ريتا فرج[1]*
دخلت الرهبانيات في الشرق منذ بداياتها التاريخية الأولى في مسارات متعرجة، ارتبطت بتقلبات السلطة السياسية والتحولات الدينية والصراعات العقائدية التي خبرتها المسيحية في تجاربها الدينامية. ليس من السهل الإحاطة بالتراث الرهباني في الكنائس الشرقية والغربية؛ وهو تراث يكتسب أهميته من عوامل عدة، لعل أبرزها تجارب الإصلاح الرهباني[2] التي أسهمت في مأسسة الكنائس ورسم أدوارها الراعويّة (الاجتماعية والإنسانية) بين جماعة المؤمنين والجماعات المؤمنة الأخرى.
مرت الكنيسة المارونية أو الكنيسة الأنطاكية السريانية المارونية قبل نضوج تجربتها بمراحل تاريخية مؤلمة، لا سيما في الحقب التأسيسية. وبعد مسارات طويلة، بدءاً من النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، الذي شهد بروز أول كنيسة مارونية مستقلة وأول مجتمع ماروني منظم، على ضفاف نهر العاصي في سوريا الشمالية، اكتسبت تدريجياً عناصر هويتها؛ وهي اليوم على أعتاب النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين، تتجلى بحضورها الفاعل والمؤثر، على مستوى الديني والاجتماعي والثقافي، في زمن يكثر فيه القلق حول أحوال المسيحيين ومصائرهم، وتتكاثف فيه أيديولوجيات التباغض والتكاره والانقسامات والهويات القاتلة.
تسعى هذه الورقة إلى دراسة ثلاثة محاور رئيسة: نشأة وهوية الكنيسة الأنطاكية السريانية المارونية، الرهبانيات المارونية في لبنان، وخطاب العيش المشترك في الكنيسة المارونية في لبنان.
نشأة الكنيسة المارونية وتكونها في جبل لبنان
يؤلّف الموارنة شعباً تعود جذوره إلى منظومة شعوب الشرق الأوسط القديم، وهو يتحدَّر من أصل آرامي، قد اغتنى بما انضمّ إليه من مجموعات إثنيّة مختلفة بفعل الاجتماع والانتقال والاختلاط. استوطن الآراميون في بلاد ما بين النهرين وسوريا، وصنعوا لهم فيها حضارة عريقة، وتمكّنوا من الحفاظ على هويّتهم الثقافيّة، لا سيّما اللّغة الآرامية، التي انتشرت في المدن والأرياف وبقيت حيّة مستخدمة في العصور المسيحيّة الأولى (…) أسس أجداد الموارنة الكنائس في أنطاكيا، العاصمة السياسيّة والإداريّة والثقافيّة للإقليم الشرقي للإمبراطورية الرومانيّة، والتي أضحت قاعدة البشارة المسيحية في الشرق[3].
برز دير مار مارون[4]، على نهر العاصي، مهداً للكنيسة المارونية، بفضل رهبان دير مار مارون، أو “جماعة بيت مارون”، إذ احتضنها حوالي خمسمئة سنة، وفيه انتخب بطاركتها وأساقفتها الأوائل، فأمسى المُحرك الأول ومقر النشاط العقائدي والتنظيم الطقسي لها. بعد أن أبصر النور “كيانٌ دينيٌ ثقافيٌ وحضاريٌ” خاصٌ بهم، نزح قومٌ من سوريا واعتصموا في المناطق الشمالية من لبنان. من المرجح أن يكون النزوح قد تمّ على دفعات متتالية، وفق الاضطهادات التي حصلت، إن من جانب الدولة البيزنطية عبر تاريخها المتقلب، أم من جهة الفاتح العربي[5].
يشير المؤرخ اللبناني جواد بولس إلى أنه “قبل الفتح العربي الإسلامي لبلدان الهلال الخصيب (635-640) أي لبنان وسوريا وفلسطين، كانت هذه البلدان، أجمعها –تقريباً- تعتنق الدين المسيحي. وكانت تشمل أربع كنائس كبرى متميزة، مع مجتمعاتها من المؤمنين وتنظيماتها الإكليريكية الخاصة (بطاركة وأساقفة وكهنة وغيرهم). وهذه الكنائس هي: الكنيسة الملكية أو الأرثوذكسية (وهي كنيسة رسمية -تقريباً- تخضع للتوجيهات الملكية، أي الإمبراطورية البيزنطية)؛ الكنيسة النسطورية؛ الكنيسة المونوفيزية، أو اليعقوبية؛ الكنيسة المارونية. وكانت اللغة الدينية والأدبية لهذه الكنائس الأربع هي اللغة الآرامية، أو السريانية، وهي اللغة الدارجة لبلدان الهلال الخصيب آنذاك. أما في الكنيسة الملكية، أو الأرثوذكسية، حيث كانت اللغة الآرامية لغة الطقوس الكنسية، فقد حلت محلها بعدئذٍ اللغة اليونانية”[6].
ويلفت بولس إلى أنه “في البدء، كان الموارنة مندمجين بمسيحيي سوريا الملكيين. وعند انشقاق المونوفيزيين، أو اليعاقبة[7] سنة 451م، على إثر انعقاد مجمع خلقيدونيا، وجد الموارنة الفرصة مناسبة للانفصال عن باقي مسيحيي سوريا، وتأسيس كنيسة ومجتمع طائفي متميزين ومتمسكين -هنا أيضاً- بتعاليم مجمع خلقيدونيا. وقد تكاثرت أديرتهم على ضفاف العاصي، وكان أشهرها دير القديس مارون، الذي أصبح المركز المسيحي الأكثر أهمية في سوريا. فكانت له الأولوية على جميع المؤسسات الدينية في المنطقة. وهو أعطى اسمه، ليس فقط للرهبان، بل للمؤمنين الذين تبعوهم، أي للشعب الماروني. وكان تعلق رهبان دير القديس مارون بتعاليم مجمع خلقيدونيا يسبب لهم متاعب قاسية، وخصوصاً من جانب المونوفيزيين، الذين كانوا كثيري العدد ونافذين. وفي السنوات الأولى للقرن السادس، لقي (350) راهباً مارونياً حتفهم وأحرق عدد من أديرتهم. وبعد الفتح العربي الإسلامي، غدا للمونوفيزيين نفوذ لدى العرب، إذ إنهم رحبوا بهم عندما جاؤوهم كفاتحين، وذلك بسبب كره المونوفيزيين للبيزنطيين. وفي القرن السابع، ظهرت في الشرق عقيدة لاهوتية جديدة: مسألة المشيئة الواحدة في المسيح. اختلف المسيحيون حولها واشتد النزاع. بعضهم كان يقول:إن في المسيح مشيئة واحدة هي المشيئة الإلهية. وبعضهم كان يقول بمشيئتين: إلهية وإنسانية.أخذ الموارنة برأي البابا هونوريوس الأول (625–638) الذي قال: إن في المسيح مشيئة واحدة: هي المشيئة الإلهية. هذا الموقف من قبل الموارنة أضاف إلى أعدائهم: المونوفيزيين، أو اليعاقبة، والنساطرة، عدواً ثالثاً: هم القائلون بأن في المسيح مشيئتين. وفي 680-681، عقد في القسطنطينية سادس مجمع ديني، أو مسكوني، بطلب من الإمبراطور قسطنطين الرابع، وبحضور ممثل عن البابا. فنقض المجمع نظرية البابا هونوريوس الأول وقرر أن في المسيح مشيئتين: إلهية وإنسانية. فتبع الموارنة هذا القرار. وانصب عليهم غضب الذين لا يقولون بالمشيئتين”[8].
يجمع المؤرخون واللاهوتيون على القول: إن دير مار مارون[9] بأسقفه ورهبانه ومؤمني الجوار، شكل النواة الأولى لنشأة الكنيسة المارونية، دون أن ننسى أن الدير ورهبانه انبثقوا هم أيضاً من جوار مؤمن. وفي هذا قيل: “إنها ظاهرة فريدة في تاريخ الكنيسة الجامعة، حيث لا تعرف كنيسة أخرى خرجت من دير، وتمحورت حوله، بالرغم مما كان للحركات الرهبانية من أثر عميق في حياة الكنائس في الشرق والغرب؛ فمن الطبيعي، إذاً، أن تتميز الكنيسة المارونية بروحانية نسكية ورهبانية، انطبعت بها منذ نشأتها، وتشابك تاريخها بمصير الحياة الرهبانية التي بقيت بمثابة القلب النابض فيها”[10].
كان همّ الموارنة الأول، عند وصولهم إلى لبنان[11]، تنظيم أمور العبادة، ومنذ أواسط القرن الثامن، نجد كنائس مارونية، مثل كنيسة دير مُرت مورا –إهدن، وهي بنيت سنة 749م. وكان القادمون الجدد على اتصال بالسكان المحليين، من بينهم عناصر كالجراجمة[12] (المردة) فدمجوهم بهم، بحيث أصبحوا شعباً واحداً[13]. في أواسط القرن العاشر، وعلى إثر دمار دير القديس مارون على العاصي، انتقل مركز الكرسي البطريركي الماروني إلى جبل لبنان، سنة 945م، وغدا البطريرك، الذي لا يزال يحمل لقب “بطريرك أنطاكيا”، يقيم منذئذ في مختلف الأديرة المارونية في جبل لبنان، حيث يسهر على تطور الموارنة في لبنان وخارج لبنان. وهو يقيم، اليوم، في دير سيدة بكركي، قرب جونية شتاء، وفي الديمان، قرب الأرز، في شمالي لبنان، صيفاً[14].
واكبت الكنيسة المارونية بعد حقبة التكون والتطور في الجبل اللبناني، المراحل التاريخية التالية: العهدان الأموي والعباسي، الحملات الصليبية، عهد دولة المماليك، الخلافة العثمانية (1516-1918)، والحقبة التاريخية المعاصرة. ليس الهدف من هذا التحقيب الزمني، التأريخ لتاريخ الموارنة وفقاً للخلافات الإسلامية المتعاقبة، أو الحديث عن علاقة الموارنة بالصليبيين[15]، فهذا مجال آخر لا تتسع هذه الورقة للخوض به، إنما هدفنا –هاهنا- الإشارة إلى حالة المد والجزر التي طبعت علاقات المسيحيين بالخلافات الإسلامية، لا سيما مع السلطنة العثمانية، إذ اعتمد العثمانيون على “نظام أهل الذمة” الذي أدى إلى إنتاج التمايز بين أفراد المجتمع العثماني على أساس الدين، ولم يكن هذا التمايز طارئاً على المسيحيين، فقد خبروه مع الفتوحات العربية الأولى بعد النبي، واستمر في العهود الأموية والعباسية، وزاد حدة في عهد المماليك. يلفت المؤرخ اللبناني جوزيف أبو نهرا إلى أنه “على الصعيد الاجتماعي خضع المسيحيون (إبان حقبة الدولة العثمانية) في المناطق المختلطة بينهم وبين المسلمين، وخصوصاً المناطق ذات الأكثرية الإسلامية، إلى قيود في اللباس، وكانوا ملزمين باعتماد أزياء وألوان تميزهم عن المسلمين، وكذلك الوضع بالنسبة لليهود. سنة 1580 أصدر السلطان مراد الثالث فرماناً منع فيه أهل الذمة من لبس العمائم والأحذية السوداء، وألزم المسيحيين بلبس قبعات سوداء واليهود قبعات حمراء. وفي القرن الثامن عشر، برزت العادة، عند بعض المسلمين، بلبس قبعات شبيهة بتلك الخاصة باليهود فأصدر السلطان محمد الأول فرماناً، سنة 1730، حدد فيه عقوبة الشنق للمخالفين. وكان آخر فرمان سلطاني ينظم شؤون اللباس الخاص بأهل الذمة قد صدر عن السلطان محمود الثاني سنة 1837”[16].
هوية الكنيسة الأنطاكية السريانية المارونية
أصدر المجمع البطريركي الماروني عام 2006 (24)[17] وثيقة (أو نصاً، عرفت بنصوص المجمع البطريركي الماروني) هي حصيلة المجمع الذي انعقد على ثلاث دورات امتدت ثلاث سنوات ما بين عامي 2004 و2006، برئاسة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، شارك فيه حوالي (450) مشاركاً بين المطارنة والرؤساء الرهبانيات ومندوبي الرهبانيات ومندوبين علمانيين من الأبرشيات، إضافة إلى ممثلين عن الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية، وثلاثة ممثلين عن السنة والشيعة والدروز في لبنان. ويعد هذا المجمع الأهم في تاريخ الكنيسة المارونية وقد حدد فيه -إلى جانب قضايا أخرى- “هوية الكنيسة الأنطاكية السريانية المارونية”، وفي الملف الأول (النص: 2) من النصوص تم استجلاء عناصر هوية الكنيسة المارونية[18]: “إن الموارنة هم أولاً، كنيسة أنطاكيّة سريانيّة ذات تراث ليتورجيّ[19] خاصّ؛ ثانيًا: كنيسة خلقيدونية؛ ثالثًا: كنيسة بطريركيّة ذات طابع نسكيّ ورهبانيّ؛ رابعًا: كنيسة في شركة تامّة مع الكرسي الرسولي الروماني؛ خامسًا: كنيسة متجسّدة في بيئتها اللبنانيّة والمشرقيّة، وفي بلاد الانتشار. وبما أنّ دعوة الكنيسة المارونيّة ورسالتها لا تنفصلان عن هويّتها، فاقتضى الأمر بإظهارهما تباعاً، انطلاقاً من العناصر المكوّنة لهذه الهويّة”[20].
إن مؤشرين مهمين يشير إليهما النص الخاص بهوية الكنيسة المارونية: الأول: التشديد على المفهوم اللاهوتي للكنيسة– الشركة، المنبثق من مآثر المجمع الفاتيكاني الثاني في روما (1962-1965) حيث يحث المجمع الماروني الإكليروس والرهبان والراهبات والعلمانيّين، “على التعمّق في سرّ الشركة واستجلاء مضامينه العمليّة، إن على صعيد كنيستنا البطريركيّة، أو على صعيد علاقتها بالكرسيّ الرسوليّ الروماني[21]. في ضوء لاهوت الكنيسة -الشركة، تَحرص أيضًا كنيستنا، مع سواها من الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة، على متابعة الحوار مع المراجع الرومانيّة لتذليل ما تبقّى من صعوبات قانونيّة تحول دون ممارسة بطاركة تلك الكنائس مَهمَّتهم الراعويّة التامّة على أبنائهم المقيمين خارج النطاق الأنطاكي[22]. ولا ريب أنّ متابعة الحوار هذا ضمن الكنيسة الكاثوليكيّة، له انعكاساته على مستقبل الحوار المسكوني بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس الأرثوذكسية”[23]. أما الثاني فيشدد على دور الكنيسة المارونية في “المجتمع الديني التعددي” وجاء في نص الوثيقة: “وقد أُعطِيَ لكنيستنا المارونية، كما لسواها من الكنائس الشرقيّة، أن تشهد لوديعة الإيمان الرسولي وسطَ مجتمع دينيّ تعدّديّ، منذ أن ظهر الإسلام في أرجائنا، في مطلع القرن السابع، وتنامَى، بحيث أصبح دينَ الأكثريّة الساحقة لشعوب منطقة الشرق الأوسط. وبالرغم من تناقص عدد المسيحيّين في هذه البقعة من الأرض، لم يغب عن الموارنة أنّ الكنيسة، بفعل رسوليّتها، ليست من أجل ذاتها. فسعَت كنيستُنا جاهدةً، بالرغم من قلّة عدد أبنائها والمعوّقات من كلّ نوع، إلى أن تظلّ حاضرة في بيئتها. فتعاوَنَت مع شركائِها في المصير الواحد على إرساءِ أُسسِ المجتمعِ التعدُّدي، فكانَ لبنانُ -الرسالة، كما جاء أعلاه (عدد 38). فلا بدَّ لكنيستِنا من أن تواصلَ تلك الرسالة وَفق متطلِّباتِ عالمِ اليوم. فهي، إنْ سعت في مجمعها إلى استجلاءِ عناصرِ هويّتِها ودعوتِها ورسالتِها (الملفّ الأوّل)، وبَحَثَت في سُبُل التجدُّد الراعوي الذي يُصيبُ الأشخاصَ والهيكليّات والمجالات الراعويّة (الملفّ الثاني)، فلكي تكونَ حاضرةً، باسمِ المسيح، في عالم اليوم، وفاعلةً فيه. أمّا مجالاتُ هذا الحضور فهي متنوّعةٌ ومتكاملة. فيترتّبُ على الموارنة، كلٌ وَفقَ موهبتِه، أنْ يلتزموا العملَ في الشأنِ التربويِّ والثقافيّ والسياسيِّ والاقتصادي والاجتماعي والإعلاميِّ (نصوص الملفّ الثالث)، فيشهدون، بجرأةٍ نبويةٍ، لرسوليةِ الكنيسة، ويُسهِمون في ترقّي الإنسان في مجتمعاتهم المختلفة”[24].
