المؤلف: أحمد زيدان
الناشر: دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت الطبعة الأولى: 2021 عدد الصفحات: (500 صفحة)
قراءة: إبراهيم أمين نمر[1]
يحاول هذا الكتاب توثيق رؤية الباحث السوري أحمد موفق زيدان لعصرين: الأول عصر ما يسمى بالجهاد الأفغاني، والثاني عصر طالبان (1996 – 2001)، زعم أنه بناها على يوميات ومذكرات منذ منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم.
أثبتت أفغانستان أنها مثلث برمودا للإمبراطوريات، تناول الكتاب التجارب البريطانية فيها التي جاءت التجربة الأولى بين (1839- 1842)، والثانية (1878- 1880)، والثالثة (1919). ثم تحدث عن تجربة الاتحاد السوفيتي (1979- 1989)، ثم التجربة الأميركية (2001- 2021)، وزعم المؤلف أن كتابه أشبه ما يكون بكتاب تاريخي عسكري لأفغانستان!
جاء الكتاب في سبعة فصول: «الحركة الإسلامية من الميلاد إلى انقلاب داود»، و«الحركة الإسلامية والرد على الانقلابات»، و«الغزو السوفيتي.. سنوات الجمر»، و«من الانسحاب السوفيتي إلى سقوط كابُل»، و«كابُل والحرب العبثية»، و«طالبان والزحف السريع»، و«النسر الأميركي بالقفص الطالباني».
الفصل الأول: الحركة الإسلامية من الميلاد إلى انقلاب داود
تناول الكاتب في هذا الفصل فترة إقامته في باكستان بين عامي (1983- 2015)، وتردده على المدارس الدينية وعلى رأسها الجامعة الحقانية في بيشاور والبنورية في كراتشي، اللتين شكلتا الحواضن الأساسية والرئيسة لما يسمى «الجهاد الأفغاني» ومن بعده إمارة طالبان الإسلامية، حسب إفادته. ويشير هنا إلى ما لعبته قبل ذلك المدارس الديوبندية في شبه القارة الهندية، والتي يصفها بـ«أمهما الحنون»، أيام الاحتلال البريطاني للمنطقة الذي دام (250) عاماً.
يركز المؤلف على المدارس الدينية، داخليًا وخارجيًا، باعتبارها النواة الحقيقية للحركة الإسلامية الأفغانية، والتي خرَّجت القيادات المؤسِّسة للحركة الأفغانية. متحدثًا عن هذه التجربة وفق مسارات الكمون والظهور والتحفز. يقسم التعليم الأفغاني إلى تعليم خارجي وآخر داخلي، أما الخارجي فخصّه بالعلماء الأفغان ممن درسوا في بخارى قبل الثورة الشيوعية في أكتوبر (تشرين الأول) 1917، فمعظم أولئك درسوا في مدرسة ديوبند الهندية قبل انفصال باكستان عنها عام 1947. ثم انتقلت وجهتهم إلى جامعة الأزهر بمصر، والجامعة الإسلامية في السعودية. أما القسم الثاني في القسم الديني الداخلي الأفغاني، فقسّمه إلى قسمين؛ تعليم ديني حكومي، وآخر غير حكومي يتمثل في الكتاتيب والمدارس الدينية، التي يشرف عليها الملا الذي يقوم بتعليم القرية المبادئ الأولية للإسلام، ويفرق بينه وبين المولوي، وهي درجة يحوز عليها بعد تخرجه في مدرسة دينية يقصدها أهل العلم في ثلاث سنوات في الفن الذي يريده، تخوّله أن يكون قاضيًا. وقدّرت أعدادهم عام 1900 بحوالي (600) مولوي.
تناول الكتاب تحديات «التعليم الديني» وعجزه عن تقديم الحلول والأجوبة العصرية لما تطرحه المذاهب الفكرية الجديدة كالماركسية واللينينية وغيرهما. يصف الكُتّاب الواحد بأنه عبارة عن غرفة -أو غرفتين- ملحقة بالمسجد تتسع لما بين خمسة إلى عشرين طالبًا. يضم منهجه النحو والصرف والبيان والبلاغة والفقه والتفسير وأصول الحديث وأصول الفقه. لم تكن المدارس الدينية حتى القرن التاسع عشر، بشكلها اللاحق قد تبلورت في أفغانستان، لتستقي أنموذج المدارس النظامية من بغداد التي افتتحتها عام 1066 بهدف ترقية التعليم، وفقا للمدرسة السنية في مواجهة الدعاية الشيعية -على حد زعمه.
يتناول المؤلف محاولات الأمير عبدالرحمن خان وقبضته الحديدية، وثقب نظره وجهوده للسيطرة على الظاهرة المولوية، التي أشار لها المؤلف كأكثر من جهوده في التنوير والتثقيف، وذلك من خلال إنشائه المبكر لمدرسة الملكية الدينية، والسعي لتثقيف المولويين بما يثبت ويوطد حكمه وملكه، وإقامته لجنة من العلماء تختبر كل المولويين ليواصل تقديم المال والعلاوات، وحظر دخول المولويين الأجانب إلى أفغانستان.
بموازاة الكتاتيب كانت هناك مدارس دينية أهلية بعيدة عن سطوة الحكم والحكومة، تدرس المناهج نفسها التي تعود في أصل تدريسها إلى المدرسة النظامية في بغداد، ولكن الحكومة لم تعترف بها.
أما المدارس الدينية الحكومية، فقد لعبت دورًا في تشكيل عقلية رواد الحركة الإسلامية الأفغانية، مثل: مدرسة أبي حنيفة في بغمان قرب كابُل، التي تخرج فيها أمثال: غلام محمد نيازي، وعبد رب الرسول سياف، وبرهان الدين رباني. والمدرسة الأسدية التي تخرج فيها ذبيح الله في مزار الشريف شمالي أفغانستان، ومعه عبدالقادر تونا وآخرون. ومدرسة نجم المدارس الواقعة في قرية هدا بولاية ننجرهار قرب مدينة جلال آباد عاصمة الولاية، ومن أبرز من درس أو درّس أو أدار هذه المدرسة، سلطان عزيز الذي عمل وزيرًا للتربية في حكومة حكمتيار، وهو من قادة ما عرف الاتحاد الإسلامي الذي تزعمه عبد رب الرسول سياف. وغيرها من المدارس كدار العلوم المحمدية في قندهار، والمدرسة الروحانية في جارديز، ومدرسة فخر المدارس، ومدرسة الجامعية في هيرات غرب أفغانستان، ومدرسة تخارستان، وأبو مسلم في فارياب، ودار العلوم الروحانية في بكتيا، ومدرسة ظاهر شاهي في ميمنة ولاية فارياب شمالي أفغانستان. يزعم المؤلف إلى أن بعض هذه المدارس أحرقها الشيوعيون كمدرسة نور المدارس.
أما المدارس الحكومية العصرية، فيشير المؤلف إلى أنها لعبت هي أيضاً دورًا في دعم ما يسميه «الحركة الإسلامية» الأفغانية و«تأسيسها»، ويُنظَر كثيراً إلى الأمير حبيب الله على أنه باني التعليم العصري الذي بدأه عام 1904، الذي استبعد فكرة الاعتماد على المولوية في توحيد مركزية البلاد، أما نجله أمان الله فسرّع الفكرة بتأثره بوالده، ثم بكمال أتاتورك الذي ألغى عام 1924 الخلافة. لكن المؤلف يقول: إن جده عبدالرحمن خان كان -بلا شك- هو من بذر بذرة التعليم العصري، وسقاها من بعده حبيب الله ورعاها لاحقًا أمان الله.
يعرج المؤلف على التعليم الخارجي (في الهند وباكستان والمعاهد العربية) وأثره. في الهند كان من خلال مدرسة ديوبند، التي تأسست عام 1862 والتي عرفت بدار العلوم، واشتهرت بتوجهاتها المعادية للاستعمار البريطاني في حينه، ورفعت شعار التمسك بالدين والتصلب في المذهب الحنفي، والدفاع عن السنة النبوية، وكان من ضمن خريجيها كبار علماء أفغانستان لاحقًا، ومنهم عبدالمجيد كودي خيل، رئيس سلك القضاء في الحزب الإسلامي الأفغاني بزعامة قلب الدين حكمتيار، والمولوي عبدالشافي، وسعيد الأفغاني. أما في باكستان، فيشير إلى القرب الجغرافي والقبلي واللغوي والعرقي، وما لعبه ذلك بتلقي الطلبة الأفغان العلوم فيها، فكانت المدرسة الحقانية -التي تأسست عام 1947 وواصل إدارتها المولوي عبدالحق حتى عام 1988، ويديرها من بعده ابنه سميع الحق الذي قُتِل عام 2018 في بيته، الذي كان جزءًا من المدرسة- ملاذًا لهم، ويراه سببًا في تسمية ما يصفها الكاتب بأهم شبكة أفغانية مقاومة للوجود «الغربي» بقيادة الأميركيين، بشبكة حقاني.
