الكمون هو صناعة وفق حركية مشرعنة من محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي، أو غيره، لارتداء الأقنعة المختلفة حتى يحين الوصول للهدف، تحت ما يسمى “فقه الاستضعاف”، الذي يبحث في الحالة التي يكون فيها الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة أو الدولة المسلمة ضعفاء، فلا يقدرون على إظهار الإسلام وشعائره كلها أو بعضها، من استدعاء لأحكام شرعية تفارق فيها حالة التمكين بحيث يجوز في أزمنة أو أمكنة أو أحوال حال الاستضعاف ما لا يجوز في حال التمكين[2]، وهو ما نتعرض له في هذا المقال، حول جماعة الإخوان في موريتانيا كمثال واضح لذلك.
الجماعة في موريتانيا.. وقت الاستضعاف
يستند الإخوان في موريتانيا على توجيهات المرشد الخامس للإخوان مصطفى مشهور[3]، التي اعتمدت في بنائها الأساسي على المساجد، واستغلال التوجيه الديني الغالب في مناطق وولايات موريتانيا، واحتياجات الشعب الموريتاني اليومية، وامتلاك شبكة سرية وعلاقات جيدة مع الإسلامويين في الوطن العربي خصوصاً في الجزائر، وضمان الدعم المالي، والتواجد الإعلامي.
تشير الورقات إلى المهام الرئيسة في منطقة المغرب العربي وموريتانيا بالكامل وهي إعداد العناصر والبدء في الاستقطاب، والاتصال بكل القوى الإسلامية والسياسية الأخرى، والعمل العالمي مع المنظمات ومنتديات الوسطية وحركات المطالبة بتطبيق الشريعة، ومنظمات العمل لإعادة الديمقراطية، ثم تنفيذ منهجية التحرك مع القبائل والعائلات ورجال الإعلام والعلماء، وتشكيل تنظيمات وأحزاب تحت مسميات لا تثير الريبة.
يتوزع عمل الإخوان في موريتانيا مثل باقي الفروع الإخوانية؛ الأول هو محور العمل السياسي؛ الذي بدأ مع تأسيس حركة الإصلاحيين الوسطيين في منتصف السبعينيات، ثم الجماعة الإسلامية كأول تنظيم للتيار الإسلامي عام 1978؛ حتى تم تأسيس تنظيم حاسم عام 1990، ثم حزب الأمة، وأخيرًا حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل)[4] الذي تم إشهاره في أغسطس (آب) عام 2007. ليصبح بذلك حزبًا معترفًا به من طرف الدولة في ضوء التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها موريتانيا مطلع القرن الحادي والعشرين. أما المحور الثاني من عمل الجماعة فهو النشاط الاقتصادي التمويلي؛ مثل الاستثمار في انتاج وبيع الأدوية، ومحطات البنزين، ومحلات بيع الملابس والمواد الغذائية ووكالات بيع وتأجير السيارات إضافة إلى مراكز بيع العملات الأجنبية. وأما الثالث فهو المنظومة الدعائية الإخوانية الموزعة على المنصات الإلكترونية والصحف مثل “الأخبار”، و”السراج”[5].
ويأتي المحور الدعوي في المرتبة الرابعة، وهو الذي يعتمد على المساجد، واستغلال التوجه الديني والصوفي الغالب في مناطق وولايات موريتانيا بالإضافة إلى الاستفادة من أخطاء النظام في مجالات السياسة والاقتصاد، التي تتعلق بالعيش واحتياجات الشعب الموريتاني اليومية، إضافة إلى النشاط الخيري والاجتماعي مثل جمعية المستقبل للدعوة والتربية والثقافة، والتي تمثل الذراع الاجتماعي والخيري لحزب تواصل. وهنا يأتي دور “ولد الددو” و”مركز تكوين العلماء” لإعداد الكوادر من العلماء الدينيين، الذي يعمل على استقطاب أعضاء جدد، عن طريق اتخاذه واجهة علمية لأنشطة الجماعة الدينية والسياسية.