إن الأهمية البارزة لمفهوم “المجتمع الديني التعددي”[25] ارتبطت بإصرار الكنيسة المارونية على التعاون مع شركائِها في “المصير الواحد”، وهذا الخطاب الكنسي إنما يؤشر على ضرورة إيلاء “دولة العيش المشترك” الأهمية المرجوة، وهذه القيمة تظهر بجلاء بتأكيد “أن مصير الموارنة السياسيّ والاجتماعيّ انطلق من ارتباط دينيّ وثقافيّ، جعل منهم طائفة لها وجهها المميّز، من خلال الخيارات الأساسيّة التي غلّبت فيها مبدأ الانفتاح والوصل على مبدأ الانغلاق والفصل؛ فتعاونوا مع الغير بغية خلق إرادة عيش مشترك، وهذا ما يشرح رفض الموارنة أن يكون لهم بلد يتفرّدون به وحدهم، وتفضيلهم دومًا العيش المشترك”[26]. لعل هذه الخاصية لم تكن بجديدة على تاريخ الكنيسة المارونية، وفي هذا السياق نورد نصاً للمؤرخ اللبناني كمال الصليبي (1929-2011) جاء فيه: “… وكان في ظل المتصرفية أن أخذ الموارنة ينضجون سياسياً كفئة حاكمة ويتدربون في المسؤولية، فتحولت عصبيتهم الدينية تدريجاً إلى ولاء للبنان كوطن يجمع بينهم وبين الطوائف الأخرى في البلاد، ضامناً مصالح كل طائفة ومؤمناً العيش الحر الكريم للجميع. وهكذا نشأت الفكرة اللبنانية وترعرعت في كنف عصبية الموارنة، فغدت الكنيسة المارونية القوام الأساسي لهذه الفكرة، والمؤسسة المجسدة لها في غياب دولة لبنانية تقوم بهذه المهمة”[27].
الرهبانيات المارونية في لبنان
بدايات الحياة الرهبانية في الشرق
بدأت الحياة الرهبانية في الشرق في القرن الثالث الميلادي، وبلغت أوج نموها في القرن الرابع الميلادي. ويُعد الناسك أنطونيوس الكبير (Anthony of Egypt) المولود في مصر سنة 251م، مؤسس الرهبنة الشرقية، فقد دعا إلى حياة الانفراد والعزلة، وإنكار الذات والصلاة والتفكير بالله، بعيداً عن المدن والاضطرابات الدينية. وعاش في انفراد تام مدة عشرين عاماً، مجاهداً بالصوم والصلاة ومعرضاً ذاته لجميع أنواع الحرمان، فذاع صيته في كل أنحاء مصر، وتوافد المسيحيون لزيارته، ورغبوا في العيش بقربه وتحت قيادته، فتألفت حوله جمعية من التلاميذ النساك، وكانت أول جمعية رهبانية (عام 305م). ولم يكن لها قوانين مفصلة بشأن الحياة النسكية، بل جملة من الطرق لبلوغ الكمال الروحي والأدبي السامي، اقتداءً بسلوك مؤسسها ومثله وأخلاقياته. وقد دعيت هذه الجماعات النسكية “لافرا”. وظهر في زمن أنطونيوس نمط آخر لحياة الرهبنة، هو الرهبنة الجماعية، أسسه باخوميوس الكبير (Pachomius) المولود سنة 290م، وقد أسس باخوميوس أديرة عدة متقاربة على شواطئ النيل، وبنى أيضاً ديراً للنساء على شاطئ النيل المقابل، كانت شقيقته أولى من سكنه. ثم وضع قوانين محددة للحياة الجماعية، كانت بمثابة أول نظام رهباني. قسم فيه جماعة الرهبان إلى أربع وعشرين درجة، حسب تقدمهم في الحياة الروحية، ووضع هذه الجماعة تحت إدارة رئيس عام واحد (أرشمندريت)، وكان هذا الرئيس هو باخوميوس نفسه. وكان نظام الرهبنة صارماً بغرض «الفقر الاختياري» الذي يقضي بتوزيع جميع المقتنيات على الفقراء، وارتداء ثياب بسيطة ومتشابهة، والعمل من أجل الإنفاق على الأخوية، ومنع تنقل الرهبان من مكان إلى آخر، وفرض اختباراً مدته سنة كاملة على الرهبان الجدد ليظهروا استعدادهم للعيش وفق هذه القوانين.[28]
وقد اتسع نطاق الرهبنة المنفردة والجماعية كثيراً، فانتشرت في كل أنحاء مصر، وانتقلت إلى سورية وآسيا الصغرى وسواحل البحر الأسود الجنوبية. ومع بداية القرن الخامس انتشرت الأديرة في الشرق كله، وبرز رهبان كثيرون أمثال: آمون (Amon) ومكاريوس المصري (Macarius) وهيلاريون (Hilarion) وباسيليوس (Basilios) وبيلوسيوط ( Bilosiot ) وأفثيميوس (Aphtimios) وسمعان العمودي ((St.Simeon Stylites ) وسابا المتقدس (Saba) ويوحنا فم الذهب (John Chrysostomus) وغيرهم. وقد التزمت الرهبنة في جميع الكنائس الشرقية إلى اليوم الحاضر القانون المنسوب إلى باسيليوس وأنطونيوس، وأديرتها كثيرة ولها نفوذها السياسي والديني الكبير[29].
جذور الحياة الرهبانية السريانية الأنطاكية
منذ القرن الرابع، برزت الحياة الرهبانيّة بصورة فرديّة، على يد نسّاك متوحّدين، رفضوا التراخي المنتشر بُعيد السلام القسطنطينيّ، فعاشوا وحيدين في القفر والمناسك، وازدهرت حياتهم القشفة والمتزهّدة. من هؤلاء النسّاك عرفنا الناسك الأوّل يعقوب النصيبيني ويوليانوس الملقّب بسابا، أيّ الشيخ (+367). وكان مارون من أبرز العائشين في العراء، وصاحب فضل في تأسيس الحياة النسكيّة في العراء في منطقة قورش. فتتلمذ على يده الكثيرون، رجالاً ونساء. من تلاميذه: حوشب القورشيّ ويوحنّا وبردات ويعقوب؛ ومن تلميذاته: مارانا وكيرا ودومنينا، وقد ذكرهم ثيودوريطس أسقف قورش في تاريخه الرهبانيّ الأنطاكيّ المعنون “تاريخ أصفياء الله”. لقد شكّل هؤلاء المتوحّدون دعامة رئيسة للشهادة على تعاليم المجامع ودحض البدع، فكان التفاعل التأسيسيّ بين المجمع الخلقيدونيّ وبناء دير مار مارون، انطلاقة لبروز حالات عيش مشترك. وبنتيجة تأثير ترجمة العديد من الكتب المصريّة الرهبانيّة إلى اللغة السريانيّة، وخصوصاً بعد نشر سيرة القدّيس أنطونيوس على يد أثناسيوس الإسكندريّ المعاصر له، وبعد الاطّلاع على قوانين القدّيس باخوميوس وعلى نمط القدّيس باسيليوس الكبير، تعزّز امتزاج الطريقة التوحّديّة في التقليد السريانيّ الأنطاكيّ بالطريقة الجماعيّة، وسرعان ما تحوّل الكثيرون من التفرّد النسكيّ إلى اتحاد متوحّدين، لتوحيد الفهم والقلب والمسلك عبر شراكة الخبرات وضبط المغالاة والتطرّف[30]. عندئذ، بدأت الحياة الرهبانيّة الجماعية بتجمّع النسّاك، وتمحورت سريعاً حول حياة ديريّة، جزئيّة (قنّوبيّ) أو كاملة، مع حفاظها على النسك الفرديّ، أحد وجوهها الزهديّة المهمّة[31].
في هذه المرحلة اتسمت الحياة الرهبانية السريانية الأنطاكية بالزهد الكلي وعيش أنماط نسك متنوعة، كما اتسمت بالاضطلاع بأعمال الكرازة والتبشير والرسالة.لم يكن رهبان دير القديس مارون يقتصرون على النسك والتكامل بالفضيلة وتخليص النفوس فقط، بل كانوا يباشرون الرسالة والاهتمام بخلاص الآخرين أيضاً. ولعبت الراهبات في هذا المجال دوراً مؤازراً، وعُهدت إلى رئيسات الأديار خدمة الشماسية ليدهن طالبات العماد بالزيت، بعد أن يكون الكاهن قد دهن جباههن. ولم يعم الإيمان المسيحي في مناطق سورية وبلاد ما بين النهرين، ولم ينتشر في الأقطار ما بين فارس وأرمينيا والهند، إلاّ نتيجة نشاط إرسالي كبير قام به الرهبان السريان بصلابة وإيمان[32].
إن الحياة الرهبانية بنمطيها، النسكيّ والديريّ، رافقت نشأة الكنيسة المارونية، فتطوّرت وازدهرت، وبنى الرهبان دير مار مارون الشهير وبلغ عدد الرهبان والنسّاك فيه وحده ثمانمئة راهب وناسك، اعتزل منهم ثلاثمئة في الصوامع والمناسك المحيطة به، منقطعين للصلاة والتأمّل، بينما ظل الآخرون مقيمين فيه، خاضعين لسلطة رئيس ونظام، فبدت الحياة الديريّة هكذا، وكأنّها مقدّمة توصل المدعوين من الرهبان إلى حياة النسك والاعتزال الكليّ عن العالم[33].
لما ولّى الموارنة وجوههم شطر لبنان الشمالي، في سبيل المحافظة على حرية معتقدهم الديني بعد الفتح العربي، استوطنوا منطقة الجبّة ووادي قنّوبين ووادي قزحيّا، ليحتموا في تلك الجبال الوعرة المسالك ويختبئوا في الأودية السحيقة الغور. وبعد أنّ حطوا رحالهم في هذه المناطق، نما بينهم عدد الرهبان والنساك، ودلف كثيرون منهم إلى تلك المغاور الطبيعيّة والصوامع النائية. فازدهرت الحياة الرهبانيّة والنسكيّة في ذلك الوادي المقدّس، واتّسمت محطّاتها التاريخيّة بطاقة روحيّة رائعة فجّرتها نخبة رائدة من الرهبان والنسّاك الموارنة، الذين تميّزوا كنسّاك القورشية الأقدمين، بنـزعة إنجيليّة راديكاليّة نابعة من أغوار الوحي الإلهيّ، وغنى التراث المارونيّ، فحوّلوا تلك الأودية إلى جنائن غنّاء، وتوسّعوا إلى المناطق الجبليّة الأخرى[34].
بعد المجمع التريدنتينيّ (1545-1563)، تأسّس مجمع انتشار الإيمان (1568) وترسّخت الإرساليّات في لبنان والشرق. وفي 1584، أسّس البابا غريغوريوس الثالث عشر المدرسة المارونيّة في روما، بهدف تنشئة الإكليروس المارونيّ على تعاليم المجمع التريدنتينيّ. أدت هذه المستجدّات إلى إدخال نمط غربيّ على الحياة الرهبانيّة في الشرق، وإلى مقارنات ومفاضلات بين العبّاد والعابدات والآفلين من المدرسة المارونيّة، وبينهم وبين سائر رهبان الإرساليّات المثقّفين الذين فتحوا المدارس وعلّموا الأولاد بدعم خارجيّ وكسبوا ثقة الشعب وعطفه، فطرحت تساؤلات كثيرة، وتبدّلت النظرة إلى الرهبان والنسّاك الفقراء القاطنين في المحابس والأديار، فراح عددهم يتقلّص ويتضاءل، ممّا حطّ من ميزة الحياة الرهبانيّة المارونيّة في أوائل القرن السابع عشر؛ وعليه، فإنّ مرحلة جديدة ستبدأ بالإصلاح والتجديد مع أواخر القرن السابع عشر[35].
قبيل نهاية القرن السابع عشر، بدأ إصلاح الحالة السائدة لدى الرهبان أوّلاً، وما لبث أن شمل الكنيسة المارونيّة بكاملها، من خلال المجمع اللبنانيّ (1736) الذي أكمل قوانين الرهبان والراهبات وأقرّ الإصلاحات التي أجروها. لقد شكّل التنظيم الجديد منعطفًا مهمًا في وجه ما تسرّب إلى الحياة الرهبانيّة خلال القرن المنصرم، ليعيد تأكيد تراثها المشرقيّ، دون إغفال التطوّر التنظيميّ الحاصل في الغرب. ابتداء من 1695، تحوّلت الهيكليّات التنظيميّة السابقة، فتمّ الانتقال من أديار مستقلّة، تابعة لمناهج رهبانيّة ونسكيّة متنوّعة، إلى منظّمات رهبانيّة تجمع كلّ منها أديارًا عدّة يحكمها رئيس رهبانيّ بمؤازرة مجلس مساعدين، أيّ سلطة مركزيّة ترتبط بها مجموعة الأشخاص والأملاك بالتسلسل الإداريّ والتنظيميّ. ومع تبنّي هذا التنظيم الجديد، تشبّث المنظّمون الجدد بروحانيّة الحياة الرهبانيّة الشرقيّة، وأكّدوها كما يقول عبدالله قراعلي في مقدّمة كتابه “المصباح الرهبانيّ”: “إنّي لا أهدف من شرحي للقوانين إلاّ برهان تطابقها مع تعاليم الأقدمين وأحكامهم”. وهكذا بدت الحياة الرهبانيّة في إصلاحها، مرتكزة على الزهد والصلاة والعمل اليدويّ، ولكنّها باتت مبنيّة على غرار الهيكليّة المعتمدة لدى المنظّمات اللاتينيّة المستقرّة في المنطقة. هكذا شهدت الحياة الرهبانيّة إصلاحًا تجديديًّا وتنظيميًّا، بدأ مع ثلاثة شبّان حلبيّين: جبرائيل حوّا، وعبدالله قراعلي، ويوسف البتن، تبعهم جرمانوس (جبرايل) فرحات، قصدوا جبل لبنان ومثلوا بين يدي البطريرك إسطفانوس الدويهيّ في قنّوبين، وأطلعوه على نيّتهم في الترهّب، وبعد أن تأكّد من قوّة عزيمتهم ومن استعدادهم للعيش القشف، أُعجب بهم وأرسلهم مزوّدين ببركته إلى دير سيّدة طاميش أوّلاً، ثمّ إلى دير مُرت مورا –إهدن (في شمال لبنان)، ومن هناك نزلوا إلى قنّوبين وألبسهم البطريرك الدويهي الإسكيم الملائكيّ في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1695، فانطلقت مسيرة الرهبانيّة الحلبيّة (اللبنانيّة بعد 1706) التي انجذب إليها كثيرون، وسرعان ما كثر عدد الأديار المليئة بالرهبان والراهبات. في 1770 انقسمت هذه الرهبانيّة إلى قسمين: حلبيّة (لاحقاً الرهبانية المارونية المريمية) وبلديّة (لاحقاً الرهبانية المارونية اللبنانية)، أشخاصًا وأديارًا وممتلكات وديونًا ونفوذًا ومعاملات. وفي 1700 أيضاً، ومن دير طاميش، وبعد اختبار رهبانيّ نسكيّ عميق لسنوات، أطلق المطران جبرائيل البلوزانيّ، مطران حلب ورئيس الدير، مجموعة من الرهبان والآباء، هم: رزق الله السبعليّ، وبطرس البزعوني، تبعهما سليمان بن الحاج المشمشانيّ، وعطا الله كريكر، وموسى البعبداتيّ، ليبدؤوا مسيرة الرهبانيّة الأنطونيّة في محيط غير مسيحيّ من المتن الشماليّ الحاليّ، في دير مار أشعيا الذي بنوه بمساعدة المطران المذكور، على تلّة مكرّسة للإلهة “عرمتا” الفينيقيّة، فانصرفوا إلى الخدمة والعمل، ونمت هذه الرهبانيّة بدورها وانتشرت سريعًا في مختلف النواحي اللبنانيّة، ولا سيّما في الأقاليم غير المسيحيّة بالكامل، وتعدّدت مراكزها، وكثر عدد رهبانها وراهباتها[36].
