تسربت الصوفية إلى الصومال في بدايات القرن الخامس عشر، والأرجح أنه لم يسجل في رفوف كتب التاريخ وجود صوفي في الصومال قبل ذلك الوقت، حيث لا حظ العمري الذي كتب عن هذه البلاد بين سنتي (1332-1337هـ) خلوها من الربط والزوايا والخانقاهات(1)[2]. وكذلك ابن بطوطة، اكتفى في وصفه لمقديشو بأن سلطانها يتحدث العربية ولغة مقديشو، ثم وصف الحياة الاجتماعية والاقتصادية وذكر أن ” أهلها أهل جهاد لأنهم في بر واحد متصل مع كفار الزنوج، والغالب عليهم الدين والصلاح وهم شافعية المذهب(2)[3]. ولا يعني هنا انتفاء وجود متصوفة كأفراد في الصومال ابتداء من القرن الثاني عشر أو الثالث عشر شأنها في ذلك شأن العالم الإسلامي.
تمكنت الطرق الصوفية في ربوع الصومال دون منافس، وأسهمت في نشر الإسلام عن طريق إنشاء مراكز إسلاميةٍ، وعنيت بتدريس أصول الدين واللغة العربية للمسلمين، مما كان له أجمل الأثر في إبقاء جذوة الإسلام متقدة ليس في ربوع الصومال فحسب بل في معظم أنحاء القرن الإفريقي حتى اليوم، ولا نجد حدثا تاريخيا مهما في الساحة الصومالية ما قبل الخمسينيات في القرن الماضي إلا وكان فيه للصوفية بصمات واضحة، وقامت الطرق الصوفية بأدوار حاسمة في تشكيل تاريخ الصومال.
وينبغي أن نشير هنا إلى أن الصومال خلال تاريخ تأثره بالطرق الصوفية قد شهد نوعين من الطرق، أولهما الطرق القديمة أو التقليدية ذات المشيخات والقيادات المتعددة والإدارة اللامركزية، مثل الطريقة القادرية أما النوع الثاني فهو عبارة عن الطرق ذات القيادة المركزية والمتأثرة بالحركات التجديدية والإصلاحية التي شهدها العالم الإسلامي في الفترة من أواخر القرن السابع عشر وحتى أواخر القرن التاسع عشر.
ويندرج تحت هذا النوع، الطريقة الأحمدية مع فرعها الصالحي المتأثرة بمدرسة السيد أحمد بن إدريس، إلى جانب هذا، طرق صوفية أخرى مثل الرفاعية والختمية والدندرية. ولكن أتباعها قليلون مقارنة بالقادرية والأحمدية والصالحية.
القادرية
تعتبر الطريقة القادرية من أوسع الطرق انتشاراً في العالم الإسلامي وتُنسب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني (470-561هـ/1077-1166م) وقد ولد بجيلان أو كيلان بإقليم طبرستان بإيران وتوفي ودفن ببغداد. وكان الشيخ عبد القادر عالماً ضليعاً يفتي على مذهب الإمامين الشافعي وابن حنبل. وقد انتشرت تعاليم الشيخ عبد القادر الجيلاني بواسطة تلاميذه في أنحاء واسعة من العالم الإسلامي.
ويبدو أن الطريقة القادرية التي تعد أقدم الطرق وأكثرها أتباعا في أوساط الصوماليين تسربت إلى الصومال بفضل المهاجرين اليمنيين أو الحضارمة الذين استقروا في مقديشو وزيلع وبربرا وبراوة ومركة، و من الساحل شقت القادرية طريقها للدواخل، هذا ويعتبر القطب الرباني الشريف أبو بكر بن عبد الله العيدروس المتوفى عام 1503 من أول مؤسسي الطريقة القادرية في الصومال، ثم تبعه من المشاهير الشيخ حسين نور المعروف بحسين بالي الذي تورد الروايات الشفهية أنه جاء من بغداد لنشر الطريقة القادرية وأنه أول من مزج ترديد الأوراد مع ضرب الدف، بادئا ذلك بالشهادة “لا إله إلا اله ” حتى يجذب العوام والأهالي للإسلام(3)[4].
كما أسس الشيخ إبراهيم حسن عيسى يرو مركزا للطريقة القادرية عام 1819م على ضفاف نهر جوبا و في مدينة برديرى في إقليم جدو على شكل تعاونيات زراعية وهو ما يبدو أنه مثل أول ظهور لمصطلح “الجماعة ” في الأوساط القادرية، كما كان أبرز مركز للقادرية في الجنوب الصومالي، ومن هذا المركز انتشرت الطريقة إلى باقي أنحاء البلد(4)[5].
ومن فطاحل العلماء الذين ساهموا في نشر الطريقة في الصومال، الشيخ عبد الرحمن الزيلعي المتوفى 1883م الذي مال إلى التصوّف وسلك الطريقة القادرية وقام في مدن كثيرة منها هرر و إقليم الصومال الغربي حيث نشر الثقافة الإسلامية والتعليم والإرشاد فجال بأصحابه فى طول أجادين وعرضها يدعو الناس بالوعظ والإرشاد فى أوساط القبائل الأجادينية الرعاة الرحل، واصطنع أناشيد دينية ( الأوزان الزيلعية ) لغرض استقطاب الشعب إلى مراكز الدعوة التجديدية حيث كان الشعب الصومالي يميل إلى الشعر والأناشيد كما كانت تملأ الأغاني الشريرة التى كان يتورط بها الشباب، واعتبره علماء المنطقة مجددًا دينيا.
وسكن الزيلعي قرية قلنقول بوادي (فافن) الزراعي، وفتح أكبر مدرسة دينية فى أجادين آنذاك، وأكبر زاوية تربية صوفية، فتخرج منه مشاهير علماء المنطقة، وسبّب نهضة علمية روحية إصلاحية غيّرت كثيرا من الأوضاع المتدهورة، وجددت حركة الثقافة الإسلامية فى المنطقة، وأصبحت الطريقة القادرية الزيلعية التى جمعت بين التصوف والتعليم والتربية فى البلاد، وعمت الأقطار الصومالية.
