ثمة نظام عالمي بات في طور التشكل، ولعل جائحة الفيروس التاجي “كورونا” دفعت باتجاه الإسراع في هيكلة هذا النظام الذي سيتحدد على إثره المنظومة الاقتصادية والسياسية في النظام الدولي لعقود قادمة. وعلى غرار سقوط جدار برلين أو انهيار بنك “ليمان براذرز”، يبدو أن فيروس “كوفيد- 19” (COVID-19) سيساهم في تقويض ركائز ومعتقدات النظام الدولي الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبالتالي، فكما أدى هذا الفيروس التاجي إلى عرقلة عجلة الحياة، وتعطيل الأسواق، واختبار لكفاءة الحكومات، فإنه سيؤدي إلى تحولات تدريجية في القوة السياسية والاقتصادية بطرق سوف تنجلي في أعقاب انكماش هذه الجائحة. تسعى هذه الورقة لطرح توقعات حول طبيعة النظام العالمي لمرحلة ما بعد الجائحة.
خلخلة مرتكزات العولمة الغربية
يبدو أن الإجراءات الطارئة التي لجأت إلى تبنيها الحكومات المختلفة عبر دول العالم لإدارة أزمة فيروس كورونا المستجد ساهمت “نسبياً” في خلخلة أواصر الصورة النمطية للعولمة الغربية، مع تحول تدريجي للنفوذ من الغرب باتجاه الشرق، في ظل استجابة أكثر كفاءة من قبل حكومات كوريا الجنوبية وسنغافورة، مع تدارك سريع من قبل الصين لأخطائها المبكرة في التعامل مع انتشار الفيروس، وانتهاج سياسات صارمة مكنتها من استيعاب الفيروس. في المقابل، اتسمت الاستجابة الغربية في أوروبا والولايات المتحدة بالبطء والعشوائية، مما زاد من تشويه هالة “الهيمنة” الغربية. وعلى الرغم من ذلك، يجب عدم التهويل في الطرح الخاص بسقوط نمط العولمة الغربية السائدة، فالطبيعة التنافسية للسياسة العالمية لا تزال قائمة، ولم تنهِ الأوبئة السابقة التنافس بين القوى العظمى، ولم تكن أبدا مدخلا لمرحلة جديدة من التعاون العالمي[1].
لكنْ، ثمة تراجعٌ مرجحٌ ستواجهه العولمة الغربية الراهنة، مع تطلع المواطنون إلى الحكومات المحلية لحمايتهم، بينما تسعى الدول للحد من التأثيرات الخارجية، بالتالي سيخلق (COVID-19) عالمًا أقل انفتاحًا وأقل ازدهارًا وأقل حرية[2].
غربياً، ربما ستعزز الأزمة الراهنة موقف القوميون ومناهضي العولمة، باعتبار أن هذا التأثير العالمي للفيروس التاجي يمثل أدلة جديدة تدعم وجهات نظرهم، كما هو الحال في ثلاثينيات القرن الماضي، والأفكار التي تبناها فرانكلين روزفلت، والتي جعلت الولايات المتحدة أقل تهديداً من القوى العظمى الأخرى خلال الحرب العالمية الثانية[3].
مثلت صورة الولايات المتحدة الدولية -كـ”نموذج” قائد للنظام الدولي في الأزمات المختلفة- أحد أهم مصادر قوتها وتفردها، والتي يبدو أنها بدأت في التراجع، وانعكس ذلك من خلال التعامل مع جائحة الفيروس التاجي، حيث جاءت استجابة الإدارة الأمريكية متأخرة وتتسم بالارتباك، وهو ما قد يكبد الدولة الأمريكية تريليونات الدولارات وآلاف الوفيات، بيد أن الخسارة الأكبر التي ستتحملها واشنطن تتمثل في التخبط في إدارة الأزمة، وعدم تجاوز المنافسات الحزبية للتركيز على تفادي الخسائر، وهو ما انعكس في تشويه صورة الولايات المتحدة كدولة قائد في الأزمات الدولية[4].