تضم الكنيسة المارونية اليوم في لبنان المؤسسات الرهبانية الرجالية والمؤسسات الرهبانية النسائية وهي: الرهبانية اللبنانية المارونية، الرهبانية المريمية المارونية، والرهبانية الأنطونية المارونية، وهذه الرهبانيات الثلاث ذات حق حبري؛ وجمعية المرسلين اللبنانيين، ذات الحق البطريركي، ورهبانية دير الثالوث الأقدس، ذات الحق الأبرشي. أما المؤسسات الرهبانية النسائية فهي: الراهبات المارونيات اللبنانيات[37] (حق حبري)، الراهبات الأنطونيات المارونيات (حق بطريركي)، جمعية راهبات العائلة المقدسة المارونيات (حق بطريركي)، جمعية راهبات القديسة تريزيا الطفل يسوع المارونيات (حق بطريركي) وجمعية راهبات القربان الأقدس المرسلات (حق بطريركي). وتحافط راهبات أخريات على انتمائهن إلى أديار قديمة مستقلة، وهن: راهبات دير سيدة الحقّلة، راهبات دير مار يوحنا حراش، راهبات الزيارة في دير عينطورة وراهبات الزيارة في دير سيدة البشارة (الذوق)[38].
أدى مناخ الحرية الذي عرفه جبل لبنان خلال الحقبة العثمانية إلى نشوء رهبانيات قانونية كاثوليكية، أفادت من ذلك، فأسست الأديار، ومارست عقيدتها بأمان. إن العديد من مؤسسي الرهبانيات المارونية والملكية الكاثوليكية –كما يشير جوزيف أبو نهرا- جاؤوا من حلب حيث الظروف لم تكن ملائمة، فوجدوا في نظام الإمارة في لبنان، فسحة حرية وأمان. تعود بدايات الرهبانيات القانونية الكاثوليكية في لبنان إلى 1683، حين أسس المطران أفتيموس الصيفي، أسقف الملكيين في صور وصيدا، الرهبانية الباسيلية المخلصية، في دار المطرانية في صيدا، قبل أن ينتقل الرهبان إلى دير المخلص الذي بناه المطران الصيفي 1711. واللافت، أن أول رهبانية ملكية كاثوليكية، تأسست في مدينة صيدا بالذات، عاصمة الولاية العثمانية، حيث الأكثرية من المسلمين. كما استقرت وانتشرت في الشوف حيث الأكثرية درزية. وهذا خير دليل على الانفتاح الذي تميزت به مختلف الطوائف اللبنانية، وعلى التآلف الذي قام بينها في العهد العثماني[39]. وفي سنة 1710، تأسست الرهبانية الباسيلية الشويرية، للروم الملكيين الكاثوليك، في دير مار يوحنا الخنشارة، الذي كان تابعاً للشوير، وبعهدة الأمراء أبي اللمع. كان معظم المؤسسين من أصل حلبي، وبعضهم جاء من إكليريكية دير البلمند الأرثوذكسية. في بدايات القرن التاسع عشر، حدثت انقسامات بين الرهبان الحلبيين والرهبان اللبنانيين، انتهت سنة 1829 بقسمة الرهبانية إلى شويرية وحلبية. وقد أشرف الأمير الحاكم، بشير الثاني شهاب، على القسمة، وضمن تنفيذ بنودها[40].
سنتناول في المحاور التالية ضمن إطار دراستنا للرهبانيات المارونية في لبنان: الرهبانية اللبنانية المارونية، والرهبانية المارونية المريمية، والرهبانية الأنطونية المارونية.
الرهبانية اللبنانية المارونية: التاريخ، التحولات، المؤسسات والانتشار
عرفت الكنيسة المارونية من ولادتها الحياة الرهبانية الديرية، التي ازدهرت وسادتْ في جوار أنطاكيا “المتروبول” السياسية والروحية للشرق المسيحي. وتكاد الكنيسة المارونية تكون الوحيدة التي ترعرعت في هذا المناخ الرهباني، ونمت بفضل عمل رهبان دير مار مارون[41]. نشأت الرهبانية اللبنانية المارونية عام 1695، نتيجة لعمل تجديدي رهباني قام به ثلاثة شبان موارنة، أتوا من حلب، هم: جبرائيل حوّا، وعبدالله قرأعلي، ويوسف البتن. وعندما وصلوا إلى لبنان وتحديداً دير سيدة قنوبين، الذي كان قد تحول كرسياً للبطريركية المارونية منذ سنة 1440، مَثلوا أمام البطريرك إسطفان الدويهي (1670-1704) وكشفوا عن سر دعوتهم. فاستجوبهم البطريرك، ونبَّه خاطرهم إلى شظف الحياة الرهبانية في أماكن فقيرة وغير آمنة، وهم في الأساس أبناء عائلات مارونية عريقة في التقوى والحسب، فأكدوا له اقتناعهم وتصميمهم (…) ووهبهم مقراً في دير مُرت مورا –إهدن في 1 آب (أغسطس) 1695[42].
عندما قدِمَ المؤسسون إلى لبنان، كان العديد من الأديار قائماً، لا سيما في بلاد جبيل وجبَّة بشري، وحتى في كسروان حيث تكاثرت الأديار، ابتداءً من القرن السادس عشر. واستقر في أديار بلاد جبيل والشمال بطاركة الموارنة وأساقفتهم، منذ القرون الوسطى، وانضم إليهم –لاحقاً- تلامذة مدرسة روما المارونية. ويلاحظ المطران يوسف سمعان السمعاني، بعد البطريرك الدويهي، الوجود الرهباني المتنامي في جبل لبنان، في رسالته التي كتبها في أول آذار (مارس) 1735، وقدّم بها للقانون الرهباني الأول، المعروف بــ”القانون الأسود” الذي طبع في روما في السنة نفسها. ويعدد السمعاني أكثر من اثنين وعشرين ديراً قائماً، خصوصاً في منطقة جبيل وجبَّة بشري، وحوالي ثمانية أديرة في كسرون، وأخرى في المناطق الشوفية[43]. (…) انسجاماً مع انطلاقة الرهبانية من جبل لبنان، كان القرأعلي قد أطلق عليها، سنة 1706، اسم “الرهبانية المارونية” (…) وانتظم معظم الرهبان الموارنة في سلكها (…) وانبرت الرهبانية تجدِّد الأديار المتداعية وتوفي ديونها (…) وانضم أكثر من تسعة أديار إليها، فضلاً عمّا تسلمته في بدايتها كدير مُرت مورا ، ثم انتشرت لتحُط في الشوف، في دير مار يوحنا – رشميا، في شباط (فبراير) سنة 1706. وحلّت في دير سيدة اللويزة من أعمال كسروان، سنة 1706. وعادت فضمت سنة 1707 دير مار أنطونيوس –سيْر، قرب رشميا. وتسلمت في الخامس من تموز (يوليو) سنة 1708 دير مار أنطونيوس – قزحيا (…) وأنشأت الرهبانية سنة 1736 دير مار إلياس الراس، أول دير قانوني للراهبات اللبنانيات المارونيات، وذلك عملاً بروح القانون الذي ألغى الأديار المزدوجة[44]. (…) وامتدت الرهبانية سنة 1737 إلى قبرص وعكا سعياً إلى خدمة الموارنة في تلك البلاد، مما سبب صراعاً مع المرسلين اللاتين، الذين اعتبروا من صلاحياتهم خدمة الموارنة في تلك الأصقاع، كما في بيروت وطرابلس (…) لم يخلُ التوسع من المخاطر: فاسترجع بعض “الناذرين” ممتلكاتهم، ثم عادوا فقدموها إلى الرهبانية[45].
بعد أن نظم الرهبان اللبنانيون حياتهم، وباشروا العيش بموجب قانونهم الرهباني، راح بعض أصحاب الأوقاف[46] يهبونهم أديارهم، واضعين لهبتهم بعض الشروط، أهمها تعليم أولاد القرية والقرى المجاورة (…). وخرجت ملكية أديار الرهبانية اللبنانية المارونية من إطار العائلة أو القرية، لتدخل في ملكية المؤسسة، وهذا أمر جديد على مفهوم ذلك العصر. تسلم الرهبان الوقفيات الموهوبة، ورمموها، ووسعوها واشتروا لها أملاكاً، وعملوا على نموها وازدهارها روحياً ومادياً[47]. في كتابه “قصة الملكية في الرهبانية المارونية اللبنانية” يوضح الأب مارون كرم أن ما أوقف على الرهبانية يمكن تصنيفه بـــ”خرائب معابد وكنائس وأديرة مهجورة متهدمة أو متداعية للانهيار، مُثقلة بالديون، وأرضٍ سائبة مهملة (…) اتصلت إليها [إلى الرهبانية] بعد أن عجز أصحابها عن قيامها ودفع مالها الأميري، وإيفاء ديونها المتراكمة عليها، وتأدية الضرائب والتوزيعات الحكومية”[48]. في المرحلة الممتدة بين عامي 1742-1770، نشب خلافٌ في الرهبانية وأدى إلى شطر الرهبانية إلى شطرين سنة 1768: الرهبانية اللبنانية المارونية (البلدية) والرهبانية المارونية الحلبية (…) عرفت الرهبانية اللبنانية، نتيجة لهذا الصراع، سلطتين متوازيتين، وذلك ابتداءً من كانون الأول (ديسمبر) سنة 1744. وجرت محاولات عدة في سبيل الصلح وتمتين اللحمة، ولكنها باءت كلها بالفشل سنة 1748. وتكرس الانقسام سنة 1753. واعترف به البطريرك يوسف إسطفان (1766-1793) سنة 1768، وأقره الحبر الأعظم البابا إكليمنضوس الرابع عشر (1769-1774) ببراءة تحمل تاريخ 19 تموز (يوليو) 1770[49]. إثر مرحلة الاضطرابات شهدت الرهبانية اللبنانية المارونية مرحلة النمو والازدهار بين عامي 1770-1798، وعرفت هذه الحقبة نشاطاً على مستوى الخدمات الراعوية والمشاركة في المجامع الإقليمية ونمواً اقتصادياً أدى إلى توسيع حضورها في مراكزها التاريخية وانتشرت في مناطق جديدة داخل لبنان.
في زمن الإمارة الشهابية وهب الأمير يوسف شهاب الرهبانية اللبنانية المارونية أربعة أديار في منطقتي جبيل والبترون، وهي: دير مار قبريانوس ويوستينا كفيفان، دير سيدة ميفوق، دير مار أنطونيوس حوب، دير سيدة المعونات وكنيسة مار يوحنا مرقس في جبيل (…) لم يكتف الرهبان بقبول بعض الهبات أو شراء بعض الأملاك أو بناء الأديار بل استأجروا العديد من الأراضي، ودخلوا أيضاً إما بشراكة الشلش أو شراكة المساقاة مع بعض المشايخ والأمراء (…) كانت للنظام الاجتماعي الإقطاعي في ظل الشهابيين، إيجابيات كثيرة تبيّنت علناً في نمو الريف وازدهاره، وفي توطيد التعايش بين المجتمعين المسيحي والإسلامي[50]. ضايق ولاة المنطقة العثمانيون الإمارة الشهابية (…) وترامى الحكام والإقطاعيون على الرهبانية لتحصيل الأموال الأميرية، فناءت تحت ثقل الضرائب، فطالبت مراراً بإعادة إجراء “الديموس” لرفع الظلم والإجحاف. و”الديموس” هو نوعٌ من مسح للأراضي يقوم على تحديدها وتخمين غلاّتها، ويبرمج جدول الضرائب تبعاً لهذه العملية القياسية (…) أدت الرهبانية الضرائب طوعاً. وغالباً ما دفعتها عن شركائها وعن الفقراء. واعتبرت ذلك واجباً وطنياً ساعد على استقرار الإمارة الشهابية وشرعيتها، وفي استقلال جبل لبنان حيث ترعرعت[51]. إن المرحلة الممتدة بين عامي 1832-1913 عرفت تحولات سياسية كثيرة اتسمت بالاضطراب، وقد أسهمت العوامل الخارجية والداخلية في تفكيك الأطر التقليدية على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي، فانعكس التحول في التاريخ اللبناني على التاريخ الرهباني. سياسياً، تفجرت الصراعات الأوروبية في المنطقة، وقوضت أسس الإمارة الشهابية، وعمّت حالة من الفوضى والضياع؛ وبعد انسحاب المصريين من جبل لبنان سنة 1840، أجَّجت الدول العظمى الصدامات الطائفية الدامية التي اندلعت بين الدروز والموارنة في السنوات: 1841-1845-1860. ورتبت هذه الدول لجبل لبنان أنظمة سياسية هزيلة، أخصُّها الحكم العثماني العسكري المباشر، والقائمقاميتان، ونظام شكيب أفندي. ثم استبدلت به سنة 1861 نظام المتصرفية الذي حظي -نوعاً ما- بقبول اللبنانيين[52]. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد اجتاحت الثورة الصناعية المنطقة ابتداءً من سنة 1830، وربطتها بشبكة التبادل التجاري العالمية، فغرقت الأسواق المحلية بالسلع الأوروبية المتنوعة، وتزعزعت أسس الاقتصاد الريفي. وحددت المعاهدات التجارية، التي عُقدت بين الدول العظمى والسلطنة العثمانية سنة 1838 وسنة 1861، سُبل التبادل الاقتصادي، وفرضت رسوماً على النقل والجمارك لا تتناسب وإمكانات القوى المحلية المنتجة وأسعار إنتاجها[53]. تركت هذه المعطيات السياسية والاقتصادية وغيرها أثراً على الرهبانية اللبنانية المارونية، لا سيما على مستوى الضيق الاقتصادي الذي طاول الرهبنة ومحيطها الاجتماعي؛ وإبان هذه الحقبة الممتدة لأكثر من ثمانين عاماً، كثفت الإرساليات الأجنبية البروتستانتية والكاثوليكية والأرثوذكسية عملها على الصعيد العلمي والثقافي منذ سنة 1830. وشاءت الرهبانية أن تحافظ على دورها الطليعي في المجتمع، فتعهدت شؤون تربيته منذ تأسيسها. فأخذت هي أيضاً بنشر العلم، وفتحت العديد من المدارس في كل أنحاء لبنان. وهذه أهمها: مدرسة بيت لهيا سنة 1836، مدرسة رأس المتن سنة 1831، مدرسة الشبانية سنة 1839، مدرسة حملايا سنة 1849، مدرسة عين زبدة سنة 1853، مدرستا العذرا وكفرحيال سنة 1854، تجديد مدرسة مار يوسف –المتين سنة 1866، مدرسة وادي جزين سنة 1873، مدرسة بيروت لإكليريكيي الرهبانية سنة 1891، مدارس سقي رشميا والشقاديف وبعبدات سنة 1896، مدرسة بطحا سنة 1904، ومدرسة طورزيا سنة 1932[54]. إلى جانب المدارس وفي الفترة التاريخية نفسها شُيّدت أديرة جديدة وتفرعت مراكز أخرى عن أديرة قديمة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: دير المخلص (بحنين-1863) دير مار سمعان العمودي (أيطو) 1863، دير سيدة النجاة (بصرما 1876)[55].
خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وبعد أن حُلّ المجلس التمثيلي في لبنان في 22 آذار (مارس) 1915، وأعلن جمال باشا قيام نظام عرفي منذ شهر آب (أغسطس) 1915 (…) وبعد إلغاء نظام المتصرفية 1917، وتحول لبنان إلى ولاية تخضع لنظام باقي الولايات التركية، تركت هذه التبدلات تأثيرات كبيرة اجتماعية وسياسية انعكست في كيفية تعامل الرهبانية مع الواقع المؤلم لا سيما خلال سني المجاعة في جبل لبنان؛ ففي 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 1916، أرسل المطران يوسف دريان رسالة إلى الجنرال ترابو حاكم جزيرة أرواد، باسم البطريرك الماروني، يقول فيها: إن البطريرك يطلب قرضاً من فرنسا لإغاثة الجائعين في لبنان، وذلك مقابل رهن أملاك الكنيسة المارونية (…) لكن المساعي فشلت على الرغم من المساعدات القليلة التي حصلت عليها البطريركية المارونية، فكان لا بد من تعزيز التنسيق الوثيق بين البطريركية والرهبانية اللبنانية المارونية، كضمانة أفضل لمساعدة اللبنانيين في ظروف مجاعتهم. واعتبر البطريرك إلياس الحويك أن بكركي هي بيت لكل فقير وجائع ومحتاج. وكان يقول: “أعطوا الجميع فالبطريركية أم الجميع ولا فرق عندها بين الطوائف” وأمر البطريرك الأديار بالمساعدة واستدانة المال لإغاثة الفقراء”[56].