وكذلك الشيخ أويس محمد براوى المتوفى 1909م، مؤسس الطريقة الأوسية، التي تعد الجناح الثاني بعد الزيلعية من حيث الانتشار، ويبدو أنها ظهرت في بدايات القرن العشرين. وقد بدأ حياته طالبا للعلوم الإسلامية، ثم سافر إلى بغداد حيث أخذ الطريقة القادرية من خليفة الشيخ عبد القادر الجيلاني هناك، السيد مصطفى بن سيد سلمان وقد أرسله السيد بعد نيله الإجازة القادرية ليبشر بمبادئ الدعوة القادرية في أرض الصومال وكينيا والسواحل وتنجانيقا وزنجبار.
كان الشيخ أويس شاعرا بارعا ملهما، وقد أسهمت أشعاره في حفظ اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وما زال المنتسبون للطريقة القادرية يترنمون بقصائده و يخمسون بعضها. و قد انتشر نفوذ الشيخ في المناطق الساحلية في الصومال الجنوبي.
وقد نهجت الطريقة الأوسية نهجا متصالحا مع الاستعمار الإيطالي، ورفض الشيخ أويس دعوة السيد محمد عبد الله للجهاد والانخراط في صفوف الدراويش، بل وهاجم السيد محمد وأتباعه ووصفهم بالقتلة مما أدى إلى مصرع الشيخ أويس على يد جماعة من الدراويش في 23ربيع الأول 1327 في قرية ببول(5)[6].
ارتبط نشر الإسلام في أجزاء واسعة من الصومال والمناطق المجاورة في إثيوبيا وعلى طول ساحل القرن الإفريقي بالقادرية من خلال وجوه الحياة مثل التجارة والتعليم والتربية كما أسسوا مراكز إسلامية في مدن كثيرة مثل هرر وبرووا وجيكجكا وبارطيرا ومقديشو وبيولي وهرجيسا وقلنقول، وكان الطلاب ينتشرون في الأرياف والقرى النائية بعد نهلهم العلم من هذه المراكز.
الأحمدية
أسسها السيد أحمد بن إدريس الفاسي (1760- 1837م)،، هذه الطريقة التي ساهمت في حركات الإحياء التي شهدها القرن التاسع عشر، ولم يكن الفاسي صوفيا فحسب، وإنما كان مصلحا يستهدي تعاليم الوهابية،ويتأثر بها، فجرد الصوفية من كثير من بدعها ونادى بالاعتماد على الكتاب والسنة فهي طريق السالكين(6)[7].
ودخلت الصومال في بدايات القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي في جنوب الصومال وكانت الجماعة عبارة عن وحدة اجتماعية تعمل في الزراعة ولها شيخ أشبه بفكرة الزاوية عند السنوسية وأول جماعة أحمدية تأسست في بارديرا عام 1819 م بيد الشيخ إبراهيم يبرو وقد نمت الجماعة حتى أصبحت تسعين جماعة تضم خمسة وثلاثين ألف شخص في باكول، جادو، بارديرا في عام 1950(7)[8].
ولقيت الطريقة نجاحاً منقطع النظير خصوصاً في المناطق الجنوبية، فقد صادفت صدى في نفوس الشعب الصومالي. وامتد نشاط الجماعة إلى المناطق الأخرى في الجنوب مثل منطقة بكول في عهد كل من الشيخ شريف عبد الرحمن و شريف إبراهيم. كما انتشرت في باقي أنحاء البلاد وتسربت إلى شمال شرق كينيا بيد الشيخ علي جري. واشتهرت الأحمدية بتوطين أهل الأرياف والدعوة لهم بالتحضر والتمدن.
ولقد لعبوا دورا كبيرا في محاربة العادات التي يرونها سيئة فحرموا مضغ القات وتعاطي الشيشة والحركات الجسدية عند الذكر، كما فرضوا حظرا على بيع العاج، وحثوا على ارتداء الحجاب للنساء، وخاضوا معارك جدلية مع المجاميع القادرية والتي تطورت فيما بعد إلى صِدام مسلح بين الطريقتين على خلفية استيلاء الأحمدية على مدينة براوي معقل القادرية الأمر الذي أثار حفيظة ملك قبيلة “جلدي”، والذي جمع جيشا قوامه 40000 من مختلف القبائل واقتحم مدينة بارديرا وحرّقها.
ويعتقد أن العامل الاقتصادي كان له دوره في تأجيج الصراع إذ إن حظر بيع العاج أغضب بعض القبائل، إلى جانب العامل الخارجي حيث أشار الباحث والكاتب الصومالي الشهير عبد الرحمن عبد الله باديو إلى تحريض سلطان زنجبار العماني سعيد برغش لسلطان قبيلة “جلدي” القادري ضد الأحمدية لأن السلطان العماني كان قلقا مما اعتبره توغلا وهابيا في الصومال(8)[9]، لكن الحقيقة أن الأحمدية لم يكونوا سلفيين.
ويبدو أن الحركة الأحمدية سعت إلى تأسيس تصوف على أساس الأصول الشرعية و كانت هذه خطوة هامة في تطور التصوف في الصومال لأنه مثل زواجاً ما بين المعرفة الروحانية والنشاط الاجتماعي، ولا سيما أنها جاءت في وقت غلب على الحركة القادرية (الأم) كل أشكال الدروشة والبدع والانزواء والسلبية، ولا شك أن سر الاستجابة والانتشار السريع للجماعة، كان يعود إلى الانحطاط الذي كانت تعانيه الحركة القادرية، إضافة إلى الحاجة الملحة للتجديد الديني في ظل تكالب القوى الاستعمارية على الصومال مما كان يستدعي حركة دينية نهضوية ترفع راية الدعوة الإسلامية الصحيحة في وجه التنصير الذي كان أحد أذرع الاستعمار من جهة ويرفع راية الجهاد والمقاومة في وجه المد الاستخرابي من جهة أخرى، وبالفعل استجابت الحركة الأحمدية تلك المطالب الشعبية، حيث بذلت الطريقة الأحمدية جهودا مشكورة في مقارعة المحتل تميزت بها عن كثير من الطرق الصوفية في عصرها.
