يلحظ المتابع لوسائل الإعلام الصينية بروز توجهٍ جديد لدى بكين يرتكز على تأكيد حق الصين في مد نفوذها على الساحة الدولية، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، هذا بالإضافة طبعاً لمنطقة جنوب شرق آسيا، والتي لربما اعتبرتها الصين كما لو كانت حديقتها الخلفية.. ومن ذلك مثلاً ما تكشفه مقالة “شين ويهوا” التي نشرتها أخيراً صحيفة تشاينا ديلي (إحدى أهم الصحف الناطقة بلسان الحكومة الصينية)؛ حيث عدد الكاتب في المقالة الأسباب التي تجعل الصين جديرة ببسط المزيد من النفوذ، اعتمادا على أنها: موطن لخُمس سكان الكرة الأرضية، وثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر كيان تجاري وواحدة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.
كما أشار إلى الإسهامات التي تقدمها الصين في إطار بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، ودورها في تنشيط وتحفيز الاقتصاد العالمي،، وإسهاماتها في إنشاء وتطوير البنية التحتية في العديد من بلدان العالم، وإنشائها لبنك الاستثمارات الآسيوي، وإطلاقها مبادرة الحزام والطريق المعروفة باسم طريق الحرير الجديد.
وحين اندلعت الاحتجاجات الإيرانية أخيرا استغلت بكين هذه الفرصة لشن هجوم صريح على واشنطن، مشيرة إلى أن الدور الأمريكي على الساحة الدولية لم يعد له ذلك التأثير الكبير كما كان الحال في الماضي.
ويروج عدد من الباحثين الإنجليز والصينيين -على السواء- الاعتقاد بأن عددا من التوجهات والقرارات التي اتخذها البيت الأبيض أخيرا، قد أسهمت في تشجيع الصين على إعلان أحقيتها في القيام بدور أكبر على الساحة الدولية. ومن أمثلة ذلك قرار الرئيس ترمب بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس لعام 2015 بشأن تغير المناخ، والانحياز لجانب إسرائيل فيما يتعلق بوضع القدس.
استشراف دور الصين في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي
ولعل قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، كان التحرك الأوضح الذي فتح الطريق أمام بكين لمراجعة دورها في إطار مساعي تسوية القضية الفلسطينية، في الوقت الذي رأى البعض أن قرار الرئيس الأمريكي قوض إمكانات تسوية الأزمة الفلسطينية- الإسرائيلية، القائمة على حل الدولتين وفقا لحدود عام 1967.
كما أن قرار البيت الأبيض زعزع الدور الأمريكي كوسيط نزيه في الأزمة في نظر الفلسطينيين والكثير من الدول العربية، بل ولدى الحلفاء الأوروبيين للولايات المتحدة. وليس من المستبعد –إذن- أن يفكر الاتحاد الأوروبي في تعزيز التنسيق مع بكين في إطار المساعي للوصول لتسوية لهذا النزاع. على الرغم من التباينات الكبيرة بين بكين ولندن في كثير من الملفات ذات الاهتمام المشترك.
وقد بات من الواضح أنه من الصعب تجاهل أهمية الدور المتزايد الذي تلعبه بكين في منطقة الشرق الأوسط. كما أن مشاركة هذه القوة الشرق آسيوية من شأنه ضخ حياة جديدة في اللجنة الرباعية المترنحة، وإنعاش المفاوضات بين القيادات الفلسطينية والإسرائيلية، والتي دخلت في طور الجمود منذ عام 2014، على الرغم من وجاهة الرأي القائل بأن قرار الرئيس الأمريكي الأخير بشأن القدس، وتأجيله الحديث عن حدودها، لربما يكون هو الآخر، بمثابة إلقاء حجر في المياه الراكدة، وسبباً حقيقياً للدفع بعملية السلام، ما لم يفوت الفلسطينيون والإسرائيليون -على السواء- الفرصة مجدداً.
ومثلما هو الحال مع الاتحاد الأوروبي، فإن لدى الصين مصلحة في عدم تدهور الأوضاع في الشرق الأوسط، نظراً للأهمية المتزايدة التي تمثلها المنطقة بالنسبة لخطط بكين الاستراتيجية السياسية والاقتصادية، وهو ما أوضحه وزير الخارجية الصيني “وانج يي” في كلمته التي ألقاها في منتدى ثقافي حضره العديد من الدبلوماسيين والعلماء في بكين يوم 9 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، حيث حث جميع الأطراف المعنية في الأزمة الإسرائيلية- الفلسطينية على “ضبط النفس وتجنب خلق اضطرابات جديدة في منطقة مثقلة بالتحديات”.
