تمثل كينيا نموذجًا للمتناقضات؛ فبرغم كونها قبلة للسياحة والاستثمارات الأجنبية تعتبر أيضًا مرتعًا لتنامي وانتشار التنظيمات الإرهابية، ومركزًا للاضطرابات الإثنية التي هيأت المناخ العام وجعلت من الأراضي الكينية بيئة خصبة لتنامي وتصاعد التنظيمات الجهادية، بل وعرقلت جهود الدولة نحو مواجهة الإرهاب.
أولا: طبيعة الصدامات الإثنية والقبلية
تعتبر كينيا أكثر دول شرق أفريقيا ثقلًا اقتصاديًا، إلا أن الصراعات القبلية الممتدة التي أفرزت أزمات سياسية متجذرة، أدت إلى هدم ما أحرزته الدولة من مكتسبات خلال العقود الماضية.
وبالحديث عن الصراع القبلي في كينيا لا بد من التطرق إلى أبعاد التقسيم السكاني للبلاد، حيث يصل التعداد السكاني للدولة إلى قرابة (45) مليون نسمة، منقسمين إلى قبائل أصلية وأخرى وافدة من العرب والإنجليز والهنود، فيما تشكل قبيلة كيكويو التي ينتمي إليهم الرئيس أوهورو كينياتا الغالبية بنسبة (17.2%)، حيث يتولى أفراد تلك القبيلة المناصب السيادية الهامة بالدولة كالوزارات وإدارة المحليات والأجهزة الأمنية، فيما تمثل قبيلة لوهيا (14%)، وتأتي قبيلة كالينجين لتشكل (13%) من تعداد السكان، بينما تمثل قبيلة لوو (10%)، وتمثل قبيلة كامبا (10%) أيضا من التعداد السكاني[1].
ومنذ الستينيات تأسس تحالف ضمني بين قبيلتي كيكويو وكالينجين للاستئثار بالسلطة، في المقابل تبذل قبيلة لوو محاولات مضنية لإنهاء هيمنة التحالف الثنائي على السلطة، وإتاحة فرصة المشاركة السياسية للقبائل الأخرى، ناهيك عن الصراع المتأصل بين قبيلتي كيكويو ولوو بعد اتهامات للأولى بقتل زعيم الأخيرة[2]، وقد أدت تلك الخلافات إلى ديمومة الصدام القبلي وبالتبعية غياب الاستقرار المجتمعي، فمنذ حصول كينيا على استقلالها عام 1963 تشهد البلاد أوضاعاً أمنية متأزمة انعكست خلال فترات الانتخابات، وظهر ذلك جليًا خلال انتخابات 2007 حيث أدى الاحتقان الإثني حينذاك إلى مقتل قرابة ألفي شخص.
وترجع الانقسامات القبلية لانعدام مبدأ تكافؤ الفرص على مستويات عدة؛ سواء فيما يتعلق بتوزيع ثروات البلاد أو تنفيذ الخطط التنموية والإصلاحية، أو حتى على صعيد تولي المناصب والحصول على وظائف داخل أجهزة الدولة المختلفة، ففي تقرير صادر عن لجنة الخدمات العامة الكينية عام 2014 ورد فيه استحواذ (3) قبائل من أصل (41) على نحو (50%) من الوظائف الحكومية[3]، فمنذ حصول كينيا على استقلالها احتكرت قبيلة كيكويو حكم البلاد، حيث ينتمي إليها ثلاثة رؤساء من أصل أربعة حكموا البلاد منذ الاستقلال.