الصالحية
تُعتَبر هذه الطريقة بدورها رائدة في نشر الإسلام في هذه البلاد -الصومال- وتنتسب هذه الحركة إلى محمد بن صالح المتوفى في العام 1513م/919هـ، وهي فرع من الأحمدية وعمل على نشرها، وبعد وفاته لم توقف عجلة الحركة دورانها، بل انتشرت الدعوة في البلاد، وكان قائدها من خلفه الشيخ محمد جوليد الذي أسس مركزاً للطريقة الصالحية في منطقة شدلي القريبة من بلدتَيْ جوهر وبلعد على نهر شبيلي(9)[10]. وكذلك الشيخ علي ميى دوركبا الذي توفي عام 1917م، والشيخ علي نيروبي الذي أسس جماعة قرب مدينة بارطيره ونشر الطريقة علي ضفاف نهر جوبا. ومنهم الشيخ أحمد فارح، وحاج علي دقري الذي أسس جماعة راحولي قرب مدينة جللقسي، ومحمد حسن أحمد أبيكر. ومنهم الشيخ المجاهد حسن برسني الذي أسس جماعة جاليالي قرب مدينة جوهر واصطدم مع الاحتلال الإيطالي الفاشي وأعلن الجهاد ضدها حتى ألقي القبض عليه وحكم عليه بالسجن المؤبد واستشهد في السجن عام 1929م.
وتلقت الدعوة الصالحية قبولا واسعا في أوساط الشعب الصومالي ولا سيما في أيام المجاهد الكبير محمد عبد الله حسن الذي هاله قتل مؤذن في مسجد بربرة لأن صوته يقلق حاكم المدينة من نومه، كما هاله حركة التنصير التي تقوم بها البعثات التنصيرية خاصة مع أطفال المسلمين، كما تزامن ظهوره في وقت لم يكن هناك أي حركة جهادية في الصومال بالرغم من استباحة إثيوبيا لهرر وما جاورها واقتطاع القوى الأوروبية المتنافسة لأجزاء كبيرة من الصومال.
وقد اتبع السيد سياسة سلمية في بداية حركته تقوم على نشر التعليم بين الناشئين وتوعية الناس بأمور دينهم، وحثهم على التمسك بالدين في مواجهة حركة التبشير، وحب الوطن والحنق على المحتل الأجنبي الغاصب، وعندما نجح في تحريك عواطف ومشاعر الصوماليين الدينية والوطنية انتقل إلى الحرب والكفاح المسلح.
والحقيقة أنه اكتسب أنصاراً ومريدين أصبحوا نواة لجهاده ضد القوى الاستعمارية الثلاث إثيوبيا وبريطانيا وإيطاليا وركز السيد معظم جهاده على الإنجليز وألحق بهم شر الهزائم في أكثر من مواجهات وأباد وحدات بريطانية بأكملها، استخدم الإنجليز كل ما لديهم من جيش جرار وأسلحة ومدافع وطائرات ضد الدراويش وقد ألقي أكثر من 100 قنبلة على حصن تليح التي كانت إحدى أهم قلاع السيد، وكان أول إفريقي استخدمت ضده الطائرات لضراوة مقاومة الدراويش في وجه البريطانيين.
وعلى الرغم من أن معركته مع الاستعمار غير متكافئة بفارق التقنية والعدد، إلا أنه خاضها بشجاعة لأكثر من عشرين عاما، وتجدر الإشارة إلى أنه لو لا تواطؤ بعض قوى الطرق الصوفية والواجهات العشائرية مع المحتل البريطاني والإيطالي بقناعات مذهبية ومصالح آنية لاستطاع السيد توحيد الصومال وتحريرها.
وتعتبر ثورة الدراويش بقيادة السيد محمد عبد الله حسن أهم الانتفاضات الدينية التي انفجرت في كثير من المناطق الصومالية حماية للعقيدة الإسلامية وسعيا إلى تحرير البلاد والعباد من الاستعباد والاستخراب، ومن هنا ظل فكره فيما بعد موضع إلهام في سياق معركة الاستقلال والتوحيد بحكم أنه أول باعث النهضة القومية الصومالية.
الأدوار السياسية والاجتماعية للطرق الصوفية
من الواضح أن شيوخ وزعماء الطرق الصوفية في الصومال اضطلعوا بنشر وتعميق العقيدة الإسلامية بطريقة مبسطة من خلال إلزامهم لمريديهم وأتباعهم بمنهج تعبدي وخلقي معيّن. وكانت درجة نجاح الشيوخ في هذا المسعى تعتمد على ما يتمتعون به من مكانة وسلطان روحي. وساد اعتقاد وسط جمهرة المريدين والأتباع أن مخالفة الشيخ أو الولي تعود عليهم وعلى أطفالهم باللعنة والضرر، وأن الشيخ قادر حياً وميتاً على أن ينقذ ويغيث ويشفع لمن يتوسل به.
قام شيوخ الطرق بوصفهم فقهاء ومتصوّفة بالعديد من الأدوار والوظائف في مجتمعاتهم ومن أمثلة ذلك دور المرشد، والمعلم، والإمام، والمأذون، والطبيب، والوسيط النزيه في فض النزاعات. كما كان الناس يستشيرونهم ويستفتونهم في أمورهم وشئونهم الحياتية المختلفة ويلجئون إليهم لإطعامهم عند الحاجة.
وقد أسس مشايخ الطرق الصوفية مراكز في القرى والأرياف حيث أصبحت موئلا للمعوزين إلى جانب حصولهم على قدر من المعارف الإسلامية، وقد مثَّل ابتكار تأسيس المزارع الجماعية في جنوب الصومال من قبل بعض علماء الطريقة الأحمدية خطوات متقدمة في القضاء على الفقر والمجاعة لدى السكان.
لقد اخترقت الطرق الصوفية الحواجز القبلية وتجاوزت بمسلكيتها الأخلاقية أطر التعصب ساعية بكل قوتها وعلي نحو عفوي لإيجاد تدامج وطني عام يشمل كل هذه الكيانات وكانت الحركات الصوفية الصومالية العابرة للحدود المزيفة بين الصومال وإثبوبيا أو بين الصومال وكينيا هي الرد الوحيد علي التجزئة الاستعمارية للطيف الصومالي.
