رضوان السيد :: الشرق الاوسط
صدر عن مركز «المسبار» للدراسات والبحوث كتابان عن إشكاليات الفتوى والتعليم الديني والمؤسسة الدينية، أولهما عنوانه: «حراسة الإيمان – المؤسسات الدينية»، وثانيهما عنوانه: «صناعة المفتي – التعليم الديني».
والواقع أن هاتين المسألتين، أي التعليم الديني، والفتوى، صارتا شغلا شاغلا لكل المعنيين بالمسائل الإسلامية في العقود الأخيرة. ويرجع ذلك إلى بروز المسألة الدينية في حقبة الصحوة الإسلامية، وما تفرع عنها من أصوليات وتشدد. ومع صعود موجات التدين القوية، وانتشار الفضائيات تفاقمت المسألة الثانية المتعلقة بالفتاوى وصناعتها وسيرورتها. وتأثيراتها المختلطة.
لقد مرت علينا عقود كنا فيها معنيين بالبرامج التعليمية في الجامعات الإسلامية، لجهتي الملاءمة والإصلاح، لكن مسألة البرامج في التعليم الديني ما أثيرت بشكل شامل إلا بعد أحداث عام 2001. فقد ذهب الأميركيون إلى أن المدارس الدينية وغيرها في السعودية وباكستان على الخصوص تربي تربية متشددة، وتخرج أصوليين، وقد تسهم في صناعة إرهابيين. وقد كانت الأجواء وقتها محمومة بحيث جرى تبادل الاتهامات بيننا وبين الأميركيين والأوروبيين. وبقدر ما كان هؤلاء متطرفين في دعاواهم، كنا نحن متشددين في رفض تلك الدعاوى، والتدليل بالتفصيل على أن ذلك غير صحيح وغير ممكن .
وما صارت الأجواء أكثر صحية أو ملاءمة، لكن مسألة التعليم الديني صارت مطروحة، وكتب فيها كثيرون ولا يزالون. وفي السنوات الأخيرة، وبعد تفاقم تأثير الفضائيات وانتشارها الهائل، طرحت المسألة الأخرى: فوضى الفتاوى.
ومعروف أن خادم الحرمين الشريفين أصدر قبل شهرين ونيف أمرا منع بموجبه الفتاوى العلنية على غير المختصين المخولين من جانب السلطات. وإذا كان ذلك يخفف من التأثيرات السلبية للآراء غير المتعقلة بداخل المملكة؛ فإن الأمر يظل عرضة للإسفاف والتعمل خارج المملكة، وفي بلدان إسلامية كبرى ومعتبرة مثل مصر وإندونيسيا وباكستان وغيرها.
وعندما تلقيت كتابَي مركز «المسبار»، واستعرضتُ دراسات الكاتبين بشأن التعليم والفتوى، أدركت أمرا كنت أخمنه من قبل، وهو أن أصل المشكلة يقع في أمرين: المؤسسات الدينية، والظاهرة الإسلامية الحديثة. فالمؤسسة الدينية التقليدية (بالمذاهب الفقهية السنية الأربعة الممثلة بداخلها)، كانت ولا تزال إلى حدود معتبرة، تملك المدارس التي تخرج المدرسين والأئمة والوعاظ والمفتين أو ممارسي الفتوى، فضلا عن القضاة الشرعيين.
وعلى مشارف الأزمنة الحديثة تصاعدت الدعوات للاجتهاد والتجديد في تلك المؤسسات؛ خاصة في البرامج التعليمية. إنما ما كان واضحا دائما ما هي الحقول والمجالات ذات الأَولوية في العمليات الاجتهادية والتجديدية.
والحق أن مطالب التجديد كانت تنصب على أمرين اثنين: المستجدات في حياة المسلمين وماذا يمكن للمؤسسة الدينية أن تقوله بشأنها، ثم ماذا يمكن للمؤسسة الدينية أن تقوم به من إسهام في تغيير رؤية العالم لجهة الانفتاح عليه، ولجهة قراءة قضاياه قراءة نقدية مستنيرة تفيد المسلمين في فكرهم وعملهم. وهكذا، فقد كانت هناك مشكلات عملية وأخرى نظرية ينبغي تناولها بالتأمل والبحث والدراسة، واستيعابها في البرامج التعليمية، والتعامل معها بالرأي والفتوى استنادا إلى الثقافة المكسوبة.
