الكتاب: الإحياء والإصلاح في الإسلام: دراسة في الأصولية الإسلامية
الكاتب: فضل الرحمن مالك
ترجمة: مروان الرشيد
الناشر: جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت، مؤمنون بلا حدود، المغرب، الطبعة الأولى، 2018، (224 صفحة)
قراءة: ريتا فرج[1]
يعد فضل الرحمن مالك (1919-1988) أحد أبرز المتخصصين في دراسة القرآن والتراث الإسلامي، تركت أفكاره وخلاصاته تأثيراً في الأوساط العلمية المعنية بقضايا الإسلام في الغرب. لم يحظ المفكر الباكستاني بالحضور الذي يستحقه في العالم العربي بسبب تأخر ترجمة العديد من كتبه إلى العربية.
وضع فضل الرحمن تسعة مؤلفات أساسية بالإنجليزية نُقل أهمها في السنوات الأخيرة إلى لغة الضاد، من بينها: «المسائل الكبرى في القرآن الكريم» (جداول للنشر والتوزيع، 2013)، «الإسلام» (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017)، وهذا الأخير عمل ضخم ألفه عام 1966، قدم فيه عرضاً تحليلياً مكثفاً، لا يخلو من النقد، لنشأة وتطور معارف الدين الإسلامي، وكيفية تمثل المسلمين لهذه المعارف في أربعة عشر قرناً. والجدير بالذكر أن دونالد بيري (Donald L. Berry)، الأستاذ الفخري في جامعة كولجيت (Colgate University) (الولايات المتحدة)، نشر كتاباً عنه بالإنجليزية عام 2003 دخل المكتبة العربية عام 2013 [2].
شكل عام 1962 محطة أساسية في مسيرة فضل الرحمن، فبعد أن أصبح مدير «المعهد المركزي للأبحاث الإسلامية» في باكستان، عيَّنه الرئيس الباكستاني محمد أيوب عام 1964 عضواً في «المجلس الاستشاري للأيديولوجيا الإسلامية»، الذي كُلف برفع توصيات محددة في مضماري السياسة والشريعة الإسلامية، ورد فضل الرحمن على التحديات الفقهية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تواجه باكستان، بمحاولة تسليط الضوء على المضمون الدينامي والثوري، لما أطلق عليه «فقه قرآني سياقي». وقد نشر ثلاثة كتب وثمانية عشر مقالاً خلال توليه هذين المنصبين[3].
تعرض فضل الرحمن إلى مضايقات من قبل الإسلامويين المتطرفين بسبب المسائل الحداثية التي طرحها في فهم الإسلام والمشاكل التي تعاني منها بلاده، ومن هذه المسائل موقفه من الحديث، إذ أكد ما خلصت إليه الدراسات الحديثة، بأن جزءاً كبيراً من الأحاديث لا يمكن التعويل عليها تاريخياً. فاتُهِم بأنه «متغربن» أو «مستشرق» في مقاربته. بعد سلسلة المواقف التقدمية التي اتخذها إزاء قوانين الأسرة والربا وبعض القضايا الاجتماعية والدينية، شنّ عليه المتطرفون وعلى رأسهم احتشام الحق، الداعية الشعبي في كراتشي، وقبله أبو الأعلى المودودي حرباً أُجبر على إثرها على ترك باكستان بعد تأسيس رؤيته الجديدة في فهم الوحي القرآني التي نتج عنها كتابه «الإسلام» (1966). لا شك أن هجرته إلى الولايات المتحدة وتدريسه في جامعاتها واطلاعه على المناهج الجديدة في العلوم الإنسانية والاجتماعية أسهمت إسهاماً كبيراً في تكوينه علمياً ومعرفياً.
في «الإحياء والإصلاح في الإسلام: دراسة في الأصولية الإسلامية» يتناول فضل الرحمن مالك، عالِم الأخلاق والفقه، والفيلسوف الحداثي، كيفية تشكل الفرق والمذاهب والطوائف والحركات الصوفية في الإسلام، بدءاً من التاريخ الإسلامي المبكّر مروراً بالقرون الوسطى وصولاً إلى الفكر الإصلاحي الهندي في القرن السابع عشر الميلادي. صدر الكتاب بالإنجليزية عام 1999 بعد وفاته، علماً أنه لم يستكمل العمل عليه بسبب تدهور حالته الصحية.
