تُعد القضيّة الكردية من أهم قضايا القوميات في المنطقة، ومسار تفاعلاتها في كردستان العراق، الأكثر بروزاً، إذ أتيح لها أن تمارس حكماً ذاتياً بدءاً من سبعينيات القرن المنصرم، وتشكل في مسارها مجتمعاً بسمات مقاتلة يلوذ بالجبال، ولكنه حيّ بالأفكار والأيديولوجيات، ومطبوع على التديّن باتجاهاته، ثم أصيب بحركات نشطة بين الإرهاب والسياسة والتمرد، تتماهى لديها الخطوط، فكيف يمكن قراءة الاتجاهات الأصوليّة الوافدة، السلفية منها تحديداً، في إقليم كردستان العراق، والتي تسربت إلى المنطقة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وتنامت في سبعينيات القرن الماضي، وتتصل من حيث القواعد العامة والعقائدية مع التجارب السلفية في العالمين العربي والإسلامي. وقد عرفت تياراتها تنوعاً، فثمة السلفية المدخلية، والسلفية السياسية، والسلفية الجهادية، ولكنها اختلفت عن تلك التجارب بعلاقات خاصة مع إيران بسبب الخصومة القديمة بينها وبين النظام العراقي إبّان الحرب العراقية- الإيرانية. بالإضافة إلى طبيعة كردية سياسية ودينية واجتماعية تجعل التجربة السلفية مميزة، بتميز المجتمع الكردي.
تعتبر السلفية المدخلية أول ظهور للسلفية في كردستان. وقد نشأت على يد الملا حمدي عبدالمجيد إسماعيل (1931-2012) الذي درس على محمد ناصر الدين الألباني (1914-1999) في سوريا. وتم تبني السلفية السياسية من قبل حركة النهضة الإسلامية، واعتمد هذا الحزب السلفية كنهج أساسي في إطار ما يسميه «سلفية المنهج وعصرية المواجهة»، أما السلفية الجهادية التي تأثرت بأدبيات جماعة الجهاد المصرية ومرجعيات جهادية أخرى، فيسجل عليها أصولها الإخوانية واستنادها إلى خيار التصدي للمجتمع الكردي والخروج على السلطة الكردية.
يتناول كتاب المسبار «السلفية في كردستان العراق: التاريخ – الأعلام – الانتقادات» (الكتاب السادس والعشرون بعد المئة، يونيو (حزيران) 2017) ملف السلفية الكردية في كردستان العراق، مسلطاً الضوء على جذورها التاريخية وتياراتها المختلفة ومرجعياتها وعلاقتها مع السلطة الحاكمة، ومواقفها السياسية من القضايا الشائكة وحجم حضورها في المجتمع الكردستاني، ووسائل الإعلام التي تملكها ورؤيتها للمرأة.
اختار مركز المسبار أن يكون هذا الكتاب، بأقلام كردية، بعضها يمثل شهادات داخلية، من مختلف مناطق كردستان العراق. فكيف يرى المثقفون الكرد السلفية التي تعيش بينهم؟ ربما يتبع هذا الكتاب مشروع آخر عن «المجتمع الكردي» باعتباره أحد أبرز المكونات الإثنية في الشرق الأوسط والموزع على ثلاث دول.
شددت بعض الخلاصات الواردة في الكتاب على أن «الاتجاه السلفي عموماً يعتبر حالة وافدة على المجتمع الكردي». وحينما يحلِّل السياسي الكردي -المعارض للنظام السياسي في كردستان- الوجود السلفي، فإنه يميل إلى تصنيف السلفية في إقليم كردستان بين موالية ومعارضة، وهناك أطر عامة تجمعها مع بقية أطراف الإسلام السياسي. وتشير إحدى الدراسات إلى «الأرضية المشتركة بين الاتجاه السلفي وبقية الاتجاهات الإسلامية، على الرغم من وجود اختلافات شكلية، كونهم جميعاً يشتركون في منطلقاتها الفكرية ومفاهيمها الأساسية التي تستخرج من القرآن والسنة والتراث الفقهي والتاريخي للمسلمين السنة». إن العلاقة بين النظرية والواقع في الحالة السلفية الكردية أسهمت –إلى حد كبير- في إنتاج العقلية السلفية الكردية وأطيافها، وكان للعوامل الإقليمية والتحولات السياسية الكبرى التي شهدها العراق بعد عام 2003 والحالة الإسلاموية في العالمين العربي والإسلامي، إلى جانب مكافحة الإرهاب والاضطرابات التي أعقبت «ثورات الربيع العربي» تأثيرات مباشرة على التيارات السلفية الكردية.