ومع تكرر المحن التاريخية وإبان الحرب العالمية الثانية (1939-1944) آوت الرهبانية في أديارها، خصوصاً دير مار جرجس الناعمة، اللاجئين والمعوزين[57]، وفتحت الأديار للاجئين الفلسطينيين سنة 1948. وخلال الحرب الأخيرة في لبنان 1975 وضعت إمكانات الرهبانية أمام عشرات الآلاف من المسيحيين الذين اقتلعوا من منازلهم. وفي موازاة المساعدات الإنسانية اضطلعت الرهبانية بأعمال إنمائية فأنشأت سنة 1949 مستشفى دير سيدة المعونات –جبيل، وفي 1964 ابتنت مستشفى مار شربل –البترون ثم سلمته إلى الدولة اللبنانية سنة 1972، وشيدت أيضاً مأوى وميتم سيدة لبنان حريصا سنة 1964. أسست الرهبانية عدداً من المدارس التي استقطبت مختلف الفئات والطوائف، وارتبطت هذه المدارس ثقافياً وبشكل تدريجي بوزارة التربية. أما أهم هذه المدارس فهي: مدرسة سيدة ميفوق (1922)، مدرسة سيدة مشموشة (1922)، مدرسة مار مارون (بير سنين) (1936)، مدرسة مار جرجس (عشاش) (1945)، المعهد اللبناني (1945)، مدرسة مار أنطونيوس (شكا) (1947)، مدرسة مار شربل (1949)، مدرسة مار أنطونيوس (حمانا) (1951)، مدرسة مار يوسف (المتين) (1951)، مدرسة سيدة طاميش (1951)، المدرسة المركزية (جونية) (1966)، مدرسة مار إلياس (الكحلونية) (1967)[58]. توجت جامعة الروح القدس –الكسليك التي تأسست سنة 1950 مساعي الرهبانية الحثيثة في حقول التربية والتعليم؛ وتضم الجامعة ثماني كليات، من ضمنها كلية اللاهوت الحبرية وثلاثة معاهد[59].
تضم الرهبانية اللبنانية المارونية اليوم (67) ديراً موزعاً على الأراضي اللبنانية[60]. وفي خارج لبنان انتشرت رسالات الرهبانية وفقاً للجدول الزمني الجغرافي الآتي[61]:
الرسالات |
المكان |
سنة التأسيس |
دير مار إلياس المطوشي[62] |
قبرص |
1740 |
رسالة مندوسا |
الأرجنتين |
1952 |
رسالة أبيدجان |
شاطئ العاج |
1954 |
رسالة مكسيكو |
المكسيك |
1960 |
رسالة سدني |
أستراليا |
1972 |
رسالة مونتريال |
كندا |
1984 |
رسالة كركاس |
فنزويلا |
1988 |
رسالة داكار |
السنغال |
1949 |
رسالة ساو باولو |
البرازيل |
1954 |
رسالة بامكو |
مالي |
1959 |
رسالة التوكومان |
الأرجنتين |
1960 |
رسالة لندن |
إنجلترا |
1983 |
رسالة مار شربل |
فرنسا |
1987 |
الرهبانية المارونية المريمية (الرهبانية المارونية للطوباوية مريم العذراء)
أشرنا أعلاه إلى أن سنة 1770 انقسمت الرهبانيّة المارونية التي تأسست سنة 1695 إلى قسمين: حلبيّة (لاحقاً الرهبانية المارونية المريمية) وبلديّة (لاحقاً الرهبانية المارونية اللبنانية). تعرف الرهبانيّة المارونيّة للطوباويّة مريم العذراء، والمعروفة أيضًا بالرهبانيّة المارونيّة المريميّة عن نفسها بأنها: “منظّمة رهبانيّة وإكليريكيّة ذات نذور مؤبّدة وحقٍّ حبريّ وفقًا للقوانين المقدّسة، بحيث تلتزم بنشاطها الروحيّ والرسوليّ، بانسجام كامل مع الكرسيّ الرسوليّ والرئيس الكنسيّ المكانيّ، وفقًا للقوانين المقدّسة. وهي تجمع -بحسب رغبة المؤسّسين- بين صلاة الخورس والممارسات الديريّة والنشاط الرسوليّ، وفقًا للتقليد الرهبانيّ في الكنيسة المارونيّة السريانيّة الأنطاكية. وهي تعتبر أن غايتها الأساسية: “تقديس نفوس أبنائها، باعتناق المشورات الإنجيليّة وعيشها في حياة ديريّة ينطلق منها كلّ عمل رسوليّ. وتسعى، باجتهاد، لتكون جاهزة لكلّ عمل صالح، ومستعدّة للخدمة في سبيل بنيان جسد المسيح وكنيستنا المارونيّة، وتبذل جهدها لتظهر مزدانة بالمواهب المتنوّعة التي يفيضها الروح القدس على أبنائها. بما أنّ الله يدعو، بفيض من حكمته، وبحسب تدبيره الخلاصيّ، رجالاً إلى تكريس ذواتهم له باعتناق المشورات الإنجيليّة، متّبعين المسيح البتول والفقير الذي خلّص الناس وقدّسهم بطاعته للآب حتّى الموت على الصليب، فإنّ الراهب المارونيّ المريميّ مدعوّ دعوة خاصّة، ليعي، أكثر فأكثر، مقتضيات تكريسه، ويعيش دعوته على أصالتها، ويكتسب ثقافة متينة، وتنشئة، مع عموم الأعضاء، واحدة شاملة، بغية المحافظة على وحدة الروح والقلب في الرهبانيّة”[63].
يشكل دير سيدة اللويزة (زوق مصبح -لبنان) المركز التاريخي للرهبانية المارونية المريمية. بنى الدير سنة 1682 الشيخ سلهب الحاقلاني، وجعله مقاماً للرهبان العباد، وصار منهم باسم القس إغناطيوس. سنة 1723، أصبح دير سيدة اللويزة مركز الرئاسة العامة للرهبانية. وسنة 1736، انعقد فيه “المجمع اللبناني”، دستور الطائفة المارونية[64]. وسنة 1952، باشرت الرهبانية في بناء مدرستها الإكليريكية، وبعد ثماني سنوات فُتحت المدرسة أمام الطلاب العلمانيين. سنة 1986، حُوّل جناحان من الأقبية المرممة إلى متحف كنسي، وفي موازاته، قامت مكتبة ضخمة[65].
تضم الرهبانية المارونية المريمية (13) ديراً: دير القديسة تريزيا الطفل يسوع (سهيلة-1927)، دير سيدة اللويزة (1682)، دير سيدة النجاة (زوق مكايل-1930)، دير مار إلياس (شويا-القرن الثامن عشر)، دير مار اليشاع القديم بشري (1315)[66] دير مار اليشاع الجديد (بشري-1877)، دير مار أنطونيوس البدواني (دلبتا-1882)، دير ما بطرس وبولس (كريم التين-1718)، دير مار سركيس وباخوس (عشقوت-1890)، دير مار شليطا (كفرذبيان-1885)، دير مار ضوميط (فيطرون-1854)، دير مار عبدا (دير القمر-1849)، ودير يوحنا المعمدان (خربة قنافار-1958). أسست الرهبانية خمس مدارس: مدرسة القديسة ريتا (ضبية-1959)، مدرسة سيدة اللويزة (زوق مصبح-1930)، مدرسة سيدة اللويزة (فرع فيطرون-1892)، مدرسة مار عبدا (دير القمر-1989)، ومدرسة مار يوحنا المعمدان (خربة قنافار- 1958). إلى جانب المدارس تم تأسيس جامعة سيدة اللويزة سنة 1978؛ للجامعة ثلاثة فروع: الفرع الأساسيّ في زوق مصبح كسروان، فرع برسا في الشمال، وفرع دير القمر في الشوف. تضم الجامعة ست كليات: الهندسة (1996)، والعمارة والتصميم والفنون الجميلة (1996)، والعلوم الإنسانية (1997)، وإدارة الأعمال والاقتصاد (1997)، والعلوم الطبيعية والتطبيقية (1997)، والعلوم السياسية والإدارية والدبلوماسية (1997)[67].
على مستوى الانتشار في العالم تملك الرهبانية المريمية اللبنانية دير مار أنطونيوس الكبير في روما[68]، والمدارس المارونيّة المشتركة في مصر (1952)، المركز التربويّ الثقافيّ في الأوروغواي (سنة التشييد 1926)، مدرسة سيّدة لبنان وثانويّة الأب عمانوئيل الأشقر (1964) ومركز سيدة النياح (الولايات المتحدة-1996).
- الرهبانية الأنطونية المارونية
نشأت الرهبانية الأنطونية المارونية، في أواخر القرن السابع عشر، على يد المطران جبرائيل البلوزاوي أسقف حلب آنذاك (…) أنشأ المطران البلوزاوي في 1673، دير سيدة طاميش، وجعل منه كرسيّ أسقفيته، وأقام فيه نمطاً لحياة رهبانية متجدّدة. تدرّب رهبان ذلك الدير مع أسقفهم على حياة رهبانية شرقية أصيلة، محافظين على القوانين التوحدية، منفتحين على نشر الإنجيل والرسالة في المحيط المجاور. وفي 1698 اختار البلوزاوي رهباناً من تلك الجماعة، وأرسلهم ليشيّدوا على تلة عرمتا قرب برمانا – المتن ديراً جديداً لهم على اسم القديس أشعيا الراهب الحلبيّ، ابن والي حلب وتلميذ الأنبا أوجين. هناك، انطلق الرهبان ليؤسّسوا جماعة رهبانية مجدّدة بحياة توحّدية شرقية أصيلة، منفتحين على منطقة مختلفة الأديان والمذاهب، في قلب المتن (…) في الخامس عشر من شهر آب (أغسطس) 1700، احتفل الرهبان المتجدّدون، بقداسهم الأوّل، في عيد انتقال السيّدة العذراء مريم (…) وفي 1740، ثبّت البابا إقليموس الثاني عشر، قوانينها. في رسالته الرسولية: “أبو المراحم”، وأضفى عليها صيغة قانونية من “حق حبريّ”، مع الحقوق والامتيازات المعترف بها في كل مؤسّسة رهبانيّة[69].
انطلقت الرهبانية الأنطونية منذ تأسيسها في بيئة غير مسيحيّة، متغلّبة على كثير من التحديات التي كانت تعاني منها الحياة المشتركة بين الديانات المختلفة في لبنان. اكتسب الرهبان الأنطونيون احترام الجميع وخصوصاً الأمراء اللمعيّين الدروز، ووطدوا علاقتهم معهم. أسهم الأمير عبدالله قيدبيه أبي اللمع، الذي كان يحمي دير مار أشعيا في تأسيسه، واعتنق اثنان من أحفاده (أحمد ومنصور) المسيحية. يذكر التاريخ عدداً من الرهبان الأنطونيّين الذين كانت لهم علاقات طيّبة ووديّة مع الأمراء الدروز[70] والسنة. وكان للرهبان الأنطونيّين أعمال رسولية أخرى متنوّعة: تعليم، خدمات راعوية[71].
تضم الرهبانية الأنطونية (24) ديراً ويعود تاريخ تأسيس دير الرهبانية الأم إلى سنة 1700. يبين الجدول الآتي التوزيع الجغرافي والزمني لأديرة[72] الرهبانية في لبنان:
الدير |
المكان |
تاريخ التأسيس |
دير مار روكز |
الدكوانة |
1768 |
دير مار أدنا |
النمورة –فتوح كسروان |
1792 |
دير مار إلياس |
إنطلياس -المتن |
1723 |
دير مار عبدا المشمّر |
زكريت |
1716 |
دير مار سركيس وباخوس |
إهدن –شمال لبنان |
1739 |
دير مار جرجس –ضبية |
عوكر –ضبية |
1740 |
دير مار يوحنا |
بيت مري |
1748 |
دير مار إلياس |
قرنايل |
1749 |
دير مار سمعان العمودي |
عين القبو -المتن |
1756 |
دير مار بطرس وبولس |
جزين (الحنوب) |
1760 |
دير مار أنطونيوس |
بعبدا |
1764 |
دير مار يوسف |
زحلة |
1773 |
دير مار أنطونيوس البدواني |
جزين (الحنوب) |
1774 |
دير مار إلياس |
قب إلياس (البقاع) |
1775 |
دير مار نوهرا |
قرنة الحمرا (المتن) |
1827 |
دير سيدة المعونة |
شملان |
1828 |
دير ورعية ومدرسة مار روكز |
حوش حالا (البقاع) |
1848 |
دير ورعية ومعهد سيدة النجاة |
الميناء (طرابلس) |
1850 |
دير مار إلياس |
الكنيسة (المتن) |
1851 |
دير مار يوسف |
بحرصاف |
1851 |
دير مار نوهرا |
القنـزوح ( فتقا –الفتوح) |
1864 |
دير مار يوحنا المعمدان |
عجلتون |
1897 |
دير مار يوسف ومدرسة مار يوسف المهنية |
مرجعيون (الجنوب) |
1990 |
تملك الرهبانية الأنطونية (12) مدرسة هي: (Antonine International School)، (Lycée P. Mansour) ، (Collège des Pères Antonins)، (Collège Mar Roukoz)، (Ecole d’Orientation Sociale)، (Ecole de la Paix)، (Ecole La Roche)، (Ecole Mar Maroun)، (Ecole Notre Dame)، (حصرون) (Ecole Notre Dame)، (طرابلس) (Etablissement scolaire Saint Georges)، (Ecole Saint Roch). [73]
تعود رسالة الرهبانية الأكاديمية إلى 1961، عندما أسّست الرهبانيّة كلّية للحقوق في دير مار أنطونيوس – بعبدا التي دامت سنين عدّة، قبل أن تستبدل بمؤسسة الآباء الأنطونيين. أنشأت الرهبانية الجامعة الأنطونية سنة 1996، وهي تحوي الآن ست كلّيات: هندسة المعلومات والاتصالات، الصحة العامة التي يتفرّع منها العلاج الفيزيائي والعلوم التمريضية، إدارة الأعمال، الإعلام، العلوم اللاهوتية، والعلوم البيبليّة والمسكونية والأديان، وثلاث معاهد: معهد التربية البدنية، معهد علوم مختبرات الأسنان والمعهد العالي للموسيقى والموسيقولوجيا. وأسس فرعاً لها في البقاع، وآخر في شماليّ لبنان، تحديداً في مجدليا (زغرتا). وبالإضافة إلى التعليم أطلقت الرهبانية منشورات بحثيّة ودوريّات علميّة تصدرها من خلال دار نشر خاصة رُخّص لها[74].
أسست الرهبانية الأديرة والمدارس في بعض الدول: سوريا (دير مار أنطونيوس الكبير- 1991)، إيطاليا (دير مار يوحنا مارون، الوكالة لدى الكرسي الرسولي- 1907)، دير مار أشعيا (1958)، فرنسا (دير مار أنطونيوس الكبير- 1987)، بلجيكا (بيت مار مارون -1983)، كندا (دير ورعية مار شربل-1981)، أستراليا (دير مار شربل-1997).
رابعاً: خطاب الكنيسة المارونية اللبنانية: العيش المشترك وبناء الدولة الديمقراطية
تكاد تكون الكنيسة المارونية في لبنان الوحيدة بين الكنائس في الشرق، التي اضطلعت بأدوار سياسية بدءاً من بدايات القرن التاسع عشر إلى الزمن الراهن. لم يكن هذا الدور في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر نتاج إقحام الكنيسة نفسها في الشأن السياسي، إنما يرتبط بالظروف التاريخية المحيطة بها، التي دفعتها للانخراط بهذا الدور من موقعها الاجتماعي والاستقلالي بدءاً من المرحلتين: الشهابية والمتصرفية.