ولأكثر من قرن، استند النفوذ الأمريكية على ثلاث ركائز رئيسة، تتمثل الأولى في الجمع بين القوة الاقتصادية والعسكرية، حيث تمكنت واشنطن من امتلاك أكبر اقتصاد في العالم، فضلاً عن أفضل جامعات ومراكز بحثية، وتم تعزيز ذلك بإنشاء قوات عسكرية لم تتمكن أي دولة أن تضاهيها. ثانياً: وجود مجموعة من الحلفاء الداعمين لها، وعلى الرغم من أن واشنطن لطالما كانت تتصرف وفقاً لمصالحها الخاصة، فإن حقيقة وجود مصالح مماثلة لحلفائها جعلت من السهل إقناعهم بسياساتها. أما الركيزة الثالثة: فتتمثل في الثقة في الكفاءة الأمريكية، من خلال اعتراف الأطراف الدولية المختلفة بقوة الولايات المتحدة وحنكتها في إدارة الملفات الدولية المختلفة، وهو ما أدى إلى اتباع هؤلاء الأطراف للقيادة الأمريكية، خاصة بعد دورها في الحرب العالمية الثانية، ودورها في إعادة إعمار حلفائها الأوروبيين، الأمر الذي جعل العالم ينظر للولايات المتحدة باعتبارها النموذج الوحيد القابل للتطبيق لعالم يزداد عولمة.
تبنت الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة العديد من السياسات التي بددت كثيراً من الصورة النمطية للقطب الأمريكي الأوحد وكفاءته في إدارة الأزمات، لعل آخرها يتعلق بأزمة فيروس (COVID-19) لذا فتأثير الولايات المتحدة العالمي سيستمر في التراجع، ليس فقط لأنها اختارت عمداً فك الارتباط، ولكن لأن الصورة الذهنية عن النموذج الأمريكي بدأت تتلاشي. ولعل إعلان ألمانيا استنكارها محاولة الولايات المتحدة استقطاب عدد من العلماء الألمان لإنتاج لقاح لعلاج فيروس كورونا تحتكره واشنطن، عكس مزيداً من التراجع الأمريكي ومحاولته في التصدي للأزمة العالمية “ظاهريا” للحيلولة دون سقوط طرح القيادة الأمريكية للنظام الدولي.
اختبار لتصدعات الاتحاد الأوروبي
باتت القارة الأوروبية البؤرة الأكبر لتفشي الفيروس التاجي بعدما تمكنت الصين من احتوائه، وكشفت جائحة كورونا مدى الضعف القائم في مبدأ “التضامن” الذي يشكل أساس الاتحاد الأوروبي، حيث ما زالت مؤسسات الاتحاد غير قادرة على احتواء تفشي الفيروس مع تبني سياسات منفردة من قبل دول الاتحاد.
وفي تقريرها، وجهت صحيفة “لاريبابليكا” الإيطالية اتهامات لدولة التشيك لمصادرتها مئات الآلاف من المعدات الوقاية الطبية وأجهزة التنفس، في شحنة كانت الصين قد أرسلتها لمساعدة إيطاليا لمواجهة تفشي فيروس كورونا، وهو ما أثار العديد من التساؤلات حو موضوع التضامن الأوروبي “المفترض” ومدى هشاشته[5].
إن غالبية الدول الأوروبية تعاني من نقص في الأدوات الطبية، من كمامات، وسترات واقية، وأجهزة التنفس. وعلى الرغم من الوضع المستفحل الذي تعاني منه إيطاليا في الوقت الراهن جراء الانتشار السريع للفيروس، فإنها لا تحظى بأي دعم أوروبي، خاصة من قبل الدول الكبرى “القائدة” للاتحاد، مثل ألمانيا التي منعت تصدير المعدات الطبية التي تستخدم في مكافحة فيروس كورونا.
