-1-
جمع الحركات الإسلاموية مع الفاشية في سياق تحليلي واحد ليس جديداً، ولكنه صار لافتاً بسبب تفاقم وتيرة العنف الأصولي وتمدده إلى الغرب من ناحية، ونجاح هذه الحركات كمثيلاتها الفاشية، في الوصول إلى الحكم حتى من خلال آليات ديمقراطية أو تبدو كذلك من ناحية ثانية.
في مطلع الستينيات، وضمن كتابه “سياسات التغيير الاجتماعي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” (The Politics of Social Change in the Middle East and North Africa ) قدم المُنظِّر السياسي الأميركي مانفرد هالبرن (Manfred Halpern) واحدة من المقاربات المبكرة للحركة الإسلاموية، وقف من خلالها على الملامح المشتركة بينها وبين الحركة الفاشية من جهة التركيز على العنف، والشحن العاطفي، وإنكار الحريات الفردية والجماعية، وتصعيد القيم المرتبطة بالماضي، مع كبت أي تحليل نقدي لجذورها التاريخية أو إشكالياتها المعاصرة، والنظر إلى آليات التقدم المادي كوسائل للتوسع السياسي.
في أواخر سبعينيات القرن المنصرم تجادل اليسار الفرنسي حول الثورة الإيرانية والحركات الإسلاموية، التي “صار يُنظر إليها برومانسية كنموذج جديد براق مناهض للغرب” وفيما أبدى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (Michel Foucault) (1926-1984) إعجابه الشديد بحركة الخميني، تنبه المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون (Maxime Rodinson) (1915-2004) لخطر النوازع الفاشية الكامنة في الحركات الإسلاموية، لافتا إلى بنيتها الداخلية التي تحمل “نوعا من الفاشية الماضوية” وتهدف إلى إنشاء دولة شمولية متسلطة، حيث يفرض النظام الأخلاقي والاجتماعي بوحشية من قبل البوليس السياسي، وتفرض القوانين الدينية وفقا لتفسير التيارات الأكثر رجعية”.
في الولايات المتحدة قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، أشار الباحث الأميركي- الإيراني أمير أرجومان إلى تماثلات سياسية واجتماعية واضحة بين الحركات الإسلاموية، والفاشية الأوروبية، واليمين الراديكالي الأميركي، في قوة الدوافع الواحدية، والأخلاقية السياسية المعلنة.
تنبه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (Jürgen Habermas) إلى الجوانب الأكثر جذرية في ظاهرة العنف الأصولي بعد هجمات سبتمبر (أيلول) باعتبارها ظاهرة “دينية” قبل كونها ظاهرة “إسلاموية”: فالأداء الإسلاموي كما كشفت عنه هذه الهجمات “لا ينطوي على مجرد عنف، بل يشير إلى لا عصرية أو عدم انتماء إلى محركات فهم وتصور راهنة. فهو أشبه ما يحكي قصة من التاريخ الغابر نسبة إلى دوافعه، ويلفت إلى شرخ هائل بين الثقافة والمجتمع والزمن.
ما تهدف إليه هذه الورقة هو مناقشة “الشوفينية العنيفة” للحركة الإسلاموية في جذورها الأولية. الفرضية المطروحة للنقاش هنا هي أن: الإفراز الأصولي العنيف هو نتيجة ضرورية مرشحة للتولد بشكل دوري عن نمط التدين التاريخي السائد. وأن التطرف الأصولي إجمالاً هو ظاهرة لا يمكن تفسيرها بمعزل عن المعضلة النظرية الكامنة في بنية الدين كما يطرحها هذا النمط من التدين، وهو النمط الساري في السياق الكتابي منذ التجربة العبرية.
المدونة المرجعية “الفقهنصوصية” ترجع إلى هذا النمط التاريخي من التدين، وقد تأثرت بالطبع، بالمناخات الخشنة للاجتماع السياسي العربي في القرن السابع، وهو ما يضفي على الحركات الإسلاموية سماتها البيئية الخاصة التي تبدو ماضوية وزاعقة.