يشير المؤلف إلى أن المدرسة الحقانية لعبت الدور الأبرز في رفد أفغانستان بشكل عام بالعلماء والمقاتلين، بينما لعبت المدارس الدينية في بلوشستان ومدارس كراتشي الدور الأبرز في تعليم الأفغان، في عصري ما أسماهما بـ«الجهاد» والإمارة «الطالبانية».
يتطرق الكتاب إلى دور المعاهد العربية، مشيرًا إلى دور جامع الأزهر في استقطاب الطلبة من العالم العربي والإسلامي، ليذكر حالة الطالب الأفغاني غلام محمد نيازي الذي لمع نجمه، وتلقفته حركة الإخوان المسلمين بمصر، التي لقنته أفكارها في ذروة نشاطها يومها، ليتولى بعد عودته إلى كابُل عمادة كلية الشريعة ثم رئاسة الجامعة، حيث لعب لاحقا دورًا بارزًا في تأسيس الحركة الإسلامية الأفغانية، ويشير إلى طلاب آخرين من الأفغان تأثر أغلبهم بفكر الإخوان المسلمين، ويعدد منهم المؤلف عبد رب الرسول سياف، وموسى توانا.
يحاول المؤلف أن يبرز الأثر المستحسن لديه الذي تركته جماعة الإخوان المسلمين على المؤسسين اللاحقين للحركة الإسلامية الأفغانية، وما سيلعبونه تاليًا في دحر الإمبراطوريات، ونجاح التجربة بعد مرحلة الكمون، فيكرر المؤلف ذكر غلام نيازي ويعيد الإشارة مجددًا إلى تأثره بحركة الإخوان المسلمين.
عود على ذي بدء، يشير المؤلف إلى الأحزاب السياسية، وما مثلته فترة رئيس الوزراء الأفغاني شاه محمود (1946- 1953) وما أسماه هنا بعصر التنوير الأفغاني، نظرًا لبروز ظاهرة الأحزاب السياسية الأفغانية.
ينقل المؤلف الجدل الذي دار حول من هم مؤسسو الحركة الإسلامية الأفغانية، ويستعين برواية قلب الدين حكمتيار الذي أخبر المؤلف بأن:
«عبد رب الرسول سياف وبرهان الدين رباني ادعيا أنهما هما اللذان أسسا الحركة مع غلام محمد نيازي عميد كلية الشريعة آنذاك، على الرغم من أن نيازي لم يكن من أبناء الحركة، وحتى إن سيف الدين نصرت يار، أحد المؤسسين، أخبرني في السجن عن طريق رسالة مكتوبة.. بأن غلام نيازي لا يزال على رأيه في تأييد الحركة عن بعد، وكنت قرأت رسالة أن رباني تزعم الحركة عام 1962، ونيازي لا يزال في السجن، فهل يعقل أن يعين شخصٌ زعيمًا لحركة ومؤسسها حي يرزق؟!»
وينقل رواية أخرى عن هذا السجال من خلال القاضي نجي الله، من قيادات الحزب الإسلامي الأفغاني، الذي شكك المؤلف بصدقها، بإشارته إلى أن الشهادة التي قدمها القاضي جاءت بعد خلاف نجي الله مع حكمتيار وتوتر علاقاته معه.
وقد وضع شهادته تحت بند جرح الأقران في بعضهم، وخلافات الخصوم، ويرى القاضي أن غلام نيازي هو مؤسس «الحركة الإسلامية الأفغانية». وأن حكمتيار من الصف الثاني وليس الأول للمؤسسين. ويدعمه في هذا الرأي عبدالقدير كرياب الذي ترأس لفترة طويلة اللجنة السياسية في الحزب الإسلامي الأفغاني، قائلاً: إن مؤسس «الحركة الإسلامية» الأفغانية هو عبدالرحيم نيازي من جيل الشباب، وهي رواية حكمتيار.
أشار المؤلف إلى شهادة حاولت التوفيق بين الروايتين على لسان محمد ياسر، الذي شغل منصب رئيس اللجنة الإعلامية في الاتحاد الإسلامي بزعامة عبد رب الرسول سياف، فيتفق مع الذين يقولون: إن بداية الحركة عام 1969، فهي بداية الحركة العلنية، كما اتفق مع الذين يقولون: إن بدء الحركة كان منذ 1954، وهذه هي بداية المرحلة السرية. ثم يتناول المؤلف رواية نسيم نيازي نجل غلام نيازي، حلو استقبال والده للزوار في منزله، بعد عودته من عمله الذي كان يتركز على الجامعة والمحاماة، ويستطرد بما أشار له عبدالرحيم أحد قادة الجمعية الأفغانية، وتكمن روايته بأنه يخالف رواية زعيمه رباني، ويؤكد رواية خصمه حكمتيار. أما في مقابلته مع أحمد شاه مسعود، فيقول المؤلف: إن رده كان عموميًا مؤْثرًا ألا ينحاز لطرف دون آخر.
يشير الكاتب إلى أن حركة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية الباكستانية لعبتا دورًا إلهاميًا للحركة الأفغانية، من أمثال: بشر الله طرزي، وسيد عالم بخاري، وإبراهيم بك، قبل أن يضيف المؤلف و«لكن» التي تفيد نفي الحكم عما قبلها وإثباته لما بعدها، «ولكن ظل لتأثير الإخوان المسلمين المصريين الدور الأساسي في قدح الشرارة، لتتلقف الراية من بعدها الجماعة الإسلامية الباكستانية»، ويضيف «اعتقل هارون المجددي، عم صبغة الله مجددي، من قبل نظام جمال عبدالناصر في الستينيات بتهمة الانتماء للجماعة».
يشير إلى أنه:
«كان هناك مصريان منتميان للإخوان المسلمين، ويدرسان في معهد الإمام أبي حنيفة بكابُل وهما: جمال عمار، وعبدالأحد عطوار، حيث لعبا دورًا في هذا الإلهام، وفي نقل التجربة التنظيمية المبكرة إلى أفغانستان».
يشير المؤلف إلى استبعاد موسى توانا في مذكراته، العامل الخارجي في تطوير الحركة:
«… فلا غرو أن يقف أبناء هذه الأمجاد موقف المدافع عن دينهم في هذا القرن، دون أن يكونوا قد تأثروا بغيرهم من الأحزاب الإسلامية، ولم نكن تابعين لغيرنا منذ أول أيامنا بهذا الأمر العظيم البالغ الخطر، وقد كان بعض أعضاء الإخوان المسلمين مثل جمال عمار وغيره، يدرسون في مدرسة العلوم الشرعية التي اختير لها اسم (مدرسة الإمام أبي حنيفة) خلال العشرينيات من القرن الهجري، إلا أنهم ما كانوا يجرؤون على القيام بأي تحرك؛ لأن إدارة المدرسة المتصلة بالأسرة المالكة كانت تمنع قيام الأحزاب الدينية وغير الدينية».
يضيف المؤلف أن أحمد شاه أحمد زي يرى أن التأثير الإخواني كان فكريًا: «كان لدراسة الأستاذ نيازي وتوانا وجان محمد في مصر، وعلاقتهم بحركة الإخوان المسلمين، تأثير على تفكيرهم ونشاطهم، وبحسب معلوماتي ومن خلال اتصالي بالإخوة، فإنه لم يكن لهم علاقة تنظيمية مع الإخوان في مصر في تلك الفترة، بل كان تأثيرهم عليهم تأثيرًا فكريًا».
يعلق المؤلف حول ذلك، بأنه لعل ما يدعم هذا هو أن حركة الإخوان المسلمين لم تسع إلى التمدد المبكر، ولا اللاحق في العالم غير العربي، وإنما اقتصر عملها على الدعوي خارج العالم العربي، بينما ركزت عملها التنظيمي العملي داخل العالم العربي، وربما لوجود الجماعة الإسلامية الباكستانية وزعيمها أبي الأعلى المودودي على حدود أفغانستان، ومكانته الفكرية التي توازي مكانة المفكرين الإخوان الأوائل، وهو ما انسحب على الحركة الإسلامية في تركيا وماليزيا وإندونيسيا؛ إذ خلت هذه المناطق كلها من مندوبيات للجماعة، وظلت جماعات تلك المناطق محلية خالصة -كما زعم المؤلف.