لذا أدت حالة عدم الانسجام القبلي بين مكونات المجتمع الكيني إلى صراعات مستمرة عزز من خطورتها أزمات أخرى؛ كارتفاع مديونية البلاد الخارجية، ففي 2021 صدر تقرير عن صندوق النقد الدولي ورد فيه ارتفاع الدين العام الكيني إلى (71) مليار دولار بزيادة تقدر بنحو (66%) مقارنة بـ(48%) عام 2015[4]، الأمر الذي أدى لإضعاف الاقتصاد الكيني، ناهيك عن تضرره بجائحة كورونا على مدار العامين الماضيين. كل ما سبق عزز من موجة الاحتقان القبلي لا سيما مع تمتع قبائل بأوضاع معيشية أفضل مقارنة بغيرها، مما أدى إلى اتساع الفجوة المجتمعية وتوسيع دائرة الصراعات الداخلية، مما هيأ المناخ لصعود الجماعات المسلحة داخل البلاد، فخلال الفترة الأخيرة وُجد عدد كبير من الميليشيات على رأسها قوة الدفاع عن الأراضي في سبوت، ومجلس جمهورية ممباسا الداعي لانفصال الإقليم، وميليشيا المونجيكي.
وقد أدى صعود تلك الميليشيات إلى انتشار كميات كبيرة من السلاح غير المرخص داخل البلاد، فوفقًا لتقرير صادر عن جهات أمنية كينية هناك ما يزيد عن (600) ألف قطعة سلاح غير مرخص داخل الأراضي مما عزز من انتشار العنف المسلح داخل البلاد[5].
ثانيا: تأثير الاضطرابات القبلية على المشهد الأمني
تواجه كينيا أوضاعاً أمنية متأزمة؛ حيث تتعدد مهددات الأمن الكيني ما بين الاضطرابات القبلية والجماعات الانفصالية والتنظيمات المسلحة والتيارات الراديكالية، وبرغم ذلك تُضفي الصراعات الإثنية طابعًا أكثر عنفاً ودموية على المشهد العام، لا سيما مع فشل الدولة في إدارة التنوع القبلي، وتظهر تلك الصراعات بشكل واضح خلال الفترات التي تعقب الانتخابات، كما حدث عقب انتخابات 2007 التي مثلت منحنى خطراً للصراع القبلي داخل كينيا، وبالتزامن مع اقتراب الانتخابات الكينية العامة المقررة 9 أغسطس (آب) وتوقعات باستمرار موجة العنف والصدام القبلي، يمكن رصد أبرز مهددات المشهد الأمني الكيني على ذلك النحو:
- الاضطرابات القبلية: تواجه كينيا حالة من التصدع المجتمعي على خلفية الانقسامات القبلية التي تمر بها، وترجع الخلافات الإثنية لأزمة دستورية بالأساس تتعلق بتوزيع الصلاحيات، فبرغم وجود أكثر من (40) قبيلة فإن السلطة والامتيازات تتركز في أيدي (3) قبائل، ناهيك عن أن المشاريع والخطط التنموية يتم تنفيذها في الأقاليم المركزية التي تقطنها القبائل المهيمنة سياسيًا، الأمر الذي أدى لحالة من التنافر وعدم الانسجام، فعلى سبيل المثال ظهر التناحر القبلي في إقليم الوادي بين قبيلتي الكالنجين والكيكويو، حيث تسعى الأولى لطرد الثانية من الإقليم والهيمنة على الأراضي الزراعية، بزعم أن الإقليم سُلب منهم في عهود سابقة مما يعكس قتامة الوضع[6]، في المقابل تظهر الانقسامات بشكل جلي خلال المواسم الانتخابية ففي 1992 حيث أول انتخابات رئاسية عقب الاستقلال، حدثت مذابح دموية على خلفية صراعات قبلية، وذلك بعد أن شكل الرئيس الكيني الأسبق دانيال أراب مواي ميليشيات مسلحة لمهاجمة قبائل اللوو المعارضة، مما أدى إلى مقتل ما يزيد عن ألف شخص، وفي 1997 تكرر الوضع عقب الانتخابات بعد اتهام مرشح الكيكويو بتزوير الانتخابات، وأخذ منحنى العنف وضعاً أكثر خطورة عقب انتخابات 2007، حيث أسفرت الصدامات والاشتباكات عن مقتل أكثر من ألفي مواطن ونزوح المئات من مناطق التوتر، مما دفع السلطات للقيام بإصلاحات سياسية وسن قوانين وتشريعات لرأب الصدع، إلا أن تأثير تلك الإجراءات كان محدوداً مقارنة بالوضع المتأزم بين القبائل.