وفي تقريرها، أشارت وكالة “بلومبرغ” إلى أن ألمانيا صادرت شحنة تتضمن أكثر من (800) ألف قناع بالإضافة لغيرها من المستلزمات الطبية التي كانت في طريقها إلى إيطاليا. ومن ناحية أخرى، أعلنت سويسرا والنمسا عن غضبهما من الموقف الألماني الخاص بوقف تصدير الشحنات الخاصة بالمستلزمات الطبية اللازمة لمكافحة الفيروس[6]. في المقابل، أعلنت روسيا إرسال (9) طائرات محملة بالمساعدات و(100) أخصائي في علم الأوبئة لمكافحة كورونا في إيطاليا، كما وصل فريق من الأطباء الكوبيين لتقديم يد العون للطواقم الطبية الإيطالية[7].
عكست سياسات دول الاتحاد الأوروبي خلال الأزمة الراهنة لفيروس كورونا مدى هشاشة التضامن الأوروبي، وهو ما أكده أيضاً رئيس صربيا “أكسندر فوتشيتش”، الذي قارن في خطاب “حاد” بين عدم تقديم دول الاتحاد الأوربوبي لأي مساعدات لبيلغراد، مقارنة بالمساعدات الصينية التي أرسلت مئات الآلاف من المستلزمات الطبية لدول آسيا وأوروبا، مقابل تقاعس الاتحاد الأوروبي عن تقديم المساعدة لدوله.
خطاب “فوتشيتش” نقطة فاصلة في تاريخ الجمهورية اليوغوسلافية السابقة، على ضوء أنه يتزعم التيار المؤيد لفكرة صربيا الأوروبية، والتوجه إلى الوحدة الأوروبية بدلاً من فكرة “صربيا اليوغوسلافية” و”صربيا البلقان” التي ترى في الصرب أمة سلافية، إما أن تأخذ موقفًا حياديًا بين روسيا وأوروبا، أو الانضمام إلى الفلك الروسي السياسي.
ثمة نقطة فاصلة في تاريخ الجمهورية اليوغسلافية السابقة تمخّض عنها خطاب “فوتشيتش”، فالأخير، الذي يترأس الحزب التقدمي الصربي، يتزعم التيار الداعم لفكرة الانضمام للاتحاد الأوروبي، في مقابل التيار المنافس الذي يدعم طرح “صربيا اليوغسلافية أو البلقان”، وبالتالي فالتيار الأخير يتبني ضرورة أن تتخذ صربيا موقفا حيادياً بين روسيا والغرب، أو التقارب مع موسكو. وقد كان حزب “فوتشيتش” الحاكم في بلجراد يرى أملًا في الاقتصاد النيوليبرالي، والتوجه إلى القارة الأوروبية، بيد أن سياسات الاتحاد الأوروبي الأخيرة وتعاملها مع أزمة فيروس كورونا، دفعت دوائر الحزب عبر منابره الإعلامية والصحفية إلى مهاجمة الاتحاد الأوروبي ونظم الاقتصاد الغربية[8].
يُعد قطاع الصحة في الاتحاد الأوروبي من ضمن المجالات التي تخضع لسلطات دوله، وعلى الرغم من عدم وجود سياسات مشتركة لدول الاتحاد في هذا المجال، فإنه من مسؤوليات المفوضية الأوروبية التنسيق بين دول الاتحاد لتبني سياسات تكاملية.
بعد تصاعد الأحزاب الشعبوية في القارة الأوروبية وتبني نهج الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعد خروج بريطانيا رسمياً مطلع العام الجاري، يبدو أن جائحة كورونا جاءت لتزيد تفتيت أواصر الاتحاد، وتعزز من الاتجاه الذي لم يعد يرى أي شكل من أشكال التضامن بين دول الاتحاد، يمكن أن تبرر استمرارية الوحدة. وربما يزداد الأمر تعقيداً حال استمرت وتيرة التصاعد في أعداد المصابين في القارة الأوروبية، في ظل نقص حاد تعاني منه الدول الأوروبية في المستلزمات الطبية، مع صعوبة في استيرادها من الولايات المتحدة، التي باتت هي الأخرى تعاني من نقص المستلزمات، بل اضطرت لتحويل شركات صناعة سيارات وشركات أخرى من أجل إنتاج المستلزمات الطبية لمحاولة استيعاب تفشي الفيروس[9].