يتناول المؤلف رأي زعيم الحزب الإسلامي الأفغاني قلب الدين حكمتيار، الذي يرى أن الحركة الإسلامية الأفغانية كانت أفغانية بامتياز، واقتصر الأمر على تلقي الكتب المترجمة للإخوان ولغيرهم، والقادمة تحديدًا من إيران بسبب حركة الترجمة هناك إلى اللغة الفارسية التي يتشاطرها الأفغان مع الإيرانيين، فيقول: «إن الحركة الإسلامية في أفغانستان تأثرت بالحركات الإسلامية بشكل عام، هذا مع عدم وجود اتصال منظم بها». يعلق المؤلف على ذلك فيقول: «لكن المتابع لحركة الترجمة الأفغانية، يجد ترجمة مبكرة لأعمال زعماء الإخوان، فقد ترجم الشيخ يونس خالص مبكرًا كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام لسيد قطب عام 1960، وترجم الأستاذ برهان الدين رباني خلال إقامته بمصر في الفترة الواقعة بين (1966- 1968) أجزاءً من تفسير (في ظلال القرآن) لسيد قطب، وترجم أيضًا كتابه (معالم في الطريق)، وتتابعت الترجمة لاحقًا، فوصلت ذروة ازدهارها خلال فترة الهجرة والجهاد الأفغاني، واحتكاكات الحركة الإسلامية الأفغانية مع الحركات الإسلامية العالمية، وتحديدًا بباكستان التي تتشاطر وإياها لغة البشتو، حيث ينتمي حوالي أربعين مليون باكستاني للعرقية البشتونية».
يشير المؤلف إلى أن القيادي الإخواني محمد كمال السنانيري (1918-1981) يعد من أوائل الإخوان الذين قدموا إلى أفغانستان وتعاونوا مع الأفغان، وينقل المؤلف إشارة عبدالله عزام للسنانيري في مقال له حول ذلك، نشر في مجلة «البنيان المرصوص» في العدد الرابع الصادر عام 1985.
ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى العلاقة بين إسلاميي أفغانستان والجماعة الإسلامية الباكستانية. ويقول في هذا القسم: إن باكستان استقبلت عددًا كبيرًا من الطلبة الأفغان، وتحديدًا في مدارسها الدينية ومعاهدها وجامعاتها، ولعب التشاطر اللغوي دورًا مهمًا في تعزيز تلك العلاقة، وينقل عن خورشید أحمد، نائب أمير الجماعة الإسلامية الباكستانية، الذي حظي بعلاقات وثيقة ومتينة مع قادة الجهاد الأفغاني قوله:
«إن تأثير الحركة الإسلامية الباكستانية على أفغانستان بدءاً مع أوائل عام 1940 عندما قام شاب أفغاني يدعى عبدالغني بترجمة رسالة دينيات للإمام أبي الأعلى المودودي للغة الفارسية، ونشرت هذه الرسالة بين صفوف الشباب الأفغاني، وقام لاحقا طلبة أفغان تلقوا تعليمهم وتدريسهم في باكستان بترجمة كتب المودودي، فقد كانت هناك علاقة وطيدة بين القاضي حسين أحمد، زعيم الجماعة الإسلامية الباكستانية، ومؤسسي الحركة الإسلامية في أفغانستان، حيث زار مراد علي شاه، مسؤول الجماعة في بيشاور لاحقًا والتقى وقاضي حسين أحمد قادة الجماعات الإسلامية الأفغانية في كابُل، خلال حكم الملك الأفغاني السابق ظاهر شاه، وقد التقى لاحقًا كل من عبدالرحیم نیازي وبرهان الدين رباني مع الأستاذ أبي الأعلى المودودي».
يشير المؤلف إلى تذكر القاضي حسين أحمد زياراته إلى كابُل فيقول:
«الجماعة كانت على صلة مع الحركة الإسلامية في أفغانستان منذ عام 1970، وكنت أسافر إلى كابُل للاجتماع بالإخوة هناك، وكنا نتبادل الخبرات في أمور الدستور، والتقيت وقتها بالشيخ رباني والمهندس حبیب الرحمن، والمهندس أحمد شاه نائب الشيخ سياف، وكان المهندس حكـمتیار وقتها في السجن، واستمرت المراسلات فيما بيننا، وكان الجميع في حركة واحدة اسمها حركة الشباب المسلم، وكنا على اتصال مع حكـمتیار في السجن».
يعكس أحمد شاه أحمد زي الرواية الأفغانية عن لقاء بغمان، فيقول:
«في عام 1971 قام القاضي حسين أحمد، مبعوث أبي الأعلى المودودي سابقًا، وزعيم الجماعة الإسلامية الباكستانية حاليًا، بزيارة إلى أفغانستان للتعرف على أوضاع الحركة الإسلامية الأفغانية، وهناك رافقته في زيارته إلى بغمان التي التقى فيها بالأستاذ غلام رباني عطيش، كما التقى بالإخوة: منهاج الدين، وعبدالأحد عشرتي، وذو الفقار غفور، الذي يعد من أنشط الشباب، وهدف القاضي حسين أحمد من زيارته إلى إقامة علاقات ودية وأخوية بين الإخوة الأفغان والباكستانيين، ونقل صورة واقعية عن الحركة الإسلامية الأفغانية إلى الجماعة الإسلامية».
يورد المؤلف ما شعر به كبار قادة الحركة الإسلامية من خطر يحدق بهم جراء ذهاب الشباب بمشروع المجلس التأسيسي، وهو ما قد يجعلهم يدفعون ثمن تهور الشباب وحماسهم، مما قد يفوتهم القطار تماماً على مستوى تنظيم يتسع ويتمدد، فأسرعوا للإعلان عن كـیان للحركة قطعاً للطريق على تحرك الشباب التهوري الحماسي بنظرهم، وهو ما قد يتسبب في أن يدفع الجميع ثمن تحركات شبابية غير محسوبة، استنبطها المؤلف من مذكرات أحمد شاه أحمد زي، بقوله فيها:
«جاءني ذات أمسية الأستاذ سیاف، وأبلغني عن استقبال بعض الإخوة القادمين من ولاية قندوز للدراسة في الجامعة، وهم: حكـمتیار، وسيف الدين، ومحمد شاه وغيرهم، فذهبت إلى سكنهم، وقابلت بعضهم وكان الأخ حكـمتیار في السوق، يشتري بعض الحاجيات، فعرفتهم على نفسي، وكانوا قد سمعوا باسمي من قبل، ثم خرجت بعدها مظاهرة إسلامية، وحكـمتيار يخطب بها، كان الذي رتب هذه المظاهرة هؤلاء الإخوة القادمون من قندوز، وأذكر قول الأخ سيف الدين نصرت یار للمتظاهرين: إذا كان للشيوعيين لينين وستالين فعندنا سید قطب والمودودي، والتقيت مع الأخ سيف الدين بعد المظاهرة ونصحته بعدم ذكر الأسماء، ولنتمسك بالإسلام، خاصة وأن الشيوعيين يصفوننا بالإخوان، ولدينا مشاكل عديدة في الجامعة وستعرفونها مع مرور الأيام، فوافقني على رأيي. وفي مظاهرة أخرى قام حكـمتیار خطیبًا وفضح ممارسات نظام داود، فكلفني الإخوة غلام نیازي وسيد ترجمان بالالتقاء بحكـمتیار وإبلاغه بعدم التعرض لشخصية داود، أو ذكر شخصيات معينة فقبل كلامي، وعقب بقوله: إن الشباب لا يتبعوننا إذا لم نفضح الشخصيات العميلة». يعلق المؤلف، بأن حكـمتیار وضع -على ما يبدو- كسب الشباب والحاضنة الشبابية ضمن أولوياته عبر فضح النظام وسدنته وأعمدته، وأضاف يقول في ذكرياته:
«اتفقنا فيما بيننا نحن المؤسسين على وضع مهاجمة الدولة والنظام الحاكم على سلم أولوياتنا، في مرتبة تسبق مهاجمة للشيوعيين، وبهذا فقط نستقطب الشباب إلى صفوفنا».
يرى المؤلف أن مثل هذه التحركات الشبابية دفعت الكبار إلى التعجيل بالإعلان عن إطارهم التنظيمي لقطع الطريق على تحركات الشباب التي قد تحرجهم وتحرج مشروعهم في استهداف الشيوعيين وتأجيل استهداف النظام، وأعلن عن تشكيل إطار حركي مع دستور ونظام داخلي للحركة عام 1972، اختير فيه برهان الدين رباني رئيسا لـ«الجمعية الإسلامية»، وهو الاسم الذي تم إطلاقه على التجمع الجديد، ويتحدث عن تلك المرحلة موسی توانا:
«اخترنا اسم الجمعية لكونها قريبة من اسم جماعة الإخوان المسلمين وجماعة إسلاميي باكستان، وذلك للتمييز بينها وبين هاتين المنظمتين الإسلاميتين العالميتين في الوقت ذاته».