أما ارتباط الحركة الصوفية بالسياسة، فنجد أنه كان ضعيفا في الساحة الصومالية(10)[11]. ولعل مرد ذلك طبيعة التنشئة الصوفية التي لاتكترث بالسياسة، وتشيطن ممارسة السياسة وتولي اهتمامها في الجانب الروحي.
الاستجابة الصوفية الأكبر للسياسة تجسدت في ثورة السيد محمد عبد الله حسن الذي على خلاف معظم المدارس الصوفية في الصومال آنذك؛ قاوم المستعمر الأجنبي من منطلق سعيه لتأسيس الإمارة الإسلامية وكان على الطريقة الصالحية ويتضح من خلال أشعاره ومناظراته أنه كان رائد الإسلام السياسي في الصومال، ولعل ما يدل أيضا على الانفصام بين الصوفية والسياسة في الصومال ما بدا من كثير من أهم الشيوخ الصوفية أثناء الفترة الاستعمارية والانصراف عن مقاومته ومدافعته، وفي كثير من الأحيان التعامل معه كحاكم شرعي للأمة وتلقي الإعانات المالية منه، بل وقف بعض المتصوفة في مواجهة المتصوفة المجاهدين، ودليل ذلك رفض الحركة القادرية جهاد حركة الدراويش بقيادة السيد محمد عبد الله ووصفها بالفتنة.
لكن في الأربعينيات من القرن الماضي، كان هناك توغل صوفي ملحوظ في حركة التحرر الوطني المتمثلة بحزب وحدة الشباب الذي اعتبر الإسلام مصدرا للتحرر والوحدة وكان لبعض علماء الصوفية كعبد القادر سخاودين -أحد أعضاء حزب وحدة الشباب- دور بارز في الحزب لأن الإسلام مثّل الوسيلة الأمثل التي يعبر الصوماليون من خلاله عن التلاحم الوطني وكان حزب وحدة الشباب انبعاث وطني ديني ممزوج بمشاعر قومية.
وانصبت جهود علماء الصوفية قبيل الاستقلال في ترسيخ إسلامية وعروبة الصومال، حيث واجهوا مخططات الاستعمار التي كانت ترمي إلى إقصاء الإسلام واللغة العربية، وردوا كثيراً من مخططات الاستعمار على عقبها بالتعاون مع رواد حزب وحدة الشباب.
وفي ظل الحكومات المتعاقبة في الحكم ما بين 1960-1990م لا نلاحظ دوراً صوفياً فعالاً، ما عدا محاولات النظام العسكري لكسب الود الصوفي وقيامه بتعيين بعض رموز الصوفية لمناصب عدة في وزارة الشؤون الدينية والأوقاف.
انحسـار الدور الصوفي وأسبابه
في بدايات الستينيات من القرن الماضي الذي تزامن مع استقلال الصومال، وظهور الدولة العصرية بمؤسساتها واستحقاقاتها السياسية والاجتماعية، والانفتاح على العالم الخارجي بدأت رياح ما عرف ب”الصحوة الإسلامية” تهب في الساحة الصومالية وتُحدث بصمات واضحة على جميع مجالات الحياة في البلاد، وصاحب هذه الظاهرة تيارات فكرية متعددة تقاطعت مع خطاب التجديد والإصلاح.
ويعد التيار السلفي صاحب الأسبقية في دعوة التجديد الديني في الصومال الذي تسرب عبر العالم الشيخ نور الدين علي علو والذي قدم من مصر في بدايات الخمسينيات وخاض مجادلات عقدية وفكرية مع التيار الصوفي منتقدا عقائد الصوفية وطقوسها لا سيما الجانب المرتبط بالتضرع للأضرحة وكرامات الأولياء، وصاحب في ذلك أيضا بروز النخبة ذات التعليم العالي التي نزعت نحو ابتعاد الفكر عن التصوف متهمة إياه بالتخلف والانكفائية.
ويبدو أن ما بعد السبعينيات من القرن الماضي لم يتجاوز دور الصوفية على كونه ظاهرة احتفالية بعد أن التصقت بثوب التقليدية وتكلست عن إنتاج أي ممارسات علمية أو اجتماعية أو سياسية إيجابية يمكن أن تمثل خطوات وآليات مقابلة لتكتيكات وأساليب خصومهم.
ويمكن عزو تراجع الطرق الصوفية إلى عدة أسباب أهمها:
- ضعف حجج الجانب الصوفي في الدفاع عن سلوكيات يطلق عليها خصومها “شركيات” أو “خرافات” و”خزعبلات”، وكذلك فإن المناخ الاشتراكي المحتقر لمظاهر التدين -مهما كان- وخصوصاً الإيمان بالخوارق والكرامات ضرب الصوفية في مقتل، حيث ظهر من منظور السلطة وقتها أن التصوف هو شغل التعساء والكسالى والساقطين من ركب الحياة إلى كهوف العزلة، وأصبح تهمة شنيعة، ولونا من ألوان التقاعد العقلي المبكر، وأصبح الصوفي هو الرجل الكسول.. رث الثياب.. قليل العلم.. المتسول.. الذي يفترش الأرض ويلتحف السماء.. ويجد سعادته في الموالد والطرقات.. واستقرت هذه الصورة في الأذهان وشاعت وسيطرت، وأصبح من الصعب تغييرها بل رفض الناس غيرها.
- تصاعد قوة التيار السلفي المسلح، والذي ركز على مواطن الضعف الظاهرة لدى المتصوفة، كالنذر للقبور والطواف حولها، وادعاء كرامات الأولياء، والتملق للسلطة وقصائد الشاعر الصومالي أبشر نور فارح “بعدلي” -وهو أحد تلاميذ الشيخ نور الدين علي الذي لعب دورا كبيرا في إضعاف كفة الطرق الصوفية- التي امتلأت بأسلوب مشحون بالتندر والفكاهة اجتذب الكثيرين من حظيرة التصوف.