توظيف “الددو” في الصبر الاستراتيجي
تقوم سياسة الإخوان في موريتانيا على عقد الصفقات، وتوظيف الدعاية السياسية بغرض الضغط على النظام السياسي للحصول على مزيد من المكاسب السياسية. يُستشهد في ذلك بمشاركة حزب تواصل في الانتخابات البرلمانية والبلدية والجهوية، فيما يقاطعون الانتخابات الرئاسية، على الرغم من تشابه البيئة السياسية، لذا يُمكن الاستنتاج أنهم يتبنون الاستراتيجية التي تعتمد على مقاربة الفرص المتاحة التي تعتمد على أخذ ما هو متاح بدلًا من تركه، وكذلك التحلي بالصبر، لتحقيق ما لم يدركونه في الوقت الحالي للحصول عليه مستقبلًا، وفق الانتقال ما بين فقه الاستضعاف والتمكين[6].
يرى محمد الحسن الددو الشنقيطي، رئيس “مركز تكوين العلماء”، أحد أذرع الإخوان بموريتانيا، أنه في ظل حالة الهزيمة التي تواجهها التنظيمات الإسلاموية، فأنت ستكون أمام تطبيقات لـــ “فقه الاستضعاف”، بحيث يكون التكليف لأتباعها بحسب الطاقة، وارتباط الأحكام بالمصالح، وتطبيق ما يطلقون عليه “فقه الحركة والواقع”، والمقصود هنا تطبيق أحكام أو تنزيل أخرى وفق المصلحة، وأن هذا الفقه يتعلق بسلوك الأفراد والحكام والاقتصاد، وفق أولويات معينة فيه[7].
يرى الددو أن هناك داراً للحرب وأخرى للسلم، والفقه بينهما مختلف، ففقه دار الحرب هو الأقرب للاستضعاف، ومثال ذلك ما قالوه إن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير الحرب؛ لم يكن مأمورًا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، فأما في دار الإسلام والهجرة، التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية، ففيها شُرعت المخالفة، وأن الشريعة راعت التدرج في التكليف في مثل هذه الأوقات، ولم تكلف بما يصعب تطبيقه حال الاستضعاف أو يسبب الضرر بالمسلمين، وليس معنى هذا أن تلغى أحكام الشرع التي قد استقرت وأحكمت، بل المقصود أن تصرفات الشارع في مراعاة المستضعفين أول نزولها تفتح الباب أمام المجتهد لمراعاة حالهم بما يقتضيه دليل الشرع[8].
في مقابلة أخرى انتقد الددو عائض القرني، عقب مراجعاته وإعلان براءته، زاعماً إنه لا يجوز الاعتذار عن الجهاد والعمل الصالح[9]، ومخطّئاً في حديث آخر سماحة مفتي المملكة العربية السعودية، الذي هاجم الإخوان وقرن بينهم وبين النصرة وداعش[10].
ومن هذه المنهجية يحتفظ “الددو” وجمعية تكوين العلماء[11]، بصلات مباشرة مع حزب تواصل وباقي الشبكة الميدانية للجماعة، ولا يستطيع قادة المركز نكران كلّ رموز التيار الإخواني الذين يزورون البلد، ويحرصون على زيارته، مثال ذلك؛ نائب مرشد التنظيم الإخواني، جمعة أمين، الذي حرص على زيارة المركز عند أول لحظة لوصوله إلى موريتانيا قبل وفاته.
وقد اتهمت الحكومة الموريتانية مركز تكوين العلماء ببثّ خطابات الكراهية والفكر المتطرف، ورأت أنّ الإخوان يقومون بتوظيفه لاستقطاب أعضاء جدد والترويج لأفكار الحركة بين الجماهير، والاستفادة من أنشطته والمصادر التمويلية التي يوفرها، بل واتخاذه واجهة علمية لأنشطتهم.