وكنتاج طبيعي لتلك الصراعات شهدت معدلات الجريمة ارتفاعًا كبيرًا نتيجة لحالة الانفلات الأمني، ففي إقليم نهر دلتا يتجدد الصراع بشكل دائم بين قبيلتي بكومو وأرمو، حيث أفرز الصراع أعمال عنف تصل لحرق قرى بأكملها، مما أدى إلى انتشار عدد كبير من العصابات الإجرامية، حيث تشير تقارير أمنية إلى وجود أكثر من (33) عصابة إجرامية على رأسهم عصابة مونغيكي المقدر عدد أعضائها بمئات الآلاف، ناهيك عن العمليات التي تقوم بها التنظيمات الإرهابية، الأمر الذي أدى لارتفاع معدلات العنف والإعدامات والاختفاء القسري خارج نطاق الدولة والقانون[7].
- تنامي الجماعات الراديكالية: تمر كينيا بأوضاع أمنية شديدة الخطورة بعد أن أصبحت ساحة للتنافس بين تنظيمي القاعدة ممثلًا في حركة شباب المجاهدين، التي نجحت في القيام بعمليات داخل العمق الكيني عبر تشكيل أذرع لها هناك، بالتوازي مع تصاعد تنظيم داعش بشكل ملحوظ، حيث أعلن التنظيم مسؤوليته عن العديد من العمليات الإرهابية داخل كينيا، وبرغم الإجراءات الاحترازية التي تبنتها نيروبي عبر تعزيز قوتها الأمنية بالداخل، وتبني استراتيجية الردع عن طريق نشر قوة عسكرية لها داخل الأراضي الصومالية، إلى جانب التوقيع على اتفاقيات أمنية مزدوجة مع إثيوبيا والولايات المتحدة وبريطانيا لتعزيز قدراتها الأمنية، فإن ذلك لم يعد كافيًا لردع التنظيمات الإرهابية لا سيما مع تمتع الأخيرة بمرونة التأقلم على الأوضاع المتجددة، والعمل على إيجاد مصادر للتمويل بغية ضمان استمرارية انتشارها وتمركزها، وبالتوازي مع ذلك، أدى التصدع القبلي والتوترات الأمنية مع حالة التهميش للأقاليم الحدودية، إلى ظهور جماعات انفصالية كمجلس ممباسا الجمهوري الذي طالب بانفصال إقليم الساحل ذي الأغلبية المسلمة، الأمر الذي تسبب في مزيد من الضغوط على نيروبي، لا سيما مع خصوصية هذا الإقليم الذي يعد أهم الموانئ الكينية بخلاف الموارد الطبيعية التي يستند إليها الاقتصاد الكيني.
ثالثًا: وضع التنظيمات الإرهابية داخل كينيا:
تعتبر كينيا من المواطئ الأولى لعمليات تنظيم القاعدة خلال فترة التسعينيات، ففي أغسطس (آب) 1998 قام التنظيم بتفجيرات السفارة الأميركية بنيروبي، التي أسفرت عن مقتل (220) كينياً، كما نجح في استقطاب عناصر كينية لإعانته في الانتشار والتغلغل، من ضمنهم فاضل عبدالله محمد المتهم في تفجير سفارة أميركا بنيروبي، مستغلين بذلك الهشاشة الأمنية التي تمر بها البلاد نتيجة الصراع الإثني بين القبائل المختلفة.
وشكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) تحولًا جديدًا لتنظيم القاعدة بعد أن تمكن من ترسيخ جذوره بالصومال، عبر إنشاء اتحاد المحاكم الإسلامية وذراعه العسكرية “حركة شباب المجاهدين” عام 2004، ليبدأ التنظيم موجة جديدة من التهديد، حيث بدأ في استهداف نقاط مدنية داخل كينيا، كما حدث في تفجيرات متجر ويست جيت سبتمبر (أيلول) 2013 وأدى لمقتل (67) شخصاً بنيروبي، وكذلك الهجوم على جامعة جارسيا بالقرب من الحدود الكينية- الصومالية أبريل (نيسان) 2015 وأسفر الهجوم عن مقتل (148) شخصاً، إلى جانب هجمات أرى التي تم خلالها استهداف أفراد من قوات الأمن في أغسطس (آب) 2018.