الأشعرية والاعتزال والصراعات التأويلية
لا يهدف الكتاب إلى التأريخ للمذاهب والفرق الإسلامية فغايته معاينة حالة ظهورها في إطار السجالات الدينية والفقهية والسياسية التي رافقتها. يرى المؤلف أن التسنُن حين اكتسب وعيه بذاته، وصار له وجود مُدرِك، كان قد مر بتغيرات جذرية، بل مسخ إزاء الحالة الأصلية وتعاليم القرآن. وبناءً على هذه الخلاصة الأولى يحاول إبراز العوامل المسؤولة عن هذا المسخ، لأجل تبيان طبيعته، ساعياً إلى إظهار المحاولات التاريخية المختلفة، التي أجريت في العصور الوسطى، لتجديد هذه العقيدة، في مسعى لاسترداد الروح الأصلية للإسلام. لا تنحصر قراءة فضل الرحمن بالمذهب السُنّي إنما يولي «نشوء التشيُّع الاهتمام الذي يستحقه، لأهميته ومعناه الجوهري، ولعلاقته بالجماعة السُنيّة الكبرى».
إن نمو المذهب السني –كما خلص المؤلف- في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، كما عرّفه أبو الحسن الأشعري (874-936م)، وعمّ الإسلام الوسيط، وبدرجة أقل معاصره أبو منصور الماتريدي (853-944م)، يمكن النظر إليه على أنه ذروة عملية ردّ فعل على الاعتزال، وإلى حد ما على التشيُّع. لقد ترافق تشكُّل المذاهب الإسلامية مع نشوء الأفكار والعقائد المتعلقة بالصراعات التأويلية على فهم الدين عبر إيجاد جذورها في الإسلام، أو في المؤثرات الخارجية؛ فبرز التنافس التأويلي الحاد بين العقيدة القدرية والعقيدة الجبرية التي تركت تأثيراً واضحاً في مجمل المكوِّنات الدينية.
الإرجاء وتأسيس المذهب العقائدي
يحدد فضل الرحمن الانقسامات الإسلامية الأولى، فالخوارج كانوا أول مجموعة في تاريخ الإسلام قادوا ثورة على أسس دينية فكرية، وهم «أول من بدأ بالتدبُّر الديني والكلامي» (…) وكان قولهم الأول، أن «مرتكب الكبيرة، ما لم يتب، فهو كافر». مع انشقاق الخوارج وغلو بعض قادتهم ظهرت آراء شديدة التطرف، هنا يتحدث المؤلف «عن حالة مثيرة جرت في أوساط الخوارج، تاريخ وقوعها غير معروف على التأكيد، ولكن على الأرجح حصلت في ستينيات القرن الأول الهجري؛ ومفادها أن إباضياً، هو إبراهيم، أصدر فتوى تُجيز بيع الجواري في أراضي الكفار، أي المسلمين من غير الخوارج. وجُل فرق الخوارج تقيم تفريقاً بين الكفار المسلمين والكفار غير المسلمين من بعض الأوجه. ورفض رجل يدعى ميمون هذه الفتوى، وتبرأ من إبراهيم، بينما اختار بعضهم التوقف. وساند علماء الإباضية إبراهيم وقضوا باستتابة ميمون والمتوقفة والبراءة من امرأة كانت من المتوقفة لكن ماتت قبل وصول الفتوى».
يناقش فضل الرحمن النهج الذي سار عليه الإرجاء في انتقاله إلى مذهب عقائدي في الإسلام، في الوقت الذي كانت تحتدم فيه الأفكار حول عقيدة القدر. هنا يلاحظ أن الخوارج لم يكونوا قدريين، بل كان أكثرهم يعتقد أن الله هو خالق أفعال الإنسان. وفي الواقع فإن الأشعري لا يذكر من بين الخوارج قاطبة على مذهب القدر إلا فرقتين هما العجاردة[4]، أتباع عبدالكريم عجرد، والميمونة[5]، أتباع ميمون بن خالد. وكلا الرجلين ظهر بعد ظهور القدرية في القسم الأخير من القرن الأول.