من أين كانت المؤسسات الدينية الإسلامية تستمد قوتها ومواردها؟ في القرن العشرين صارت المؤسسات الدينية التعليمية وغيرها تأخذ مواردها على الأكثر من الإدارات الرسمية للدول. وقد كانت هناك مداخيل من الأوقاف والتبرعات، لكن الدول – في عصر السلطات الوطنية – استوعبتها في بيروقراطيتها، وتولت هي أكثر الإنفاق. ولا مجال هنا للحديث عن هذه التحولات على مدى القرن الماضي وهذا القرن. أما قوتها أو سلطتها في الاستئثار بالتعليم والفتوى على الخصوص، فهي ناجمة عند أهل السنة عن سمعتها التاريخية، وصدقية علمائها، وأدوارهم الاجتماعية والعلمية، وناجمة أيضا عن دعم السلطات لها قديما وحديثا. وهذا يعني أنه ما كانت لها – عند أهل السنة على الخصوص – صلاحيات دينية أو ذات قدسية تبرر انفرادها بالقيام على الشأن الديني. والفرق بين ما كان، وما هو عليه الأمر الآن، أن هذه المؤسسات ما عادت منفردة بالقيام بهذه المهام، فنقصت بالتالي صلاحياتها وفعاليتها.
ولذلك عدة أسباب تراكمت، خاصة، في نصف القرن الأخير؛ إذ تعرضت لتحديات من جانب السلطات، ومن جانب الحركات الإسلامية الجديدة، وأخيرا نتيجة تضاؤل القدرات على التلاؤم مع الظروف المستجدة. ففي العقود ما بين الأربعينات والسبعينات من القرن الماضي، اشتدت ضغوط السلطات على تلك المؤسسات بدافع الهموم التحديثية لدى تلك السلطات، التي لم تسايرها المؤسسات الدينية فيها. وكنت قد استظهرت في دراسات سابقة أن سلطات الدول الوطنية تعاملت مع المؤسسات الدينية بأحد ثلاثة أشكال: الضغط إلى حدود الإلغاء أو الإضعاف الشديد، وذلك في الدول ذات التوجه العلماني والتقدمي – أو الحيادية وعدم الإنفاق لدى الدول غير المعنية أو المهتمة – أو الإبقاء والتقوية مع الاستلحاق والاستتباع؛ وذلك في الدول المهتمة باستخدام تعليم المؤسسات أو فتاواها في عمليات التحديث، ولاحقا في عمليات مصارعة الإسلاميين المعارضين.
وقد لاحظت أنه في الحالتين الأولى والثالثة؛ فإن المؤسسات ضعفت حجيتها وقدراتها وفعاليتها، وحلت محلها جزئيا أوضاع فوضوية أفاد منها في عيون الجمهور الإسلاميون الجدد. أما التحدي الثاني الذي تعرضت له المؤسسات الدينية فقد تمثل في منافسة الحركات الإسلامية الجديدة لها؛ ففي النصف الثاني من القرن العشرين ظهر الإسلام السياسي باعتباره الطرف الرئيسي في المعارضات القائمة للأنظمة.. وما اصطدم بالسلطات فقط؛ بل اصطدم أيضا بالمؤسسات الدينية القائمة تارة بسبب تقليديتها وعدم قيامها في نظر الإسلاميين بالمهام الموكولة إليها، وطورا بسبب انضوائها في أجهزة دعم السلطات باسم الإسلام. وقد نجح هؤلاء في بعض الدول في إنشاء مؤسسات تعليمية تحشيدية، ثم نجحوا في عصر وسائل الإعلام المفتوحة والفضائيات في فتح نوافذ على الفتاوى الطليقة وذات المنحى الحزبي أو المتشدد. بيد أن التحدي الثالث والمستمر والذي لا ينبغي تجاهله، أن المؤسسات الدينية القائمة ما استطاعت تطوير قدرات وآليات للتلاؤم مع مقتضيات الزمان، ولا استطاعت في الأعم الأغلب الإطلال على الجمهور وعلى متغيرات العالم برؤى جديدة ومقنعة؛ بما في ذلك تطوير المؤسسات التي ظلت النخب العالمة قائمة عليها.