أخيراً، ثمة أزمات عديدة سابقة كانت قد أحدثت تصدعات في هيكل الاتحاد الأوروبي، لعل أولاها كانت الأزمة المالية العالمية في 2008، تلاها عجز الاتحاد عن مساعدة أوكرانيا في مواجهة روسيا، أما عن التصدع الأبرز فقد نشب عقب تدفق اللاجئين على الدول الأوروبية، واختلاف قادة دول الاتحاد في التعامل مع الأزمة، والذي امتد لطرح مقترح بتجميد اتفاقية “شينجن” لمدة عامين كإجراء مؤقت، كما قامت المجر بإغلاق معابرها مع كرواتيا، وتبعتها السويد التي أعلنت إغلاق الجسر الذي يربط بين السويد والدنمارك[10].
حاصل القول: ثمة شقوق متناثرة أبرزت الهشاشة السياسية التي تعاني منها بيروقراطية الاتحاد الأوروبي، بالتالي فمعضلة الاتحاد الأوروبي لا يمكن ربطها فقط بأزمة الكورونا، فهي لم تعد كونها مجرد اختبار حقيقي لمفهوم التكامل الأوروبي، لذا فقد أظهرت التصدعات القديمة التي تم تجاوزها سابقا.
ملامح الأمن الاقتصادي العالمي
يبدو أن البعد الاقتصادي من هذه العولمة هو الأكثر تأثراً بالفيروس التاجي الجديد، فقد ظلت القوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية للصين مصدراً للتهديد المستمر لهيمنة الولايات المتحدة، مع سعي واشنطن لفصل بكين عن التكنولوجيا العالية والملكية الفكرية الأمريكية، ومحاولة إجبار حلفائها على أن تحذو حذوها. في المقابل، ومع الضغط العام والسياسي المتزايد لتحقيق أهداف خفض انبعاثات الكربون، يبدو أن فيروس(COVID-19) سيجبر الحكومات والشركات والمجتمعات على تعزيز قدرتها على التعامل مع فترات طويلة من العزلة الاقتصادية الذاتية، فقد بات من غير المحتمل أن يعود العالم إلى طرح “العولمة الغربية” التي تمت صياغتها في أوائل القرن الحادي والعشرين، كما يرجح أن تشهد بنية الحوكمة الاقتصادية العالمية التي تم إنشاؤها في القرن العشرين تدهورا متسارعا، وهو ما يتطلب انضباطًا هائلاً للقادة السياسيين للحفاظ على التعاون الدولي، وعدم التراجع إلى المنافسة الجيوسياسية العلنية، ومحاولة إثبات قدرتهم على إدارة الأزمة أمام شعبوهم[11].
حذرت منظمة العمل الدولية من التداعيات المحتملة لانتشار فيروس كورونا على سوق العمل. وفي تقريرها، رجحت الأمم المتحدة أن أزمة الفيروس التاجي ستخلف وراءها زيادة كبيرة في معدلات البطالة العالمية، حيث ستترك الجائحة (25) مليون شخص دون وظائف. فضلاً عن خسائر في الأسواق المالية العالمية تقدر بـ(6) تريليونات دولار، وهو ما من شأنه إعادة إفراز خريطة جديدة من موازين القوى الاقتصادية. فقد توقعت دراسة صادرة عن الجامعة الوطنية الأسترالية أن ثمة خطراً اقتصادياً محدقا سوف يضرب الولايات المتحدة، مشيراً إلى التكلفة المحتملة من الناحية البشرية والمالية، فقد أشارت الدراسة إلى أن التكلفة المتوقعة للمال المهدر قد تصل إلى (1.7) تريليون دولار في 2020، فضلاً عن الخسائر الفادحة في الأسهم الأمريكية، بجانب تضرر إنتاج النفط الصخري الأمريكي جراء الانخفاض الحاد في أسعار النفط، الأمر الذي سيزيد من فرص الركود المتوقع، مما يرفع مستوى الإنفاق على الديون الأمريكية التي بلغت (23) تريليون دولار، ما يعادل (107%) من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة[12].
