تقديم
أولت الدوائر الأكاديمية ومراكز الأبحاث في الغرب اهتماماً ملحوظاً بدراسات الإسلام والأقليات المسلمة، على مختلف أعراقها وإثنياتها، في الدول الأوروبية والولايات المتحدة. وقد ازدهرت في العقود الأخيرة الإصدارات في هذا الحقل، لأسباب على علاقة بثلاثة عوامل رئيسة: موجات الهجرة من العالم الثالث؛ تنامي الخوف الغربي من الإرهاب، لا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001؛ والتوجس الأوروبي من بعض الممارسات الدينية الإسلامية في الفضاءات العامة.
يُعد الاهتمام البحثي بدراسة الإسلام والمسلمين في أستراليا من الاهتمامات المعاصرة، حيث إن الكتب والأبحاث المعنية بهذا الشأن قليلة العدد، سواء في الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو العربية أو غيرها من اللغات الحية، خصوصاً إذا ما قورنت بحجم الأدبيات التي طاولت الجماعات المسلمة في الدوائر الغربية الأخرى. يمكن الافتراض أن ضآلة الإنتاج المعرفي حول الجالية المسلمة في أستراليا، ترتبط بثلاثة معطيات: أولها: عدم ظهور موجات تصادم واضحة، على الرغم من التاريخ الطويل لوجود المسلمين في أستراليا. ثانيها: غياب التاريخ الاستعماري لأستراليا عن العالمين العربي والإسلامي. ثالثها: تطور الدراسات الاستشراقية الأوروبية وخطوطها المتوازية وتفرعها لاحقاً، مما أنتج سياقات معرفية جعلت أوروبا تتصدر دراسات الإسلام في حواضرها.
يدرس كتاب المسبار «المسلمون في أستراليا: التاريخ وسياسات التعدّدية الثقافية» (الكتاب الثاني والعشرون بعد المئة، فبراير/ شباط 2017) مجموعة من المحاور الرئيسة وزعت على النحو الآتي: «الجذور التاريخية لنهج التعددية في أستراليا»، «هجرة المسلمين إلى أستراليا: تاريخ التجارب الاجتماعية المعاصرة»، «النقاش حول الحجاب في أستراليا»، «رُهاب الإسلام في أستراليا»، «الممارسات الإسلامية في أستراليا: هوية المسلم الأسترالي واندماجه في المجتمع»، «اتجاهات الرأي العام الأسترالي حول التوافق بين القوانين الأسترالية والتقاليد الإسلامية»، «كيف تعمل حركة خدمة: الإسلام، الحوار، وحركة فتح الله غولن في أستراليا»، «الحزب المسيحي الديمقراطي الأسترالي: المواقف من المسلمين واتجاهات المستقبل»، و«الجهاديون الأستراليون في سورية: الأبعاد الفعلية والافتراضية والمالية».
تعتبر أستراليا من أكثر الدول تنوّعاً ثقافياً ولغوياً ودينياً، مما دفعها إلى اتباع سياسات مختلفة لإرساء القواعد القانونية للاندماج والاستيعاب، إلى أن انتقلت إلى التعددية الثقافية. «وإذا كانت أستراليا تفخر اليوم بتعدّدها العرقي –كما تبين إحدى الدراسات المدرجة في الكتاب- والتزامها بسياسة متعدّدة الثقافات تعترف بتنوع المصالح الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، فإن الأمر لم يكن كذلك دائماً. فقد ظلّ سجلّ أستراليا تمييزياً حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. ولم تدرك أستراليا أن عليها تغيير نهجها إلا بعد التغيّرات، التي طرأت على أنماط الهجرة منذ خمسينيات القرن العشرين فما بعد، وقد دفعها ذلك إلى اعتماد سياسات أكثر إدماجية أولاً، ثم متعدّدة الثقافات ثانياً».
شهدت أستراليا أول هجرة للمسلمين واستقرارهم فيها قبل وقت طويل من إنشاء الاتحاد الأسترالي سنة 1901. يعود وجود المسلمين هناك إلى القرن السادس عشر. ارتفعت إبان الحرب العالمية الثانية وتيرة الهجرة ارتفاعاً ملحوظاً، وشكل المهاجرون من أصول تركية في البداية أكبر الفئات المهاجرة. تشير الدراسة الثانية من الكتاب إلى أنه «بعد عام 1972 وإثر اعتماد «السياسة الأسترالية المتعدّدة الثقافات»، تغيّر هذا الاتجاه بمجيء المهاجرين العرب من بلدان مختلفة نتيجة عاملين رئيسين: أولاً: عامل دفع متعلّق بالصراعات المتعدّدة التي تؤثّر في البلدان العربية (لا سيما الحرب الأهلية اللبنانية). ثانياً: عامل جذب متعلّق بأستراليا، التي أدخلت ونفّذت سياسات الحكومات المحلية للتوسّع الاقتصادي، وبرامج الهجرة الموجّهة توجيهاً جيّداً».
يحتل «النقاش حول الحجاب» موقع الصدارة في النقاشات الدائرة حول المسلمين في أستراليا، إلى جانب القضايا المتعلقة بــــ«أساليب الحلال» و«الشريعة الإسلامية» وتنامي «رُهاب الإسلام» ومظاهر القلق على «الهوية الجمعية» التي تعلن عنها بعض فئات المجتمع الأسترالي تجاه «المهاجرين المسلمين». يأتي ذلك في إطار استعادة الجدل –عالمياً- حول مقولات «صراع الحضارات»، و«تصادم الهويات»، والبروز اللافت لأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وارتفاع «الشوفينية القومية»، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والدعوات الأوروبية لتأطير «إسلامات» أوروبية تتواءم مع محيطها الحضاري والثقافي المختلف.