المراجعة وسيلة للاختراق
يستغل الإخوان في موريتانيا ملف المراجعات والحوار مع التيار الأصولي الراديكالي من أجل اختراق الحالة السياسية الموريتانية. وكان “ولد الددو”، الذي أمضى ثلاث سنوات في السجن خلال حكم الرئيس الموريتاني “معاوية ولد سيدي أحمد الطايع”، ووصفه بـ”المفتون المفتتن”، علق على المبادرة الرسمية الحكومية لتصحيح مفاهيم المتطرفين بقوله: قائلاً: “إن من بين محاور النقاش قضية تكفيرهم رأس النظام الموريتاني ومن يساعده في مستوى معين وأيضاً يرون إباحة دماء المستأمنين .. واتفقنا في قضية التكفير أن الدار دار إسلام وأن الشعب مسلم وأن الإيمان والكفر توقيفان ولا يمكن أن يعرفا إلا بوحي، وأيضاً من ذلك شبهة تعطيل الأحكام الشرعية فقلنا لهم، إننا لا ننكر أن الكثير من الدول الإسلامية عطلت الكثير من الأحكام الشرعية، ونحن نطالبها بتنفيذها، لكننا نرى أن هذا التعطيل ليس تبديلاً، والتبديل كفر والتعطيل ليس كفرا”[12].
دحض “ولد الددو” فتواه أثناء “الربيع العربي”، والتي قال فيها عام 2014 بوجوب الخروج على الحكام، وذلك في لقاء على إحدى القنوات التابعة لجماعة الإخوان باعتبار “أن لا أحد من الحكام يطبق شرع الله”.[13]
جعل ولد الددو هو الشخصية المحورية والفاعل الأبرز في هذا الحوار، من أجل تمكينه من التربع على عرش الفتوى والزعامة الدينية لتمكين الإخوان من خلاله في الساحة الدينية، وتلفيق دور محوري له ليقولوا للحكومات الغربية نحن نحارب الإرهاب، لذا فقد طالبت الجماعة في بيانات رسمية بفتح باب الحوار مع التيار السلفي الأصولي ومقاتلي تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وذلك تحت دعاوى ترسيخ مبادئ الديمقراطية.
على إثر اختراق الإخوان للساحة الدينية عن طريق المراجعات الفكرية، أقر الرئيس الموريتاني تشكيل لجنة علمية ضمت عدداً من العلماء، طلب منها دخول السجن ومناقشة سجناء تيار السلفية “الجهادية” في موريتانيا، وكان من بين نقاط الحوار التي وقفت عليها رموز القاعدة في بلاد المغرب من بينهم “محمد سالم” الملقب بـ”المجلسي” والموقوف لرفضه للنظام الديمقراطي، الذي لطالما اعتبره نظاماً كفرياً لا ينبغي للمسلمين أن يحتكموا إليه، ولحصد المكاسب السياسية عمد تيار الإسلام السياسي ممثلاً بجماعة الإخوان المسلمين في موريتانيا إلى تصدير ولد الددو، كممهد وصانع لهذه المراجعات الفقهية[14].
الشبكة والتنظيم الميداني
استمراراً لـ”الكمون والحلزونية” نجح إخوان موريتانيا في صناعة شبكة وتنظيم ميداني من مساجد ومراكز وجمعيات ووسائل دعائية، من بينها “جمعية المستقبل للدعوة والثقافة والتعليم”، التي يرأسها محمد الحسن ولد الددو، والمدعومة من حزب التجمّع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل”، المحسوب على الجماعة، والتي أغلقتها السلطات بسبب تلقيها تمويلات خارجية.
وقد أشار تقرير صادر عن موقع (The portal) أن جامعة “عبدالله ياسين” يهيمن عليها تيار الإخوان المسلمين في موريتانيا. كما يمتلك الإخوان تنظيماً خاصاً للأنشطة الجماهيرية؛ تستغل هامش المجتمع المدني، في حين تفوض القيادة السرية التي تتولى مركز القرار والثروة، الواجهة السياسية “تواصل” لتوزع الأدوار على أذرع التنظيم؛ الاعتبارية، والإستراتيجية، والسياسية، والنقابية، والمالية، والخيرية، والروحية[15].