تبقى دول الاتحاد الأوروبي من أكبر المتضررين من استمرارية انتشار جائحة كورونا، إذ باتت الخسائر المتعاقبة للأسواق الأوروبية محدداً جديداً يضرب في أوصال دول الاتحاد ويهدد استمراريته، خاصة في ظل السياسات الفردية التي تتبناها دول الاتحاد دون تنسيق فيما بينها، مع تركيز الدول الكبرى على محاولة تقليل حجم الخسائر القومية، بعيداً عن طرح نجاة الاتحاد ككل من هذه الأزمة.
كذلك، لم تستطع الصين أن تتفادى الأضرار الاقتصادية الهائلة، حيث تشير التقديرات إلى أن قيمة الخسائر التي تكبدها الاقتصاد الصيني خلال الربع الأول من عام 2020 تبلغ حوالي (143) مليار دولار، وتزداد تداعيات ذلك كون الاقتصاد الصيني يمثل (16%) من حجم الاقتصاد العالمي وحوالي (33.4%) من حجم النمو الاقتصادي العالمي.
من ناحية أخرى، كان سعر برميل النفط مع بداية عام 2020 قد بلغ (68) دولاراً للبرميل، ومع بدء أزمة كورونا وقلة طلب الصين واليابان وكوريا الجنوبية للنفط، تراجعت أسعار النفط العالمية بشكل حاد ليصل سعر البرميل إلى (20) دولاراً. الأمر الذي دفع لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا” إلى توقع أن يتراجع الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بما لا يقل عن (42) مليار دولار خلال العام الجاري[13].
حاصل القول: كعادة الأزمات والكوارث الدولية الشاملة تكون تداعياتها على كافة الأطراف الدولية، بيد أن حجم التباين في هذه التداعيات بين قوة دولية وأخرى، مع اختلاف طرق تعاطي هذه الدول مع الآثار السلبية، تبقى المحدد الأبرز في صياغة هيكل النظام الاقتصادي القادم، مع تحديد لموازين القوى إزاء هذا الهيكل الناشئ، وبلورة أشكال العلاقات والتحالفات السائدة.
ملامح النظام الدولي الجديد
في البداية، كان التعاون الأمريكي- الصيني بشأن الاستجابة (COVID-19) واعدًا، مع ارتفاع التوقعات بنهاية الحرب التجارية بين الطرفين، ونهاية الصراع الدولي بينهما من أجل مجابهة العدو المشترك، فقد أبلغت الصين الولايات المتحدة بحالة المرض في وقت مبكر، وتحديدا في (3) يناير (كانون الثاني)، وشاركت التسلسل الجيني للفيروس التاجي الجديد مع واشنطن، مما مكن الولايات المتحدة من تطوير اختبارات تشخيصية للمرض وتطوير لقاح محتمل، كما تحدث رئيسا البلدين عبر الهاتف في 7 فبراير (شباط)، عندما أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن استعداده لإرسال خبراء إلى الصين، وتقديم أشكال أخرى من المساعدة[14].
لكن الإجراءات اللاحقة وأدت طرح التقارب المنشود بين القطبين، ففي نهاية يناير (كانون الثاني) 2020، وقع ترمب على أمر تنفيذي يمنع جميع الرعايا الأجانب الذين كانوا في الصين أخيرًا من دخول الولايات المتحدة، أعقبها تصريحات وزير التجارة الأمريكي ويلبر روس، الذي أشار إلى أن تفشي المرض في الصين سيساعد على تسريع عودة الوظائف إلى الولايات المتحدة.