وفي حال انضمت الصين إلى اللجنة الرباعية، فإن ذلك من شأنه تعزيز الدور الدبلوماسي لبكين في المنطقة. لا سيما وأن مشاركة الصين في شؤون الشرق الأوسط كانت آخذة في التزايد، تماشياً مع صعودها كقوة دولية. كما أن الصين ضخت استثمارات هائلة لمد المعابر وإنشاء ممرات اقتصادية برية وبحرية تربطها بالعديد من الكيانات الاقتصادية حول العالم، في إطار مبادرة الحزام والطريق المعروفة باسم طريق الحرير الجديد. وهذه المبادرة الصينية التي تم الإعلان عنها من جانب الرئيس الصيني عام 2013 ستمر بالشرق الأوسط، مما يجعل استمرار النزاعات والقلاقل بالمنطقة بمثابة التهديد الدائم لخطط بكين المتعلقة بتوسيع نشاطها التجاري الدولي.
وكما هو الحال مع غيرها من الأزمات في المنطقة، تعتقد الصين أنه ينبغي تسوية النزاع بين فلسطين وإسرائيل من خلال الحوار والمفاوضات وفقا لقرارات الأمم المتحدة. وتعتقد بكين أيضا أن أي حل سياسي لمشاكل الشرق الأوسط، ينبغي أن تصاحبه جهود موازية لتحسين الأحوال الاقتصادية والأوضاع المعيشية.
مقترحات الصين لحل الخلافات في الشرق الأوسط لم تسفر عن نتائج ملموسة حتى الآن. هذا على الرغم من علاقات بكين الطيبة مع العديد من الأطراف المتنازعة، لا سيما إسرائيل، التي تربطها بها علاقات تجارية واستثمارية كبيرة؛ إذ تعد الصين أكبر شريك تجاري لإسرائيل بعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
وقد تم اختيار شركة صينية لبناء ميناء أشدود الإسرائيلي عام 2014، في حين ستتولى شركة صينية أخرى تشغيل ميناء حيفا لمدة (25) عاما بدءا من عام 2021. من ناحية أخرى، فإن التمويلات الصينية ستسهم أيضا في بناء نظام السكك الحديدية الخفيفة في قلب تل أبيب.
وماذا عن دور الصين في الصراع العربي- الإيراني؟
لا تريد الصين في الواقع أي نزاع عربي- إيراني في المنطقة، ذلك أن استمرار تصاعد التوترات ينعكس سلباً على مستقبل مبادرة الحزام والطريق الصينية، وبالتالي يمس بشكل مباشر المصالح الاقتصادية الصينية الاستراتيجية.
تربط الصين علاقة ممتازة بأطراف النزاع، وخصوصاً الرياض وطهران، وتعتقد بكين أن توظيفها لقواها الناعمة، ودبلوماسيتها الاقتصادية، والتركيز على المصالح والمنافع الاقتصادية المشتركة بين طهران والرياض، قد تسهم بشكل كبير في تدوير الزوايا الحادة. بيد أن هذه الرؤية الصينية تظل بعيدة جداً عن الواقع، وتكشف بشكل جلي رؤية بكين غير المتعمقة لأبعاد الصراع.
لذا؛ فمن المهم جداً في هذه المرحلة، المسارعة إلى إطلاع الصين على أبعاد هذا النزاع، وخطورته، وتهديده للأمن والسلم الدوليين، وكشف حقيقة النظام الرجعي الراديكالي في طهران، وتبيان ممارساته وخططه وطموحاته العقائدية العدائية منذ نشأته عام ١٩٧٩ إلى اليوم، وإيضاح علاقاته المباشرة بالتنظيمات الإرهابية السنية والشيعية على السواء، ومن ذلك دعمه المباشر لتنظيم القاعدة، وطالبان، وعلاقات طالبان بالتنظيمات الإرهابية في إقليم السنجان الصيني، وأن نظام الملالي ما فتئ يمارس تدخلات مباشرة في الشؤون الداخلية للدول العربية، ويزرع خلايا تجسسية هنا، وميليشيات طائفية هناك، بالإضافة إلى ما يعانيه الشعب الإيراني المستضعف، من قمع وتنكيل، وهدر لأمواله في سبيل دعم التنظيمات الإرهابية، وأن النظام الإيراني بسياساته الحالية لم يخلق فقط نزاعات وصراعات خارجية مع جواره العربي فحسب، بل وخلق صراعات حقيقية في الداخل الإيراني مع الشعوب الإيرانية ذاتها، على اختلاف إثنياتها، وأن المصالح الصينية الكبيرة في إيران والمنطقة بشكل عام تحتم عليها التعامل بجدية تجاه وضع حد لهذا العبث، الذي يهدد بشكل مباشر مصالح الصين في المنطقة.
وحتى هذه اللحظة لم تشتبك بكين على نحو عميق مع تعقيدات الأوضاع في الشرق الأوسط، إذ لا تزال سياساتها تجاه المنطقة في طور التكوين، ولكن استمرار التعاون مع الدول العربية الرئيسة الفاعلة في المنطقة، ومع الاتحاد الأوروبي، وغيره من الدول المعنية، قد يساعد الحكومة الصينية على شحذ وتعزيز عتادها وأدواتها الدبلوماسية في هذه المرحلة الانتقالية.