تلعب المثيرات المعاصرة دورها -بدون شك- في تلوين العنف الإسلاموي بألوان الواقع الاجتماعي والسياسي المأزوم في المحيط العربي الإسلامي، ولكنها لا تفسر نشأته الأصلية وحضوره المتكرر في جميع السياقات التاريخية والجغرافية داخل النسق التوحيدي، مما يلفت إلى الثقافة المشتركة لنظام التدين المدعمة نصياً على مستوى كل ديانة، والتي تعمل على تمديد قابلية للتطرف والعنف مرشحة للتحول إلى حالة “الفعل” استجابة لمثيرات الواقع.
كيف ينطوي الدين التاريخي على قابليات دائمة للتطرف والعنف؟
تاريخياً، كان التدين يؤدي إلى تضخيم مساحة الدين. وهذا يعني أن كتلة من الثقافة التاريخية الخاصة بحقب التأسيس تدخل في صميم الدين المطلق وتكتسب حصانته المقدسة. في الأنساق التوحيدية الثلاثة تستغرق هذه الكتلة المساحة الأكبر من بنية الديانة، وهي بهذا التكوين تنطوي على معضلات هيكلية منها:
1- معضلة التناقض مع قانون التطور: تطرح البنية الدينية مفرداتها التاريخية كجزء من صميم الدين، مما يعني تثبيت معطيات غير قابلة بطبيعتها للتثبيت، الأمر الذي يفضي في لحظة ما إلى صدام مع حركة الاجتماع، بما أنها بطبيعتها متغيرة لا تقبل الثبات.
2- معضلة التناقض مع قانون التنوع (التعدد): كل بنية دينية تطرح نفسها كممثل وحيد للمطلق فترادف بين ذاتها وبين الدين.
في أية قراءة مقارنة، تبدو ثقافات الوحي الثلاث، تمثلات ثلاثة متنوعة لفكرة المطلق المفارق ذاتها، ويبدو تعدد الديانات، كتعدد المذاهب وتعدد الرؤى الفردية، ظاهرة طبيعية (بما هي ضرورية) تجد تفسيرها في قوانين الاجتماع الاعتيادية، خلافاً للقراءة الأحادية الذاتية التي تصدر من داخل كل ديانة، والتي تفسر التعدد الديني من خلال فكرة واحدة هي فكرة التحريف أو الانحراف عن الدين المطلق. بالنسبة لكل ديانة، كل ديانة أخرى هي رؤية محرفة للدين، وتعدد الديانات هو تعدد في الرؤى المحرفة، ومن ثم فهو ظاهرة غير طبيعية يتوجب نفيها. وفي داخل الديانة الواحدة بالنسبة لكل مذهب، كل مذهب آخر هو رؤية محرفة للديانة، وتعدد المذاهب هو -بدوره- تعدد في الرؤى المحرفة يلزم إلغاؤه وينطبق ذلك –من باب أولى– على كل رؤية غير دينية.
لا معنى للدين خارج فكرة المقدس. وفكرة المقدس –بحسب الديانة التاريخية– تتضمن معنى النفي، نفي الآخر. أعني بسبب الخلط بين الواحدية “المطلقة” التي لا تكون كذلك إلا قبل تمثلها في العالم، وبين الواحدية كما يجري التعبير عنها داخل العالم، حيث تفرض قوانين الاجتماع ذاتها بالضرورة.