وقدرت تقارير أمنية أعداد الكينيين المنضمين لصفوف الحركة بنحو (25%) من إجمالي الأفراد[8]، حيث كان القيادي عبدالقادر محمد عبدالقادر بمثابة جهة الاتصال بين الحركة والراغبين في الانضمام إليها داخل الأراضي الكينية، لنجد أن معظم العمليات الإرهابية التي تمت داخل كينيا كانت بواسطة عناصر كينية كما حدث في أبريل (نيسان) 2014 بعد أن هاجم كيني متطرف مركز شرطة نيروبي بسيارة مفخخة، وجدير بالذكر أن الحركة لم تقتصر على استقطاب المواطنين فقط، لكن دأبت على اختراق المؤسسات الأمنية والاستخباراتية، حيث ورد بتقارير خاصة تمكن الشرطة الكينية من القبض على ضابط سهل مهمة سرقة الأسلحة وتهريبها إلى حركة الشباب[9].
وبرغم أن حركة الشباب تأسست داخل الأراضي الصومالية، فإن انتشار أنشطتهم داخل العمق الكيني يثير تساؤلات حول دوافع هذا التحرك، وهو ما يمكن استيضاحه في تلك النقاط:
- الضغط على كينيا: نتيجة كونها أكثر الدول الأفريقية المعنية بالأوضاع الأمنية والمستجدات داخل الأراضي الصومالية وبالأخص على الحدود معها، يستدل على ذلك من المشاركة الكينية ضمن بعثة أميصوم التابعة للاتحاد الأفريقي، مما دفع الحركة لتوجيه تهديدات مباشرة لكينيا بأنها ستواجه هجمات شرسة مستهدفة الأمن القومي في حال إصرارها على المشاركة ضمن أميصوم، ظنًا منها أن الفراغ الأمني الذي سيحرزه الانسحاب الكيني يعطي لها فرصة لتوسيع نشاط الحركة، وبالفعل قامت الحركة بتنفيذ العديد من الهجمات التي كان آخرها الهجوم على معسكر أمني في منطقة مانديرا الحدودية، مما أدى إلى إصابة ثلاثة ضباط[10]، وتعكس تلك الهجمات رسالة تهديد من حركة الشباب لكينيا والدول الأخرى، بضرورة التراجع عن أي محاولات لتحقيق الاستقرار داخل الأراضي الصومالية.
- هشاشة الأمن الحدودي: حرصت السلطات الكينية بعد قرارها بالانخراط العسكري داخل الأراضي الصومالية، على تأمين الحدود المشتركة عبر بناء سور عازل، إلا أن عديد الصعوبات عرقلت تلك المهمة نتيجة للطبيعة الجغرافية للمنطقة. من جهة أخرى فشلت كينيا في منح أفراد الأمن المتمركزين على الحدود رواتبهم لمدة ثلاثة أشهر، مما أدى لحالة من الفراغ الأمني على الحدود، استغلتها الحركة وعززت من تجارتها غير المشروعة داخل الأراضي الكينية، للحصول على أكبر قدر من الموارد المالية كي تواصل عملياتها.
- تعزيز نفوذ الحركة: تعتبر حركة الشباب الذراع الأهم للقاعدة شرق أفريقيا، الأمر الذي يدفعها لترسيخ نفوذها وتقوية أوصالها والبحث عن مناطق نفوذ جديدة داخل القارة، عبر استقطاب عناصر جديدة وتهيئة بيئات أخرى للتوسع والتمدد، وقد ساعدها تشكيل ذراع عسكرية لها داخل الأراضي الكينية في دفعها لشن مزيد من الهجمات داخل العمق الكيني لردع نيروبي عن دعم الحكومة الصومالية في مواجهة الحركة، مستغلة بذلك هشاشة الأوضاع وتشتت الأجهزة الأمنية بين احتواء الصراعات القبلية ومواجهة التنظيمات الإرهابية.