ويسيطر التنظيم على مؤسسات تجارية كبيرة، ويباشر تسيير ميزانيات ضخمة تطال جميع المجالات التجارية؛ من صيدليات، ومحطات بنزين، ومحلات بيع الملابس والمواد الغذائية، ووكالات تأجير السيارات، وبيع العملات الصعبة في السوق السوداء، كما استصدر فتوى هيئة تابعة له مكلفة بالإفتاء بضرورة دفع أموال الزكاة في صناديق لتمويل الحزب[16].
وأنشأ التنظيم وتبنى منظمات عدة لتبييض الأموال والاستيلاء على الصدقات وأموال الزكاة الوافدة، من أبرزها: “الجمعية النسوية لمكافحة الفقر والأمية”، و”جمعية الإنارة لمكافحة الفقر”، كما يمتلك شبكة من المعاهد الصورية التي توكل إليها مهمة الاكتتاب وإغراء الشباب في الأوساط الاجتماعية الهشّة، لتجنيدهم لاحقاً في صفوف التنظيم.
[1]* باحث مصري متخصص في الحركات الإسلاموية.
[2] ولد الددو، مراعاة الفرق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين، أضواء، على الرابط الآتي:
https://www.youtube.com/watch?v=0FBsesxZs7w
[3] مصطفى مشهور، خطة التمكين، أوراق ووثائق بحوزة الكاتب.
[4] حزب “تواصل” الإخواني جرى تدشينه في صيف العام 2007، يعد الوريث الأبرز للإسلام السياسي في موريتانيا، حيث يتبع الحزب، فكر جماعة الإخوان ومتأثر بأفكار حسن البنا وسيد قطب، ويعمل على الوصول للسلطة.
[5] مصطفى مشهور، مرجع سابق.
[6] محمود جمال، أي مستقبل ينتظر الإخوان المسلمين في موريتانيا؟، المركز العربي للبحوث، 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2018، على الرابط الآتي:
http://www.acrseg.org/40963
[7] موقف ولد الددو من حركات الإسلام السياسي، الجزء 2، الجزيرة، 28/04/2017، على الرابط الآتي:
https://www.youtube.com/watch?v=sVsHKurHPZo
[8] ولد الددو، دار حرب ودار إسلام واجتهاد العلماء، مفاهيم 5، على الرابط الآتي:
https://www.youtube.com/watch?v=pN0ZClhfUoI
[9] برنامج بلا حدود الجزيرة، على الرابط الآتي:
https://www.youtube.com/watch?v=_9Zt4Q__e4k
[10] تعليق ولد الددو على تصريح مفتي السعودية، الجزيرة، على الرابط الآتي:
https://www.youtube.com/watch?v=F-h6A9vycmc
[11] المنبر الأبرز الذي تطل منه قيادات الصف الأول من الإخوان في موريتانيا، فأغلبهم يتبادلون الخطابة، ويحتكرون الوصاية على أمر مسجد المركز، كما يعدّ هو المأوى الأكثر جاذبية لكل برامجهم وأنشطتهم، حيث تعقد به اللقاءات والدورات الدورية لرسم السياسات ووضع الخطط التي تساعد في تمدد وانتشار التنظيم وبسط نفوذه على عقول ومشاعر الناس.
[12] الددو الشنقيطي.. ناشر التطرف في موريتانيا، موقع صوت الدار، 15 فبراير (شباط)، 2020، على الرابط الآتي:
https://cutt.us/3QFlg
[13] المرجع نفسه.
[14] هدى الصالح، حكاية الإخوان وسياسة الباب الدوار في موريتانيا، موقع العربية نت، 17 يوليو (تموز) 2019، على الرابط الاتي:
https://bit.ly/3QozWgC
[15]الإخوان في موريتانيا.. الشبكة السرية، موقع حفريات، 23 سبتمبر (أيلول) 2021، على الرابط الآتي:
https://bit.ly/2ThIrey
[16] المرجع نفسه.