داخل العالم يعبر المطلق عن ذاته بقوانين العالم حيث يعيش البشر. هنا تتعدد صور المطلق بتعدد التصورات. وبالتالي فإن المطلق داخل العالم لا يظل مطلقاً لأنه دخل إلى منطقة الكثرة، حيث تتعدد الرؤى والتصورات الفردية والجماعية. من هنا يأتي معنى الربط بين كون المطلق مطلقا وبين كونه كائنا خارج الاجتماع. وهذا معنى الفارق بين المطلق في ذاته (الدين) والمطبق داخل الاجتماع (التدين) أما الديانة فلأنها ترادف بين الدين والتدين، فهي تلبس واحدية المطلق بكثرة الاجتماع، وهو ما ينتهي بها إلى موقف مكافئ لإنكار الكثرة أي إنكار الواقع. ويجعل من نفي الآخر فكرة مقدسة.
إن العقل النظري للديانة لا يكتفي بتقديس مقدسه فحسب، ولكنه:
- ينكر وجود أي آخر يستحق التقديس أساساً.
- ينكر وجود صيغ أخرى لتقديس المقدس المشترك.
ومن هنا فالآخر الذي يتوجب نفيه لا يتمثل في “غير المؤمنين” فحسب، بل أيضاً في “المؤمنين المحرفين” أو المؤمنين بطريقة أخرى. الفكرة المحورية هي: أنا لا أمتلك الحقيقة فحسب، بل أمتلكها حصراً، أنا على حق وغيري على باطل وهما لا يتعايشان معا. بحسب تاريخ التدين، لم تكن الديانة تتبلور إلا من خلال المقابلة النقدية مع ديانة أو ديانات أخرى. فكرة الآخر المضاد حاضرة في تصميم التكوين الأول لكل ديانة. ومن وجهة نظر دينية لا تبدو هذه الرؤية عقيدة إيمانية فحسب، بل أيضا مسلمة عقلية.
داخل التدين التاريخي –أيضا– تفضي فكرة المقدس إلى معنى “التضحية” سواء بالنفس أو بالآخر، ولذلك فهي كما تفسر ضرورة الصدام، تفسر أيضاً تصعيده إلى حد العنف الدموي (حروب الديانات – حروب المذاهب داخل الديانة الواحدة – حروب الطرق أو الجماعات ضد الدولة “الكافرة” أو ضد بعضها البعض – عنف الحركات الأصولية الحديثة الموجه إلى الدولة والمجتمع والأفراد…).
من خلال فكرة النفي وفكرة التضحية يعمل مفهوم المقدس على تثبيت مبدأ الحق الحصري كمصدر دائم لتوليد التوتر والعنف. غريزة الاجتماع الضمنية تتكفل عادة بضبط التوترات الاعتيادية التي تنشأ عن التنوع، وهي تجعل الاجتماع البشري (العالم – المجتمع) يتسع عادة للقيم المختلفة وللمصالح المتعارضة، وهذا هو السبب في أن غريزة الاجتماع تواجه صعوبة في ضبط الاختلاف بسبب الدين أكثر مما تواجهها في ضبط الاختلاف بسبب المصالح، وفي هذا الصدد تظهر القرابة بين الأيديولوجيا والدين[2].
3- معضلة النص: المفهوم السائد في التدين التاريخي (الكتابي) هو أن النص معطى نهائي مقدس في جميع أجزائه، لا مجال للقول باحتوائه إلى جانب المطلق على أحكام نسبية خاصة بسياقات إنتاجها التاريخية، مما يعني تحصين المقولات الدينية بإسنادها إلى الله، ويؤدي إلى تثبيت وتعميق إشكاليتي التطور والتنوع. الامتلاك الحصري للحق فكرة ساكنة في البنية العميقة للديانة، أي في بنيتها النصية وشبه النصية. ومع ذلك فالنصوص محملة في الوقت ذاته بمضامين المطلق الأخلاقية، التي تتناقض مع النتائج الناجمة عن الحصرية، وهو تناقض لا يفلح التأويل في رفعه في جميع الحالات.[3]
-2-
تشترك الأصوليات الراهنة مع بقية العقل المسلم في المرجعية العامة التي يمثلها نمط التدين التاريخي الموروث بإشكالياته النظرية الثلاث. وهو النمط الذي فرض المفهوم الحرفي الشكلاني للدين، ونصب “الفقه” (وهو إلزامات فرعية أفرزتها حقب التدوين) في صدارة الدين، كوجه مباشر سبق مكانة الروح والضمير الأخلاقي، وكرس الخصومة التقليدية المزمنة بين الدين والحرية والعقل. لكن من داخل هذه المرجعية العامة، تتبنى الحركات الإسلاموية مفاهيم التيارات الأشد عنفا أو الأكثر ارتباطا بوقائع الحقب السلفية ورواياتها التفصيلية المصنوعة، أي تتبنى المفاهيم الأقل اعتدادا بالقيم الكلية للدين ذات النفس الروحي والإنساني العام.