الجبرية والقدرية بين الأشعرية والشيعة
جاء تشكل المذاهب السُنية في الإسلام في سياق الجدال مع مقولات المعتزلة الرئيسة، والتطورات التي أعقبت تبني الخليفة العباسي المأمون (786-833م) العقيدة المعتزلية عقيدة للدولة، واضطهاد الإمام أحمد بن حنبل (780-855م) لعدم قبوله بخلق القرآن. كانت ردة فعل أبي الحسن الأشعري بالمبالغة في إسقاط التدبير والإرادة الحرة عن الإنسان، فعنده «لا يمكن نسب الفعل إلى البشر إلاّ بالمجاز. فالله خلق الأفعال جميعاً وليس للإنسان إلا أن يكسبها».
إن تطور المنطق الجبري للأشعرية الذي قارع عقلانية المعتزلة، أفضى إلى نتيجتين: الأولى: القول بأن العقل المجرد لا يهب واجباً، أو أن العقل ليس بشارع: مسلمة فقهية عند جميع الفقهاء؛ والثانية: هيمنته على معاقل الإسلام المحافظ حتى القرن الحادي والعشرين. والحال، هل يعني ذلك أن الأشعرية أسقطت التدبير العقلي كلياً ولم تعرف أي تطور بعد وفاة مؤسسها؟ «إن مذهب الأشعرية في القدر ليس واحداً، وقد تطور المذهب من الأشعري ومروراً بالباقلاني إلى الجويني، والذي استقر عليه مذهبهم، بعد إثبات علم الله تعالى وكتابته، وقدرته وإرادته وخلقه، أن العباد لهم قدرة وإرادة في الفعل، لكنها غير مؤثرة فيه، بل الله تبارك وتعالى هو الخالق لها وقدرته هي المؤثرة وحدها، وإذا كانت قدرة الإنسان ليس لها تأثير بحال، فهي قدرة غير مؤثرة، فحقيقة مذهب الأشعرية هو الجبر، إذ إن القدرة غير المؤثرة كلا قدرة، ويسمي الأشعرية مذهبهم هذا بمذهب الجبر المتوسط، أي الجبر بواسطة الاختيار»[6].
يتطرق المؤلف إلى التشيُّع وتحديداً إلى الشيعة الاثني عشرية فيدرسها من ثلاث زوايا: التشكل والتطور والتأثر بالفرق الكلامية الجبرية والقدرية. فيما يتعلق بدور الإنسان والإرادة الحرة تطور الموقف العقائدي الشيعي على مراحل: «فالرؤية العامة [العائدة إلى الإمام جعفر الصادق] التي برزت هي أن بين الله والبشر عملية موازية في تقرير الفعل». ولكن عقيدة القدرة اتخذت منحى جديداً مع ابن بابويه القمي (ت. 939م) ومع إدخال الفلسفة على اللاهوت الشيعي في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، والذي مال لاحقاً تحت تأثير الاعتزال إلى منح الاستقلال للفاعل الإنساني.
التسنّن والتشيع والخروج على الحاكم
يدرس فضل الرحمن التسنّن والتشيُّع وموقعهما من الأيديولوجيا السياسية؛ أي الموقف من السياسة والسلطة السياسية والخروج على الحاكم، آخذاً بالاعتبار أهم التنظيرات التي طاولت هذه المسائل الحيوية في تاريخ الإسلام.
