رشيد الخيُّون
اغتيل رئيس “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق” محمد باقر الحكيم، بعد عودته مِن إيران بأقل مِن أربعة شهور (29/8/2003)، بعد أن أمضى قرابة خمسة عشر عاماً بإيران، وقبلها كان بالشَّام، فاستُدعِيَ من الجانب الإيراني لتصدر المعارضة الإسلاميَّة العراقيَّة، فالموجودون حينها من كوادر حزب الدَّعوة لم يكم بينها من يناسب تلك المهمة، فالجميع كانوا غير معروفين حتى بين العراقيين، ومعلوم أن باقر الحكيم يسبقه اسم أبيه المرجع محسن الحكيم (ت 1979)، وقد أصبح هو بعد هجرة شقيقه محمد مهدي الحكيم (اغتيل 1988)، ملازماً لوالده، فقد جرت العادة أن يكون أحد أبناء المرجع، أي مرجع، بمثابة مدير مكتبه.
كان الاغتيال في العتبة العلوية، بسيارة مفخخة، وهي منطقة تُعد حصينة مِن دخول غرباء إلى المكان في تلك اللحظات، وبعد تسعة شهور اغتيل عزّ الدِّين سليم(17/5/2004)، وكذلك حصل الاغتيال بمكان حصين جداً، وهو مدخل المنطقة الخضراء. غير أن الاغتيال له علاقة بما يجمع الحكيم وسليم من حملهما مشروعاً عراقياً بعيداً عن النفوذ الإيراني، وأنهما ضد استخدام السِّلاح في الاستقلال مِن الأمريكان.
هذا ما جاء واضحاً في خطاب الحكيم بالنَّجف (12/5/2003)، أي حال قدومه مِن البصرة، التي وصلها قبل يومين مِن تاريخ ذلك الخطاب. كان تصريحه لصحيفة “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية”، وهي صحيفة تنظيمه “المجلس الأعلى”: “علينا بذل الجهود المشروعة ذات الطابع السلميّ لإنهاء الاحتلال”.
على خلاف الآخرين، لم يذكر الحكيم فضلاً لإيران بعد وصوله العراق، مثلما فعل شقيقه عبدالعزيز الحكيم (ت2009) أن يدفع العراق تعويضات الحرب لإيران! أخذ باقر الحكيم يدعو إلى قرار عراقي غير مرتهن لأي جهة كانت، وعندما ذكر مراجع الدِّين، في خطابه ذكر والده محسن الحكيم، وأبا القاسم الخوئي (ت 1992)، وبقية مراجع النَّجف، دون أن يذكر أسماء، إنما عبر عنهم بالمرجعية، قائلاً: “أُقبل أياديهم”.
لكنّه لم يذكر في خطبته هذه ولا في غيرها ولا في أي تصريح، لا مِن بعيد ولا مِن قريب، مرشد الثورة الخميني ولا الولي الفقيه علي خامنئي بفضل أو بكلمة ما، وكأنه لم يعش في ظلهما طوال تلك الفترة، ومعلوم أن الخميني كان على خلاف مع الحكيم الأب وخلفه الخوئي على المرجعية بالنَّجف. أكد محمد باقر الحكيم على جهاد بناء وإعمار العراق، موضحاً: “لا نندفع في صراع”، ويقصد لا مع الأمريكان ولا المنطقة، وهو خلاف ما تريده إيران من أتباعها العراقيين، وقيام حكومة تمثل العراقيين كافة: “سُنّة وشيعة وعربًا وكردًا وتركمان وأقليات دينية”، والعبارة له.
لا يختلف خطاب مؤسس وأمين “الدَّعوة الإسلاميَّة” عزّ الدِّين سليم، واسمه الحقيقي “عبدالزهرة عثمان” عن خطاب الحكيم، في عراقية القرار، والبعد عن الهيمنة الخارجية، والتعامل مع الأمريكان كقوى محتلة، خلال وجودها، لتأمين مصالح الشَّعب العراقي بلا حرب، هذا ما عبر عنه نجله في لقاء تلفزيوني عبر “قناة الغدير”.
أسس سليم “الدعوة الإسلامية”، رافعاً من تنظيمه مفردة “الحزب”، كي يتميز عن “حزب الدَّعوة الإسلامية”، والذي كانت قيادته توجد بلندن، وانشقاقاته: «المجلس الفقهي» محمد كاظم الحائري بإيران، و«تنظيم العراق لحزب الدعوة» وممثله عبدالكريم العنزي. كان سليم، عضو مجلس الحكم ثم رئيس المجلس حينها (كان المجلس يُدار بالتناوب بين أعضائه حسب الحروف الأبجدية)، على خلاف مع حزب الدَّعوة، واصفه بالانتهازية، لأن قيادة الأخير التي كانت متمثلة بإبراهيم الجعفري (الناطق الرسمي) تعامل مع الأمريكان سراً، بينما كان ينكر ذلك (الوسط البحرينية 18/5/2004).