يلفت الأستاذ الجامعي والنائب في البرلمان اللبناني فريد الخازن إلى أنه “في زمن المتصرفية شهد جبل لبنان استقراراً في ظل نظام حكم خاص في إطار السلطنة، وبات البطريرك الماروني الشخصية الأكثر تأثيراً في الشأن السياسي والمحاوِر الأبرز للدول الأوروبية وللسلطنة. وفي حين لم ينجح البطريرك مسعد في إيصال يوسف بك كرم إلى مركز المتصرف، إلا أنه كان له الكلمة الفصل في مسائل أخرى وبات للموارنة، الذين شكلوا أكثرية عددية كبيرة في الجبل، النفوذ الأكبر في إدارة شؤون المتصرفية. ومنذ مطلع القرن التاسع عشر برز دور الكنيسة المارونية في تظهير خطاب سياسي يتلاءم مع العصر، مرتبط بمسألة الهوية (patrie/nation)، صاغه بداية المطران نقولا مراد، ممثل البطريرك حبيش في إسطنبول وفرنسا، وهو الخطاب الذي شكل -لاحقاً- ركيزة الموقف الماروني المطالب بحكم ذاتي للمتصرفية وتوسيع حدودها”[75].
ويلاحظ الخازن: “تطور هذا الخطاب في أوساط العلمانيين الموارنة في مطلع القرن العشرين في لبنان وبلدان الانتشار، لا سيما فرنسا ومصر وأمريكا، وكان أبرزهم بولس نجيم المعروف بــــ(Jouplain) في كتابه (la question du Liban) في 1908 الذي كان الأكثر تعبيراً عن هذا الواقع الجديد. وجاء موقف البطريرك (إلياس) الحويك المطالب بقيام دولة لبنان الكبير في مؤتمر فرساي بعد الحرب الكونية، مترئساً الوفد اللبناني، في السياق عينه الذي وُضعت مداميكه الأولى منذ نحو قرن. ولاحقاً، شكل موقف البطريرك عريضة المطالب بإنهاء الانتداب الفرنسي محطة مفصلية في مسيرة الاستقلال في 1943، بعد أن بادر البطريرك إلى عقد اجتماع في بكركي في 1941 بحضور شخصيات سياسية من مختلف الطوائف للمطالبة بالاستقلال الناجز”[76].
لن ندخل في التفاصيل التاريخية لدور الكنيسة المارونية في لبنان في الشأن السياسي، إنما المراد التركيز على خطابها الذي تبدى بصورته الأوضح والأشمل في نصوص المجمع البطريركي الماروني (2006) الذي يبرهن على تنامي الوعي الوطني الكنسي خصوصاً في ثابتة “العيش المشترك”.
في نص “الكنيسة المارونية والسياسة” وهو ضمن النصوص المشار إليها أعلاه، يُحدد المقصود من “الكنيسة والسياسة”: نعني: أوّلاً: الكنيسة كمرجعيّةٍ دينيّة تتعاطى الشأن السياسيّ؛ وثانيًا: أبناء الكنيسة الموارنة على مختلف انتماءاتهم واتّجاهاتهم في لبنان وبلدان الانتشار. إنّ مصير الموارنة السياسيّ والاجتماعيّ انطلق من ارتباط دينيّ وثقافيّ، جعل منهم طائفة لها وجهها المميّز، من خلال الخيارات الأساسيّة التي غلّبت فيها مبدأ الانفتاح والوصل على مبدأ الانغلاق والفصل؛ فتعاونوا مع الغير بغية خلق إرادة عيش مشترك، وهذا ما يشرح رفض الموارنة أن يكون لهم بلد يتفرّدون به وحدهم، وتفضيلهم دومًا العيش المشترك”[77].
يوثق النص للعلاقة المتبادلة بين الكنيسة المارونية والسياسة ويدرجها في حقبتين تاريخيتين: حقبة الأنظمة الإمبراطورية التي استمرت حتى الحرب العالمية الأولى، وحقبة الدولة التي بدأت منذ مطلع القرن الماضي. ما يهمنا هنا المرحلة المعاصرة، فكيف نظرت الكنيسة للاستقلال والميثاق الوطني؟ تدرج الكنيسة ثلاث نقاط رئيسة نوردها كما هي:
- إنّ تلازم الاستقلال مع الميثاق الوطنيّ هو نتاج لبنانيّ وطنيّ صرف، شكّل مدخلاً إلى تسوية تاريخيّة لمعضلة رافقت نشوء الدولة، سمّتها الاعتدال والواقعيّة. أمّا الهدف فكان إيجاد صيغة للتلاقي بين الجماعات اللبنانيّة. الميثاق الوطنيّ هو، في الواقع، مشروع حياة، وضعت خطوطه الكبرى عام 1943، لا لأنّ اللبنانيّين توافقوا على جميع المسائل المطروحة فيما بينهم، بل لأنّهم توافقوا على صيغة تقوم على مشاركة حقيقيّة فيما بينهم قائمة على التوافق والمساواة والتوازن. وهكذا يكون البُعد الداخليّ للميثاق قد تأمّن، لأنّه حفظ معادلة توزيع الحصص في التمثيل الطائفيّ في الصيغة الجديدة، والتي تمّ بتّها قبل إعلان الاستقلال. ثمّ إنّ هذه الصيغة تعالج، بشكل أساسيّ، البُعد الخارجيّ للميثاق، أيّ الاستقلال عن الانتداب الفرنسيّ، يقابله الاعتراف العربيّ بكيان دولة لبنان المستقلّ.[78]
- إنّ البُعد الخارجيّ للميثاق، وتحديدًا البُعد الإقليميّ بالذات، كان الأكثر عرضةً للتقلّب والانتكاسة، لأنّه لا يرتبط فقط باللبنانيّين، حتّى ولو توافقوا، ليطاول مسألة علاقة لبنان بمحيطه العربيّ، خصوصًا في أوقات الأزمات الإقليميّة الحادّة؛ وهو محيط كان يبحث عن نفسه مع انتهاء مرحلة الحكم العثمانيّ له. وأخذت حاله تزداد تعقيدًا، في الخمسينيات، بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948، حيث حلّ اللاجئون الفلسطينيّون ضيوفًا على لبنان. والمعضلة عينها أُعيد طرحها، بعد حرب 1967، إثر بروز المقاومة الفلسطينيّة، وفي ظروف بالغة التعقيد، محليًّا وإقليميًّا[79].
- لقد حسمت الأنظمة العربيّة أمر عروبتها بوسائل متعدّدة؛ فمنها من لجأ إلى الشعارات الأيديولوجيّة، ومنها من لجأ إلى الدين. أمّا لبنان فلجأ إلى خيار حضاريّ، عنوانه التعدّديّة السياسيّة وإدارة هذا التنوّع بالحوار والتسويات النبيلة والمجتمع المفتوح والاعتدال. وبهذا برز واقع التجاذب بين ميثاق وطنيّ على قياس لبنان وطبيعة نظامه السياسيّ وأشكال العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين مواثيق وطنيّة عربيّة لا تتّفق مع الحالة اللبنانيّة. وزاد من هذا التجاذب عدم القدرة، حتى اليوم، على استكمال بناء الدولة المدنيّة المستقرّة، القائمة على عمل المؤسّسات الوطنيّة، غير المرتهنة للمتغيّرات الإقليميّة والدوليّة وغير المقيّدة بالتجاذب الطائفيّ؛ دولة لجميع مواطنيها من دون تفرقة أو تمييز، تتفاعل مع مستجدّات العصر في إطار الحريّة والديمقراطيّة التوافقيّة[80].
يستشف من هذه القراءة، ثلاثة مفاصل أساسية: التلاقي بين الجماعات اللبنانية؛ التعدّديّة السياسيّة وإدارة هذا التنوّع بالحوار والتسويات النبيلة والمجتمع المفتوح والاعتدال؛ واستكمال بناء الدولة المدنيّة المستقرّة. تُعد هذه المفاصل حلقة الوصل في الخطاب السياسي للكنيسة المارونية، وعلى الرغم من العقبات التي تقف حائلاً دون تطبيقها الكامل، خصوصاً ما يتعلق باستكمال بناء الدولة المدنية، نتيجة الأزمات الدورية التي مر ويمر بها لبنان تحديداً في العقدين الأخيرين، نجحت الكنيسة في طبع هويتها وخطابها السياسي استناداً إلى مفهومي الميثاقية والعيش المشترك، وهذا ما جعلها توطد روابطها الوطنية المشتركة مع بقية ممثلي الطوائف اللبنانية على قاعدة الشراكة والاعتدال والمصير الواحد. وهذه الثوابت التي يشدد عليها الخطاب الكنسي السياسي الماروني ليس على صلة بالنصوص فقط، وإنما تنادي به البطريركية المارونية بشكل دائم، خصوصاً في الحقب التي تشهد توتراً بين المكونات السياسية بما يحمله من انعكاسات في الرأي العام اللبناني، وتسعى بثبات إلى الحد من أي تشنج والتصدي لأي عنف أهلي محتمل يهدد الجميع. لم تكن الكنيسة وحدها المعنية بهذه القضايا الوطنية، فقد شددت دار الفتوى في لبنان على هذه الثوابت، ويمكن ملاحظة ذلك على مستوى الخطاب الذي بلورته “وثيقة الثوابت الإسلامية الوطنية” الصادرة عام 2011، التي تضمنت تسعة ثوابت تحاكي -إلى حد كبير- ثوابت الكنيسة المارونية. ورد في الثابتين الثاني والثالث الآتي:
في العيش الوطني الواحد:
كان العيش الوطني الواحد -ولا يزال- هو القاعدة التي قام عليها لبنان واستمر على الرغم من كل الصعوبات الداخلية والخارجية. وأساس ذلك العيش الشراكة الكاملة على أساس المناصفة في التمثيل السياسي، والمشاركة في بناء المؤسسات، بين المسيحيين والمسلمين. وعماد تلك المشاركة هو التزام الطوائف بالنظام، والتمثيل الصحيح لكل الفئات، والتمثيل الوازن بداخل الطوائف، واحترام خصوصيات الآخرين -ما أمكن- لكي يظل التوازن في النظام السياسي عاملاً مهماً بين عوامل الاستقرار والأمان للجميع، وذلك لأن الإحساس بالغبن أو بالإقصاء عند أي جماعة على المستوى الوطني العام أو الطائفي الخاص، يولد انعزالاً داخل الطائفة المعنية، ويقابله انكماش وتحفز بداخل جماعة أخرى أو أكثر، وقد أدى ذلك دائماً إلى تهديد الاستقرار الوطني، وحدوث النزاعات التي عانى منها اللبنانيون كثيراً.
في المكونات الوطنية للنظام:
لقد أقام النظام اللبناني، وبالتوافق بين المسلمين والمسيحيين شراكة في تكوين السلطة وفي إدارتها، وهكذا كان رئيس الدولة -ولا يزال- مسيحياً مارونياً، ورئيس مجلس النواب أو السلطة التشريعية مسلماً شيعياً، وكان من مسؤولية أهل السنة تولي منصب رئاسة الحكومة قبل الطائف وبعده، وما كان ذلك امتيازاً بقدر ما كان -ولا يزال- دوراً ومسؤولية، فرئيس الحكومة في ديمقراطيتنا باعتباره رئيس السلطة الإجرائية، هو وحده الذي يتعرض للمساءلة والمحاسبة من بين رؤوس المؤسسات الدستورية، وتستند قدرته على القيام بمهامه، وتمتين التواصل بين المكونات الوطنية إلى صلاحياته الدستورية، وإلى قوته التمثيلية في بيئته اللبنانية الخاصة، وفي المدى الوطني العام[81].
يشدد نص “الكنيسة المارونية والسياسة” على أهمية ما ورد في اتفاق الطائف: “حسمت مقدّمة اتفاق الطائف الجدل حول طبيعة العقد الاجتماعيّ بين اللبنانيين فاعتبرت أنّ العيش المشترك هو في أساس هذا العقد وأنّ لا شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.كما أوضح ماهيّة النظام اللبنانيّ: لبنان واحد موحّد، سيّد، حرّ، مستقلّ ونهائيّ لجميع أبنائه وعلى كامل أرضه، وهو عربيّ الهويّة والانتماء، ويلتزم بكونه عضواً مؤسّسًا في الجامعة العربيّة وفي منظمة الأمم المتحدة وفي الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان. وقالت: إنّ النظام جمهوريّ ديمقراطيّ برلمانيّ، يقوم على احترام الحريّات العامّة، لا سيّما حريّة المعتقد، وعلى العدالة والمساواة ومبدأ الفصل بين السلطات والشعب هو مصدر السلطات. وأنهت بأنّ لا شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”.[82]
يحدد النص (19) أبرز التحديات التي تقف أمام الثواب الوطنية في القضايا/ الثوابت: العيش المشترك، بناء الدولة الديمقراطية الحديثة، المصالحة مع السياسة، والانتشار الماروني في أبعاده السياسية. في ما يتعلق بالعيش المشترك يشير النص إلى أولوية تجديد تجربة العيش المشترك وذلك بعد التجارب المؤلمة التي خبرتها الطوائف اللبنانية في حرب 1975. ولا تخفي الكنيسة مخاوفها من تبعات الانقسامات الهوياتية إقليمياً وعالمياً، وانعكاساتها الخطرة ثقافياً وحضارياً، مما دفع معدي النص إلى التساؤل: التحدّي الأكبر الذي يواجه البشريّة اليوم، هو مشكلة العيش معًا بين مختلف العائلات البشريّة. كيف يمكن أن نعيش معًا في الاحترام والسلام مع التعدّديّة التي يمتاز بها عالمنا؟ يمكن استخلاص أربع مسائل في هذا السياق تبعاً لما أورده النص:
- إن العيش المشترك يتخطى مستوى التساكن أو التعايش بين المجموعات اللبنانيّة، فهو نمط حياة يؤمّن للإنسان فرصة التواصل والتفاعل مع الآخر بحيث تغتني شخصيّته من تلقّيها جديد الآخر، وتغني هي بدورها شخصيّة الآخر، وذلك من دون إلغاء للخصوصيّات والفوارق التي تصبح في هذه الحال مصدر غنى للجميع. إنّه نمط حياة يقوم على احترام الآخر في تمايزه وفرادته، فلا يسعى إلى إلغائه أو استتباعه، ولا يفرض عليه انصهارًا يلغي خصوصيّته أو توحّدًا يختزل شخصيّته ببعد واحد من أبعادها.
- إنّ الحرب التي كادت أن تقضي على العيش المشترك بين اللبنانيّين أدّت إلى تحوّلات كبيرة في وعي اللبنانيّين لذاتهم ولوطنهم. فبعد أن كانت كلّ مجموعة تبحث عن ضمانات لها خارج الشريك الآخر، قام استقلال لبنان عام 2005 على موقف مشترك مسيحيّ وإسلاميّ، يؤكّد حقّ اللبنانيّين في أن يكون لهم وطن حرّ ومستقلّ، وأن يعيشوا فيه مختلفين من حيث الانتماء الدينيّ، ومتساوين في مواطنيّتهم. واللبنانيّون مطالبون باستخلاص دروس الحرب، والإدراك أنّ مصير كلّ واحد منهم مرتبط بمصير الآخر، وأنّ خلاص لبنان يكون لكلّ لبنان أو لا يكون، ويقوم بكلّ لبنان أو لا يقوم، ذلك أنّه ليس من حلّ لمجموعة دون أخرى، ولا لمجموعة على حساب أخرى.
- تشكّل هذه الرسالة مساهمة لبنان في إغناء الحضارة الإنسانيّة. وهي مساهمة ضروريّة في هذه الحقبة من تاريخ البشريّة، التي تشهد مخاضًا صعبًا يتمحور حول سؤال من طبيعة وجوديّة: كيف يمكن أن نعيش معًا مختلفين ومتساوين؟ وهي أيضًا مساهمة ضروريّة لوضع حدّ لدوّامة العنف التي تتسبّب فيها التقابلات التي تضع وجهًا لوجه هويّات ثقافيّة وسياسيّة متنوّعة، فتجعل من كلّ واحدة منها خطرًا يتهدّد الأخرى، وتدفع صاحب الهويّة إلى العمل على إلغاء الآخر المختلف باعتباره مصدر خطر عليه. “فالتحدّي الأكبر الذي يواجه البشريّة اليوم، هو مشكلة العيش معًا بين مختلف العائلات البشريّة. كيف يمكن أن نعيش معًا في الاحترام والسلام مع التعدّديّة التي يمتاز بها عالمنا؟ كيف يمكن أن نحوّل التعدّديّة من ذريعة للتنافر والتناحر إلى دعوة للتواصل والتكامل؟”.