يقول المؤلف إن اسم «جوانان مسلمان» أي الشباب المسلم، أطلقه جيل الشباب من طلبة الجامعة على تجمعهم لكن دون إطار تنظيمي محدد، ودستور ونظام داخلي ينظمه، ونص الدستور الذي اعتمدته الجمعية الإسلامية برئاسة رباني حينذاك -بحسب مصادر المؤسسين- على تكوين خلايا أولية لتربية الأعضاء في الجمعية تربية دينية علمية تصهرهم في بوتقة التنظيم وتؤهلهم للعمل المستقبلي، وكان توانا مسؤولا عن تربية هذه الخلايا فاختير لتدريس العقيدة، وتعهد أعضاء الجمعية في تلك الفترة كتابياً بالعمل لإعلاء كلمة الله والتصدي لأعداء دين الله، وطاعة الأوامر في المنشط والمكره، وعدم إفشاء الأسرار بأي حال من الأحوال، ولا أعلم أحدا امتنع عن هذا التعهد، ولا أدري حتى الآن مكان وجود هذه الأوراق.
ويزيد نور الله عماد علی موسی توانا فيقول: «كنت أسعى لدفع الشباب إلى دخول التجمع الجديد، جمعا للطاقات وحشدها في تكتل واحد»، ويضيف: «بعد رجوعنا من الاجتماع والتقائنا بالأستاذ رباني، خرجنا بنتيجة أنه على استعداد للعمل معنا، وأبلغنا الإخوة في مجلس الشوری، فأبدى الجميع استعدادهم لذلك، واندفع بذلك رباني وسياف وعشرتي للعمل بصورة مباشرة وعلنية، بعد أن كانوا في السابق يعملون من وراء ستار». ووفقا للاجتماع التاريخي هذا، فقد تم تعيين رباني رئيسا للجمعية، وعبد رب الرسول سیاف أمينًا عامًا، وموسی توانا مسؤولا عن التربية، وسيف الدين نصرت بار مسؤولاً عن الجناح النسوي، ونور الله عماد عن جناح المعلمين والموظفين، والمهندس حبیب الرحمن مسؤولاً عن الجناح العسكري، وخلفه لاحقاً عام 1974 المهندس قلب الدین حكمتیار.
يشير محمد إسحاق، رئيس تحرير نشرة إنجليزية تابعة للجمعية الإسلامية، إلى أن خلافاً برز بين حكمتیار ورباني، حيث لم يقبل الأخير أن يدفع بالمشايخ إلى صفوف الدولة ليستعديهم ضد الحركة، ويؤكد إسحاق أن المولوية لم يشاركوا في العمل الإسلامي قبل الانقلاب الشيوعي في أبريل (نيسان) 1978، باستثناء المولوي محمد يونس خالص، الذي تفطن مبكرًا لترجمة كتب سيد قطب، وكذلك مولوية نورسان والولايات الشرقية الأفغانية مثل: كونار، وننجرهار، ولغمان، بالإضافة إلى المولوي فيضاني الصوفي الذي افتتح مكتبة في بولي خشتي، لكن تم إعدامه مبكرًا من قبل محمد داود عام 1975.
يضيف المؤلف أن قادة الحركة الإسلامية حرصوا على انتزاع تزكية من المولويين لتحركاتهم، وتحديداً حين تعلق الأمر برموزها الأمميين وسط المجتمع الأفغاني من أمثال: حسن البنا، وسيد قطب، والمودودي، ويدلل على ذلك المهندس عبدالرحيم المنتمي للجمعية الإسلامية بزعامة رباني بقوله: «عدت من جامعة كابُل إلى قريتنا في الشمال الأفغاني، وفي جعبتي كتب سید قطب، وغيره من قادة الإخوان والجماعة الإسلامية الباكستانية، وعندما لحظت دعاية سيئة بدأت تنسج ضدي بسبب هذه الكتب، اتجهت لأحد المولوية وأظهرت له بعض كتابات سيد التي خمنت أنها ستعجبه، فكان ذلك، ووقف المولوي خطيبًا بين العامة، وقال: إن سید قطب هو أفضل وأعلم مني، وإن الذي يعارضه إنما هو كافر، وانتشرت الحادثة وسط البلدة بين الناس، وبدؤوا يحبون سيد قطب، وشباب الحركة الداعين إلى فكره، مما سهل علينا أمورًا كثيرة في التحرك وسط الناس». يستكمل المؤلف ويقول: إن الحركة الإسلامية الأفغانية واصلت تقدمها نحو المساجد؛ معقل المولوية ومفتاح الدخول إلى المجتمع ذاته من أجل كسبه.
اعتبر المؤلف أن تلك الأحداث مثلت مرحلتي الكمون والظهور للحركة الإسلامية، ليتبعها بمرحلة التحفز، التي يجمعها في نشاطات خمسة كانت تعمل من خلالها الحركة على الترويج لنفسها، كالحفلات والمهرجانات خلال المناسبات المتعددة، والمظاهرات والاحتجاجات، والمنشورات الليلية والصحف والمجلات، بالإضافة إلى الترويج للكتاب الإسلامي (المتمثل في كتب سيد قطب، وأبي الأعلى المودودي «رسالة دينيات»، وكتب حسن البنا ومحمد قطب، ومهدي بتزركان، وناظم مكارم الشيرازي)، والمشاركة في انتخابات الطلبة في جامعة كابُل، ليسهب في حديثه عن كل مظهر من هذه النشاطات. وواصلت الحركة تمددها، وشكلت رابطة للنساء التي طرحها حبيب الرحمن؛ للعب دور في صياغة عقلية الأطفال والشباب، وجعلها خميرة الحركة مستقبلاً، مما يسرع في تشكيل الرأي العام لصالح الحركة الإسلامية، والأمر الذي سيختصر الطريق على الحركة وجهودها. ثم يأتي لاحقًا على مرحلة الانقضاض كما جاء في الفصل الثاني، والمتمثل ببدء الجهاد الأفغاني بوقوف الدول والجماعات معهم. وهو الأمر الذي افتقر له الربيع العربي وثوراته -حسب تعبير المؤلف-.
الفصل الثاني: الحركة الإسلامية والرد على الانقلابات
تحدث المؤلف في هذا الفصل عن الحركة الإسلامية وردة فعلها على انقلاب محمد داود على ابن عمه الملك ظاهر شاه (1933- 1973)، بعد تحالف الأول مع الشيوعيين، منهيًا بذلك حقبة النظام الملكي في أفغانستان بعد قرنين ونصف (1747- 1973) من الحكم به. كما يستعرض المؤلف في هذا الفصل فرار قادة الحركة الإسلامية إلى باكستان، ثم عودتهم إليها مجددًا، والقيام بعمليات عسكرية، وقيامها بثلاث عمليات انقلاب فاشلة، وفي 1978 انقلب الشيوعيون على حكم داود، مُنهين بذلك حكم «السلالة الملكية».
بعد انقلاب داود على ابن عمه، غيرت الحركة الإسلامية استراتيجيتها وشرعت باللجوء إلى العمل السري الذي بدأ بعد ثلاثة أشهر من الانقلاب، وتحديدًا في أكتوبر (تشرين الثاني) 1973، فأوقفت عملها الجماهيري ومظاهراتها ومهرجاناتها. وتخلت عن الأساليب القديمة في استقطاب الأتباع، فلجأت إلى تعيين أمراء لها في الولايات الأفغانية البعيدة عن العاصمة. وفي هذه الفترة انقسمت الحركة الإسلامية بين نظريتين: نظرية متشددة بزعامة الشباب، يقودهم قلب الدين حكمتيار، وحبيب الرحمن، ومحمد عمر وآخرون، وأخرى وصفها بالمعتدلة يتزعمها برهان الدين رباني، وعبد رب الرسول سياف. يقول المؤلف: إن الانقسام لم يكن معلنًا، فكانت نظرية الفريق الأول تعتمد على إطلاق العمل العسكري والبدء بالاغتيالات، بينما رأى الفريق الثاني عدم التعجل بالعمل العسكري، قامت الحركة باغتيال مير أكبر خيبر، أحد منظري الحزب الشيوعي الأفغاني، بعد سنوات من الانقلاب.
رأت الحركة في التململ الدولي من الإطاحة بالملكية فرصة نجاح لمحاولة انقلابية كان من المقرر تنفيذها في فبراير (شباط) 1974، قبل أن يتم كشفها، ودفعت ثمنًا باهظًا باعتقال قادتها من أمثال: حبيب الرحمن، وعبد رب الرسول سياف، وغلام محمد نيازي، وعبدالقادر توانا، وغلام رباني عطيش، وعدد آخر من الرعيل الأول. وأطلق داود على إثرها حملة اعتقالات في صفوف الحركة، وتراوح عدد معتقليها بين (600- 1100) معتقل. في حين قدرها آخرون بأنها تجاوزت (4) آلاف شخص.
