(١)
يرتبط التاريخ الإغريقي في ذهن كثير منا باليونان. لكننا ننسى تركيا. ربما بسبب اختلاف الأسماء السياسية عبر التاريخ. والحقيقة أنه بينما كانت أثينا جوهرة الفلسفة والثقافة، فإن التاريخ الإغريقي، ثم الوريث البيزنطي، ارتبط ارتباطا تضخم في العصر البيزنطي بما نسميه الآن تركيا. طروادة ذات الصراع المشهور مع أسبرطة مدينة تركية. وإيفيساس التي حوت المعبد الأعظم للإلهة الإغريقية العذراء أرتيميس (لاحقا ديانا بالتسمية الرومانية) مدينة تركية. والمعبد أحد عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. ومنها اتخذت الدولة البيزنطية شعارها، الهلال، ثم أضافت إليه النجمة رمزا للعذراء مريم في العصر المسيحي البيزنطي. ثم إن كلمة بيزنطي –طبعا– منسوبة إلى مدينة بيزنطة، التي تكاد تكون أعظم مدينة عرفها التاريخ، المدينة التي حكمت إمبراطورية بشكل متواصل حوالي (١٣٠٠) سنة، بل واستمرت تحكم ما تبقى من الإمبراطورية الرومانية لألف سنة بعد انهيار حكم روما نفسها. نعرفها الآن باسم إسطنبول، وعرفناها عبر التاريخ بأسماء كثيرة منها القسطنطينية وإسلامبول والأستانة. بيزنطة/ القسطنطينية حازت في وقت ما ثلث ثروات العالم.
وحين نتحدث عن “الروم” في اللغة العربية، فإننا نعني هذا الجزء من الإمبراطورية الرومانية، الجزء البيزنطي الشرقي، الذي احتفظ بسماته الإغريقية القديمة، وظلت اليونانية لغة البلاط فيه عبر القرون، وحين تحولت الإمبراطورية إلى المسيحية كان أرثوذوكسيا، لا كاثوليكيا كوسط أوروبا وغربها. وهو –طبعا- الجزء الذي كان يحكم الساحل الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط، بما فيه من دول صارت تتحدث الآن باللغة العربية. وهو الذي يعنيه القرآن في مفتتح سورة الروم: “غلبت الروم، في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون”.
سيهمنا ما سبق ونحن نتحدث عن تركيا الإسلامية لاحقا.
(٢)
احتدم الخلاف بين العرب والفرس حول الحكم في ظل الدولة العباسية. الفرس يعتبرون أنهم هم الذين أسقطوا دولة بني أمية بسيوفهم، والعرب يحتجون بأنهم منبع الشرعية، ولولاهم لتحولت الحرب إلى فارسية عربية صرف. هذا الخلاف وصل إلى ذروته مع الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، الذي كانت أمه فارسية، واتهمه العرب بالانحياز إلى الفرس والاستعانة بهم في قتل أخيه الأمين، فظل ست سنوات كاملة من حكمه لا يستطيع أن يدخل بغداد العاصمة.
خليفته وأخوه، المعتصم، كان من أم رومية. ورأى أن أفضل طريقة لكي يتجاوز التجاذبات الفارسية العربية أن يعتمد على الروم في الجندية. من وقت المعتصم حتى العصر الحديث خضع العالم الإسلامي بطريقة أو بأخرى لحماية الروم المسلمين هؤلاء، وأقاموا عدة دول ليس مجالها هنا، إلا واحدة. الدولة العثمانية.
بنو عثمان منحدرون من قبائل رعوية في آسيا الصغرى. استطاعوا عبر أكثر من قرنين أن يمدوا نفوذهم حتى سقطت القسطنطينية في أيديهم عام ١٤٥٣. بالنسبة لهم لم يكن هذا يعني سقوط دولة الروم البيزنطيين. بل اعتبر محمد الفاتح أنه حول دين الإمبراطورية إلى الإسلام، كما حول الإمبراطور قسطنطين دينها إلى المسيحية في السابق. ومن هنا أطلق على نفسه لقب “محمد قيصر الروم”. واحتفظ بالهلال والنجمة شعارا للإمبراطورية كما كان. وهما الهلال والنجمة اللذان لا يزال العلم التركي إلى وقتنا هذا، وكثير من مستعمراته، يحمله.