من جانبها، كانت بكين مستاءة ليس فقط من المسؤولين الحكوميين الأمريكيين، ولكن أيضًا من وسائل الإعلام الأمريكية، فقد نشرت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، في 3 فبراير (شباط)، مقالاً بعنوان “الصين هي رجل آسيا المريض الحقيقي”، وهو ما أثار غضب بكين؛ حيث أعاد الذاكرة التاريخية للصين التي تعرضت للإذلال من قبل القوى الغربية، وهو ما دفع الصين إلى طرد ثلاثة مراسلين من وول ستريت جورنال في بكين، ردا على طرد الولايات المتحدة لـ(60) صحفياً صينياً من الولايات المتحدة. كما صعد ترمب الخلاف الدبلوماسي حول تفشي المرض بالإشارة إلى (COVID-19) على أنه “الفيروس الصيني”، وهو ما سيزيد من حدة المنافسة بين بكين وواشنطن، والتي ستفاقم بنهاية الفيروس الانتقادات لإدارة الرئيس دونالد ترمب وتعاطيه مع ملف الفيروس التاجي، حيث قلل في البداية من حدة الأزمة، مع إصراره على أن (COVID-19) لم يكن أسوأ من الإنفلونزا العادية، ثم أعقبها بتصريحاته بأن نظام الرعاية الصحية الأمريكي كان مستعدًا بشكل جيد لمجابهة الفيروس الجديد. لكن، أشار عدد من التقارير إلى اتهامات أكثر حدة لترمب تتعلق باعتداء الرئيس على هيكل المؤسسات الأمريكية، والذي بدأ قبل ظهور الفيروس التاجي الجديد بفترة طويلة، والذي قوض، وفقاً لهذه التقارير، من قدرة واشنطن على الاستيعاب السريع للفيروس[15].
وإذا كانت ملفات الاقتصاد والسياسة الخارجية، وغيرها من القضايا التي تهم المواطن الأمريكي، تمثل المحدد الأساسي في توجيه الناخب الأمريكي، فإن التساؤل الرئيس للانتخابات القادمة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 سوف تتمحور حول ما إذا استطاع الرئيس الأمريكي حماية الشعب من وباء كورونا من عدمه، كما أنه من المؤكد أن مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة سوف يركز على أخطاء ترمب في ملف كورونا، وفي ضوء التفوق الواضح لشعبية الرئيس الأمريكي على مرشحي الحزب الديمقراطي (ساندرز أو بايدن)، يبدو أن ملف “كورونا” بات قادراً على صناعة انقلاب في المشهد الانتخابي الأمريكي لصالح مرشح الحزب الديمقراطي.
وعلى الجانب الأوروبي، ثمة فرصة باتت سانحة أمام أحزاب اليمين المتطرف للقفز على السلطة واستغلال فشل الحكومات الأوروبية في التعامل مع أزمة كورونا. ففي إيطاليا، تصاعد خلال الفترة الأخيرة نفوذ الحزب اليميني المتطرف وزعيمه “ماتيو سالفيني” على ضوء الغضب الشعبي من الاتحاد الأوروبي، لذا تسعى الحكومة الإيطالية للحيلولة دون الوصول لسيناريو الانتخابات المبكرة في صيف 2020؛ لأنها ستعني نهاية اليسار الإيطالي التقليدي، وصعود اليمين الشعبوي الرافض لاستمرار إيطاليا في الاتحاد الأوروبي، ويتكرر السيناريو نفسه في عدة دول أوروبية لعل أبرزها فرنسا وألمانيا.
