الشيخ الكبير.. خواطر الشك والاحتمال
محمد الدوسري∗
قال الشيخ الكبير المنهك بأحمال وقيود الزمن: تكرار الأحوال يتغير بالشك والاحتمال. قد أدركنا الإنسان البدوي ولم نكن نعرف شيئاً عن حقائق الحضارات، من وسائل النقل والاتصال والتعليم. وكنا نرى أرواحنا صافية كأنها تم سلها من العسل المصفى، وذلك بفضل تلك المعجزة التي قد تحققت، بسبب الرجل التاريخ والرجل المعجزة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن، موحد هذا البلد، (طيب الله ثراه وقدس الله سره) كما يقال لأفذاذ العلم من الأصوليين والفقهاء، فهو مثلهم؛ وذلك لما حققه وأرساه من أمن وطمأنينة واستقرار، لا تزال هذه الجزيرة تنعم بها حتى وقتنا الحاضر. ثم أدركنا بداية دخول الحضارات في شرق البلاد السعودية عن طريق شركة أرامكو، فجاءت تلك الوسائل بجميع أنواعها، فزادتنا إيماناً بحقيقة ما قامت به هذه الدولة من منجزات، قد لا يدركها من لم يُدرك ما رأينا، ولم يعش ما عشناه من خوف وجوع وإرهاب وترويع. وكنا خلال تلك الفترات الذهبية من وجود الرخاء، قد ازداد العلم والنور والمدارس والجامعات، حتى جاءت تلك الصحوة المشؤومة، فرأينا بوادر ذلك الجهاد الأفغاني تسلب منا أبناءنا وبناتنا وأموالنا وطلاب علمنا وعلماءنا إلى ديار لم نسمع بها، ولم نعلم عنها أي شيء.
ذهب أبناؤنا على وجوههم يهيمون في كل أرض في الداخل والخارج، فأحضروا لنا قيماً ومبادئ لا نعلم عنها شيئاً، وأرغمونا على أفعال وتصرفات قد أحرجتنا وجعلت المجتمع منقسماً إلى قسمين، وانشطر الفرد إلى شطرين رئيسين، وتم إسقاط وإنزال ما قبع في عقول رواد الصحوة والتزمت الديني، من تخيلات وتوهمات بدايات لقراءة تاريخ أوروبا وتخيلات محاكم التفتيش التي لها ظروفها وحقائقها، لم يدرك كنهها أولئك الرواد، وعلى رأسهم رائد لواء التكفير وحامل راية ترسيخ الولاء والبراء المعاصر، وقائد علم الحاكمية وتكفير الحكام، فأصبح أبناؤنا الأغرار، صغار السن وعديمو خبرة العقول والسنين، يُخيل إليهم أنهم في عهد بدايات التشريع والتنزيل، فاختزلوا قروناً كثيرةً وضغطوا تاريخ دول عظيمة، وحطموا فكرة التعلم الحقيقي لفهم مدارك التنزيل وحقائق التأويل، فلم يعرفوا حقائق علوم الآلة التي يتوجب على كل من يقرأ آية وتتوق نفسه إلى الفهم والوعظ بها أن يدرك تلك العلوم، وإلا فإنه ما لم يدرك تلك العلوم فلا يحق له أن ينطق بما تتوق وتتطلع إليه نفسه؛ لأن ادعاء العلم والفوقية النصوصية الشرعية، لهي من أخطر أمراض الصحوة الإسلاموية، وهو مرض قد أصاب أغلب تلك الرموز التي كانت ولا تزال تظن، وهماً وتخيلاً، أنها تقود المسار الديني والشرعي، بما تظن أنها قد تعلمته من معلومات متاحة لكل أحد من العامة، مما يجعلها هي نفسها إشكالية حقيقية فيما نعانيه من إشكاليات دينية.
قال ذلك الشيخ الكبير فأصبح أبناؤنا منقسمين بين التيارات والأحزاب المتأسلمة المتطرفة الجهادية التكفيرية، وبين الدول التي يكثر فيها الصراع ويُدعى فيها للجهاد. بيد أن رموز الصحوة لا يزالون في مسارهم والرغبة في تحقيق الفكرة الكبرى، من رجوع الحكم الإسلامي المتمثل في الخلافة المزعومة.