لقد حظيت «جدلية الدين والهوية» في أستراليا بدراسة وافية في الكتاب انطلاقاً من سؤال مركزي: ماذا يعني أن تكون «مسلماً» من منظور مسلمي أستراليا؟ في سبيل فهم إشكاليات الاندماج ضمن منظومة «متعددة الثقافات» تراعي الهويات الجماعية، من المفيد القول: إن التعاطي معها من الأفضل أن يتم خارج «الأنموذج الأمثل» و«التطابق الثقافي»، بمعنى أدق: الخروج على وجهة النظر التي ترى في الأستراليين المسلمين وافدين «جدداً» على المجتمع الأسترالي، والتعامل معهم ضمن «خطاب التعدّدية الثقافية، التي تنتج قدراً أكبر من التماسك الاجتماعي في المجتمع الأسترالي، عبر تعزيز تساوي فرص المهاجرين والسكان الأصليين» بما يوطد تقاليد المساواة الأسترالية، ويقصي «الشرط المنفوي» لـــ«المهاجر الموسوم بالآخر والغريب الذي نقابله بالدولة القومية واستقرار الهوية»، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (Jacques Derrida) (1930-2004).
غطى العديد من الباحثين والأكاديميين الأستراليين «رُهاب الإسلام» في أستراليا من زاوية بعيدة عن الانغلاقات الثقافية والاستعلاء الديني والأنوية العرقية. لاحظ أستاذ علم الاجتماع في جامعة موناش– ملبورن (Monash University) غاري بوما (Gary Bouma) أن «رُهاب الإسلام يعكس خطاباً يجسد الصور السلبية للإسلام والمسلمين وثقافتهم ويعبر عن شكلها الأساسي، بما يؤدي إلى خوف لا أساس له من المسلمين الحقيقيين». تستمد هذه المسألة جذورها من طبقات راسية في التاريخ والمفاهيم والصور النمطية، توظفه الذاكرات والممارسات والهويات المتنافسة على فضاء المقدس. وقد يكون «الحجاب» من أكثر الفضاءات عرضة للتوظيف. ترى فيه غالبية الغربيين أنه ينطوي على رمزية دينية «تفاخرية» واضحة، لكن «الآخر» لا تقف حدوده عند لباس المرأة المسلمة، بل تتعداه إلى مظاهر أخرى، تتبدى في العادات والتقاليد والرموز التي تؤرق –عموماً- فضاء الأكثرية، وهي تنعكس في ردود أفعال وتصرفات كثيرة –متشنجة أحياناً- كمسألة التوافق بين القوانين الأسترالية والتقاليد الإسلامية، وتحديداً ما له علاقة بالغذاء الحلال.
في موازاة حضور المسلمين كمجموعات متنوعة عرقياً وثقافياً، وكثالث أكبر مجموعة دينية في أستراليا، يظهر نشاط بعض القوى المحركة الاجتماعية والتنظيمية، في إطار الجمعيات الإسلامية العابرة للقارات، مثل «حركة فتح الله غولن» في أستراليا، التي «تتبع نمطاً مألوفاً لكنها تتأثّر بالعوامل المحلية. وعلى غرار الأماكن الأخرى، تتخذ الحركة شكل شبكة فضفاضة شبه مستقلّة، تُدار بمبادرة محلية ولكن بإلهام عالمي». يميل نشاط حركة خدمة -كما يلفت الباحث الأسترالي غريغ بارتون (Greg Barton)- «إلى الدوران حول الفروع المحلّية المستقلّة في المدن، وتقيم مدارس وجمعيات حواراً خاصاً بها، ويعكس عدم انتظام تقاليد تسميتها، الطبيعةَ غير المركزية والعضوية والمستقلّة للحركة. مع ذلك يمكن تصنيفها بأكملها بمثابة حركة اجتماعية إسلامية عابرة للحدود الوطنية. بينما الحركات الإسلامية المعتدلة التقليدية والتقليدية الحديثة، مثل نهضة العلماء في إندونيسيا، تميل لأن تكون إقليمية جداً ووطنية في تركيزها. وتميل الحركات الاجتماعية الكبرى العابرة للحدود الوطنية، مثل الإخوان المسلمين، وحزب التحرير والقاعدة إلى الأصولية واستبعاد الآخرين».
سياسياً، تدعو بعض الأحزاب (الأقلية) الأسترالية إلى منع هجرة المسلمين إلى أستراليا. لقد تبنى الحزب المسيحي الديمقراطي الأسترالي ( Christian Democratic Party) مواقف سلبية تجاه المسلمين، أعرب عنها من خلال مواقفه الواضحة تجاه موقع الشريعة الإسلامية في المجتمع الأسترالي، ساعياً إلى منع ارتداء النقاب وغيره من أغطية الوجه في ولاية نيو ساوث ويلز، انطلاقاً من مقولة الأمن الوطني. وأتت مشاركة عدد من «الجهاديين» الأستراليين في «الحرب السورية» بدءاً من عام 2012، لتعزز الهواجس العامة. ليس ثمة معلومات إحصائية دقيقة تبين عددهم الإجمالي، لكن الأكيد أنهم متنوعون عرقياً وإثنياً.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج التي نسقت العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهدها وفريق العمل.
رئيس التحرير
فبراير (شباط) 2017
شاهد فهرس الكتاب