رابعًا: الاستراتيجية الأمنية لكينيا
أدى انتشار الميليشيات المسلحة إلى اتجاه الحكومة الكينية عام 2007 لتسوية الأزمة عبر استراتيجيات أمنية متعددة الأهداف والمستويات، تستند إلى الحد من تسلل عناصر حركة الشباب، وتعزيز أوجه التعاون على المستويين الإقليمي والدولي، وتبني مشاريع توعوية تهدف إلى تحصين المجتمع المحلي من الأفكار والنشاطات المتطرفة، ومن ضمن الإجراءات الأمنية التي اتخذتها الحكومة الكينية، كان قرار التدخل العسكري في الصومال عام 2011، ضمن قوات الاتحاد الأفريقي أميصوم، إلى جانب تقديم الدعم لولاية جوبالاند في مواجهة الأنشطة الإرهابية لحركة الشباب، وصرفها عن الحدود مع كينيا.
وبالتوازي مع ذلك شرعت السلطات الكينية في بناء جدار فاصل على الحدود مع الصومال لمنع تسلل مقاتلي الحركة، وبالفعل تم البدء في البناء أبريل (نيسان) 2015، إلا أن المشروع واجه عدة صعوبات عرقلت استكماله كان منها ضعف التمويل، بخلاف الطبيعة الجغرافية الهشة لمكان الجدار، الأمر الذي أدى لفشل استكمال البناء.
على الجانب الآخر شرع البرلمان الكيني بتعديل بعض القوانين المرتبطة بالأمن كالقانون رقم (19) لعام 2014، الذي يسمح بمقتضاه أن تحتجز الشرطة الكينية أي مشتبه فيه بممارسة أنشطة إرهابية لمدة عام، وبموجب القانون يحق للسلطات الأمنية مراقبة الهواتف إلى جانب التشديد على أعداد اللاجئين المسموح لهم بالإقامة داخل كينيا[11].
وفي سبتمبر (أيلول) 2016 قامت نيروبي بإطلاق استراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب، تستند إلى جمع الموارد الخاصة بالحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، وتكريسها جميعًا لدعم الأجهزة الأمنية والعسكرية لتطويق التنظيمات الإرهابية، كما سمحت الاستراتيجية الجديدة بمنح الأجهزة الأمنية للأقاليم المختلفة كلامو وكوالي وممباسا بوضع الاستراتيجيات الأمنية الخاصة بهم، والتي تتواءم مع طبيعة الأوضاع الأمنية، وفي مارس (آذار) 2017 تم تشكيل لجنة لقيادة جهود مكافحة الإرهاب، ويتم بمقتضاها وضع تدابير وقائية لمنع عرقلة جهود مكافحة الإرهاب، كما تم التنسيق بين الأجهزة الأمنية ووزارة التربية والتعليم، وفقًا لبروتكول يتم خلاله وضع مناهج وبرامج دراسية تستهدف نشر الوعي والأفكار الدينية المعتدلة[12].
وعلى الصعيد الدولي شاركت كينيا في العديد من المؤتمرات والمحافل الدولية لطرح خطورة الأوضاع الأمنية، ومحاولة الوصول لآليات للمواجهة، ففي 2014 كانت كينيا من أبرز المشاركين ضمن مبادرة الحوكمة الأمنية التي وضعتها واشنطن، والتي تركز بالأساس على دعم وتطوير الأجهزة الأمنية، فيما أفادت تقارير خاصة بحصول نيروبي في يوليو (تموز) 2015 على دعم أميركي بقيمة (100) مليون دولار لمواجهة أنشطة حركة الشباب، كما وقعت نيروبي على اتفاقيات تعاون عسكري مع بريطانيا، تقضي بإنشاء مرفق تدريب عسكري إقليمي للتخلص من العبوات الناسفة، والعمل على تدريب (1000) من ضباط الجيش الكيني على الطرق الجديدة لمواجهة العناصر المسلحة[13].
