبقى العمل الخيري وشركات الـ«أوف شور»، وتجارات أخرى تسيطر عليها الجماعة من منطلقاتٍ مزعومة مثل «تجارة الحلال»، و«الاقتصاد الإسلامي»، رافدًا أساسيًا لتمويل التنظيم الدولي، الذي يعتمد عليها، مستغلاً وجوده في عدد من دول أميركا اللاتينية، بالإضافة إلى مصادر أخرى سوف يخصص لها المركز ملفاً خاصًا باسم الاقتصاد الأسود.
ربطت التحليلات التي تناولت الاقتصاد الأسود، ملفه بحزب الله اللبناني وبمنظمات إيرانية في الغالب. هذا الارتباط لا ينفي صلته بالإخوان، إذ تتبعت دراسة التقاطع الراهن بين التيار الإخواني القطبي وإيران الخمينية، فأثبتت متانة الجذور واستقرار العلاقات، وتجذر العنف والموقف الملتبس من المجتمع والدولة والاقتصاد.
تكشف المعطيات التاريخية عن «التقية الحذرة» لدى الجماعة؛ والتحوّرات التي تسمح لها بالتخفي ومجاراة الأوضاع السائدة، إذ نجحت على مدى عقود في تأسيس سرديات تبريرية لسلوكها وخطابها السياسي المزدوج، إلى حد التناقض تحت أسانيد وَضَعها مُنظِّروها، وطوّرها مُثقّفوها، وذلك من أجل إيجاد غطاء «شرعي» للبراغماتية، التي تفرضها الظروف السياسية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل ماهر فرغلي الذي نسق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهوده وفريق العمل.
هيئة التحرير
فبراير (شباط)2021