في المحاولة الثانية، في صيف 1974، تسربت المعلومات حول خطة الانقلاب، يشير المؤلف إلى ضابط مدسوس لم يسمه ولم يكتشفوه في المحاولة الأولى ولا الثانية. ومع فشل هذه المحاولة أوعز حكمتيار إلى توزيع الشباب على الولايات الأفغانية، والبدء في حملة اغتيالات لقادة الشيوعيين بالأطراف النائية عن سلطة الحكم المركزي. ومع فشل تلك المحاولتين أيضًا لجأت عناصر الحركة إلى الهجرة إلى باكستان. يرى الكاتب أن ما خفف عن هؤلاء الشباب في هجرتهم إلى جنوب باكستان، ميزة التشاطر العرقي والمذهبي واللغوي، بالإضافة إلى وجود الجماعة الإسلامية بقيادة أبي الأعلى المودودي، الذي شكلت كتبه مرجعًا للحركة الأفغانية التي تربت عليها، فكان ملهمًا لها منذ نشأتها.
ينقل المؤلف رواية نائب أمير الجماعة الإسلامية لسنوات «خورشيد أحمد» في لقائه بمكتب الأخير وسط العاصمة الباكستانية إسلام آباد، عن العلاقات التي بينهم وبين الحركة الإسلامية في أفغانستان:
«قرار العلاقة بيننا وبين الإخوة في أفغانستان يعود إلى الستينيات، بعد أن نظم الإخوة أنفسهم، وتحديدًا في كلية الهندسة بجامعة كابُل، حيث كان حكمتيار من الناشطين آنذاك، ومعه أيضًا نيازي ورباني، وقد استلهم تنظيمهم الوليد يومها المعروف باسم جوانا مسلمان، أي الشباب المسلم، فكر الإمام المودودي، وكذلك حسن البنا، وسيد قطب، وازداد الترابط بيننا عبر زيارات قام بها القاضي حسين أحمد موفد الإمام المودودي، ومعه مراد علي شاه الذي غدا أمير الجماعة في بيشاور لاحقًا» ويستكمل خورشيد حديثه عن الدعم الذي قدمته جماعته للحركة الإسلامية الأفغانية. وفي هذه المرحلة من الدعم الذي تلقته الحركة، وضعها المؤلف تحت مسمى «مرحلة الانقضاض» لما سيحظى به الأفغان لاحقًا من تأييد ودعم.
يشير المؤلف إلى أن محمد زمان مزمل، أحد قيادات الحزب الإسلامي بزعامة حكمتيار، أكد أن الاتصال بين مولوي حبيب الرحمن والحكومة الباكستانية كان عبر الجماعة الإسلامية، وتحديدًا المودودي، الذي زكى رباني لبوتو، لكن الأخير لم يقبل بتزكية من منافسه السياسي، وكان حكمتيار قد بدأ التواصل مع الجيش الباكستاني قبل مجيء رباني، لتيقن حكمتيار أن المودودي لن يمنحه ميزة التواصل مع الجيش، في ظل وجود برهان الدين رباني كشخصية علمية أكبر منه سنًّا، إذ إن المودودي كان يرى أن الزعامة والقيادة الشرعية لا بد أن تأتي بعد سن الأربعين، أما علاقة رباني مع المودودي ومن خلفه الحركات الإسلامية فهي نقطة ضعفه، فبوتو يريد شخصية لا علاقة لها مع خصومه ومنافسيه الحزبيين من أمثال الجماعة الإسلامية وغيرها، ويبدو أن هذا الإرث لاحق حكمتيار حتى وفاة المودودي عام 1979. لكن مع مرور الوقت مالت الجماعة الإسلامية لخيار حكمتيار كحال الجيش الباكستاني، تعزز مع وصول القاضي حسين أحمد لزعامة الجماعة، لا سيما وعرقيته البشتونية التي تجمعه مع حكمتيار. أما تنظيم الإخوان المسلمين الدولي، فظل على ما كان عليه المودودي من تفضيل رباني وسياف على حكمتيار، ويشير المؤلف إلى أن الأخير عانى الكثير من هذه العلاقة الانحيازية طوال الجهاد الأفغاني.
مع بداية عام 1975، وتدفق نشطاء الحركة الإسلامية الأفغانية، بدأ الجميع يتداولون الاسم الجديد للحركة الإسلامية الأفغانية، وفي اجتماع ضم القطبين رباني وحكمتيار، اقترح برهان الدين رباني اسم «النهضة الإسلامية»، وبعد نقاشات مستفيضة أقر الحاضرون اسمًا قدمه حكمتيار وهو (الحزب الإسلامي). وعلى أجندة الاجتماع قدم استفتاء عن إعلان العمل العسكري في أفغانستان، فكان رأي حكمتيار والشباب معه إعلانه والمسارعة فيه، بينما رأى رباني التريث، وقد صوت ثمانية من المشاركين من أصل (11) مشاركًا لصالح رأي حكمتيار بإعلان العمل العسكري، بينما صوت ثلاثة مع رباني للعمل الدعوي. وبدأت المواجهة المسلحة الشاملة ضد حكومة محمد داود بدعم من حكومة خصمه ذو الفقار علي بوتو، والذي كان لبلاده ثأر تاريخي معه شخصيًا، منذ توليه الحكومة أيام ظاهر شاه بين (1953- 1963)، حين دعم الانفصاليين في إقليمي بلوشستان وبشتونستان الباكستانيين، وتضاعف الثأر اليوم بعد تعاونه مع الشيوعيين وموسكو، فضلا عن تعاونه مع الهند.
يقول المؤلف: إن قرار العمل المسلح كان -على ما يبدو- قد اتخذ بين حكمتيار والجيش الباكستاني في أغسطس (آب) 1974، بعد أن وجد الجيش في حماس الشباب ورغبتهم في القتال فرصة ذهبية لتأديب محمد داود. ففتح الجيش الباكستاني مستودعاته ومراكز تدريبه، واقتصرت تدريبات الجيش الباكستاني في البداية على المتفجرات وعمليات النسف والتخريب والتفخيخ وتكتيكات حرب العصابات، وزودوا الشباب الأفغاني بالأسلحة الهندية لنفي شبهة دعمها وتسليحها، في حال استولت الحكومة الأفغانية على هذه الأسلحة.
انقشعت العمليات العسكرية التي كانت بمثابة جرس إنذار للحكومة الأفغانية، عن تعاظم ثقة الحكم الباكستاني بالشباب الأفغاني الجهادي، لكن وبعد انكشاف أحد أسماء الضباط الذين يساعدون على عملية الانقلاب، استعجلوا بانقلابهم وفشلت الخطة، وفشلت معها المحاولة الثالثة للحركة في انقلابها، كما خسرت الحركة بهذه المواجهات التي سميت بمواجهات عام 1975 أكثر من (1600) شاب، ودفعت المعركة هذه إلى تقارب بين بوتو وداود. فلم يمنعها تبريد الجبهات بسبب تقارب داود وبوتو من استمرار نشاطاتها في معسكرات التدريب بدعم باكستاني، واستمر وضع الحركة بهذا الشكل حتى انقلاب الجنرال محمد ضياء الحق على حكومة رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو عام 1977.
يمر المؤلف في نهاية عام 1977 على أول صدام مسلح بين الجمعية الإسلامية التي يقودها رباني والحزب الإسلامي الذي يقوده حكمتيار.
عشية الغزو السوفيتي لأفغانستان، يتناول المؤلف خريطة الأحزاب الإسلاموية التي تشكلت وأخذت أبعادها الأيديولوجية والفكرية وحتى المناطقية على مر السنين وتطوراتها وانشقاقاتها، فيمر على الجمعية الإسلامية بزعامة رباني (التي تتشكل -في غالبها- من الأقلية الطاجيكية)، والحزب الإسلامي «حكمتيار» (بشتونية)، والحزب الإسلامي «يونس خالص» المنشق، والاتحاد الإسلامي بزعامة سياف، والأحزاب التقليدية (التي كانت مزيجًا من التحالف القبلي والمولوي)، الجبهة الإسلامية الوطنية التي يتزعمها أحمد الجيلاني، والجبهة الوطنية للإنقاذ التي يقودها صبغة الله مجددي، وحركة انقلاب إسلامي (تقودها شخصية مولوية هو محمد نبي محمدي).