- إنّ تجديد تجربة العيش المشترك لا يوفّر ضمانًا لمستقبل اللبنانيّين فحسب، بل يشكّل ضرورة لمحيطهم العربيّ، ويساعد في تجاوز هذه المرحلة الخطرة المسكونة بالحروب وبالصراعات على اختلاف أشكالها. من هنا ينبغي العمل على جعل التجربة اللبنانيّة، في صيغتها المتجدّدة، أنموذجًا يمكن الإفادة منه في العالم العربيّ، بوصفه نمطًا حضاريًّا في البحث عن العيش المشترك والترقّي في مجتمعات تتميّز بالتنوّع والتعدّد، ومدخلاً لإعادة تعريف العروبة بوصفها رابطة حضاريّة تقرّب بين العرب لا مشروعًا سياسيًّا يباعد بينهم، وبوصفها أيضًا مدخلاً لتجديد مساهمة العرب في الحضارة العالميّة[83].
في بناء الدولة الديمقراطية الحديثة، تؤكد الكنيسة المارونية ضرورة التوفيق بين المواطنية والتعددية، وتعتبر أن “صيغة العيش المشترك لا تنهض إلاّ ببناء دولة ديمقراطية وحديثة قادرة على حمايتها وتوفير ظروف تطورها”. إن الأسس التي تنبني عليها الدولة المنشودة كما حددها النص هي:
- التمييز الصريح، حتى حدود الفصل، بين الدين والدولة، بدلاً من اختزال الدين في السياسة، أو تأسيس السياسة على منطلقات دينيّة لها صفة المطلق.
- الانسجام بين الحريّة التي هي في أساس فكرة لبنان والعدالة القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات، والتي من دونها لا يقوم عيش مشترك.
- الانسجام بين حقّ المواطن الفرد في تقرير مصيره وإدارة شؤونه ورسم مستقبله، وبين حقّ الجماعات في الحضور والحياة على أساس خياراتها.
- الانسجام بين استقلال لبنان ونهائيّة كيانه، وبين انتمائه العربيّ وانفتاحه على العالم[84].
في 9 شباط (فبراير) 2014 أصدر الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق “مذكرة وطنية”، أتت في خضم الأزمات التي يمر بها لبنان والمنطقة، وعلى أعتاب ست سنوات من الاحتفال بالمئوية الأولى على إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920. لا تخلو المذكرة من الهواجس التي تراود الكنيسة المارونية خصوصاً على صعيد القضايا المتصلة بــــ”المصلحة الوطنية المشتركة العليا”، و”تكبيل المؤسسات الدستورية” و”عرقلة تكوين السلطة” و”إقحام لبنان في قضايا الجوار”. أعادت المذكرة تأكيد الثوابت الوطنية في ما يتعلق بــ: العيش المشترك، والميثاق الوطني، والصيغة (أي: إن التجربة التاريخية في لبنان لا تقوم إلاّ بجناحيه: المسلم والمسيحي)[85].
الخاتمة
يأتي انعقاد مؤتمر “التراث الرهباني في الشرق الأوسط” في لحظات تاريخية مفصلية تمر بها عموم المنطقة، ويعيش المسيحيون على مختلف طوائفهم، واقعاً معقداً ومركباً، وتبرز أمامهم مصاعب وتحديات كبرى تتخذ مسارات متداخلة، ولعل التحدي الأصعب الذي يواجه الجميع يتمثل بالتراجع الهائل لأعداد المسيحيين في أماكن وجودهم في التاريخ الحديث والمعاصر.
يرتبط هذا التراجع في الزمن الراهن بأسباب عدة، بعضها على علاقة بالأوضاع الاقتصادية التي دفعت الكثيرين منهم للهجرة نحو الغرب، وتعود أخرى إلى تصاعد الأصوليات الإسلامية بطرفيها: السياسي والجهادي، والتي باتت تهدد كل المكونات الدينية والإثنية في العالم العربي، بمن فيها الأكثرية. ولعل السبب الأهم في النزف المؤلم انتشار الحروب في دول عربية لطالما شكلت الحاضرة التاريخية للمسيحيين، خصوصاً في العراق وفلسطين وسوريا. وبعيداً عن “خطاب التفجع” الذي يطغى على بعض النخب المسيحية إزاء الحالة الراهنة لأحوال المسيحيين ومصائرهم، قد يكون من المفيد القول: إن “الإسلام الأكثري” يدفع أثماناً لا تقل عن الخسائر التي تدفعها الأقليات، فهو اليوم أمام امتحان تاريخي مفصلي يتجلى من خلال كيفية استعادة “الإسلام المدني والحضاري” بعدما انتشرت جماعات العنف الديني في بعض المجتمعات ذات الغالبية السُنية. ثمة هواجس عامة تطغى على الجميع؛ هواجس تستند إلى “قلق الهويات”، وللحد منها ليس أمام الجميع سوى خيار بناء دولة كل المواطنين القائمة على مبادئ المواطنة الكاملة. ولا يمكن أن ننفي أن هناك تضييقاً على المسيحيين في العالم العربي، منه ما هو سياسي ومنه ما هو ديني، نلاحظ ذلك في دولتين: مصر التي يعاني الأقباط فيها من الحد من حريتهم الدينية على صعيد بناء الكنائس، إضافة إلى الإشكاليات التاريخية المركبة مع المجتمع والدولة، ولبنان الذي تباطأ دور المسيحيين فيه بعد اتفاق الطائف ونتيجة للصراع السُني –الشيعي، سياسياً وهوياتياً (أي هوية نريد للبنان؟). نحن، نواجه مشكلة بوجهين: أزمة المواطنة، وسؤال العيش معاً.
طرحت نصوص المجمع البطريركي الماروني التي تحدثنا عنها سابقاً، سؤالاً مركزياً: كيف يمكن أن نعيش معًا في الاحترام والسلام مع التعدّديّة التي يمتاز بها عالمنا؟ يشكل هذا التحدي الأخطر أهم التحديات التي تواجه الجماعات الدينية والإثنية في الأقطار العربية، وهو يكتسب خطورته من تفكك الشبكات الاجتماعية المشتركة بين المسيحيين والمسلمين، والتي مرت بمراحل من التآلف والتعايش والانسجام في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؛ كان للانهيارات السياسية، والتدهور الاقتصادي، وتركيبات الهوية، وانفجار المد الأصولي، أدوار في تحجيم هذه الشبكات؛ والحال فإن الأزمة هي أزمة البنيان الكلي، وتالياً الخروج من الانسداد الراهن بحمولاته التاريخية، لا يمكن إلاّ عبر تأسيس دولة المواطنة والفصل بين الدين والدولة، أي العلمانية.
يتبادر إلى الأذهان حين نستعيد “تراثنا الرهباني في العالم العربي” –بما يحتويه من ثراء تاريخي وديني ومدني وإنساني وحضاري– سؤال آخر لا يقل خطورة عن “كيف يمكن أن نعيش معاً؟”، ونقصد بذلك، دور المسيحيين في النهضة العربية الثانية، وهنا أجد نفسي أستعيد ما طرحه السياسي والكاتب اللبناني سمير فرنجية (1945-2017) الذي انشغل بهذه القضية، وكان من بين أبرز المشاركين في لقاءات “خلوة سيدة الجبل”. يقول: “مطلوب من المسيحيين نظرة جديدة، أن يستعيدوا دورهم التاريخي فلا يبقوا أسرى الذاكرة المحملة بكل مآسي الماضي. عليهم اليوم إطلاق نهضة عربية ثانية مثلما فعلوا مطلع القرن الماضي ونقلوا المنطقة العربية من حال إلى حال. أعطت النهضة العربية الأولى نتائجها الإيجابية لكن الفكر الأيديولوجي والتوتاليتاري صادرها وبنى هذا النوع من الأنظمة التي باتت على طريق الزوال”[86]. في مكان آخر يقول فرنجية: “جوهر الرسالة الإنجيلية، ألا وهي إرشادُ الناس إلى العيش معاً بسلام، ونبذُ أيّ توظيف للدين في خلق هويّات مغلقة سرعان ما تتحوّل –كما بيّنت تجربة الحرب [اللبنانية]– إلى “هويات قاتلة”. علينا أيضاً أن نمتلك الشجاعة الكافية للمراجعة الذاتية و”تنقية الذاكرة”، كما دعانا الإرشاد الرسولي منذ عام 1997، فنعترف بمسؤوليتنا المشتركة، مسيحيّين ومسلمين، عن الحرب التي دمّرت بلدنا. ذلك أنّنا جميعاً لجأنا، في وقت أو آخر، إلى السلاح، وسعى كلٌّ منّا إلى الاستقواء بالخارج على خصمه الداخلي، متخلّين عن سيادتنا واستقلالنا. علينا أيضاً وأيضاً أن نستعيد مَأثِرةَ الذكاء، فندرك مجدّداً أنّ غنى أيّة جماعةٍ لا يُقاس بكثرة عددها وقوّة نفوذها في الدولة، وإنّما يُقاس بالرسالة التي تحملها في بيئتها الإنسانية ومحيطها. فالمكانةُ المميّزة التي احتلّها المسيحيّون المشارقة في العالم العربي، إنّما كانت الثمرة الطيّبة للدور الإيجابي النشط الذي لعبوه في النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر. وذلك بفضل أعلامٍ من أمثال: ناصيف اليازجي، وبطرس البستاني، وجبران خليل جبران، وآخرين كثر، كما بفضل مؤسّساتٍ زاهرة من معاهد وجامعات ومطابع وصحف ومستشفيات ومصارف”[87].
إن تنظيم مؤتمر حول “التراث الرهباني في الشرق الأوسط” يتمتع بأهمية مزدوجة: الأولى، ضرورة إحياء هذا التراث وحفظه من خلال تثبيت ركائزه في الأزمنة القلقة التي نعيشها ونعاني منها جميعاً؛ ولا ريب أن أرشفة الذاكرات عامل مفصلي في حماية تاريخ أي جماعة دينية أو إثنية؛ والثانية، الدعوة لتحضير مؤتمر عن: “التراث الحضاري المشترك المسيحي– الإسلامي في العالم العربي”، وأعتقد أن مثل هذه اللقاءات تشكل الأرضية الخصبة للتلاقي بين أطراف التعدد، بتمثلاته الدينية والاجتماعية والتاريخية والثقافية والحضارية والإنسانية، وكم نحن في حاجة إليها في ظل خطابات التحريض والكراهية، وهي خطابات تقف خلفها مؤسسات ودول ووسائل إعلام وتشكل أداة تحريضية في الصراع السياسي الذي أنهك المجتمعات العربية.
لقد اضطلعت الرهبانيات، في كل الكنائس المنتشرة في الشرق الأوسط، بأدوارٍ راعوية وتربوية وثقافية، وتناغمت مع محيطها وازدهرت بروحية السيد المسيح، القائمة على السلام والمحبة والمغفرة والعطاء. لكن الرهبانيات اليوم تقف أمام مشاكل أخرى، تتمثل في الدور الرسالي، فلا بد من إعادة تفعيله ليس على مستوى الجماعة المسيحية المؤمنة فحسب –لا سيما الأكثر حاجة وفقراً-، ولكن بين بقية الجماعات المؤمنة الأخرى، من خلال التعليم والثقافة ورفع منسوب خطاب السلام.
حاولنا في هذه الورقة البحثية دراسة تاريخ الكنيسة الأنطاكية السريانية المارونية وركزنا على الرهبانيات المارونية في لبنان، ولاحظنا حجم المصاعب التي مرت بها على مستوى التأسيس، فبدت لنا كأنها تحفر تاريخها في الصخر، متخطية العديد من الأزمات والمراحل الحرجة. ليس من السهل أن تحقق هذه الرهبانيات ما أنجزته اليوم على صعيد المؤسسات الصحية والتربوية والاجتماعية والكنسية داخل لبنان وفي عالم الانتشار. ويأتي كلامنا هذا ليس من باب المدح أو التقريظ، وإنما من زاوية قراءة “الإنجاز” الذي لا ريب أن الرهبانيات الشرقية الأخرى حققته بالمستويات نفسها. وعلى أهمية الإنجازات الرهبانية في الكنائس الشرقية، وتلك التي تتبع روما، يبدو أنه من المفيد أن تنهض كل الرهبانيات وتركز على الملمح الإنساني في رسالتها؛ أي التضامن ومساعدة الإنسان المقهور والفقير والمحتاج والمشرد، بصرف النظر عن هويته الدينية؛ لقد علمنا السيد المسيح أن وجه الآخر هو وجهي.
نعلم أن السؤال الوجودي يقلق كل المسيحيين في العالم العربي، وقد تنامى بشكل تدريجي بدءاً من عام 2003 الذي شهد خسارة كبرى للمكوِّن المسيحي في العراق، وتفاقم لاحقاً مع انفجار “الربيع العربي” وانغلاقاته دون أن نغفل عن أوضاع الأقباط في مصر وأوجاعهم. ليس المطلوب اليوم الانغلاق على الذات، على الرغم من الألم والخسائر الكبيرة؛ إنما المطلوب حفظ تراثنا الرهباني الإنساني، وتجاوز كل العقبات وملاقاة الآخر، وإن رفض وجودي وحاول مصادرته. إن خطاب السلام هو الاستحقاق الأصعب في هذه الحقبة؛ ومن ينادون بالإنجيل إنما يبشرون بالسلام. جاء في سفر أشعيا النبي {وَيَكُونُ صُنْعُ الْعَدْلِ سَلاَمًا، وَعَمَلُ الْعَدْلِ سُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً إِلَى الأَبَدِ} وقال السيد المسيح: {طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ}.
[1]* باحثة لبنانية في علم الاجتماع، عضو هيئة التحرير في مركز المسبار للدراسات والبحوث (دبي).
[2] كان للإصلاح الرهباني (في أوروبا) في القرن السادس عشر دور بارز في تاريخ الرهبانيات، وحدد المجمع التريدنتيني منافع الرهبانيات، ونظم أملاكها وإدارتها الداخلية وانتخاب رؤسائها، ووضع أصولاً لمجامعها السنوية، وجعل للأساقفة حق تفتيش الأديرة ومراقبتها. ونشأت رهبانيات حديثة تهتم بالوعظ والتعليم ومساندة الفقراء وإعالة المرضى، أشهرها الكبوشية والتيطسية والبرنابية واليسوعية ورهبنة مار فيليب الأوراتورية التي تفرع عنها الفرنسوية والعازرية والمخلصية وغيرها. وتحتل هذه الرهبانيات المكانة الأولى بين جمعيات العالم العلمية، لانهماكها بالتعليم والمناهج المدرسية. انظر: الرهبنة، الموسوعة العربية، المجلد العاشر، ص11، متوافر على الرابط المختصر التالي:
http://cutt.us/99MyU
[3] – نبذة عن تاريخ الموارنة، موقع البطريركية الأنطاكية السريانية المارونية، متوافر على الرابط التالي:
http://www.bkerki.org/maronites.php
[4] – مار مارون هو راهب ناسك، آرامي العرق سرياني اللغة، نشأ في مدينة قورش شمال شرقي أنطاكيا (تركيا حالياً) وقد اختار قمّةً في ضواحي قورش على علو نحو (800) متر، كان قد أقيم عليها قديماً هيكل وثني لتكريم الشياطين، وكانت هذه المنطقة قد خلت من سكّانها، فقصدها مارون في النصف الثاني من القرن الرابع، وكرّس هذا المعبد لله وعبادته. مارون باللغة السريانية تصغير للفظة «مار» والتي تعني السيّد، وهي بدورها تصغير عن لفظة «موران» التي تعني «سيّد السادة أو السيّد الأكبر»، وتُستَخدَم في اللغة السريانية كأحد ألقاب الله. في غياب أي سيرة رسمية ومفصّلة عن حياة القديس، تعتبر شهادة ثيودوريطس، أسقف المنطقة التي تنسّك فيها مار مارون، المرجع الأساسي الوحيد عنه، والذي يذكر أنّ القديس مارون ولد حوالي عام 350م، وانصرف منذ البداية إلى الصلاة والتقوى بالإضافة إلى الأعمال اليدوية الشاقة لقهر الجسد، لابساً اللباس الخشن. شاعت أخبار هذا القديس فقصدته الجموع من كل حدب وصوب ملتمسة شفاعته. ليس ثمة اتفاق على تاريخ وفاة القديس مارون، تحدد المصادر تاريخ وفاته عام 410م. تعتبر شهادة الأسقف ثيودوريطس المصدر الوحيد الذي يُستند إليه لمعرفة طبيعة حياة مار مارون، على الرغم من أنّ هذه السيرة تبتعد عن منحى التوثيق التاريخي وتأخذ طابع الكتابات الدينية، فهي لا تذكر -مثلاً- مكان تنسّك القديس أو مكان دفنه، إلا أنها تذكر المنازعات بين سكّان القرى والبلدات المجاورة لحيازة جثمانه، كما أنها تصِف القديس مارون بعدد من الصفات المهمة، حيث يذكر الأسقف في كتابه “تاريخ أصفياء الله” أنّ «مارون زيّن طغمة القديسين المتوحشين بالله، ومارس ضروباً من التقشفات والإماتات، تحت جوّ السماء، متعبّداً ومتجهّداً في الأصوام والصلوات والليالي الساهرة والركوع والسجود، والتأمل في كمال الله. إلّا أنّه لم يكن منقطعاً عن المجتمع طوال فترات حياته، إذ عندما انتشر صيته توافد إليه الناس من مختلف المناطق المجاورة، فكان يعظ الزوّار ويرشدهم ويعزّي المصابين والحزانى، حتى أشيع أنّ الشياطين نفسها قد تحاشَت حضرته». كان أوّل ذكر تاريخي للقديس مارون في رسالة بعثَ بها بطريرك القسطنطينية يوحنا الذهبي الفم من منفاه في القوقاز حوالي عام 404، إلى مارون «الكاهن والناسك». وتدلّ الرسالة على أنّ البطريرك كان يعرف الناسك معرفة شخصية، وهو ما دفع المؤرخ البطريرك الدويهي للقول: إنّ الذهبي الفم ومارون كانا صديقي دراسة في أنطاكيا قبل أن يتبنّى كلّ منهما نمط الحياة النسكية. يعبّر الذهبي الفم في الرسالة عن مشاعره الودّية نحو القديس مارون ويقدّر تقواه الشديدة، ويعلن رغبته في المراسلة على نحو متكرّر، وهو ما كانت تحول دون تحققه صعوبة العثور على مسافرين من القوقاز تجاه ضواحي حلب، ويستفهم الذهبي الفم بحرارة عن صحّة مارون ويختتم طالباً دعاءه والصلاة لأجله. راجع: مار مارون بلسم لشرق دائم الاشتعال، جريدة الجمهورية، 10 شباط (فبراير) 2015، متوافر على الرابط التالي:
http://www.aljoumhouria.com/news/index/210619?print=1
لمزيد من التفاصيل عن سيرة القديس مار مارون نحيل على كتاب: الجامع المفصل في تاريخ الموارنة المؤصل، يوسف الدبس رئيس أساقفة بيروت الماروني، المطبعة العمومية الكاثوليكية، 1905.