الأتراك المسلمون في بيزنطة واجهتهم المشكلة نفسها التي واجهت أسلافهم. قديما كانت اللغة الرسمية ولغة النخبة في بيزنطة/ القسطنطينية هي لغة جيرانهم الغربيين، اليونانية، حيث مركز الثقل الثقافي. السلالة الحاكمة الجديدة أيضا لم تكن تحمل لغة أدب وفكر فاعتمدت على لغة جيرانهم الشرقيين، الفارسية، وظل الأمر هكذا حتى زمن السيطرة على القسطنطينية، وبدء تطور مكانة اللغة التركية. ستلاحظ –مثلا- أن جلال الدين “الرومي”، المولود في ١٢٠٧ في ظل الدولة السلجوقية كان يكتب بشكل أساسي بالفارسية. في ذلك الوقت انتشرت مقولة تعبر عن هذا الوضع: “تركي بلا فارسي كعمامة بلا رأس”.
(٣)
ورثت الدولة العثمانية بيزنطة، ومدت سلطتها إلى حدود إمبراطورية بيزنطة القديمة، واعترف البطرك جيناديوس الثاني، الذي نصبه محمد الفاتح بطركا للكنيسة الأرثوذوكسية في القسطنطينية، بمحمد الفاتح قيصرا للروم. لكن ظهر تحد جديد.
دوق موسكوفي (موسكو) إيفان الثالث تزوج من أخت ولي عهد بيزنطة الهارب أندرياس باليولوجوس. ولاحقا أعلن خلفه إيفان الرابع نفسه أول قيصر لروسيا، بوصفها وريثة عرش بيزنطة، واتخذ شعار الإمبراطورية البيزنطية الآخر، النسر ذا الرأسين المطلين إلى الغرب والشرق، شعارا للإمبراطورية. ولا تزال روسيا حتى الآن تستخدم هذا الشعار. قياصرة روسيا اللاحقون اعتبروا أنفسهم ورثة عرش بيزنطة الشرعيين.
(٤)
في كل فقرة سابقة تحدثت عن خصم تاريخي للأتراك. روسيا في شمال الشرق. اليونان وأحيانا أوروبا الكاثوليكية في الغرب. والفرس في جنوب الشرق. كانت مستعمرات بيزنطة القديمة في الساحل الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط هي المنطقة التي استطاع الأتراك المسلمون أن يسيطروا عليها عسكريا وثقافيا باسم الإسلام السني، ويجعلوها حدودا آمنة لهم. بينما دخلوا في حروب في كافة الاتجاهات الأخرى، مع الدولة الصفوية الشيعية، ومع خصمهم التقليدي من القياصرة الروس، ومع أوروبا.
تركيا تتمتع بأكثر المواقع فرادة في العالم. هي بالفعل نقطة التقاء العالم القديم. ببحوره ويابسته. ورثت الأستانة عن القسطنطينية ثراءها لكن على حساب المستعمرات على الأطراف. بيزنطة العثمانية لم تنتج من الثقافة والفنون ما يتناسب مع امتدادها الجغرافي ونفوذها العسكري، ولم تلحق بحركة التنوير والنهضة والعلوم التي أنارت أوروبا منذ اختراع الطابعة. حتى الثقل الثقافي البيزنطي هاجر مع الأرثوذوكسية إلى روسيا، التي تحولت مركزا فنيا وثقافيا متميزا، فعرف العالم أسماء بوشكين وتولستوي ودوستويفسكي وأنطون تشيكوف والبولشوي. كل اسم من هؤلاء علم روسي رآه العالم كله.
(٥)
ثم جاءت الحرب العالمية الأولى ١٩١٤ إلى ١٩١٨. وتزامنت هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى مع صعود الشيوعيين في روسيا.