الفصل الثالث: الغزو السوفيتي.. سنوات الجمر
يتناول المؤلف في هذا الفصل الغزو السوفيتي لأفغانستان وأحداثه، مروراً برد فعل باكستان الذي واصل فيه الجنرال محمد ضياء الحق دعمه للمقاومة الأفغانية، الذي كان يمثل البوابة الوحيدة للدعم العربي والغربي، فاستطاع بموازاة ذلك أن يبني مشروعه النووي وقنبلته الذرية، وما إن انسحب السوفيت من أفغانستان حتى تم اغتيال ضياء الحق بعد ثلاثة أيام من الانسحاب بإسقاط طائرته بعبوة متفجرة زرعت فيها. ويفصل المؤلف تلك الأحداث التي أعقبت الغزو، وما شهدته تلك المناطق من مقاومة الجهاديين الأفغان لها. يستعرض المؤلف بداية تفسيرات الغزو لأفغانستان، التي أشار فيها المؤلف إلى مدرستين سياسيتين، مرد إحداهما دفاعي ومرد الأخرى سياسي. كما يمر على أوجه الدعم الذي تلقاه الجهاديون الأفغان، ومن دعم دولي كدعم السادات للمجاهدين الأفغان، والدعم الأميركي، ويمر على الاستراتيجيات التي اتبعت فيها، والاستراتيجيات المضادة بين الأطراف المتقاتلة على مدار سنوات الحرب التي استمرت من عام 1979 إلى 1989.
الفصل الرابع: من الانسحاب السوفيتي إلى سقوط كابل
ركّز المؤلف على الانسحاب السوفيتي من أفغانستان وصولاً إلى سقوط النظام الشيوعي في كابُل عام 1992. تحدث عن تراجع الزخم الدولي للقضية بعد الانسحاب، ومضاعفة موسكو دعمها لحلفائها في كابُل أمام تراجع الدعم الأميركي لحلفائهم المقاتلين. ويتحدث عن تعويض القيادة السوفيتية الحزب الحاكم صواريخ (سكود) ويشير إلى مميزاته. ويمر على فترة الخلافات والنزاعات التي عصفت بحكومة المجاهدين، ليقرر زعيم الاتحاد الإسلامي عبد رب الرسول سياف التحرك إلى جبهات كابُل، وكذلك زعيم الحزب الإسلامي حكمتيار الذي بدأ يتحدث عن تنسيق بينه وبين سياف لشن هجوم على العاصمة كابل، ويقف على فتنة «فرخار» التي فجرت الاحتقانات الداخلية التاريخية، التي بدأت مطلع يوليو (تموز) 1989 في منطقة فرخار بولاية بدخشان شمالي أفغانستان، حين كان يتوجه بعض قادة مسعود إلى اجتماع دعا إليه في بنجشير من أجل الإعداد لخطة فتح بدخشان، وبينما كانوا يعبرون وادي فرخار الذي يسيطر عليه القائد بشیر خان التابع للحزب الإسلامي بزعامة حكمتيار، تعرضت القافلة لعدة صواريخ فقتل على الفور (5) أشخاص وأسر ثلاثون آخرون، ولم يمهل القائد بشیر خان الأسرى للتفاوض حولهم فقتلهم جميعا، وتذرع الحزب وقادته يومها بأن الحادثة أتت ثأراً لمقتل القائد عبدالوهاب وسید جمال التابعين للحزب الإسلامي في عيد الفطر الماضي على أيدي قوات مسعود. ويضيف المؤلف أنه ولأهمية ما يجري على الساحة، فقد وصل على التو محمد محمود الصواف، العراقي الذي عمل سابقًا مراقبًا عامًا للإخوان المسلمين في العراق، وراشد الغنوشي، وعبدالمجيد الزنداني، بالإضافة إلى عبدالله عزام، حيث تمكنوا مع علماء أفغان من إقناع الطرفين: حكمتیار ورباني بتجاوز الحادثة، التي وصفت في رسالة مشتركة بينهما على أنها فاجعة الجهاد الأفغاني، وتعهدت شخصيات عربية بدفع الدية لذوي القتلى. ويتحدث عن حادثة قتل عبدالله عزام بعد تفجير سيارته في وسط بيشاور، ويسرد سيرته التعليمية والعملية، ويصفه بـ«شيخ المجاهدين العرب في بيشاور»، معرفًا عنه كأبرز القيادات الإخوانية العملية التي لها دور في التحريض على الجهاد، خصوصًا من خلال مجلته «الجهاد» التي أسسها عام 1983. ويتحدث عن مقتل شخصيات قيادية أخرى.
يستعرض المؤلف أحداث انقلاب الجنرال شهناواز تاناي، وهو أحد أعمدة النظام الشيوعي، على صديقه السابق والرئيس محمد نجيب الله، وقبل أن يلجأ إلى باكستان بعد فشله بالانقلاب، رتب له حليفه الحزب الإسلامي الذي يقوده قلب الدين حكمتيار مؤتمرًا صحفيا في أفغانستان. وبدا الاصطفاف واضحًا بين الأحزاب، فانحاز سياف إلى صف مسعود الذي لم ترق له المحاولة، فبدا عليه الغضب من حكمتيار أكثر من غضبه على الشيوعيين. يرى المؤلف أن سيافاً فضل جبهة مسعود الطاجيكي على جبهة حكمتيار ابن عرقيته البشتونية.
يشير المؤلف إلى أن الساحة الأفغانية بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة ازدادت انقسامًا وتشتتًا بين فصائل المجاهدين، وبعد أن كان الخلاف بين «الأصوليين» و«المعتدلين» غدا الانشقاق والخلاف وسط الأصوليين أنفسهم، الذين انقسموا بين معسكر حكمتیار ومعسكر رباني مسعود. في هذه الأجواء ظهر تكتل للقادة الميدانيين دعا إلى اجتماع يضم (37) من القيادات الميدانية التاريخية التي تتمتع بوزن عسكري داخلي، وبسمعة سياسية خارجية مشهود لها. كان اللقاء في مطلع مايو (أيار) 1990، بدعوة وبتشجيع من القائد الميداني المعروف جلال الدين حقاني، وعبدالحق، وأحمد شاه مسعود. كان حقاني الذي برز قائدا للتجمع الجديد يأخذ على المجاهدين وحكومتهم عدم الجدية، والافتقار للتحرك الفعال والإيجابية، بالإضافة إلى مأخذه في استبعاد القادة الميدانيين عنها، واستبق رباني المؤتمر بدعوة إلى إشراك قادة ميدانيين في الحكومة. اعترض حكمتيار على التشكيلة ووصف رباني المؤتمر بالمؤامرة على الشعب الأفغاني. يشير المؤلف إلى أن التشكيلة تمثل ضغطًا على الأطراف السياسية المتنازعة.
الفصل الخامس: كابُل والحروب العبثية
يتحدث المؤلف عن اندلاع ما يصفها بـ«الحرب العبثية» بين فصائل المقاتلة، وكيف كان يغدو حليف الأمس عدو اليوم والعكس، وقد امتدت فترتها من سقوط العاصمة عام 1922 إلى سقوطها بأيدي حركة طالبان 1997. ليبدأ الأمر بتحالف الأقليات لتنقلب إلى تحالف حكمتيار مع دوستم، ومنها إلى تحالفه مع مسعود ورباني، من أجل وقف زحف حركة طالبان الأفغانية. لتختتم بظهور حركة طالبان الأفغانية عام 1994.
ومع سقوط كابُل لم يعد أحد يأبه بسقوط مدن أفغانية كان ولا يزال لها رنين تاریخي طوال سنوات الجهاد، فخلال ساعات تهاوت حصون الشيوعيين في مدن كمزار الشريف وقندهار وهيرات وغزني ولوجر، وجلال آباد وغيرها، وشكل المجاهدون فيها مجالس شورية لإدارتها. كان سقوط مدن كهذه كفيلا بإحداث زلزال حقيقي لا على مستوى أفغانستان فحسب، وإنما على مستوى المنطقة كلها، لكن سقوط كابُل اليوم غطى على سقوط كل هذه المدن التاريخية.