سعت السلفية السياسية الكردية إلى توطيد روابطها مع السلطة الحاكمة «بقدر كبير من البراغماتية»، و«اتسمت مواقف السلطة –كما يلفت أحد الباحثين– من السلفية والإسلاميين عموماً، بموقفين متضادين: فإما علاقة قوية مع من يقف بجانبها، ویتغاضی عن فسادها، ویؤكد إخلاصه لها وعدم شرعیة الخروج علیها (…) وینطبق ذلك علی السلفیة الدعویة أو السلفیة المدخلیة. وإما تتخذ السلطة موقف العداء المستحكم ضد من یتحدث عن فسادها (…) ویشمل ذلك التیار السلفي الجهادي المكفر للسلطة الكردیة والخارج عليها، والداعم لتنظیم الدولة الإسلامیة (داعش) في حربها علی تخوم كردستان، وبعض السلفیین المستقلین والحزبیین من الدعاة والخطباء، الذین تتطابق مواقفهم مع السلفیة الجهادیة».
تضطلع «السلفية الحزبية» –حسبما تصفها الدراسات- في كردستان العراق بدور سياسي لافت، وهي تعتمد على حركة الإخوان المسلمين في أدبياتها السياسية. وقد شهدت التيارات السلفية في السنوات الأخيرة حراكاً ملحوظاً وتبدلات عدة وانشقاقات. وتُعد جماعة أنصار الإسلام التي أعلن عنها عام 2001 من الأطياف السلفية الجهادية الجديدة، وهي بزعامة فاتح كريكار (نجم الدين فرج أحمد) وقد انشقت عن حزب الحركة الإسلامية، وعرفت بتطرفها، ويطلق عليها لقب «طالبان الكردية».
اهتم الكتاب بنشوء السلفية الكردية في كردستان إيران، محدداً جملة العوامل والأسباب المؤدية إلى بروزها ومن بينها: البعد المذهبي، ضعف الشعور القومي، دعم الدولة الإيرانية للسلفية. لقد عمل السلفيون هناك على تطبيق الرقابة الدينية المتشددة وتدخلوا في الحياة الاجتماعية، يأتي ذلك في سياق حديث ناشطين وباحثين كرد عن دعم وتشجيع السلفية الكردية الجهادية من قبل طهران لأسباب عدة، من ضمنها –كما توضح إحدى الدراسات- «تأسيس قوة مذهبية سنية متطرفة تتمكن من تجاوز الأحزاب الكردية (…) فتجهض المسعى الكردي القومي الديمقراطي». ترى تحليلات أخرى «أن إيران تريد أن تحول مسار النضال الكردي الديمقراطي القومي المعتدل إلى حرب طائفية سنية شيعية، لتسهل عليها وصمهم بالإرهاب الداعشي، ولا يتعاطف معهم العالم حين تضربهم إيران بيد من حديد، بحجة ضربها للسلفية الكردية».
تمتلك السلفية اللاحزبية في كردستان العراق القنوات التلفزيونية والإذاعات. ونشير إلى بعض السمات العامة الأساسية التي تنهض عليها: التركيز على التوحيد والمسائل العقائدية، وتحريم إحياء المناسبات القومية والوطنية، والتصدي لممارسة الفنون، والعمل الجماعي، وكذلك الانتماء إلى الأحزاب السياسية، وتحريم الترفيه خصوصاً على المرأة. ولا ريب أن النزعة السلفية المعادية للنساء تشكل الخاصية الأساسية لدى كل الحركات الإسلامية على مختلف اتجاهاتها: الإخوانية والسلفية العلمية والسلفية الجهادية. وتبنت التيارات السلفية في كردستان العراق خطاباً معادياً تجاه النساء «فلم تبذل أدنى جهد ممكن للتعرف على المرأة الكردية» في سياق مسيرة التراكم التاريخي والوطني والقومي. فالسلفية الوافدة على المجتمع الكردي تريد إعادة المرأة إلى البيت وتطالب بفصل الذكور عن الإناث، وتدعو إلى فرض النقاب في مجتمع منفتح تعتبر فيه القضية القومية المعيار الرئيس، بصرف النظر عن قوة حضور الخطاب الديني المتشدد.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل رشيد الخيُّون والزميل محمد حريري اللذين نسقا العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودهما وفريق العمل.
رئيس التحرير
يونيو (حزيران) 2017