نجحت روسيا والصين في استثمار الأزمة من خلال طرح نفسيهما باعتبارهما القائد البديل للنظام الدولي، فقد تم تقديم المساعدات للدول المتأزمة من الفيروس التاجي، بل أرسلت موسكو فرقاً طبية من الجيش الروسي للمساعدة، وهو ما يُعدُّ أوسع انتشار للجيش الروسي في أوروبا الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
أخيراً، لا يتصور أن تلعب جائحة (COVID-19) دوراً فارقاً في تغيير نمط الاتجاهات الاقتصادية العالمية الراهن، بيد أنه من المرجح أن يسهم في تسريع وتيرة التغيير الذي بدأ بالفعل، والذي يتمثل في الانتقال من العولمة التي تتمحور حول الولايات المتحدة، إلى العولمة التي تتمحور حول الصين. ويستند هذا الطرح إلى فقد جزء كبير من الشعب الأمريكي ثقته بالعولمة والتجارة الدولية واتفاقيات التجارة الحرة، على عكس الصين التي لم تفقد إيمانها في ظل مكاسب كبيرة تحققها بكين. يضاف لذلك بعد تاريخي، يتمثل في تجربة الصين لفكرة العزلة الدولية من عام 1842 إلى عام 1949، والتي كان لها نتائج وخيمة على مكانة بكين الدولية، بينما كانت العقود القليلة الماضية من الانتعاش الاقتصادي نتيجة لسياسة الانفتاح العالمية .[16]
[1]STEPHEN M. WALT, The Death of American Competence, Foreign Policy, MARCH 23, 2020, https://bit.ly/3dqq5Dc
[2] JOHN ALLEN and others, How the World Will Look After the Coronavirus Pandemic, Foreign Policy, MARCH 20, 2020, https://bit.ly/2Jc8bWZ
[3] JOHN ALLEN and others, How the World Will Look After the Coronavirus Pandemic, Foreign Policy, MARCH 20, 2020, https://bit.ly/2Jc8bWZ
[4]STEPHEN M. WALT, The Death of American Competence, Foreign Policy, MARCH 23, 2020, https://bit.ly/3dqq5Dc
[5]– أحمد مصطفى، هل يفكك “كورونا” الاتحاد الأوروبي أكثر، اندبندت عربية، 23 مارس (آذار) 2020، https://bit.ly/2Uffeob
[6] Jan Dahinten and Matthias Wabl, Germany Faces Backlash From Neighbors Over Mask Export Ban, March 9, 2020, https://bloom.bg/2QIERvD
[7]– كوبا ترسل فريقا من الأطباء ووصول أول طائرة مساعدات روسية محملة بـ(45) طنا من المواد الطبية، فرانس 24، 23 مارس (آذار) 2020، على الرابط المختصر التالي:
[8]– إيهاب عمر، ما بعد كورونا.. ربيع القوميات، خريف الاتحاد الأوروبي، سقوط العولمة الصينية، أفول النيوليبرالية، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 24 مارس (آذار) 2020، على الرابط المختصر التالي:
[9]– أحمد مصطفى، مرجع سابق.
[10]– هل يشهد عالم ما بعد كورونا تفكك الاتحاد الأوروبي، 22 مارس (آذار) 2020، على الرابط المختصر التالي:
[11] – المرجع السابق.
[12]– دلال محمود، الأمن والكورونا: معادلة صفرية، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 23 مارس (آذار) 2020، على الرابط المختصر التالي:
[13]– حجم خسائر المنطقة العربية بسبب فيروس الكورونا، لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا”، 18 مارس (آذار) 2020، على الرابط المختصر التالي:
[14] Yanzhong Huang, The U.S. and China Could Cooperate to Defeat the Pandemic, Foreign Affairs, March 24, 2020, https://fam.ag/39hlFeK
[15] Daron Acemoglu, The Coronavirus Exposed America’s Authoritarian Turn, Foreign Affairs, March 23, 2020, https://fam.ag/2xkGvMY
[16] Kishore Mahbubani, Has China Won? The Chinese Challenge to American Primacy, Public Affairs (March, 2020)