يبين المؤلف خريطة القوى العسكرية والسياسية في كابُل، التي جاءت على الشكل الآتي، ليسهل على القارئ تصور المعركة وأسبابها ونتائجها لاحقا. فعلى صعيد القوى العسكرية كان ثمة قوتان كبيرتان، هما: قوة الحكومة الأفغانية التي يقودها وزير الدفاع أحمد مسعود، ومعه المتحالفون من المليشيات الأوزبكية بزعامة دوستم، وتقدر هذه المليشيات بعشرة آلاف مقاتل، وتعرف بشراستها في المعارك، واستبسالها في القتال، وتسيطر على المراكز الحساسة في العاصمة، ومن بينها قلعة بالاحصار في الجنوب، ومطار كابُل في الشمال، حيث يديره الجنرال عبدالمجيد الذي يقول: إنه من أصول عربية، وهو نائب للجنرال دوستم. ويساعد مسعود ضابطان شيوعيان هما: الجنرال بابا جان، والجنرال مؤمن ونبي عظيمي، وكذلك حزب الوحدة الشيعي التابع لإيران، ولكن هذا الحزب كان عادة ما يدخل في معارك واشتباكات مع حليف مسعود البشتوني عبد رب الرسول سیاف، وهو القتال الذي استنزف الطرفين بشكل كبير على مدى سنوات الضياع هذه. أما قوى المجاهدين الأخرى فمتحالفة سياسياً فقط لا عسكريًا مع مسعود، كقوات جلال الدين حقاني، والقوات الموصوفة بالأحزاب المعتدلة، التي وقفت عسكريًا على الحياد، لكن سياسًا فكانت معه قلبا وقالبا. بمقابل هذا جبهة زعيم الحزب الإسلامي قلب الدین حكمتیار، فكان يقاتل وحده بالإضافة إلى بعض العناصر العربية التي استبسلت معه في حربه ضد قوات مسعود، وهو ما سيرغم الأخير على الوقوف ضد العرب ومطالبتهم بالرحيل عن أفغانستان، وظلت الحرب محتدمة بين حكمتیار وخصومه لسنوات، إلى أن تمكن في النهاية حكمتیار من التحالف مع مليشيات دوستم، التي كان يأخذ على مسعود تحالفه معها، ولكن بعد أن استغلها مسعود طوال السنوات الماضية.
يتحدث المؤلف عن المساهمة العربية في أفغانستان في التجنيد من خلال مكتب عبدالله عزام لاستقبال المتطوعين وإرسالهم إلى الجبهات، وعن المساهمة الطبية في أفغانستان التي يشير المؤلف إلى أنها غلب عليها الطابع الإخواني، مشيرًا إلى مشاركة عبدالمنعم أبو الفتوح، وكذلك المراقب العام للإخوان في سوريا محمد حكمت وليد. وعن المساهمة الإعلامية يشير إلى عدد من الأسماء، بينهم المؤلف ذاته، بجانب أحمد منصور، وأحمد بركات، وجمال إسماعيل، وعثمان البتيري، وأمجد الشلتوني، ومحمود عبدالهادي، وتوفيق غان، ورأفت يحيى وآخرين. كما يذكر المنظمات التي نشطت في الدعم الإغاثي في أيام الجهاد الأفغاني.
الفصل السادس: طالبان.. الظهور والزحف السريع
يتحدث المؤلف في هذا الفصل، عن ظهور حركة طالبان الأفغانية وتمددها السريع في أفغانستان بدعم باكستاني واضح، بعد أن سئم الباكستانيون حروبًا عبثية على حدودهم، ولم يمض ثلاث سنوات على ظهور الحركة حتى نحّت عن طريقها فصائل هزمت الاتحاد السوفيتي، وباتت عام 1998 تسيطر على معظم البقاع الأفغانية، باستثناء جزء من ولاية تخار المحاذية لطاجيكستان، حيث كان يقبع أحمد شاه مسعود، بينما خصمه حكمتيار يفر إلى إيران، أما رباني فقد منعته باكستان من الدخول إلى أراضيها، ليأخذ أطراف البلاد ملجأ له، لتنشغل الحركة بدخول القاعدة أفغانستان، واستخدامها إياها لعملياتها في الخارج، والتي بدأتها القاعدة بتفجير سفارتي أميركا في أفريقيا عام 1998، ثم ضرب المدمرة الأميركية يو إس إس كول عام 2000، ثم استهدافها برجي مركز التجارة العالمي 2001، رفض الملا عمر تسليم أسامة بن لادن، وفضّل مواجهة (38) دولة على تسليمه، وينتهي بسقوط حركة طالبان تحت وقع الضربات الأميركية الجوية.
يشير المؤلف إلى أن أول ظهور لاسم طالبان التي تعني طلبة المدارس الدينية كان عام 1987 على يد القائد لالا بلخ المعروف في قندهار، والذي قاتل أيام السوفيت تحت عنوان كتائب طالبان. ويشير الكاتب إلى أنه بعيدًا عن ما إذا كان الملا عمر قد أخذ الاسم منه أو نسق معه، أو أن ذلك مجرد توارد للأفكار، فإن الكل يجمع على أن المبادرة كانت من الملا عمر.
يقول المؤلف على لسان الملا عمر الذي روى له كيف تمكن من جمع النواة الأولى للحركة، التي هدفت في البداية إلى منع القادة الميدانيين وحكام المناطق من ظلم الناس، فكان أن تجمع البعض وبدأ حربه على هؤلاء الذين يظلمون الناس، فكسبوا محبة الناس ودعمهم وتأييدهم، كما يشير. يضيف أن لغة خطاب حركة طالبان كانت متسقة مع احتياجات الشارع القندهاري يومها، وهي الحاجة لوقف الفساد المستشري في المنطقة، بالإضافة إلى حالات السرقة والنهب، ولا أفضل من طلبة العلم في وقف هذه الممارسات؛ كونهم يعظون الناس بشكل يومي وأسبوعي، ويستمع الناس إليهم، ولذا فقد حرصت اللغة الطالبانية في البداية على عدم التطرق للغايات السياسية، واقتصرت على الحيز الذي يهم الناس، وهو الفوضى والاقتتال، وهو ما ساعد دخولهم قلوب الناس سریعًا، ولو طرحت أفكارا سياسية منذ البداية، لسارع الجميع إلى اتهامها بأنها تريد السلطة والنفوذ مثلها مثل غيرها من الفصائل والأحزاب المتقاتلة، وثمة علاقة تاريخية حكمت الملا الروحي مع السلطان الزمني بأعين الأفغان بشكل عام، وهو أن الملا بشكل عام اعتاد أن يكون تابعًا للسلطة السياسية، وليس قائدًا لها، الأمر الذي مهد للحركة طريق تمددها، فلم ينظر إليها الكثيرون على أن لها مصلحة سياسية وسلطوية من وراء هذا الخروج، ولم يشك أحد في أنها ستنافس السياسي على حيزه.
يورد المؤلف أن الملا محمد عمر ومن معه كانوا يطوفون على الحلق الدينية في المدارس، ويدعون تحديدا من يتوسمون فيه القبول لمشروعهم الوليد، مع الحرص على التركيز على النوعية، ويضيف الملا عمر في روايته عن تأسيس الحركة التي رواها لراديو كابُل سابقا، وراديو الشريعة لاحقاً: «وفي عصر ذلك اليوم ونحن نطوف على المدارس والمناطق بهذه الدراجة النارية، تمكنا من إقناع (53) شخصية دينية، ولم يمر سوى (24) ساعة حتى تجمع الكل في صلاة الفجر، فقام أحد الحاضرين وقال: «إنني رأيت في المنام أن الملائكة دخلت سنجسار، وكانت أيديهم ناعمة، فطلبت منهم أن يمسحوني بأيديهم للتبرك»، ثم طلبنا في صباح الغد الساعة العاشرة سيارتين من الحاج بشير، أحد تجار المنطقة، فأعطانا سيارتين: سيارة صغيرة، وسيارة شحن كبيرة، فنقلنا هؤلاء الطلبة إلى منطقة كشك نخود، وانضم إلينا آخرون، ولما كثر العدد استعرنا الأسلحة من الناس».
يرى المؤلف أن التطور السياسي للملا في أفغانستان كان طبيعياً تصاعدياً تماماً، بخلاف ما كان عليه السياسي الأفغاني، ملكا كان أو رئيسًا، فقد كان تطوره تنازلياً، كل لأسبابه المختلفة والمتنوعة، وكشفت الظاهرة الطالبانية أن الملا الأفغاني لم يعد ذلك الملا الساذج الذي يستطيع السياسي الأفغاني خديعته، وربما يعود ذلك إلى انفتاح الأفغاني على العالم الخارجي بعد أن كان محصوراً أيام الملوك في الغيتو الأفغاني، فاكتسب خبرات وتواصلاً ومعرفة بالعالم الآخر، وأكسبته سنوات الهجرة والاحتكاك مع العالم الآخر خبرة وتجربة، وصاغت عقليته التي لم تعد هي نفسها وشكّلتها من جديد، وأصبحت تفهم العالم ويفهمها أكثر مما كانت عليه في السابق، فلم تعد الخلطة السلطوية سحرًا وطلاسم بالنسبة له، وهو الذي خاض ألاعيبها خلال سنوات الجهاد، فامتلك كثيرًا من أدواتها، بالإضافة إلى علاقات خارجية، وبيئات داخلية لم تعد صالحة لقواعد لعبة ماضوية بعيدًا عنها.