[5] – نشأة الكنيسة المارونية، المركز الدائم للتنشئة الاجتماعية، على الرابط المختصر التالي:
http://cutt.us/Lkrrq
[6] – بولس، جواد، تكون المارونية في جبل لبنان، مجلة الفصول اللبنانية، صيف 1980، موقع المؤرخ جواد بولس، متوافر على الرابط التالي:
http://jawadboulos.org/arabic/?p=2216
[7]– عُرف السريان الأرثوذكس سابقاً باليعاقبة نسبة إلى الأسقف يعقوب البرادعي (578+)، منظّم هذه الكنيسة الأنطاكية المناهضة لمجمع خلقيدونيا.
[8]– المرجع السابق.
[9] – إن نسبة الموارنة إلى هذا الدير، مع ما يستتبعُ ذلك من روحانيّة نسكيّة طبعت نشأتهم وتاريخهم الطويل، تبقى قاصرةً عن الإحاطة بالهويّة المارونية في جذورها الكنسيّة. فالموارنة، قبل أن ينتظموا في جماعة كنسية مستقلة ذات طابع رهباني، كانوا وما زالوا أبناء الكنيسة الرسولية الأنطاكية في بعدها السرياني. وللتعرّف على لاهوت الكنيسة عند الموارنة، يكفي التأمل بصلوات أحد تجديد البيعة وتقديسها التي بها تفتتح الكنيسة دورتها الطقسية حول سرّ المسيح في مختلف أحداثه الخلاصية. وتجدر الإشارة إلى أن الجذور الأنطاكية والسريانيّة للكنيسة المارونية هي بمثابة اعتراف وتقديرٍ للتراث المشترك الذي يجمع بين مختلف الفروع الأنطاكية والسريانيّة. فالعودة إلى هذا التراث المشترك هي من الوسائل الأكيدة لاستعادة الوحدة الأنطاكية المرجوّة في سبيل حضور مسيحيّ مشترك في المشرق العربي وبلدان الانتشار. انظر: أوراق الأمانة العامة للمجمع البطريركي الماروني، متوافر على الرابط التالي:
http://www.athanasiusdeacons.net/Downloads/Books/tari5_kinisa/kinisa%20aronia.pdf
[10] – راجع: خليفة، إلياس، مجلة أوراق رهبانية، العدد (47)، 1995، ص85-86.
[11]– ارتبط تاريخ الموارنة بلبنان منذ ما يزيد على الألفي سنة. قدم إليه رهبان مار مارون قبل إنشاء البطريركية، وحملوا البشارة إلى سكانه. وتوثّقت العلاقة بين الموارنة ولبنان عندما انتقل إليه البطريرك الماروني، وتبعته غالبية الشعب بين القرنين السابع والعاشر للظروف التي أوردناها. لقد ارتسمت معالم جغرافيا مدنية وكنسية جديدة للموارنة، انبسطت بين الجبة وبلاد البترون وجبيل، واستمرت إلى القرن السادس عشر. فكانت الأرض الجديدة أمنع مما عهدوه سابقاً وأحصن، ولكنّها أتت أضيق وأعسر وأمحل. وتطلّبت سعياً وجهداً متواصلين، وعملاً دؤوباً لتوفير سبل العيش. تكيّف الموارنة مع هذه البيئة، وعدّلوا ما أمكن من عناصرها، فجعلوها مواتية، ونظّموا طرق الحياة فيها. اعتصم الموارنة في جبل لبنان، واستقرّ فيه بطاركتهم منذ نهاية القرن السابع. وأقام البطاركة الموارنة في أديرة في لبنان كانت غاية في البساطة والتجرّد. اجتمع حولهم فيها الأساقفة والرهبان. وبعد أن أجبرت الظروف السياسية والاجتماعية البطاركة الموارنة بالتنقل بين مركز وآخر، وأن لا يعرفوا الثبات في مركز محدّد قبل منتصف القرن الخامس عشر. ثـبّت المجمع اللبناني دير قنوبين كمقرّ للبطريركية. حفل تاريخ دير سيدة قنوبين بالأحداث الخطيرة. تشكّلت فيه منذ أن أصبح مقراً بطريركياً سلسلة مترابطة ومعروفة للبطاركة. انعقد فيه أول المجامع المارونية، لا سيما سنتي 1580 و1596. حجّ إليه الموفدون البابويون والمرسلون، كما قصده المعتمدون السياسيون والسيّاح والزوار الأجانب. جرى منه التواصل مع السلطات العثمانية، والحكّام المحليين من أمراء ومشايخ وإقطاعيين، وجميع لفيف المناصب والمراتب، وطبقات الشعب. راجع: علاقة الموارنة في لبنان، موقع البطريركية الأنطاكية السريانية المارونية، متوافر على الرابط التالي:
http://www.bkerki.org/maronites.php?p=18
[12] – لا يستبعد الأب بطرس ضوّ “أن يكون الرهبان والمرسَلون الموارنة هم الّذين بشّروا الجراجمة (المَرَدة) بالإنجيل وهدَوهم مِن المجوسيّة إلى النصرانيّة”. لذا، انصهر المردة والموارنة، مستفيدين مِن عوامل مشتركةٍ أهمّها: اللغة السريانيّة والحضارة الآراميّة- الفينيقيّة والإيمان المسيحيّ الخلقيدونيّ، وقضيّة الدفاع عن الوجود الحرّ في أرضهم. في تلك الحقبة، تولّى السلطة الزمنيّة أميرٌ يسكن في بسكنتا ويخضع لسلطة البطريرك. راجع: إسطفان، ربيع، مارونية الشهادة والاستشهاد، نبذة عن تاريخ الكنيسة المارونية، متوافر على الرابط التالي:
http://www.lexamoris.com/historia/historiamaronita.html
لمزيد من التفاصيل حول وجهة نظر الأب بطرس ضو في شأن أصل الجراجمة (المردة) انظر: ضوّ، بطرس، تاريخ الموارنة الديني والسياسي والحضاري، دار النهار للنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1977. ومن أجل التعرف على تحليل آخر يخالف الأب ضو حول الإشكاليات التاريخية التي يثيرها موضوع الجراجمة والمردة انظر: إسماعيل، عادل، المردائيون (المردة) من هم؟ من أين جاؤوا؟ وما علاقتهم بالجراجمة والموارنة؟، دار النشر للسياسة والتاريخ، الطبعة الأولى، 2000.
[13] – بولس، جواد، تكون المارونية في جبل لبنان، مرجع سابق.
[14] – نفسه.
[15] – من المعروف أنّ الحملة الصليبية الأولى وجدت لدى الموارنة دليلاً وثيقاً وعوناً فاعلاً على طول الشاطئ السوري الفينيقي، حتى إنه يقال: إنّ أكثر من ثلاثين ألف محارب ماروني قد اندرجوا في صفوف الحملة الأوروبية، من بينهم فرقة من نخبة الرمّاح. انظر: قرم، جورج، إشكالية تاريخ لبنان من نشوء الإسلام إلى إعــلان دولة لبنان الكبير، جريدة الأخبار اللبنانية، العدد (1119)، الثلاثاء، 18 أيار (مايو) 2010، متوافر على الرابط التالي:
http://www.al-akhbar.com/node/51678
[16] – أبو نهرا، جوزيف، المسيحيون وهاجس الحرية في العهد العثماني، المؤتمر الدولي: خطاب الجماعات المسيحية في الشرق الأدنى في زمن التحولات، مركز الشرق المسيحي للبحوث والمنشورات، جامعة القديس يوسف، 24-26 يناير (كانون الثاني) 2013، ص8. تمتع مسيحيو جبل لبنان (بسبب إدارته الذاتية) خلافاً لأحوال المسيحيين في الشرق إبان السلطنة العثمانية بالحرية خصوصاً في عهد فخر الدين الثاني (1590-1634)، حيث تميزت سياسة الأمير بالانفتاح على مختلف الجماعات التي يتكون منها سكان الجبل، بغض النظر عن انتمائهم الديني. المرجع نفسه، ص30.
[17] – عقدت الكنيسة المارونية ثلاثة مجامع هي:
- المجمع المنعقد في عهد البطريرك سركيس الرزي سنة 1596.
- المجمع اللبناني المنعقد سنة 1736.
- ومجمع اللويزة المنعقد سنة 1818.
[18] – من المهم الإشارة إلى أن هوية الكنيسة المارونية كما أبرزها هذا النص/ الوثيقة هي حصيلة مسار تاريخي وديني طويل ومراجعات، وهو ينم عن نضج ثقافي ووعي كنسي ماروني لناحيتين: الإصرار على الشراكة مع المسلمين والتعايش معهم وتأكيد العيش المشترك، وقد تجلي هذا الأمر في مستويات عدة.
[19] – تنتسب اللِّيتورجيَّا المارونيَّة إلى عائلة اللِّيتورجيَّات الأنطاكية الغربيَّة، كاللِّيتورجيَّا السُّريانيَّة والبيزنطيَّة والأرمنيَّة. كما أنَّ الطَّقس المارونيّ هو على علاقةٍ وثيقةٍ بالتَّقليد الأنطاكي الشَّرقيّ أي الكلدانيّ. ولقد جاء في المجمع البطريركيّ المارونيّ ما يلي: “أ. الطَّقس المارونيّ واحدٌ من عائلة التَّقليد السُّريانيّ الأنطاكي، الَّذي يُجَسِّد إلى حدٍّ بعيدٍ تقليد أورشليم «أمّ الكنائس»، ويؤلِّف معهما، أي الأُورشليميّ والأنطاكي، وحدةً ليتورجيَّةً متكاملة. ب. ينفتح الطَّقس المارونيّ الأنطاكي على الطَّقس السُّريانيّ الشَّرقيّ، أيّ الكلدانيّ-الآشوريّ، مما يَجعلنا نَجدُ فيهما نقاطًا كثيرةً مُشتركة (…)”. ويتحدَّث علماء اللِّيتورجيَّا اليوم عن ارتباط الموارنة بالمحور السُّريانيّ الرَّهاويّ، وعن أصلٍ مشتركٍ للطَّقسَين المارونيّ والسُّريانيّ الشَّرقيّ. يقول المجمع عينه: (نرى أنَّ اللِّيتورجيَّا المارونيَّة، ذات العمق الأنطاكي، ما زالت تَحمل آثارًا رهاويَّةً تتميَّز ببنيةٍ خاصَّةٍ ونَسَقٍ معروفٍ يشهد لَهُما نافور “شَرَرْ” ، ورُتب تقديس الميرون، وتقديس الماء، وبعض الأناشيد الطَّقسيَّة المنسوبة إلى مار أفرام السُّريانيّ ومار يعقوب السَّروجي وغيرهما من الآباء السُّريان). كما نَجد علاقةً تربط الطَّقس المارونيّ بالطَّقس القبطيّ (قواسم مشتركة في رُتبتَي الخطبة والتَّكليل مثلاً). وقد تأثَّرت أيضًا اللِّيتورجيَّا المارونيَّة بالطَّقس اللاتينيّ بفعل المُرسَلين اللاتين والعلاقات بروما. ولكنَّ هذا التَّأثير لَم يصِل إلى درجة تغيير هويَّة اللِّيتورجيَّا المارونيَّة وبنيتها ولاهوتِها. راجع: الليتورجيا المارونية، موقع البطريركية الأنطاكية السريانية المارونية، على الرابط التالي:
http://www.bkerke.org.lb/liturgy1.php?liturgy=13
[20] – نصوص المجمع البطريركي الماروني، هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها، ص13، متوافر على الإنترنت.
[21] – أعلنت الكنيسة الأنطاكية السريانية المارونية الطاعة للكنيسة البابوية سنة 1182 والاتحاد معها سنة 1736، فهي على شراكة تامة مع الكرسي الرسولي حسب قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني 1965، وتتبع لسلطة البابا في روما.
[22] – راجع في هذا المجال: نص الوثيقة باللغة الفرنسيّة التي وقّعها بطاركة الشرق الكاثوليك السبعة، وأرسلوها إلى المراجع الرومانيّة، وهي بعنوان: “العلاقات بين الكنائس البطريركيّة الكاثوليكيّة والكرسي الرسولي الروماني”، في كتاب الأب إيلي حدّاد، المجمعيّة الأسقفيّة في الكنائس الشرقيّة (خبرة كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك)، منشورات المعهد العالي للعلوم الدينيّة، جامعة القديس يوسف، بيروت 2003، ص257-273. نقلاً عن نصوص المجمع البطريركي الماروني.
[23] – نصوص المجمع البطريركي الماروني، هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها، ص20-21، مرجع سابق.
[24] – المرجع نفسه، ص23.
[25] – يعتبر لبنان الأرض الوحيدة في الشرق الذي تتمثل فيه جميع الطوائف المسيحية والإسلامية داخل المؤسسات السياسية والدوائر الرسمية والحكومية، ويعود ذلك إلى عوامل عدة: تعقيد التركيبة الدينية اللبنانية التي دفعت واضعي الدساتير إلى ضرورة تمثيل الطوائف كافة، تاريخ التجربة الانتخابية/ الديمقراطية –على هشاشتها- في لبنان مقارنة بالدول العربية الأخرى –طبعاً مع وجود استثناءات- التي قادت شعوبها تحت راية الحزب الواحد والأنظمة العسكرية. في ما يتعلق بدور الموارنة على الصعيد السياسي فقد اتجهوا نحو الانفتاح والتعددية، وفي هذا السياق يخلص بولس نعمان إلى أن المارونية قد ألّفت مجتمعاً شاملاً منفتحاً على كل إنسان وعلى كل حضارة، وفي كلام لافت يقول: “وقد استطاعت أن تكون ديناً ودولة، من دون أن تُدَوِّل الدين أو تُدَيِّن الدولة”. راجع: نعمان، بولس، المارونية بين الدين والدولة: رأي في نزاع الشرق الأوسط، الكسليك، لبنان، 1970، نقلاً عن: قزي، إيلي، ارتباط الرهبانية اللبنانية المارونية بالشعب والأرض والوطن: من الإمارة الشهابية إلى لبنان الكبير، في: بحوث مهداة إلى الآباتي بولس نعمان، منشورات جامعة الروح القدس، الكسليك، لبنان، معهد التاريخ، 14، 2008، ص225.