-3-
لقد عرف الفقه خيارات تفصيلية أكثر قدرة على النفاذ إلى الروح الحقيقي الإنساني للدين، استطاعت القول بأنه لا يجوز للمسلمين قتال من لم ينصب لهم القتال، كما ذهب الطبري في أحد أقواله. ولكن هذه الخيارات لم تستطع أن تؤسس ذاتها بوضوح من داخل مفهوم النص. وظل جمهور الفقه يعبر عن مذهب القوة النابع معرفيا من حالة التغلب في القرون الثلاثة الأولى، والمنحدر من ثقافة الغزو الجاهلية.
في واقع الأمر يبدو الفقه متناغماً مع رؤيته المفهومية للنص، أي يبدو تأسيسه النصي للعنف مفهوما بمقاييس التدين السائد، فإذا كان النص بجميع أجزائه كيانا مطلقا يقرأ بمعزل عن ملابسات نزوله التاريخية المنجمة، فإن هذا يشرح بوضوح خطورة المعنى الإشكالي في مفهوم النص. فقبل تعديل هذا المفهوم لا سبيل لرفع التناقض بين مضامين نصية معينة والجوهر الأخلاقي الإلهي للدين، محاولات الإصلاح المتفائلة في الفكر الإسلامي المعاصر لم تواجه المشكل في صميمه، بل واجهته –بدعوى الاعتدال– بشكل التفافي من خلال آليات تأويلية تنتمي إلى نمط التدين ذاته، مما أسفر عن تدوير مفهوم التناقض وليس رفعه.
[1]* مفكر مصري، تخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة سنة 1976 وتدرج في سلك النيابة العامة والقضاء منذ تخرجه، له مؤلفات في الفكر السياسي تتركز حول نقد التراث الإسلامي، ونقد العقل الديني، وهي من ضمن المشاريع العربية لإعادة تأويل التراث الإسلامي، منها: “السلطة في الإسلام” من جزأين، و”الدين والتدين”.
[2]– كما يتسع الاجتماع البشري للقيم المختلفة والمصالح المتعارضة، يتسع أيضاً للحقائق المتناقضة. وهذا يشير -ببساطة- إلى عدم التطابق بين قوانين العقل (اليوناني) وقوانين الواقع. بقوانين العقل الحقائق المتناقضة يقصي بعضها بعضا، ولكن الواقع الاجتماعي يتضمن بالفعل هذه الحقائق المتناقضة من خلال احتوائه للعقول المتعددة التي تحملها. يقوم التنوع على التعدد، أي الكثرة، بينما ينزع العقل إلى الكلية التي تحول الكثرة إلى واحد، أي ينزع إلى المطلق. هنا وجه واضح من أوجه الالتقاء بين العقل الديني والعقل العقلي (الفلسفي أو اليوناني).
[3] انظر: القراءة الموسعة حول “النصية” أو “النصوصية” كمفهوم من مفاهيم التدين التاريخي، يستحق النقاش كفكرة إشكالية في ذاته، قبل النقاش حول إشكالياته الإجرائية المتعلقة بالثبوت والدلالة. في كتابي “الدين والتدين”، الفصل الأول، عبدالجواد ياسين.