يشير المؤلف إلى أنه يبرز في العادة دور الملا والشيخ بقربه من الشعب والمجتمع، فمع انهيار النظام الشيوعي، استشرت ظاهرة الفساد وسط بعض قيادات المجاهدين الميدانية، الذين برزوا فجأة على جسد المجتمع الجديد. واصلت هذه القيادات حربها الأهلية في كابُل وغيرها من المدن الأفغانية، مما خلق حالة من اللانظام والفوضى، فاستشرى الفساد، وتفشت المحسوبية، وراجت أنباء عن اعتداء بعض القادة الميدانيين على النساء، بل حتى على الأطفال. لم يكن هناك أحد يحاسب هؤلاء ما دامت السلطة في أيديهم، وما دام حكم أمراء الحرب والإقطاعيات العسكرية هو الغالب على أفغانستان ذلك الزمان، فقد ظهرت حركة طالبان كرد فعل على كل هذا، وبدأت الحركة تشق طريقها العسكري بقوة وبشكل سريع، شعارها العملي ما قاله لينين من قبل: «المهم السيطرة على الحكم ثم ينتصر كل شيء». كان الاقتتال بين قوات حكمتیار ورباني على أشده في العاصمة كابُل، حاولت حكومة برهان الدين رباني التواصل مع المتغير الجديد لاستغلاله في حربها مع خصمها الذي نغّص عليها الحكم طوال الفترة الماضية، فعرضت إغراءات مالية على طالبان لاستخدامها في قتال خصمها حكمتيار.
في السياق ذاته، يشير المؤلف إلى أن وزير الداخلية نصير الله بابر كان ينظر إلى المتغير الجديد فيها بغير ما كانت تنظر إليه حكومة رباني، كان يراه فرصة لتكنيس كل من هو في كابُل، دعم بابر في رؤیته تلك رئيسة وزرائه بي نظير بوتو التي كانت تطمح من خلال ذلك إلى القطيعة مع كل من له علاقة بإرث ضياء الحق مهما كانت بقاياه، وبالفعل تواصل بابر مع حركة طالبان وعرض عليهم مهاجمة مخازن الحزب الإسلامي في سبين بولداك الواقعة بين قندهار وكويتا الباكستانية، وحين بدأ الهجوم كانت حامية المخازن تظن أن الهجوم قد حصل من قبل القوات الباكستانية فولّت هاربة. وبعد سيطرة مقاتلي طالبان على مخازن السلاح التي احتوت على (18) ألف قطعة كلاشينكوف، فضلا عن صواريخ وقذائف مدفعية وذخيرة، عمل نصير على تسويق الحركة لدى صانع القرار الباكستاني، ونظرًا لخبرته الممتدة لعقدين ومعرفته بتعقيدات المشهد أكثر من صناع القرار الباكستاني من مدير المخابرات العسكرية وقائد الجيش، فقد استطاع إقناعهم جميعًا بالمتغير الجديد. فسيطرت الحركة على قندهار العاصمة الأولى لملوك الأفغان، التي تعتبر العاصمة الروحية، فأبقى على كابُل العاصمة السياسية التي بدأ يدب فيها القلق والذعر والشعور بالخطر وسط فصائل المجاهدين، فكان عام 1995 عام التمدد الطالباني، وسيطرت في منتصفها على أكثر من (10) ولايات أفغانية. وانضم جلال الدين حقاني إليها وبايع زعيم تنظيمها الملا محمد عمر. أدرك كل من رباني وحكمتيار أن الخطر الطالباني يتهددهما جميعًا. وواصلت الحركة قضم الجغرافيا التي تتشكل بين رباني وحكمتيار، فاستولت طالبان على مديرية حصارك بوابة جلال آباد التي سقطت لاحقا، وما لبثت أن انفرطت سُبحة ما تبقى من مناطق وصولا إلى كابُل.
يورد المؤلف أنه بعد سيطرة الحركة على الحكم في معظم أرجاء البلاد، ومع فتح بن لادن جبهة عالمية، واستهدافه السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام، كان من الواضح أن حركة طالبان بدأت تزداد عزلتها، بينما تنظیم القاعدة يتقدم على حسابها ومن ثم يحقق نجاحات تكتيكية على حساب الحركة، وأصبحت العلاقة عكسية بين تأخر الأول وتقدم الثاني، ومع تفجيرات نيروبي ودار السلام زادت الضغوط الدولية على طالبان من خلال باكستان، وطالبت أميركا طالبان بطرد القاعدة من أراضيها، لكن الحركة رفضت الطلب الأميركي، فزادت من عزلتها وحدت من تحركاتها الدولية التي كانت تسعى لتوسيع علاقاتها بكسب الشرعية الدولية، إن كان في الأمم المتحدة أو في المؤسسات الدولية الأخرى. لتجد طالبان نفسها قد أقصيت من المشهد بإسقاط حكومتها وتوديع المونديال الأفغاني في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2001، لتوفيرها الحماية والملاذ لأسامة بن لادن، منفذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، ورفضها تسليمه للولايات المتحدة الأميركية.
الفصل السابع: النسر الأميركي في القفص الطالباني
يتحدث المؤلف في الفصل الأخير عن عودة الحرب إلى أفغانستان مع قوى تحالف أجنبي آخرى قوامها (37) دولة تقودهم الولايات المتحدة الأميركية، أما حلفاء التحالف الدولي من الأفغان على الأرض، فهم معظم الأحزاب الجهادية التي كانوا حلفاءها بالأمس في الحرب على السوفيت، متناولاً سنوات المفاوضات بين طالبان وواشنطن، والتي يمر فيها المؤلف معها على أحداثها في الغرف المغلقة، وفي ساحات المعارك المستمرة متناوبًا على فتراتها التي تناوب على قيادتها ثلاثة زعماء: الملا محمد عمر (ت 2013)، والملا أختر محمد منصور (ت 2016)، والملا هيبة الله الذي لا يزال في القيادة. لم يغفل المؤلف الحديث عن ظهور تنظيم الدولة في أفغانستان. يستعرض المؤلف أبرز المعارك الحاضرة «معركة شاهي كوت»، والتكتيك الأميركي في الاغتيالات الجوية، وتكتيك الخطف الطالباني، ويتوقف عما تلا من تصاعد للخلاف الباكستاني- الأفغاني مبينًا أسبابه، ويفصل العلاقة بين طالبان أفغانستان وطالبان باكستان، ويقف على مقتل بن لادن، ووصول حمى داعش إلى أفغانستان.
الخاتمة
حاول الكاتب، الذي انبرى في تمجيد كتابات سيد قطب وأبي الأعلى المودودي وحسن البنا والاحتفاء بنهل الجماعات الأفغانية المقاتلة منها، أن يبين أثر دورها في تشكيل الوعي (المقاوم للاحتلالات) كأبرز المعالم في تطور و(ارتقاء) الجماعات المقاتلة في رسم النهج التحرري لهم، في حين يتوقف الكاتب عن الاستدلال بذلك لدى نشوء الحركة الطالبانية، وتقديمها للقارئ بعباءة المولوي كما أشار في تعريفه له، قبل أن يكشف عن غايات المولوي السياسية وتحالفاته العسكرية، وعليه قد يتوهم القارئ أن الحركة منفصلة عن تلك الأفكار، متجاوزًا قولبتها فيما كان يتشدق في حديثه عن كتابات أولئك الحركيين الإسلامويين إنجازًا لهم ولأرصدتهم، كما ظهر، في محاولة إخفاء وتدثير للصورة الذهنية التي قد ترتبط بهم في وصمها «الإخواني»، خصوصًا في ظل الصعود الذي شهدته الحركة بعد الانسحاب الأميركي ومساعيها في اعتراف دولي وقبول أممي. أما في حديثه عن ظهور داعش في أفغانستان تجنب أية إشارة للمؤلفات ومر على حضور التنظيم الإرهابي على مضض، مع حديثه عن انضمام عدد من مقاتلي الحركة للتنظيم، كان مرده إخفاء موت زعيم الحركة الطالبانية الملا عمر، يعاتب المؤلف تنظيم داعش بقوله إن من حماقات التنظيم صنف طالبان أفغانستان ضمن قائمة أعدائه، قبل أن يستشهد بأحد قادة طالبان فيما سجلته أفعال التنظيم لتجعل بعض عناصر الأخيرة من قيادات تنشق وتنضم للحركة في هجرة عكسية مجددًا، ليتمثل أمامنا بشكل جلي دورتهما الانشقاقية، وفي دائرة أكثر اتساعًا نواتها «الإخوان».
[1] باحث أردني متخصص في مكافحة التطرف والتطرف العنيف، عضو هيئة التحرير في مركز المسبار للدراسات والبحوث.