- أن الجماعات الإسلامية استقطبت منذ بدايتها العناصر الشابة، وطلاب الجامعة، وحملة الشهادات المرموقة؛ بعد أن قدمت نفسها كحملة لحامية الإسلام من التشويه الداخلي المتمثل في الطرق الصوفية، ومن القوى العالمية المتربصة به كأميركا، والاتحاد السوفيتي، ومتأثرة بخط الحركة الإسلامية الصاعد –آنذاك- في بلاد المنبع كمصر، والسعودية، والصومال، التي تعد روافد أساسية للحركات الإسلامية في الصومال.
- النظام الحاكم أيقن أن من مصلحته وقوف الصوفية بجانبه في مواجهة القوى الإسلامية المناوئة له، ولذا عمل طوال الوقت على إلهاب وقودها ليظل مشتعلا، وهؤلاء كانوا يفتون بجواز إعدام النشطاء الإسلاميين[12]، كما منعت وزارة الشئون الدينية -التي كان تتحكم فيها المؤسسة الصوفية- إدخال الكتب التي تناصر الأفكار السلفية مثل كتاب التوحيد وشروحه مثل فتح المجيد.
- التيار الصوفي أصبح سيئ السمعة بالتصاقه بالنظام الذي نشأت عدة جبهات لمحاربته وعارضته العديد من القبائل، وهذا لا شك أفقده التعاطف الشعبي، وأيضا فإن التيار الصوفي لم يلعب دورا كبيرا أثناء الحرب الأهلية في مجالات التعليم والإغاثة، بخلاف الجماعات الإسلامية التي قامت بدور فعَّال في مجال الإغاثة، مستفيدة من الدعم القادم من بلاد الخليج وتفردهم بإدارة المعونات الإغاثية.
- السمة الغالبة على الطرق الصوفية في الصومال هي ظاهرة (الانشقاق) مثلها مثل بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة، فمن رحم طريقتين هما: القادرية، والأحمدية، تولدت عشرات الطرق، ربما تماشيا مع القاعدة الصوفية الأصيلة: “الطرق إلى الله على عدد أنفاس البشر”، أو أن الأمر لا يعدو تنوعا في أساليب التدريس والتعليم والتعبير عن الحب، وهو أمر لصالح الصوفية وليس عليها(11)[13].
العلاقة مع السلفية
تتسم العلاقة الصوفية السلفية بالتوتر واختلاف لا يقبل أي بوادر للالتقاء، وشهدت الساحة الصومالية إبان السبعينيات والثمانينيات صدامات فكرية عديدة بين الطرفين لم يسلم منها بيت من بيوت الصومال ولا سيما في المدن الرئيسية، فكلا الفريقين يسعى لاستقطاب أكبر عدد من المنتمين، وكل طرف يرى أنه كفيل بإلغاء الآخر ومحوه من التواجد على الساحة الدينية، وذلك من خلال تكثيف الدعوة والتركيز على المناطق والتسابق نحو كسب المؤيدين لقضيته.
المواجهة بين الصوفية والسلفية بلغت أشدها بعد انهيار الدولة، عندما تفرغت التيارات السلفية لمواجهة الصوفية مستغلة سقوط مؤسسات الدولة التي كانت تلاحق دعوة السلفية، واعتبرت أن الطرق الصوفية ومن ينتمون لها تمثل منصات وقواعد للشرك بالله يجب اجتثاثها من جذورها، في حين اعتبر الصوفية أن حربهم ضد السلفية تمثل تثبيتا للدعوة الأصيلة، واعتبروا أن السلفيين خوارج جدد يناصبون العداء لرسول الله وآله الكرام وأولياء الله الصالحين، ويسعون إلى فرض مذهب فقهي جديد على الصوماليين، ويطلقون على خصومهم اسم “الوهابيين” باعتبار أنهم يتخذون من أفكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب مسارا لهم يسعون لتطبيقه.
وبلغت مرارة الخلاف بين الطرفين إلى حد تكفير الآخر واتهامه بالمروق عن الدين في كثير من الأوقات، وكثيرا ما تشتد وتيرة الخلاف والمشادات الكلامية بين الطرفين في أوقات المناسبات الدينية مثل الأعياد واحتفال الموالد حيث يحاول كل طرف الانتصار لموقفه الديني أو الفقهي تجاه هذه المناسبة أو تلك، ففي الأعياد كثيرا ما يدور الخلاف حول رؤية الشهر متطابقا مع اختلاف الفقهاء في تحديد الرؤية، كما يدور الخلاف في الموالد حول شرعية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل بالأولياء وغيرها من المسائل الدينية.
لكن رغم كل تلك المشاحنات الفكرية، لم تكن هناك مواجهات مسلحة بين الطرفين ما عدا استثناءات تمثل أفعالا فردية، ومازال الصدام مقتصرا على المجادلات والصراع الفكري. بل كان هناك تعايش سلمي بطريقة ما واحترام متبادل بين أقطاب الحركتين بحكم أن كثيرا من قادة السلفية كانوا قديما من المدرسة الصوفية والطابع القبلي كان يملي عليهم هذا التعايش السلمي، لأن القبيلة لم تكن تسمح بأي مواجهات بين أبنائها على أساس ديني حفظاً لتماسكها ووحدتها.
وما تشهده الساحة الآن من المواجهات المسلحة بين السلفية الجهادية وبعض المجاميع الصوفية المسلحة في بعض المناطق ليست إلا نتيجة استفزازات حركة الشباب ضد مقدسات الصوفية وهو ما وجد فيه بعض متشددي الطرفين ضالتهم لإشعال مزيد من الفتنة ستسفر عن نتائج كارثية في العلاقة السلفية الصوفية في المستقبل.
الصوفية والانخراط في العمل العسكري
لم يعرف نشاط مسلح في أوساط الحركة الصوفية طيلة الحرب الأهلية من تسعينيات القرن الماضي، وظلت سمة الصوفية سلمية وقطيعة فقهية مع كل أفكار العنف وعمل المسلح.