كان محمد باقر الحكيم ينتظر لحظة عبور الأراضي الإيرانية إلى العراق، فتم ذلك مِن منطقة “الشَّلامجة”، المنطقة التي اشتهر اسمها خلال الحرب العراقيَّة-الإيرانيَّة، ليكون في حلٍّ مِن الهيمنة الإيرانية، فحسب الموجودين معه في لحظة وصوله، وكانت لقطات مصورة أنه شكر الحرس الإيرانيين وودعهم. تحدث في أول خطاب له بالبصرة عن ضرورة قيام دولة مدنية في العراق، وفي أول وصوله النَّجف قال: “ولا نقبل مِن أحد يمثل هيمنته علينا”.
هنا أصبح الحكيم وسليم عقبة أمام المشروع الإيراني، في تنظيم المقاومة الإسلامية، والبدء بتأسيس الميليشيات على الأرض العراقيَّة، للضغط على الأمريكان لترك العراق، والسيطرة على مراكز النُّفوذ، وقد تُرجم ذلك بوجود المتدربين بالشَّام على يد قيادي حزب الله عِماد مَغنيَّة (اغتيل2008)، ثم وجود القيادي الآخر في حزب الله محمد كوثراني يُجند الشباب العراقيين إلى سورية.
في عشية اغتيال الحكيم، تسربت بالنَّجف معلومة وصلت مسامع أحد وجهاء المدينة، في صحن العتبة العلوية (مرقد علي بن أبي طالب)، بأن أمراً سيحدث غداً خلال صلاة الجمعة، والمعلومة بالضبط حسب ما نُقلت للوجيه: “يريدون يفجرون السيد”، حتى وإن كانت قيلت على سبيل الوقاية أو المزحة، فأوصلها مباشرة إلى مكتب الحكيم، بعد أن يئس مِن التحدث معه مباشرة (سمعتها منه شخصياً)، فكان الجواب: “قل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا”! وقد حصل ما حصل، أن فُجر المكان ولم يبق منه سوى خاتمه، وقُتل معه نحو مائة شخص. حدث الانفجار داخل سيارة الحماية نفسها، فمَن يا تُرى قادر على تفخيخ المكان خلال صلاة الجمعة، غير أن يكون متنفذاً أمنياً، ممن معه؟!
لم يكن هناك وجود لتنظيم القاعدة بهذه التمكن، وكان الأمريكان أول الخاسرين بمقتل الحكيم، لأنه ضد رفع السّلاح، الذي سعت إليه إيران بإدخال العناصر المسلحة بعذر “المقاومة”، مثلما تقدم. كذلك كانت خسارة الأمريكان بعزّ الدِّين سليم، وهو الآخر ضد رفع السِّلاح، وطلب الاستقلال بالطرق السِّلمية، والاثنان، الحكيم وسليم، رفعا شعار إعمار العراق واستقلاله مِن أي هيمنة، والحكيم قال: “لا تقبلوا القيمومة مِن أحد مِن النَّاس”(خطابه بالنَّجف).
عندما نقرأ النتائج، والقيمومة الحالية مِن قِبل الولي الفقيه الإيرانية على العراق، وتجاهل الحكيم لإيران في خطبه وتصريحاته تماماً، وتصديه للمرجعية الدِّينية على خلاف المرجعية الرَّسمية الإيرانيَّة، سنعرف مَن له مصلحة باغتيال الحكيم؟! فبعد عدم جعل العراق ساحة للحرب بالوكالة للإيرانيين، يأتي السَّبب الآخر، وهو تركيزه تماماً على قوة المرجعية الدِّينية بالنَّجف، حتى جعل ذلك أول وصاياه، وهذا يتعارض مع مرجعية طهران التي بدأت بنشر أعوانها داخل العِراق.
أما أن تعلن القاعدة عن مسؤولية اغتيال الحكيم، وإعلان جماعة لا وجود لها “كتائب الرَّشيد” مسؤوليتها عن اغتيال سليم، وبث الإعلام الإيراني مسؤولية الأمريكان عن اغتيال الاثنين، فجاء لتغطية الوقائع، وهو يشبه تماماً أسلوب التستر، هذه الأيام، على هوية قناصي المتظاهرين، الذينبلغ عددهم نحو مئتي ضحية.
كان الإسلاميون، في زمن المعارضة، يحتمون بإيران، لكنَّ زمنَ دفع (الفواتير) قد حان، والثَّمن رأس العراق، ما كان يرفض دفعه الحكيم وسليم. يقول إبراهيم بن العباس الصُّولي (ت 243هـ) في هذه المفارقة: “وكنتُ أذمُ إليك الزَّمانَ/ فأصبحتُ فيك أذم الزَّمانا/ وكنتُ أعدكُ للنائبات/فها أنا أطلب منك الأمانا” (الثَّعالبي، خاص الخاص).