يتقصى مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «المسيحية والإسلام: العلاقات، المعرفة، الأخوة» (الكتاب التاسع والأربعون بعد المئة، مايو/ أيار 2019)، جذور التفاهم بين الأديان، وتحديداً بين المسيحيين والمسلمين؛ فيرصد مسارات العلاقات بينهم منذ حقبة زمنية مبكَّرة حتى العصر الراهن، ويبيِّن أرضية المؤاخاة القوية التي نمت على مدار تاريخهما، وما تخللها من محطات وروابط وتلاقٍ وتوترات.
عرف التواصل المعرفي بين الإسلام والمسيحية أشكالاً عدة، من الحوارات والجدالات إلى التخصصات العلمية داخل الجامعات في أوروبا والعالم، وليس ثمة حقل أو تخصص معرفي يتفوق على الاستشراق الذي مثّل حالةً مرجعية إشكالية مثيرة للجدل، قدمت الكثير في دراستها للإسلام.
عمل الكتاب على تتبع نشوء الاستشراق الكلاسيكي وتطوراته ومناهجه ورؤيته تجاه الدين الإسلامي، منذ بداية تشكله وما نتج عنه من تطورات، وصولاً إلى المقاصد والمآلات وما عُرف بظاهرة «المراجعين الجدد».
درس الكتاب الجدالات الدينية الإسلامية – المسيحية بدءاً من العهد النبوي، مروراً بالخلافتين الأموية والعباسية وصولاً إلى حقبة التعايش السلمي «نسبياً» والمثمر في بعض الفترات في «الأندلس»، وما شابها من تشنجات بسبب الحالة السياسية والصراعات. وعلى رغم استدعاء نصوص تحمل على التشدد ظلت إمكانات التحاور في التجربة الأندلسية قائمة، مع أهمية الإقرار بحالات التنافر القصوى التي أنتجها التوتر والتنافس.
تعتبر دراسة «المسيحية والإسلام: الصورة النمطية المتبادلة مدخل إلى مشكل التعددية الدينية»، أنّ مثبطات التسامح ليست مرتبطة بالحال السياسية، بل بالوعي المُشكل للحالتين الدينية والسياسية، فيوجد لذلك أصل نظري ينهض على إشكالية أن التعدد الديني كان أكثر رحابة مقارنة بالتوحيد العقائدي الذي نهضت به الأديان الإبراهيمية الثلاثة. تبقى هذه الفرضية وجهة نظر قابلة للنقاش وتقبل وجهات النظر المعاكسة.
تناول الكتاب العلاقات الإسلامية – المسيحية، ومدى تأثرها بأحداث تاريخية بارزة، وانعكاسها في الوعي الثقافي والديني والسياسي والمعرفي، ولعل أبرز حدثين تركا انطباعات مؤلمة في ذاكرة المسيحيين والمسلمين هما: دخول المسلمين إلى القسطنطينية، عاصمة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة عام 1453، بما لها من أهميّة دينية، ثم حروب الاسترداد، التي انتهت بإخراج المسلمين من الجزيرة الإيبيرية، أو سقوط الأندلس، في العصور الوسطى (711-1492). تقصدت الدراسات تحليل تمثلات المسيحية في الفكر الإسلامي، والرؤى حول الإسلام في الفكر المسيحي بناءً على هذين الحدثين وما سبقهما وما نتج عنهما من تداعيات وتبعات.
كان للتوترات تأثيرات سلبية في العلاقات الإسلامية – المسيحية أدت إلى مواجهات بين أتباع الديانتين وقلصت سبل التسامح وملاقاة الآخر، فتمّ رفع وتيرة النصوص وتوظيفها في التهميش المتبادل، وتعزيز العدائيات. ولكنّ هذا لم يكن سائدًا على طول المشهد، ففي الحالين وجدت مساحات للتعارف لا سيما في الاجتماع، ودعوات للحوار بدلاً من التصادم على الضفتين: المسيحية والإسلامية، ومن بين النماذج التي درسها الكتاب في هذا السياق: اللاهوتي الإسباني يوحنا الأشقوبي (John of Segovia)، واللاهوتي الألماني نيكولاس الكوزاني (Nicholas of Cusa).
لاحظت الدراسات أن فهم الإسلام في الأدبيات الأوروبية تبدل، حتى إنّ صورة النبي محمد ومنظومة الاعتقاد الإسلامية في الفكر المسيحي تحوّل النظر إليها بشكل إيجابي، منفتح؛ تمّ ذلك في عصر الأنوار، فصارت الدعوة إلى فهم الرسول والإسلام هي السمة الغالبة على المفكرين.
في دراسة لإسهامات اللاهوتيين العرب في المقاربة العلمية للإسلام، تطرق الكتاب إلى جهود الأب يواكيم مبارك، عالم الإسلاميات واللاهوتي، وذلك في محورين أساسيين: تنظيره حول الأصول الإبراهيمية للإسلام، وملاحظاته النقدية حول الكيفية التي نظرت بها وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) إلى المسلمين. كما حلَّل الكتاب موقع الإسلام في هذه الوثائق خصوصاً «بيان في علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية» (في عصرنا)، وتطرق إلى العلاقات بين الفاتيكان والعالم الإسلامي، وخلص إلى أن التوقيع على «وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك»، في فبراير (شباط) 2019، خلال اللقاء الذي احتضنته العاصمة الإماراتية أبوظبي، من قِبَل حضرة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور الشيخ أحمد الطيب، والحبر الأعظم البابا فرنسيس، فتح أفقاً جديداً للعلاقة بين الديانتين من الضروري البناء عليه.
إن أبرز تحدي يواجه العلاقات الإسلامية – المسيحية يتمثل في الوعي بالدولة؛ وهي قضية سارعت الجماعات الإخوانية إلى التصدي لها بنهج يستغل الدين في الصراع السياسي ويؤدي إلى إثارة القلق حول مستقبل المكوِّنات الدينية، فتسبب ذلك -مع جملة عناصر أخرى- في نشوء حالة تهدد المواطنة الكاملة التي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، وأنتجت شرخاً بين المسلمين والمسيحيين أساسه أيديولوجي. ناقش الكتاب علاقات المسلمين والمسيحيين من منظور المواطنة التي صارت الإطار الدستوري والقانوني للدولة الوطنية الحديثة؛ في كل من مصر ولبنان، ضد تقاليد نظام الملل، والنظم التي تسعى إلى تحويل المسيحيين إلى مواطنين من الدرجة الثانية كما يروج «الإسلاميون».
يتعلق التسامح بالمستقبل أكثر من تعلقه بالماضي، ولكن الوصول إلى هذا المستقبل يتطلب منا بحثاً في التاريخ، يأخذ العظات منه ويمنح الحالمين غداً أفضل، وزاداً وافراً من الحكمة والأسس التي تجسر الدعائم بين الأديان والشعوب.