لكن بدت بعض طرق الحركة الصوفية في العشرية الأخيرة تمارس تغيرا شاملا في مضامين أفكارها وتقتحم حقل العمل المسلح من أوسع أبوابه، حيث ظهرت حركة صوفية مسلحة تحت اسم “أهل السنة والجماعة” في أواخر عام 2008م في المناطق الوسطى واصطدمت مع حركة الشباب والحزب الإسلامي في مناطق وسط الصومال على خلفية قيام الأخيرتين على نبش مقابر بعض أقطاب علماء الصوفية وهدم مزارات في أكثر من منطقة وحظر المناسبات الدينية التي تعج بها الساحة الصوفية.
وفي الوهلة الأولى ظهرت جماعة “أهل السنة والجماعة” أنها ليست انتفاضة عاطفية لبسطاء من المجاميع الصوفية ثاروا على خلفية هتك حرمات رفات مشايخهم وإنما هي واجهة مسلحة تتمتع بمصادر تمويل وتسليح منظمة نظرا للتقدم العسكري السريع الذي حققوه على حساب خصومهم، والقوة العسكرية الهائلة التي ظهرت في حوزتهم، مما مكن الحركة من السيطرة على عدة مدن في وسط وجنوب الصومال في وقت قياسي، وإلحاق الهزيمة بخصومهم وإرغامهم على التقهقر أمام زحف مسلحي أهل السنة والجماعة في أكثر من مواجهة.
وفي ظل هذا الصراع المسلح، حاول كلا الطرفين إضفاء الشرعية على قضيته، فحركة الشباب أصرّت على أنها لا تقاتل مجاميع صوفية وإنما تقاتل من وصفتهم “بمرتزقة” مدعومين من الحكومة الإثيوبية، وجماعة أهل السنة والجماعة من جانبها حاولت تبرير حربها ضد الشباب بوصفهم تكفيريين مدعومين من جهات خارجية لنيل مقدسات الأمة وتراثهم الديني.
عوامل الظهور
والسؤال الذي ينبغي أن يشغلنا هو: كيف تمكّنت جماعة حديثة مثل هذه الجماعة أن تواجه حركة الشباب والحزب الإسلامي هذه الفترة، خاصَّة أن وجودها كحركة مسلحة لم يستغرق طويلا، وتعود أفكارها إلى الفكر الصوفي المعروف بقطيعته الكاملة مع العنف أو حمل السلاح طوال مدة الحرب الأهلية، مما يجعلنا نفترض أن هناك عوامل خارجية وداخلية تقاطعت مع الجماعة في ضرب حركات السلفية المتطرفة، وأهم هذه التبريرات ما يلي:
- لا يمكن استيعاب أن جماعة حديثة النشأة تصمد هذه الفترة أمام الجماعات السلفية ذات التسليح العالي والخبرة القتالية دون مساعدة خارجية مستمرة، وعند تحليل الوضع نجد أن الدولة الوحيدة التي تستفيد من ازدياد قوة “أهل السنة والجماعة” هي دولة إثيوبيا، فهي تسعى جاهدة لوضع حد لأي تقدم عسكري لحركة الشباب وإن أدى ذلك إلى التحالف مع إسلاميين آخرين تراهم أقل عدائية تجاهها، فإنّ هذا سيصبح نصراً مجيداً لها، خاصة أن مناطق القتال محاذية لحدودها الطويلة مع الصومال، وبروز قوة صديقة لها في تلك المناطق يمثل طوق أمن لها وتستخدمها أديس أبابا رأس حربة لضرب خصومها سواء من “جبهة أجادين” أو حركات الصومالية المناهضة وعلى رأسهم حركة الشباب.
وتكرر نفي زعيم الطرق الصوفية الشيخ عمر فارح بأنه ليس بين جماعته وإثيوبيا إلا العلاقات العامة بين الصومال وإثيوبيا من حسن الجوار والعلاقات التجارية وما شابه ذلك، لكن وزير الاتصالات الإثيوبي “بيريكيت سيمون” كشف عن أن بلاده سمحت للميليشيات الصومالية الموالية للحكومة باستخدام أراضيها كقواعد عسكرية لشن هجمات على مقاتلي الفصائل الإسلامية المعارضة لحكومة مقديشو الانتقالية[14]. على الرغم من أنه لم يذكر اسم الجماعات الصوفية صراحة.
– من العوامل أيضاً التي ساعدت على انتصارات أهل السنة والجماعة، التعاطف الجماهيري من أهالي المنطقة مع الحركة، وذلك للتخلص من “إرهاب” حركة الشباب الذي فرض على الناس أحكاما ربما لا يتفق الشعب مع الشباب في طرق تطبيقها مثل حظر أكل القات وفرض الحجاب، وهدم الأضرحة، وحظر المناسبات الدينية، وطرد هيئات الإغاثة، مما نال من مصداقيتهم في أعين الجماهير الصومالية؛ فالشعب الصومالي يكره التشدد في تطبيق الشريعة، إضافة إلى التذمر الشعبي من عالمية خطاب حركة الشباب وعزمهم على مواصلة القتال لأن الشعب كان ينتظر انفراجة ومصالحة بعد الانسحاب الإثيوبي ولم يرض أن يكون وقودا لجهاد عالمي مزعوم لا يعلم مداه إلاّ الله.
– ساعد أيضاً على استقواء أهل السنة والجماعة، الوضعُ القبلي الذي يهيمن على الصومال فالصومال عبارة عن عشائر وقبائل، وهناك توازنات مهمَّة بين القبائل المختلفة، وتشير مصادر كثيرة أن أهل السنة يتلقون دعماً من قبائل كثيرة معارضة لحركة الشباب؛ لوجود ثارات بينهم وبين هذه الحركة، وتحوّل بعض العشائر متحالفة مع الشباب إلى مقاتلة لهم مما جعل بعض المراقبين يرون أن “أهل السنة والجماعة” قد تكون تمويهاً لمحاولات قوى عشائرية تسعى إلى ضرب وكبح جماح حركة الشباب بدعم إثيوبي على غرار الصحوات في العراق، وهذا يرسم معالم جدلية للعلاقة بين واقع العشيرة وأحلام الإمارة الإسلامية.