مررنا بموجات جهاد هنا وهناك، حتى جاءت سوريا والعراق وبرزت فكرة الخلافة التي تتوق لها أرواح وأنفس جميع التيار الصحوي برموزه وعوامه، وإن اتقوا عن ذلك خوفاً وسياسة!! فجاءت فكرة الخلافة الكاذبة، فزرعت في عقول الأغرار بفضل بعض الأدبيات الصحوية المتجذرة في فكر سيد قطب، من الولاء والبراء والحاكمية، ومن بعض الفتاوى التي لم يتم معالجتها بكل شفافية، فأحدثت أحوال القتل والغدر بأرواح ونفوس حماة الوطن من أبناء هذا الوطن الصامد، بقيادته الحكيمة التي ظلت وستظل نبراساً لفرض الأمن.
والسبب في ارتباط مكونات فسيفساء هذه القارة الكبيرة، وبقاء هذا الارتباط والإحساس الحقيقي بهذا الأمن، في ظل ذلك الاقتتال والتناحر، لهو أمر حير العقول الكارهة والرافضة لذلك الترابط والتماسك، وذلك الأمن الحقيقي الذي تفتقده تلك العقول الإرهابية المتطرفة من شتى الفصائل والدول والجماعات والأحزاب.
إن ما يحدث من أحوال قتل وتقتيل وتفجير وتفخيخ، هي من أحوال الغدر والخيانة التي تعود بنقض كل مقاصد ذلك الإرهاب المتخيلة والوهمية، سواءً كانت الجزئية منها أو الكلية. فقد تكررت تلك الأحوال للغدر والخيانة من أقرب الناس من أبناء هذا الوطن، وممن ترعرع فيه ونشأ ونهل من خيراته، وتنعم بأمنه واستقراره، فلما ظن وتخيل واهماً أنه استوى عوده، وارتقت نفسه بظنون واحتمالات، قويت روح المغامرة الآنية، بيد أنه قد اشترط لها الغدر والخيانة، وقيدها أن تكون تصرفاته مشربةً بالغيلة والختل والخداع لأقرب الناس إليه، فلا تكاد تلك المغامرات أن تكتمل كما رسخ في مخياله القابع في عقله الباطن، واستوطن في وعيه ولا وعيه من تلك الصور الهوليودية التي تربى عليها، سواءً كان هذا المتطرف الخارج عن الزمن من أبناء هذا الوطن، أم كان من غيره، فهم في هذه الحقيقة سواء.
ثم جاءت لحظات صمت وتأمل لدى ذلك الشيخ الكبير، وعرض تجربة أقرب الناس إليه، بأن ترسيخ الشك والاحتمال في عقلية النشء في بلادنا، هي من أقوى طرق تفكيك تلك النفوس المقيدة بالحقيقة المطلقة وباليقينيات، فقد كانت فلسفة أن من لم يعرف ويعلم بالاختلاف لدى علماء كل فن، وعدم معرفة أن كل متخصصين في كل علم متخصص قد اختلفوا، وأن كل اختلاف له أسباب، وأن تلك الأسباب تختلف مدارك فهمها وحقائق تأويل تفسيراتها، فقد كان البحث في مسألة حقيقة النقود، وهل يتم إلحاقها بالذهب والفضة ومن ثَم يتم تحريم التفاضل والنسيئة فيها.
كان ذلك البحث سبباً في التوقف والتراجع عن التكفير بمسألة استحلال الربا، حيث إن البنوك الربوية تتعامل بالنقود، والتعامل بالنقود مسألة اختلف الفقهاء المعاصرون لها عند أول ظهورها: هل يتم الربا فيها أم لا، وهذا يعني أن الدولة التي تُنشئ وتتعامل بتلك البنوك، لا يمكن تكفيرها بمسألة قد اختلف فيها الفقهاء، حيث إنه من المقرر أنه لا إنكار في المسائل المختلف فيها، وإنما يُنكر في المسائل المجمع على تحريمها، وأن ما قَوِي مدركه من مسائِل الاجتهاد يُراعى فيه الخلاف، وأن اختلاف الفقهاء شبهة تُدرأ الحدود فيها، وبسبب تلك المسألة ومعرفة الخلاف فيها وعدم ارتباط التفكير بها، وإيجاد الشك والاحتمال لدى ذلك الشاب، قد أحدث له تغيراً حقيقياً في الأحوال، لذا فإن بث الشك والاحتمال سبب حقيقي في تغير الأحوال، فلنرسخ هذه الثقافة في استراتيجية سياستنا التعليمية، سواء التعليم الابتدائي أو المتوسط أو الثانوي أو الأكاديمي.
محمد الدوسري∗
كاتب وباحث سعودي