هنا سنلاحظ شيئا غريبا. مستعمرات بيزنطة/ العثمانيين، بعد تحررها من الاستعمار، ستنحاز في هواها السياسي إلى روسيا السوفييتية الشيوعية. أعني هنا المستعمرات المسلمة في الساحل الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط، مثل سوريا ومصر وليبيا والجزائر والعراق أيضا (بعد انسحابه من حلف بغداد الذي ضم تركيا وإيران). بينما ستنضم تركيا، مركز العثمانيين السابق، إلى حلف الناتو، الذراع العسكرية للمعسكر الغربي، منذ أوائل الخمسينيات.
والقصد هنا أن الشعور السياسي في هذه البلاد المسلمة، بغض النظر عن تقييمنا لمساره، كان ينمو بعيدا تماما عن تركيا، ولا تمثل له خياراتها أي ثقل معنوي. هذا على المستوى الرسمي. أما على المستوى الشعبي، فبعد أربع سنوات فقط من سقوط الإمبراطورية العثمانية نشأت في مصر جماعة تدعو إلى استعادتها، ثم انتشرت في غير مصر من مستعمرات بيزنطة العثمانية السابقة.
(٦)
مع صعود أردوغان بدأت أحلام تركيا في استعادة نفوذ بيزنطة العثمانية مرة أخرى. وكما هو متوقع مد عينيه أولا إلى “الامتداد الطبيعي” منذ أيام الإغريق، الساحل الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط. يعاونه على ذلك هذه الفئة المشار إليها سابقا. جماعة الإخوان العثمانيين.
(٧)
على الجهة المقابلة كانت العقبات أمام مشروع كهذا ممثلة في ثلاثة عناوين رئيسة:
أولها: الدولة الوطنية. شعور الدولة الوطنية في المستعمرات السابقة نما قبل سقوط الإمبراطورية العثمانية. في مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر، وفي الجزيرة العربية مع تكون الدولة السعودية في صيغتيها الأولى والثانية، ثم الدولة السعودية الثالثة التي نشأت بعد وقت قصير من سقوط الإمبراطورية. وفي سوريا التي كانت في الصف الأمامي من الثورة العربية بداية القرن العشرين. وفي العراق والجزائر كغيرهما من الدول التي خاضت حروب استقلالها الخاصة ضد الاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي، بمعزل عن الإمبراطورية العثمانية. مما أسهم بشكل أكبر في نمو ذلك الشعور الوطني.
ثانيها: الأطماع الفارسية. حيث لم يكن المشروع التوسعي التركي هو الوحيد في المنطقة. الخصم التقليدي، إيران، له امتداداته أيضا، ويطمح هو الآخر في استعادة نفوذ الدولة الصفوية الشيعية. بل إنه سبق بخطوات في هذا الاتجاه منذ إقامة “الجمهورية الإسلامية” نهاية السبعينيات. وتحقق له “الهلال الشيعي” منذ حرب العراق ٢٠٠٣.
وثالثها: منافسها التاريخي على عرش بيزنطة، روسيا. التي تعلمت من التاريخ القيصري، ولم تكن لتسمح بامتدادات بيزنطية عثمانية جديدة في الساحل الشرقي للمتوسط. ومن ثم سارعت إلى سوريا لكي تقف في وجهه وتفشله.
أما بعد أن غرقت تركيا في المشروع العثماني الجديد، ولم يعد لها حليف سوى المجرم الشاحب، وجماعة الإخوان العثمانيين، يبدو أن خصوماً قدامى بصدد أن يلعبوا هم أيضا دوراً في المسار القادم للأحداث، وهنا أقصد اليونان وقبرص.
هل صارت الأحداث الجارية أمام أعيننا حاليا أكثر وضوحا في عينيك مما سبق؟ أتمنى. سيجعل هذا مهمة المقال القادم أسهل. لكي نفهم لماذا نحن في السياسة أسرى الجغرافيا. نتعارك على مساحة النفوذ، وعلى الثروات الطبيعية التي في متناول اليد. ونرفع من أجل هذا الصراع المادي شعارات معنوية. فنكرر الصراعات ونغير الشعارات.
—–
“كنت أريد أن يسيطر عليهم الجنون الذي يقضي عليهم كما قضى على هذا المجرم الشاحب”. هكذا تحدث زرادشت.