– ساهم أيضاً بروز أهل السنة كقوة كبيرة بانضمام فلول زعماء الحرب التي تجرعت الهزائم المتتالية على أيدي ما سمى بالمحاكم الإسلامية وكان مقاتلو حركة الشباب العمود الفقري فيها ولم يخف “برى هيرالي” -الزعيم الحربي الشهير- استعداده للقتال تحت راية “أهل السنة والجماعة”، كما قيل إن زعيم الحرب السابق “عبد وال” يقاتل هو ومليشياته جنبا إلى جنب مع مسلحي أهل السنة والجماعة.
– وإضافةً إلى المراهنة الدولية على الحركة كنوع من الإستراتيجية العالمية لمحاصرة التيارات الإسلامية المعادية للهيمنة الغربية وصناعة جماعات تحمل صبغة إسلامية تستطيع إملاء الفراغ، وتحدثت بعض التقارير في الآونة الأخير عن اجتماعات مكثفة بين ممثلين للحركة ودبلوماسيين غربيين في العاصمة الكينية، نيروبي.
وهناك دعوات صريحة من مختصين غربيين تدعو الولايات المتحدة لدعم الحركة الصوفية المسلحة. وكتب ديفيد مونتيرو الباحث في شئون الجماعات المسلحة مقالاً بصحيفة (الكريستيان ساينس مونيتور) الأميركية، تحدَّث فيه عن الوضع المتوتر في الصومال والحرب القائمة بين الإسلاميين أنفسهم، في ظل تطبيق غير منظم للشريعة الإسلامية في دولة يتنازع فيها الإسلاميون على السلطة.
مونتيرو قال إن الحل الآن لتقويض نفوذ القاعدة في الصومال “هو دعم الجماعات الصوفية التي ليس لها أطماع في السلطة، خاصة أن تنظيم القاعدة والإسلاميين المتشددين هاجموا أماكن خاصة بالصوفيين في الصومال من قبل، وهناك خلاف بين الطرفين في أمور دينية كثيرة”(12)[15].
وفي تقرير أصدرته مؤسسة راند الأميركية للأبحاث في العام الماضي تحت عنوان “الإسلام الراديكالي(الأصولي) في شرق إفريقيا “أوصت بـ”تقليص نفوذ الحركات الإسلامية المتشددة من خلال دعم القطاعات الصوفية لمساعدتهم في نشر تفسيراتهم للإسلام الذي يدين الإرهاب”(13)[16].
ومن المعلوم أن توصيات من هذا القبيل قد تحولت أو ستتحول إلى برامج عملية تنفذها الإدارة الأميركية، وجماعة “أهل السنة” قد رشحت أو قد تكون مرشحة للاستفادة من أي دعم أميركي للجماعات الإسلامية المعتدلة في شرق إفريقيا لضرب الجماعات الإسلامية المتطرفة وكبحها على الأقل. ولعل الدعم لا يتوقف على أميركا، بل يمتد إلى جهات إقليمية ودولية أخرى تخشى من مدّ الحركات الجهادية الموالية للقاعدة في الصومال(14)[17].
مستقبل الصوفية
وعلى الرغم من التراجع الصوفي في أكثر من مجال من مجالات الحياة العامة في الصومال، وعدم تمتعه بالتفاف جماهيري كبير حاليا، ورجحان الكفة لصالح التيارات الإسلامية حاليا، إلا أن الفكر الصوفي ظل وسيظل كامنا ثقافيا لكثير من مكونات الشعب الصومالي التي ما زالت تحتفظ ببقية من الحنين الخافت إلى الطرق التقليدية. ومن السهل أن تنتقل إليه حين تستعيد دورها المؤثر، وتفعِّل العديد من المقومات الإيجابية الكامنة في التصوف، وتعمل جنبا إلى جنب مع الحركات الإسلامية المعاصرة بشقيها السلفي والإخواني، متسلحة بمشروع نهضوي أو تعبوي يساهم في تحقيق الأمن والاستقرار للشعب الصومالي، ويمكنه من تحقيق حلمه بقيام دولة قادرة على بناء صرح مجتمعي يحقق متطلبات النهوض والإقلاع الحضاري، بعد أن انكفأ المشروع الوطني الصومالي طويلا في دوامة الحرب الأهلية.
وفي ظل تحول الصراع الصومالي ليعبر عن حالة من الاستقطاب الواضح بين جماعات الإسلام السياسي المتصارعة، هناك ما قد يرشح جماعات الصوفية مثل حركة “أهل السنة والجماعة” أن تقدم نفسها كواجهة صوفية تمثل مصالح الطرق الصوفية في الصومال وتتقاطع المصالح مع أي جهة داخلية أو خارجية تناصب العداء للمجاميع السلفية المسلحة مثل حركة الشباب والحزب الإسلامي ومن خلال ذلك التقاطع المصلحي، قد تكتسب الحركة دعما عسكريا وسياسيا واقتصاديا من أطراف إقليمية ودولية همها الأكبر ينصب في محاصرة التطرف الإسلامي في الصومال.
خاتمة
حاولت هذه الدراسة أن تقدم فهماً لمسيرة الصوفية بالصومال، التي مثلت الاتجاه الديني السائد منذ القرن السادس العشر إلى السبعينيات من القرن الماضي، والدور التاريخي للحركة بمختلف تياراتها مع التركيز على الطرق الكبيرة مثل القادرية التي كانت أكثر انتشارا من باقي الطرق الصوفية وارتبطت بنشر الإسلام في مناطق كثيرة من المنطقة وأخرجت علماء أجلاء نذروا حياتهم في التعليم والتربية بتأسيس مراكز ومدارس في أنحاء المنطقة.
كما أن الأحمدية وفرعها الصالحي لعبتا دورا بارزا في تشكيل العقل الديني الصومالي وظهرتا في فترة عانت الحركة القادرية من الدروشة والانكفائية وعجزت عن الاستجابة بمطالب التجديد الديني والدعوة على الجهاد ضد الاستعمار مما أكسبها قواعد للانتشار والتمدد، وفعلا ساهمت كلتا الطريقتين في إلهاب المشاعر الدينية ومقاومة المحتل إضافة إلى محاربة البدع والعادات السيئة.