اتجه التسنّن إلى واجب الولاء للحاكم توجساً من تجربة الحروب الأهلية، وما جلبته من فوضى مما أنتج نمطاً من أنماط الخمول السياسي، وأدى إلى ضمور المعارضات السياسية؛ كل ذلك مع العمل على إنماء ذخيرة واسعة متكاملة من المفاهيم والعقائد: «من خلال آلة الحديث ثم بواسطة النظريات السياسية، لضمان أن الطاعة للحاكم والإذعان السياسي يكون عرفاً مؤسساً (…) دون أن نغفل عن عقيدة الإجماع أو توافق الأمة، التي في معرض التطورات في النظرية السياسية (…) صارت تعني إجماع أكثرية الأمة لا الأمة كلها». على المقلب الشيعي، وبدءاً من الإمام جعفر الصادق (702-765م)، ظهر التوافق مع مبدأ الإرجاء السياسي السني ومع مقولة حرمة العمل السياسي ضد الدولة حتى عودة الإمام الغائب؛ غير أن الفكر السياسي الشيعي الذي عرف تاريخاً غنياً من المعارضات طور نظرياته، فلا نظير عنده لإطاعة الحاكم ولو كان طاغياً ومتعدياً على الشرع وغاصباً للسلطة. إن المنحى الذي اتخذه الفكر السياسي الشيعي آل في التاريخ الحديث والمعاصر وفي ضوء سعة الجدال إلى تأطير نظرية ولاية الفقيه التي انتهت إلى استبدادية دينية واحدية.
التصوف والمعارضة الروحانية للشريعة
يعرض المؤلف للتصوف ضمن سياق التأويلات الصوفية حول العالم والإنسان والله، مركزاً على القالب العام الذي حدده المتصوفة إزاء الشريعة التقليدية. يقول: «تمرد المتصوفة على الشريعة التقليدية متولد على نحو رئيس، ولا شك، من حقيقة أن النُظم التقليدية الفقهية والعقائدية قد صارت شكلية متصلبة ومُنبتة عن منابع الحياة الداخلية. لكن لا شك أيضاً أن الشريعة يجب أن تكون جوهرية، باعتبار أن مقصد الإسلام الرئيس متوجه لتأسيس نظام اجتماعي قائم على الأخلاق. لم يخفف من غلواء معارضة الروحانية الصوفية للشريعة -إلى حد ما- إلا تعاليم الغزالي ومن جاء بعده من المتصوفين التقليديين، كأصحاب الطريقتين النقشبندية والخلوتية».
ابن تيمية ونظرية “التبادلية الإسلامية”
يُفرد فضل الرحمن الفصل الثالث والرابع من الكتاب للحديث عن الإصلاح في القرون الوسطى المتقدمة، ممثلاً بالغزالي (1058-1111م) وتصوفه، وإصلاح القرون الوسطى المتأخرة ممثلاً بابن تيمية (1263-1328م)، يعالج فيها إسهامهما الإصلاحي، وردهما على المشكلات التي كانت تواجه الفكر الإسلامي في عصريهما، والقصور الذي وقعا فيه.
أسس ابن تيمية لنظرية «التبادلية الإسلامية»، إذ إن الإرجاء السياسي عنده يختلف عن الإرجاء في أشكاله المبكرة: «وبينما أكد الإرجاء المتقدم الطاعة التامة للحكام وبأي ثمن، صاغ ابن تيمية نظرية في التبادلية، تتمحور حول مفهوم الأمة، التي يتمتع تحتها الحاكم والمحكوم بكيانه الخاص. وقبل كل شيء اعتبر ابن تيمية أن الحكم أمانة مستشهداً بالآية (58) من سورة النساء }إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيرًا{، وهذه الآية قيل إنها نزلت بمناسبة فتح مكة، حين تلقى النبي مفاتيح الكعبة من بني شيبة، وطلب منه عمه العباس أن يعطيه المفاتيح ليجمع شرف السدانة مع شرف السقاية[7].