وبرغم التحركات الكينية الأمنية فإن النتائج الميدانية كانت محدودة، يستدل على ذلك من استمرار الأنشطة الإرهابية للتنظيمات داخل العمق الكيني، وهو ما يرجع لعدة أسباب يمكن إبرازها على النحو التالي:
- ضعف الاندماج الوطني: يمثل التكوين السكاني عقبة أمام مهمة مكافحة الإرهاب، وهو ما يرجع بالأساس لفشل الإدارات المتعاقبة في إدارة التنوع القبلي، فأصبحت الجهود الأمنية مشتتة بين مكافحة الإرهاب، واحتواء الصدامات القبلية والانقسامات الداخلية، ويتطلب حل تلك المعضلة العمل على عدة أبعاد؛ لعل أبرزها وضع تشريعات ونصوص دستورية تضمن تكافؤ الفرص لمكونات المجتمع الكيني، والعمل على حل المشكلات الاقتصادية وما يتعلق بها من أزمات، كالبطالة وارتفاع معدلات الفقر وانتشار الفساد في مؤسسات الدولة، ناهيك عن ضرورة التوجه نحو وضع خطط تنموية متعددة المستويات تشمل كل أقاليم الدولة.
- الطبيعة الجغرافية للإقليم الشرقي: يتمتع الإقليم بحدود مفتوحة سهلة الاختراق، ويظهر ذلك جليًا في الحدود الكينية- الصومالية، الأمر الذي يسهل من إمكانية توسع التنظيمات الإرهابية وانتقالها بسهولة خاصة مع ضعف الأمن الحدودي، وعجز قوات الأمن عن دحر العناصر الإرهابية المتسللة، الأمر الذي يعني أن استمرار التوترات الأمنية داخل الصومال سينعكس بشكل مباشر على الداخل الكيني.
- مرونة التنظيمات الإرهابية: حيث تتمتع التنظيمات بديناميكية أكثر مرونة تمكنها من التكيف والتأقلم على المستجدات، الأمر الذي ساعدها في مهمة استقطاب العديد من القبائل المحلية مستغلين صداماتهم مع الأنظمة الحاكمة، والتمركز في البيئة الرخوة المدججة بالصراعات، وتحويلها لبؤرة تجنيد، حيث أفادت تقارير بأن نحو (75%) من المنضمين للجماعات الراديكالية في شرق أفريقيا لا يمتلكون دوافع أيديولوجية، لكن انضمامهم كان بدوافع معيشية عبر ترغيبهم بالأموال والمتطلبات اليومية البسيطة؛ ظنًا منهم أن تنظيمات كداعش والقاعدة بمثابة أحزاب راديكالية وجماعات معارضة لنهج الحكومات.
- تفاهمات بين داعش والقاعدة: برغم حالة التنافس الواسع بين تنظيمي القاعدة وداعش في القارة الأفريقية، فإن ذلك لا يمنع وجود تفاهمات سرية بين الطرفين؛ بغية استمرار تمركزهما بالدول الأفريقية. يستدل على ذلك من عدد من الوثائق والمعلومات التي أكدت لقاء عناصر قيادية من التنظيميين، منها اللقاء الذي جمع أبا عبدالرحمن المغربي (الرجل الثاني في جماعة نصرة الإسلام والمسلمين) قبل مقتله على يد القوات الفرنسية، وأبا وليد الصحراوي (أمير تنظيم الدولة الإسلامية بالصحراء الكبرى) عام 2018[14]، حيث حاول الطرفان الاستفادة من خبرات كل منهما، والجمع بين القوة العسكرية لتنظيم داعش وقدراته على الاستقطاب والتجنيد، مقابل الاستفادة من القدرات الفكرية والتنظيرية للقاعدة باعتبارها التنظيم الأم، وبرغم فشل التوصل لتعاون أكيد فإن لقاءات كهذه تعكس تطورًا في أيديولوجيات التنظيمات الإرهابية بالمنطقة.