إن المتغير الرئيسي في المشهد عند أهل السنة إذن ذو شعبتين: صعود الحركات الإسلامية الإحيائية والأصولية، وضعف المؤسسات الدينية لجهة النقص في الحجية، واللذين نتحدث عنهما (التعليم والفتوى). فهناك إقبال واسع من جانب الفتيان والشبان على التعليم الديني. وهناك تعدد هائل في جهات الرأي والفتوى في الشأنين؛ الديني والعام. ولا شك في أن مؤسسات التعليم الإسلامي لا تزال تستأثر باحتضان ما نسبته 80% من التلاميذ والطلاب. بيد أن هؤلاء المتعلمين ينقسمون في غالبيتهم على ثلاثة تيارات ظهرت وتطورت خارج تلك المؤسسات: التيار السلفي، والتيار الإحيائي أو الإخواني، والتيار الصوفي. وهذه التيارات متدابرة في ما بينها، وغير راضية عن التعليم الذي تتلقاه. وقد لفت انتباهي «الحل» الذي اقترحه العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في مقابلته بصحيفة «الشرق الأوسط» قبل أيام للتصالح بين المنقسمين؛ إذ دعا لتسلف الصوفية، وتصوف السلفية.
فهذا الحل أو هذه التسوية صعبة التحقق، لكن ليست هذه هي المشكلة؛ بل المشكلة أن الرؤى التي يمتلكها كل تيار هي رؤى حزبية ولا ترقى إلى مستوى المشروع للأمة، سواء على مستوى التضامن الداخلي، أو مستوى العلاقة التي يتصورها كل منها مع العالم. والمشكلة الأخرى: ماذا نفعل بهذه المؤسسات الضخمة والقائمة والتي تتطلب رؤية ومشروعا، وفعالية تستعيد من خلالها وبحق مرجعيتها وحجيتها. فالتيارات الصاعدة والسائدة – سواء أكانت معارضة للسلطات أم لا – لا تملك الاستعداد ولا التأهل لتسنم المرجعية بالنسبة لجمهور المسلمين، ولا بالنسبة لتمثيل تطلعات المسلمين في العلاقة بالعالم. إن أول ما تحتاجه هذه المؤسسات الدخول في خضم حركة تطويرية كبرى للبرامج التعليمية؛ ومن ضمن تصور جديد لمنزلة الموروث الديني والثقافي الإسلامي، ومنظور آخر لعالمية الإسلام ومقتضياتها.
فهناك ثورات في عالم اليوم على مستوى قراءة النص الديني، ومهمات الدين وإمكاناته ووظائفه. وذلك كله شرطه الدافع الرؤية والمشروع.
أما الفتوى، التي يستسهلها مفتو الفضائيات، فليست مخرجا ميكانيكيا للتعليم مهما بلغت جودته؛ وذلك لأن التحكم فيها أو ضبطها ليس بسهولة
ضبط التعليم وانضباطه. لكنها من جهة ثانية مثل التعليم، لأنها ناجمة عن وجود الرؤية ووجود المشروع. وليس المقصود من هذه المحترزات إبراز الصعوبات أو التعجيز؛ بل القول إن الوعي بالأمة وشمولها لا يزال قائما لدى الجمهور، فيقتضي ذلك التأهل لتلبية شروط مشروع الأمة في عالم العصر وعصر العالم.
شارك في دراستي مركز «المسبار» عن التعليم الديني، وعن المؤسسة الدينية والفتوى، عشرات الباحثين المختصين في شتى المجالات. وهما تتضمنان دراسات طريفة في موضوعات فرعية ما تعرضنا لها في هذه المراجعة؛ ومن ذلك دراسة عن التعليم الديني في إسرائيل وآثاره الفكرية والسياسية، وأخرى عن إشكاليات التعليم والفتوى في المؤسسات الشيعية، ومقارنتها بالمجالات المشابهة لدى أهل السنة. وأرى أن الدراسة المنشورة لسليمان الضحيان عن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية تستحق القراءة والتأمل في الوظيفة والتجربة.
المصدر: جريدة الشرق الأوسط
الصفحة: آفــاق إسـلامـيـة
الاحد 2010/12/28