ورمت الدراسة إلى إبراز الأدوار السياسية والاجتماعية للحركة الصوفية وإنجازاتها في المجالين، حيث بذلت الحركات الصوفية جهودا مشكورة في مساعدة الفئات الفقيرة من المجتمع والحد من الفقر والمجاعة بابتكار أساليب للتكافل الاجتماعي مما ساعدهم على تأسيس مجتمع متماسك ماديا، إلى جانب نشر العلم والحد من شرخ الجهل من خلال الكتاتيب أو الخلاوي القرآنية، وتفعيل دور المسجد في التربية والتعليم، كما ارتبط النضال الوطني ببعض الواجهات الصوفية الذين صمدوا في وجه الاستخراب العسكري والفكري للاستعمار، وما أدل على ذلك من جهاد السيد محمد عبدالله ضد الاستعمار قرابة عشرين عاما، ودور الصوفية في حركة وحدة الشباب التي استلهمت الإسلام في معركتها التحررية ضد الاستعمار.
كما أبرزت تراجع الدور الصوفي بعد الاستقلال، والعوامل التي أدت إلى ذلك، أولها موجة التحديث التي تسربت إلى عقل المجتمع الصومالي والتي وضعت ظاهرة التصوف في حرج، وثانيها ظهور تيارات الصحوة الإسلامية التي راحت تزاحم الصوفية، تنتقدها أحيانا وتجلدها أحيانا أخرى، وتضربها في مقتل ولا سيما اعتقادها الخاص بكرامات الأولياء والتضرع للأضرحة.
وثالثها غياب الهدف السياسي الواضح للصوفية بينما تمتلكه القوى الإسلامية الأخرى، فمثل هذا الانسحاب من الواقع السياسي قد أدى إلى صرف الناس عنهم لأن السياسة من أهم شواغل المجتمع الصومالي.
وحاولت الورقة أيضا تصوير طبيعة العلاقة بين الصوفية والسلفية وتجليات تلك العلاقة التي اتسمت بالتصادم وعدم التلاقي في أي فترة من الأوقات. وأخيرا تسلط الضوء على الصوفية المقاتلة المتمثلة بحركة أهل السنة والجماعة التي تطورت في بيئة مثلت فيها السلفية الجهادية حدودا قصوى في اضطهاد الصوفية والنيل من مقدساتهم مما دفعهم إلى حمل السلاح والدفاع عن وجودهم، كما ناقشت في أسباب صعود الحركة سواء كانت أسبابا خارجية مثل الحصول على دعم عسكري من إثيوبيا أو مراهنة دولية على الحركة لتكون رأس الحربة التي تكسر بها شوكة السلفية الجهادية، أو داخلية مثل تقاطع بعض العشائر مع الصوفية في ضرب حركة الشباب واحتوائها.
وأخيرا سعت الورقة إلى التنويه بمساعي صوفية للانخراط في السياسة مستغلة من وجودها العسكري على الأرض واهتمام القوى الإقليمية والدولية والمحلية الرامي إلى زجها في غمار السياسة، كما أن القوى الصوفية الصاعدة حاليا في الصومال قد تجد تأييد قطاعات واسعة من الشعب الصومالي بسبب تذمرهم من تشنج وتطرف تيارات السلفية المسلحة، والكامن الثقافي لدى كثير من الشعب الذي يحن إلى ماضيه الصوفي، إذا أحسنت الصوفية صنعاً في استقطابه.
[1]كاتب صومالي واستاذ جامعي*
نشر أصل هذه الدراسة في كتاب المسبار الشهري، الإسلاميون في الصومال، يونيو(حزيران) 2010.
[2] د. حسن أحمد محمود: “الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا” دار الفكر العربي 1423هـ-2002م، ص 374.
[3] د. حسن مكي محمد: “السياسات الثقافية في الصومال الكبير” شعبة البحوث والنشر المركز الإفريقي، الخرطوم 1987م، ص39.
[4] د. حسن مكي “السياسات الثقافية في الصومال الكبير” ص41
[5] Religious Orders and the Cult of the Saints available at http://countrystudies.us/somalia/47.ht5
[6] راجع د. حسن مكي “السياسات الثقافية في الصومال الكبير” بتصرف ص49 -51.
[7] د. حسن أحمد محمود: “الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا” ص 374.
[8] راجع د.حسن مكي “السياسات الثقافية في الصومال الكبير ” ص43
[9] Baadiyow, Abdurahman Abdullahi “Islamic Militancy in the History of Somalia” available at: http://www.hiiraan.com
[10] شافعي محمد “خريطة الحركات الإسلامية في الصومال ” منشور في موقع إخوان أوين لاين بتاريخ 19/5/2009م
[11] I.M. LEWIS “a modern history of the Somalia” fourth edition, Eastern African Studies pp15
[12] انظر محمد عمر “الصوفية في الصومال ..”الطريقة تبحث عن دور” بتصرف ، نشر في موقع إسلام أوين لاين.8 مارس ،2009
[13] انظر محمد عمر “الصوفية في الصومال..”الطريقة تبحث عن دور” بتصرف نشر في موقع إسلام أوين لاين بتاريخ 8/3/2009م.
[14]علي حلنى ، الصومال: زعيم الطرق الصوفية نقاتل من أجل الحصول على مكاسب سياسية، صحيفة شرق الأوسط ، عدد 11240 الصادر في 6/9/2009م
[15] Sarkis Pogossian “SUFIS AND NEOCONS” The Global War on Terrorism’s Strangest of Bedfellows, World War 4 Report available at : http://ww4report.com/node/7502
[16] Angel Rabesa “Radical Islam in East Africa” available at: http://www.rand.org/pubs/monographs/2009/RAND_MG782.pdf
[17]لمزيد من تطور ونشأة حركة أهل السنة الصوفية المقاتلة وأهم محطاتها انظر: صوفية “أهل السنة والجماعة” بالصومال..من هم وماذا يريدون؟ للكاتب منشور في موقع الصومال اليوم بتاريخ 3/12/2000م