[26] – نصوص المجمع البطريركي الماروني، الكنيسة والسياسة، متوافر على الرابط التالي:
http://www.maronite-evangelization.com/?page_id=278
[27] – شمس الدين، محمد حسين، نصوص المجمع البطريركي الماروني في العيش اللبناني المشترك: مساهمة كبرى في جلاء معنى لبنان ورجاء جديد للمسلمين اللبنانيين أيضاً، جريدة المستقبل اللبنانية، الاثنين 26 يونيو (حزيران) 2006 ، العدد (2306)، ص5.
[28] – الموسوعة العربية، مرجع سابق.
[29] – المرجع نفسه.
[30] – إلى جانب أهل العراء والعاموديّين والحبساء، عرفت أنطاكيّة الوقّافين والشجريّين والسهّارين والعشّابين والبكّائين الذين امتازوا بالزهد العنيف، كما عرفت كذلك الدّوارين أو الجوّالين والمصلّين الذين سبّبوا لها متاعب كثيرة. من أجل شرح واف عن كلّ من هذه الأنماط. راجع: قاشا، سهيل، تفجّر الحياة النسكيّة والرهبانيّة في الكنيسة، مجلّة المنارة، السنة 41، العددان (2) و(3)، ص298-302. نقلاً عن: الحياة الرهبانية، نصوص المجمع البطريركي الماروني، متوافر على الرابط التالي:
http://www.maronite-evangelization.com/?page_id=256
[31] – المرجع نفسه. راجع نقلاً عن نصوص المجمع البطريركي الماروني:
Pierre Cavinet et Alice Leroy-Molinglen, Théodoret de Cyr, Histoire des moines de Syrie, Sources chrétiennes, Paris 1977.
J.AMAR, Byzantine ascetic monarchism and Greek bias in the Vita tradition of Ephrem the Syrian, Orientalia Christiana Periodica 58 (1992).
[32] – الحياة الرهبانية، نصوص المجمع البطريركي الماروني، مرجع سابق.
[33] – نفسه.
[34] نفسه.
[35] – نفسه.
[36] – نفسه.
[37] – لمزيد من التفاصيل عن الراهبات المارونيات اللبنانيات راجع: قزي، إيلي، الإرث النسكي في حياة الراهبات اللبنانيات المارونيات، (1740-1941)، موقع أكاديميا، على الرابط المختصر التالي:
http://cutt.us/vMJr7
الجدير بالملاحظة أنه في العهد العثماني اتسع نشوء الرهبانيات النسائية في جبل لبنان، بدءاً من أواسط القرن التاسع عشر، وهي على التوالي: راهبات دير يوحنا حراش، أسسها البطريرك يوسف حليب العاقوري سنة 1641. الراهبات الأنطونيات، تأسست رهبانيتهن تزامناً مع الرهبان الأنطونيين، سنة 1700. الراهبات الباسيليات، تأسست سنة 1732 في دير سيدة البشارة في زوق مكايل، وسنة 1830 انقسمت إلى حلبية وشويرية. الراهبات المخلصيات، تأسست رهبانيتهن في صيدنايا، ولقيت الاضطهاد من البطريرك الملكي الأرثوذكسي سلفستروس، فانتقلت إلى دير المخلص في جون، سنة 1733، ثم إلى دير القديسين بطرس وبولس في بلدة غوايا في الشوف 1750. الراهبات المارونيات، تأسست سنة 1740، في دير مار إلياس الراس في جعيتا. راهبات القلبين الأقدسين، أسسها الآباء اليسوعيون، سنة 1874، بعد ضم جمعية المريمات في بكفيا، وجمعية قلب يسوع في زحلة. راهبات العائلة المقدسة المارونيات، أسسها البطريرك إلياس الحويك، في عبرين، سنة 1896. انظر: أبو نهرا، جوزيف، المسيحيون وهاجس الحرية في العهد العثماني، مرجع سابق، ص33.
[38] – الحياة الرهبانية، نصوص المجمع البطريركي الماروني، مرجع سابق.
[39] – أبو نهرا، جوزيف، المسيحيون وهاجس الحرية في العهد العثماني، مرجع سابق، ص32.
[40] – نفسه، ص33.
[41] – رزق، كرم، المحطات الرئيسية في تاريخ الرهبانية اللبنانية المارونية، جامعة الروح القدس، الكسليك، لبنان، متوافر على الرابط التالي:
http://olm.org.lb/OLM/Component/assets/img/content/history_ar.pdf
انظر: بولس، نعمان، المارونية لاهوت وحياة، من جبال قورش إلى سهول أفاميا، جامعة الروح القدس الكسليك، لبنان، 1992.
[42] – رزق، كرم، المحطات الرئيسة في تاريخ الرهبانية اللبنانية المارونية، مرجع سابق.
[43] – نفسه.
[44] – لمزيد من التفاصيل حول موضوع الإصلاح الذي آل إلى الفصل بين الرهبانيات الرجالية والرهبانيات النسائية في الرهبانية المارونية اللبنانية، راجع: قزي، إيلي، الإرث النسكي في حياة الراهبات اللبنانيات المارونيات، مرجع سابق.
[45] – رزق، كرم، المحطات الرئيسية في تاريخ الرهبانية اللبنانية المارونية، مرجع سابق.
[46] – تخرج الوقفية عن عرف الميراث الفردي فلا تنتقل إلى شخص آخر، وإنما هي ملك العائلة أو القرية بهدف منفعة الجميع وخصوصاً المُعوزين والمرضى من بينهم. راجع: قزي، إيلي، ارتباط الرهبانية اللبنانية المارونية بالشعب والأرض والوطن: من الإمارة الشهابية إلى لبنان الكبير، مرجع سابق، ص228-229.
[47] – نفسه، ص229.
[48] – كرم، مارون، قصة الملكية في الرهبانية اللبنانية المارونية، الكسليك، لبنان، 1972، نقلاً عن قزي، إيلي، ارتباط الرهبانية اللبنانية المارونية بالشعب والأرض والوطن: من الإمارة الشهابية إلى لبنان الكبير، مرجع سابق.
[49] – رزق، كرم، المحطات الرئيسية في تاريخ الرهبانية اللبنانية المارونية، مرجع سابق.
[50] – قزي، إيلي، ارتباط الرهبانية اللبنانية المارونية بالشعب والأرض والوطن: من الإمارة الشهابية إلى لبنان الكبير، مرجع سابق، ص231-233.
[51] – المرجع السابق.
[52] – نفسه.
[53] – نفسه.
[54] – المرجع نفسه، بعض هذه المدارس لم تعمر طويلاً لأسباب ترتبط بالأوضاع السياسية والاقتصادية التي عرفتها هذه الحقبة التاريخية.
[55] – المرجع نفسه.
[56] – قزي، إيلي، ارتباط الرهبانية اللبنانية المارونية بالشعب والأرض والوطن: من الإمارة الشهابية إلى لبنان الكبير، مرجع سابق، ص290-293.
[57] – شكل الدور الاجتماعي والإنساني مفصلاً رئيساً في رسالة الرهبانية اللبنانية المارونية، كما اعتبرت الرهبانية أن الدور الوطني، هو في صميم تاريخها وتقليدها ولا يمكنها التخلي عنه. ففي مقررات المجمع الإداري المنعقد في جامعة الروح القدس الكسليك، من 23 إلى 25 تموز (يوليو) 1975، برئاسة الآباتي شربل قسيس تعبر الرهبانية بوضوح عن حقيقة التزامها بشأن الوطن، وهذا بعض ما ورد في نصوصه: “لما كانت الرهبانية اللبنانية المارونية مرتبطة، كسائر الرهبانيات اللبنانية، ارتباطاً روحياً وعضوياً وتاريخياً ومصيرياً بالعائلة اللبنانية جمعاء، لذلك ترى من أهداف مجمعها الأولية تجسيد رغبات الكنيسة الأم والمعلمة في إيحاءاتها وتوجيهاتها وتطورها، والتحسّس بأفراح البشر وآمالهم، وبأحزانهم وضيقاتهم، بحاجاتهم ومشاكلهم، في لبنان وخارجاً عنه وحيث تدعو الحاجة؛ فالرهبانية تجد نفسها مُلزمة، كسائر الرهبانيات اللبنانية بتخطي ذاتها ليكون حضورها الرهباني والرسولي والاجتماعي والوطني حضوراً فعالاً ومفيداً لأبناء الوطن جميعاً، وباتخاذ المواقف التي يفرضها عليها الضمير الرهباني والواجب الوطني”. انظر: قزي، إيلي، ارتباط الرهبانية اللبنانية المارونية بالشعب والأرض والوطن: من الإمارة الشهابية إلى لبنان الكبير، مرجع سابق، ص315.
[58] – رزق، كرم، المحطات الرئيسية في تاريخ الرهبانية اللبنانية المارونية، مرجع سابق. بعض هذه المدارس مثل مدرسة مار جرجس دمرت، ومدرسة مار يوسف، ومدرسة مار إلياس الكحلونية، ومدرسة مار مارون، ومدرسة مار شربل وهي الوحيدة التي عادت للعمل.
[59] – المرجع نفسه.
[60] – لمزيد من التفاصيل حول أسماء الأديرة وتاريخ تأسيسها وأنشطتها التربوية والدينية والاجتماعية انظر: موقع الرهبانية اللبنانية المارونية على الرابط التالي:
http://www.olm.org.lb/OLM/Component/adyar.asp
[61] – رزق، كرم، المحطات الرئيسية في تاريخ الرهبانية اللبنانية المارونية، مرجع سابق.
[62] – كانت المطوشي من أهم القرى المارونية في قبرص وهي خلف قرية آيا مارينا. خرج منها عدد غفير من الكهنة والرهبان والعلماء ولم يبق فيها اليوم سوى الدير، ومعظم أملاكها تابعة له ويحرسها المسلمون. تم تجديده عام 1943. لمزيد من التفاصيل عن موارنة قبرص انظر الرابط المختصر التالي:
http://cutt.us/eunI
[63] – موقع الرهبانية المارونية للطوباوية مريم العذراء، على الرابط التالي:
http://www.omm.org.lb/arabic/rahbana/objectif.htm
[64] – المرجع نفسه، على الرابط التالي:
http://www.omm.org.lb/arabic/lebanon/louaize.htm
[65] – تشتمل المكتبة على (521) مخطوطاً و(17068)كتاباً (تقريباً). من هذه المخطوطات والكتب ما هو نادر وجليل، وقد اهتم بجمعها خصوصاً المطران جرمانوس فرحات وتلاميذ مدرسة روما المارونية. وقد جمعت الرهبانية أكثرية المخطوطات والكتب القديمة التي تمتلكها أديار الرهبانية في مكتبة سيدة اللويزة. وقد تم حديثاً بالتعاون مع إدارة جامعة سيدة اللويزة، تصوير المخطوطات على أقراص ممغنطة لتصبح في متناول طالبي العلم والباحثين. راجع: موقع الرهبانية المارونية للطوباوية مريم العذراء، على الرابط التالي:
http://www.omm.org.lb/arabic/lebanon/louaize.htm
[66] – سنة 1696، تسلمت الرهبانية المارونية الناشئة هذا الدير من أهالي بشري، بموجب وثيقة رسمية، فأعادت بناءه، وفتحت فيه مدرسة مجانية لتعليم الأولاد السريانية والعربية، والمبادئ الأولية للتعاليم الكاثوليكية. انظر: موقع الرهبانية المارونية للطوباوية مريم العذراء، على الرابط التالي:
http://www.omm.org.lb/arabic/lebanon/elicha1.htm
[67] – موقع الرهبانية المارونية للطوباوية مريم العذراء، على الرابط التالي:
http://www.omm.org.lb/arabic/lebanon/ndu.htm
[68] – وفي سنة 1707 وهب البابا أكليمنضوس الحادي عشر الرهبانية كنيسة ( San Pietro e Marcellino ) في روما مع غرف عدة ملاصقة لها، لتكون مقراً لدراسة أبنائها، وذلك مكافأة على نجاح رئيسها العام الأول الآباتي جبرائيل حوا في المهمة التي انتدبه ليقوم بها لدى الأقباط في مصر. موقع الرهبانية المارونية للطوباوية مريم العذراء، على الرابط التالي:
http://www.omm.org.lb/arabic/world/roma.htm
[69] – تاريخ الرهبانية، تجذر في التقليد الرهباني، موقع الرهبانية الأنطونية المارونية، على الرابط التالي:
http://www.antonins.org/ar/identite/historique
[70] – إن التفاعل الدرزي المسيحي تشهد عليه محطات تاريخية عدة من تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، وتجدر الإشارة إلى أنه في عهد فخر الدين الثاني تقرب الأمير من المسيحيين، كمشايخ آل الخازن وحبيش. كما كان معظم جنوده من الموارنة، ويقول البطريرك إسطفان الدويهي في هذا المجال: “في دولة فخر الدين ارتفع رأس النصارى، لأن أغلب عسكره كانوا نصارى وكواخيه وخدامه موارنة. فصاروا يركبون الخيل بسروج، ويلفون شاشات وخرور (…) وفي أيامه تعمرت الكنايس”. ومن مظاهر التفاعل بين المسيحيين وغيرهم، أن الأمير علي بن فخر الدين اشترى، سنة 1609، قرية مجدل المعوش من سكانها المسلمين الذين نزح العديد منهم بسبب تقاتلهم فيما بينهم، وأسكن فيها مسيحيين موارنة. انظر: أبو نهرا، جوزيف، المسيحيون وهاجس الحرية في العهد العثماني، مرجع سابق، ص30. انظر أيضاً نقلاً عن أبو نهرا، جوزيف: البطريرك إسطفان الدويهي، تاريخ الأزمنة، تحقيق الآباتي بطرس فهد، مطبعة الكريم، جونية، 1976؛ مفرج، طوني، لبنان الأصيل ليس طائفياً، دار بيوغرافيا، جبيل، 1999.
[71] تاريخ الرهبانية الأنطونية المارونية، رسالة الرهبانية، موقع الرهبانية الأنطونية المارونية، على الرابط التالي:
http://www.antonins.org/ar/identite/mission
[72] – الأديرة، موقع الرهبانية الأنطونية المارونية، على الرابط التالي:
http://www.antonins.org/ar/presence/au-liban/les-couvents/mar-chaaya
[73] – مدارس الرهبانية الأنطونية، موقع الرهبانية الأنطونية، على الرابط التالي:
http://www.antonins.org/ar/presence/au-liban/les-institutions-educatives/antonine-international-school
[74] – الجامعة الأنطونية، موقع الرهبانية الأنطونية، على الرابط التالي:
http://www.antonins.org/ar/presence/au-liban/les-institutions-educatives/universite-antonine-upa
[75] – الخازن، فريد، الكنيسة المارونية والسياسة، جريدة النهار اللبنانية، 7 نيسان (أبريل) 2015، متوافر على الرابط المختصر التالي:
http://cutt.us/AGWHl
[76] – المرجع نفسه.
[77] – نصوص المجمع البطريركي الماروني، النص (19) الكنيسة المارونية والسياسة، متوافر على الرابط التالي:
http://www.maronite-evangelization.com/?page_id=278
[78] – المرجع نفسه.
[79] – المرجع نفسه.
[80] – المرجع نفسه.
[81] – اللقاء الإسلامي الموسع في دار الفتوى يعلن وثيقة الثوابت الإسلامية الوطنية، موقع النائب اللبناني عماد الحوت، على الرابط التالي:
http://imadhout.com/arabic/Default.asp?ContentID=75&menuID=13
[82] – نصوص المجمع البطريركي الماروني، النص (19) الكنيسة المارونية والسياسة، مرجع سابق.
[83] – المرجع نفسه.
[84] – المرجع نفسه.
[85] – انظر: مذكرة وطنية لصاحب الغبطة والنيافة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الكلي الطوبى، بمناسبة عيد مار مارون، 9 شباط (فبراير) 2014.
[86] – سمير فرنجية يتحدث عن اللقاء المسيحي، جريدة النهار اللبنانية، السبت 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2011.
[87] – سمير فرنجية: نداء من أجل “ربيعٍ للمسيحيين العرب”، موقع الكلمة أون لاين، الأربعاء 20 شباط (فبراير) 2013، متوافر على الرابط التالي:
http://www.alkalimaonline.com/?p=512938