عندما نزلت الآية أعاد النبي المفاتيح إلى بني شيبة. وهذه رسالة في أهمية العدل والإحسان من الحاكم إلى الرعية. الآية الثانية من القرآن التي يعدها ابن تيمية الركن الثاني لمذهبه السياسي، هي الآية التي تلي الآية السابقة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (الآية 59، سورة النساء). وهذه الآية تدعو المسلمين إلى طاعة حكامهم وعدم الخروج عليهم. وينتهي ابن تيمية إلى أن هاتين الآيتين تحضان على التبادلية والمعاملة بالمثل بين الراعي والرعية، لكن لأن ابن تيمية لم يعدل عن القبول بكل الأحاديث السياسية السنية الجبرية، فهو يُلح على أن على المسلمين طاعة حكامهم ولو كانوا طغاة. ثم يقول: إن رأي أهل السنة هو طاعة الطغاة لا الخروج عليهم، ما لم يأمروا بمعصية. لكن ههنا يعاود مفهوم ابن تيمية في التبادلية الظهور. فمع أنه لا يدعو إلى الخروج، يقول: إنه في حال خرجت الرعية، كما يحدث بالفعل على نحو متواتر، ينبغي للحاكم أن يكون رفيقاً بالخارجين عليه، وألا يقتلهم أو يعاقبهم عقاباً شديداً. أما الذين يخرجون على الدولة أو الأمة لا على الحكومة، ويزعزعون الأمن والنظام ويلجؤون إلى العنف والقتل فالجزاء الشديد يطبق عليهم (…) يتجاوز ابن تيمية مفهوم التبادلية بين الحاكم والمحكوم، ويدعو إلى ضرب مضمر من المساواة بينهما. ويصف الحاكم بصفة الأجير أو خادم الأمة».
في الفصل الخامس يتناول فضل الرحمن الفكر الإصلاحي في الهند الذي قاده بعص أعلام التصوف من بينهم الشيخ أحمد السرهندي[8] (1564-1624)، وأحمد بن عبد الرحمن[9] (1702-1762) المعروف بـــ «شاه ولي الله».
تتمثل مساهمة السرهندي في الإصلاح الإسلامي في جهوده لوضع العقيدة والممارسات الصوفية في كنف الشريعة، والدفاع عن مقام النبوة ضد مقام الولاية، التي استبدلت النبوة الصوفية الشعبية. عمل على إحياء الإسلام التقليدي، ساعياً إلى ربط الطريقة الصوفية بالشريعة، وإدخال التصوف في كنف الشريعة.
جادل السرهندي الموصوف بأنه «مُجدد الألف الثانية» محي الدين بن عربي (1165-1240) بشأن الصراع بين الخير والشر: «في سعي ابن عربي المُتأجج لا مكان للشر الحقيقي. الشر ظاهري فقط، ولا حقيقة له. حتى الشيطان في حقيقته خير، إذ إنه أدى وظيفته كما حُددت له في الخطة الإلهية. ويفسر [ الشيخ الأكبر] التعارض بين الخير والشر بالأمواج التي تعلو في البحر وتتلاطم ثم تعود إلى البحر نفسه. فسعى السرهندي لإعادة الاعتبار لحقيقة الصراع بين الخير والشر. أخذ نظرية التنزُّل الإلهي عن ابن عربي، لكن بدلاً من النظر إلى جواهر الأحداث باعتبارها انعكاساً للصفات الإلهية، طرح تفسيراً آخر: هو أن جواهر الأحداث على النقيض من الصفات الإلهية. فلقد اعتبر السرهندي هذه نفياً أو عدماً. ولذا فأغلبية الكائنات، وأعلاها الشيطان، يوجد فيه ظلال من الصفات الإلهية، وهكذا يأتي العالم الزماني – المكاني إلى الوجود. لكن لماذا تجري هذه الدراما؟ [يتساءل فضل الرحمن] عندما يُلقي الله صفاته على هذه المعدومات، فهو يريد أن يجعل منها موجودات، ويريد أن يُحيل الشر إلى خير. وليس في الخطة الإلهية تدمير الشر، بل تحويله إلى خير».[10]
عرف الإسلام التاريخي في الحقب المؤسسة حراكاً دينياً وفقهياً وسجالاً لاهوتياً شديد الأهمية؛ وعلى الرغم من التوتر الذي شابه، والذي أدى لاحقاً إلى انقسامات حادة، مذهبياً وعقائدياً، من المهم النظر إليه كانعكاس لثنائية الواقع والدين التي طبعت تكويناته وطبقاته. ولعل كتاب المستشرق الألماني جوزيف فان إس (Josef van Ess) «علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة» يكشف عن العلاقة الوثيقة بين المجتمع والدين والسياسة، وتأثيرها في ظهور وتأسيس الفرق والمذاهب الإسلامية.
[1] باحثة لبنانية في علم الاجتماع، عضو هيئة التحرير في مركز المسبار للدراسات والبحوث (دبي).