- الارتباك الإقليمي والدولي: برغم الدور البيّن للاتحاد الأفريقي والمنظمات الإقليمية والقوى الدولية في صوغ الاستراتيجيات الأمنية، فإن فاعلية تلك الأطراف شابها قدر من الارتباك، فمن جانب نشبت العديد من الخلافات بين الاتحاد الأفريقي وبعض التحالفات، كما حدث مع مجموعة العمل متعدد الجنسيات لمكافحة بوكو حرام، من جهة أخرى تأتي معضلة ميزانية الاتحاد الأفريقي كعقبة أمام جهود مكافحة الإرهاب، حيث لم تفِ (40%) من الدول الأفريقية بالتزاماتها، من جهة أخرى فإن مشاركة الولايات المتحدة والدول الأوروبية ضمن جهود مكافحة الإرهاب لم تُبنَ على أسس موضوعية وممنهجة، الأمر الذي أدى لانسحابات عسكرية متوالية وتغير جهات المكافحة، ناهيك عن تأثر التمويل الخارجي للدول الأفريقية بانتشار فيروس كورونا، مما أثر بالسلب على قدرات الدول الأفريقية في استيفاء احتياجات المواطنين من جهة، وضعف القدرات العسكرية لمواجهة الجماعات المسلحة من جهة أخرى، مما أتاح المجال لانتشار وتصاعد التنظيمات الإرهابية.
مجمل القول، إن مهمة مواجهة التنظيمات الإرهابية في الدول الأفريقية عامة، وكينيا على وجه الخصوص تظل مرتهنة أولًا بحل معضلة الصدامات القبلية، لا سيما وأن تلك الاضطرابات تعتبر المدخل الرئيس لتغلغل التنظيمات وتصاعدها مستغلة مظلومية المواطنين، وافتقارهم للاحتياجات المعيشية البسيطة، يمكن الحديث بعد ذلك عن الأبعاد الأخرى للمواجهة كضبط الأمن الحدودي، وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي، ولكن كل ما سبق لا قيمة له طالما الصراعات القبلية ستظل مستمرة.
[1]– أحمد عسكر، الصراعات القَبَلِيَّة وأثرها على التحول الديمقراطي وطبيعة النُّظُم السياسية في أفريقيا.. كينيا نموذجًا، قراءات أفريقية، 27أغسطس (آب) 2018، متاح على الرابط: https://cutt.us/zsF9J
[2] Kenya: The Danger of Election-Related Violence, world view stratfor,9/11/2012, available at: https://cutt.us/Km7pl
[3]– REBECCA SIMSON ,ETHNIC (IN)EQUALITY IN THE PUBLIC SERVICES OF KENYA AND UGANDA, available at: http://eprints.lse.ac.uk/100748/3/Ethnicity_and_public_employment.pdf
[4]– Kenya: Debt Sustainability Analysis; IMF Country Report No. 21/72; Marc,19/3/2021, available at: https://www.imf.org/-/media/Files/DSA/external/pubs/ft/dsa/pdf/2021/dsacr2172.ashx
[5]– Conflict analysis of Kenya,GSDRC,May 2015, available at: https://gsdrc.org/publications/conflict-analysis-of-kenya/
[6]– أحمد عسكر، مرجع سابق.
[7]– StefanDercon Roxana Gutiérrez-Romero,Triggers and Characteristics of the 2007 Kenyan Electoral Violence, Oxford: Centre for the Study of African Economies, paper , April 2012,p.6
[8]– Kenya: Extremism and Terrorism, counter extremism project, available at: https://www.counterextremism.com/countries/kenya-extremism-and-terrorism
[9]– IDIM
[10]– إصابة ثلاثة من ضباط الشرطة الكينية في هجوم لحركة الشباب، الصومال الجديد، 27 يوليو (تموز) 2022، متاح على: https://cutt.us/j2I8C
[11]– Kenya: The Security Laws (Amendment) Act must be repealed , FIDH,19/12/2014, available at: https://cutt.us/Xzaf9
[12]– Kenya Unveils New Strategy for Tackling Terror, REF world,30/9/2016, available at: https://cutt.us/fTMRy
[13]– محمد الدابولي، ما بين جماعات إثنية وصراع قبلي.. قراءة في الإجراءات الكينية لمواجهة الإرهاب، موقع المرجع للدراسات، 5 ديسمبر (كانون الأول) 2018، متاح على: https://www.almarjie-paris.com/5447
[14]– مخاطرة إنقاذ الساحل الأفريقي من الإرهاب بتحفيز الصراع بين القاعدة وداعش، مركز روابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 30 مارس (آذار) 2020، متاح على: https://cutt.us/aT84g