د. محمد قواص*
في قياسِ نسبة المشاركة النسائية في ورشِ العمران يُحكمُ على مستوى التطوّر التنموي والفكري لدى مجتمع ما. ليست المعادلةُ وليدةَ استيراد لقيَم غريبة عن نسيج أي مجتمع، بل هي استنتاجٌ بشري لطبائعِ التقدم في أي مكانٍ من هذا الزمان.
تبشّر التشريعاتُ الأممية المستندة إلى فلسفات الحداثة بأمر السعي لتعظيم شأنِ المرأة والتعويل على دورها. بيد أن هناك فرقاً بين الإقرار بتلك التشريعات وتطبيقها، ليس فقط في ما يتناولُ دورها في العالم الثالث وفضاءات الثقافات المتنوعة، بل أيضاً في قلبِ الجدلِ داخل الديمقراطيات الكبرى، وربما أعمال سيمون دي بوفوار منذ “الجنس الآخر” (عام 1949) تفضح هذا الواقع.
قد لا ينتبه الكثيرون إلى أن التعبيراتِ الحديثة للمرأة في الغرب، هي انجازاتٌ لم ترَ النور إلا في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية. في تلك الحقبة فقط، أي بعد قرون على الثورة الفرنسية، بما حملته من متونِ عدالةٍ ومساواة، تمّ الاعترافُ للمرأًةِ بحقّ التصويت، كجانبٍ يعكسُ بدء أخذ الفرد الأنثى بعين الاعتبار في قلب الجماعة الكبرى.
وربما قد لا ينتبه الكثيرون أيضاً أن حقوقاً سجّلت لصالح المرأة في الشرق (منذ شريعة حمورابي) دون أن يصاحب ذلك صخب ثوري أو دون أن يُعتبر ذلك انقلاباً تاريخياً. بمعنى آخر، فإن حكاية الطبيعة البشرية مع إناثها تتصلُ بتفاصيل بيتية تتصلُ بظرف المكان وظرف الزمان، كما بالظروفِ الثقافية، من عادات وسلوكيات ونصوص دينية، كما بظروف السلطة والسلطان، ومزاج ذلك في تحديد الأدوار وتوزيعها عند العامة، ومنهم النساء.
لا يجوزُ أن يصبح تعظيمُ دور المرأة هدفاً جبرياً يجاري شجون الموضة وتقليعات التعبيرات الشكلية للعصر الراهن. صحيح أن طبيعة العلاقات الدولية هذه الأيام، كما واقع العولمة، من حيث إنها تواصلٌ أممي للقيّم، قد يفرضُ الالتزام بالمعايير واحترام الوصفات، بيد أن ذلك يجب أن يكون حافزاً لتقديم تصوّرات صحيّة صحيحة تتّسقُ مع ما ترومه المرأة في هذا المكان وداخل تلك البيئة الثقافية المحيطة، وهو أمرٌ جذريٌ أساسي يجب أخذه بعين الاعتبار، قبل التطرق إلى درجات القبول والنفور التي تفرزها البيئات الحاضنة والسلطة الذكورية فيها.
ربما في دول مجلس التعاون الخليجي نموذجٌ لسياقِ البحث عن تطوير المواطنة والمشاركة، مع العلم أن هذا السعيَ يأخذُ وقته في الدراسة والإعداد داخل مطابخ اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، قبل أن يصبح جدلاً إعلامياً يجوزُ عرضه ونقاشه والجدل بشأنه، بحيث يصبحُ من العاديات بعد أن تتمَّ إزاحة عوامل الاستثناء عنه.
الخليجيون، على ما يمتلكون من سمات مشتركة وقيم واحدة وسياق تاريخي مماثل، يتباينون في سيرورة حكاياتهم وإيقاعات اتّساق معاييرهم مع تلك العالمية المتقدمة. في ذلك أن شكلَ التعبيرات النسوية في إطارها المشهدي (أي الشكل المظهري في الفضاء العام)، أو في ذلك الفاعل داخل الأطر المجتمعية والاقتصادية، يختلفُ بين دولة وأخرى، وقد يختلفُ في بعض تلك البلدان بين مدينة وأخرى.
إن النضوجَ البيتي واحترام خصوصيات العائلة الخليحية لدى الدول الست، أتاح سلوكاً يحترمُ الخيارات المعتمدة حيال المرأة، بحيث تأتي التعبيرات في السعودية والإمارات والكويت وقطر والبحرين وعمان، كما التعبيرات في الرياض وجدة والمنامة والدوحة ودبي ومسقط، نماذجَ شديدة التعدد، وبالتالي كثيفةً في ما تختصره من جدل يحاكي التاريخ والجغرافيا.
على أن السياق العام في منطقة مجلس التعاون ذاهبٌ نحو دفع المرأة لتتبوأ دورها وموقعها في سلم التشكيلات الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية. بات عادياً بروز أسماء نسائية في الصحافة والإعلام، كما في قطاع الاقتصاد والأعمال، كما في مجال الدبلوماسية. واللافت أن أمر ذلك يأتي دون ضجيج اعتراضي، وكأنه جزء من نهايات تمّ الإعداد لها في تراكم يومي لا يتبنى موجات عابرة ولا يكترث لضغوط التماثل التي تمليها أدوات العولمة الحالية.
إن الانتقال إلى دورٍ أكثر حيوية للمرأة في قلب المجتمعات الخليجية قد تحول دونه وفرة اقتصادية لا تتطلب الدفع العاجل بالنساء إلى سوق العمل. هذا المُعطى يشي أن المرأة تتحرى تثبيت موقعها شريكةً كاملةً في ديناميات تلك المجتمعات، بغضّ النظر عن قيمة الحاجة والاضطرار التي كانت أساساً في تأقلم المجتمعات وانتقالها من طور إلى آخر. من هنا ملاحظة أن القبول المجتمعي لفكرة مشاركة المرأة للبيئة الذكورية في سوق العمل، هي، للمفارقة، أكثر قبولاً في الأرياف الخليجية منها في المدن الكبرى.
ربما أن أصدقَ من يقيّم سياقات تطوّر المشاركة النسوية في الخليج هن نساء الخليج أنفسهن، ليس بالصفة البدائية المتعجلة المتعصبة لحقوق المرأة، بل من خلال طموحهن للعب دورٍ كليّ يلبي حاجة المجتمع المحيط. ففي مفهوم الحاجة تجتمعُ كل جزئيات المجتمع، بحيث تتقدمُ المرأة بصفتها ترياقاً ناجعاً يعالج علّة، بمعنى أن الدورَ المتوخى للمرأة الخليجية، لا يأتي استجابةً لحاجة نسائية فقط، بل صدى لسؤال مجتمعي عام.
* كاتب وإعلامي لبناني.