[2] انظر: بيري، دونالد، الإسلام والحداثة من خلال كتابات المفكر الإسلامي الحداثي فضل الرحمن، ترجمة: ميرنا معلوف ونسرين ناضر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2013، (239 صفحة).
[3] المرجع السابق، ص38 وما بعدها.
[4] من أصحاب عبدالكريم بن عجرد، وافق النجدات في بدعهم. وقيل: إنه كان من أصحاب أبي بيهس، ثم خالفه وتفرد بقوله: تجب البراءة عن الطفل حتى يدعى إلى الإسلام، ويجب دعاؤه إذا بلغ، وأطفال المشركين في النار مع آبائهم، ولا يرى المال فيئا حتى يقتل صاحبه، وهم يتولون القعدة إذا عرفوهم بالديانة، ويرون الهجرة فضيلة لا فريضة، ويكفرون بالكبائر، ويُحكى عنهم أنهم ينكرون كون سورة يوسف من القرآن، ويزعمون أنها قصة من القصص. قالوا: «ولا يجوز أن تكون قصة العشق من القرآن». انظر: الشهرستاني، أبو الفتح، الملل والنحل، الجزء الأول، ص128، نسخة إلكترونية، على الرابط التالي:
http://shamela.ws/browse.php/book-11812/page-150#page-149
[5] من أصحاب ميمون بن خالد، كان من جملة العجاردة إلا أنه تفرد عنهم بإثبات القدر خيره وشره من العبد، وإثبات الفعل للعبد خلقاً وإبداعاً، وإثبات الاستطاعة قبل الفعل، والقول بأن الله تعالى يريد الخير دون الشر، وليس له مشيئة في معاصي العباد. وذكر الحسين الكرابيسي في كتابه الذي حكى فيه مقالات الخوارج: أن الميمونية يجيزون نكاح بنات البنات، وبنات أولاد الإخوة والأخوات. وقالوا: إن الله تعالى حرم نكاح البنات، وبنات الإخوة والأخوات، ولم يحرم نكاح أولاد هؤلاء. وحكى الكعبي والأشعري عن الميمونية إنكارها كون سورة يوسف من القرآن. وقالوا بوجوب قتال السلطان، وحده، ومن رضي بحكمه. فأما من أنكره فلا يجوز قتاله إلا إذا أعان عليه، أو طعن في دين الخوارج، أو صار دليلا للسلطان. وأطفال المشركين عندهم في الجنة. انظر: الشهرستاني، أبو الفتح، الملل والنحل، مصدر سابق، ص129، على الرابط التالي:
http://shamela.ws/browse.php/book-11812/page-150
[6] انظر: متولي، تامر محمد محمود، مناهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة، دار ماجد عسيري، جدة، الطبعة الأولى، 2004، ص584.
[7] راجع: الإحياء والإصلاح في الإسلام، ص 172 وما بعدها.
[8] انتمى السرهندي – كما يشير فصل الرحمن- إلى إحدى أكثر الطرائق الصوفية تقليدية وأكبرها حجماً، الطريقة النقشبندية، التي جاءت إلى الهند من منطقة نشوئها في آسيا الوسطى. وهذه الطريقة اشتهرت – بالإضافة إلى تقليديتها- باتصالها ببلاطات الولاة من زمن الخواجة عبيد الله أحرار (ت . 1491م)، وكان لها أيديولوجية مؤثرة في السياسات الحكومية.
[9] نظر أحمد بن عبد الرحمن – الذي كان كاتباً مكثراً ومفكراً مؤثراً داخل شبه القارة الهندية وفي العالم العربي- إلى الكون باعتباره «شخصاً أكبر»، وهذه الفكرة في أساسها فكرة رواقية – أفلاطونية محدثة-، يذكرنا هذا الوصف -مع اختلاف المقاربات بين التصوف وعلم النفس- بمصطلح «الآخر الأكبر» (Grand Autre) الذي وضعه المحلِّل النفسي الفرنسي جاك لاكان (Jacques Lacan) (1901-1981).
[10] راجع: الإحياء والإصلاح في الإسلام، ص 186.