آدام غارفنكل ( Adam Garfinkle)*
إنّ المجتمعات العربية المسلمة، ومثلها مجتمعات الغرب الحديثة، لها مشاكل مع النساء. والكيفية التي يرى فيها كل فريق مشاكل نظيره هي مشكلة بحد ذاتها. نميل جميعاً إلى فرض تصورات مشوهة وغير دقيقة مستمدة من مشاكلنا نحن على الآخر. وهكذا من المعتاد أن يعمم الغرب ويعرّف السلوك العربي المسلم تجاه المرأة بأنه مضطهد ومهين وعنيف أحياناً، لذا يتم تصوير المرأة على أنها خاضعة وأسيرة وكارهة لذاتها. وفي الوقت نفسه يميل العرب المسلمون إلى تعميم السلوك الغربي تجاه المرأة على أنه غير أخلاقي ومنحط ومهين ومنحرف، ويتم تصوير الغربيات جميعاً على أنّهن غير محترمات ولعوبات ومنحرفات. يأتي الإنحياز الغربي من فكرة كون الرجل العربي المسلم “صارماً” ومخيفاً ومهيمناً، وبالتالي غير قادر على تجربة الحميمية الحقيقية مع المرأة، في حين يأتي التصوّر العربي المنحاز من اعتقاد أنّ الرجل الغربي وضيع وعنيف وجاحد وأناني.
قد تكون لهذه الأنماط الصورية بعض الصحة وإلّا لما كانت موجودة. إنّ صحة هذه الأنماط الصورية لا تتجاوز بعض الحبيبات الصغيرة، ولكن -يا حسرتاه- موضوع الحميمية الجنسية هو –أساساً- من المسائل التي يصعب التحدث عنها صراحةً في المجتمع الواحد، فما بالكم بين المجتمعين المختلفين! أمّا النتيجة فهي أنّنا نستحصل تصوراتنا عن الآخر من مصادر مشوهّة. يرى العرب الغربيين عموماً، والأمريكيين خصوصاً، من خلال النتاج الترفيهي الذي تقوده شركات الإنتاج الضخمة التي تعتمد –أساساً- استراتيجية تسويقية قائمة على “الصدمة” من أجل تحقيق الربح. إنّ هذه النتاجات لا تعكس الواقع: إنّ أغلبية الرجال الأمريكيين لهم أمهات وأخوات وزوجات وبنات وحفيدات، ناهيك عن بنات الأخ أو الأخت والقريبات والزميلات اللواتي نحبهنّ ونحترمهن كثيراً في الحاضر أو في الماضي.
يرى الغربيون سلوك العرب المسلمين تجاه النساء –أيضاً- عبر وسائل الإعلام. صحيح أنّها ليست عبر عدسات عالم الترفيه وإنما عبر الأخبار المقتضبة التي لها ضرر بالغ، مثل: قصص “جرائم الشرف”، ختان النساء، تعدد الزوجات، الرعب الذي تعيشه النساء اليزيديات على أيدي جنود الدولة الإسلامية، منع النساء السعوديات من قيادة المركبة، الاستعباد الافتراضي للعاملات الفلبينيات في دول الخليج، رجال دين يدافعون عن ضرب النساء، حالات الاغتصاب المتعددة في باكستان، حتى في وسائل المواصلات العامة، انعدام حقوق الميراث، سهولة تطليق الرجل زوجته وحيازته حق حضانة الطفل، وما إلى ذلك.
لا نسمع في الغرب القصص التي تتحدث عن تفوق النساء العربيات في المحاكم: تحقيق العدالة لصالح النساء ليست بحالة استثنائية، بل هي الحالة السائدة في عديد من البلدان. لا نفهم –أيضاً- سبب التفريق بين الصعيدين الخاص والعام في المجتمعات ذات الطابع التنظيمي القبلي، حيث تسود البطريركية في الصعيد العام، ولكن نجد الأمهات أكثر سيطرة في الصعيد الخاص. تحت طائلة المغالطات في الأنماط الصورية هذه، توجد حقائق عديدة تشكل مشكلة بحد ذاتها.
يوجد في العالم العربي الإسلامي صراع مستمر لسنوات كثيرة بين البنى الاجتماعية والثقافية التقليدية، والبنى الاجتماعية والثقافية الغربية المعاصرة. قام أحد الباحثين العرب بتسمية مزيج التحول الاجتماعي المشوه هذا بــ”البطريركية الجديدة” (Neo-patriarchy). في هذا الصراع أصبح وضع المرأة أكثر عرضة للخطر؛ كون قضية حقوقها تعد المؤشر الأساسي لمدى التقدم الحاصل في البلاد. ولكن الصراع نفسه بين الإصلاحيين والتقليديين أدى إلى قيام التقليديين بفرض المزيد من الممارسات التقليدية التي لم يكن لها وجود في الإسلام الأول. نرى هذا في إيران -على وجه الخصوص- منذ عام 1979. إنّ هذه الظاهرة معروفة بفضل “الإصلاح البروتستانتي” -على سبيل المثال- والحركة الكاثوليكية المناوئة للإصلاح، التي جاءت بتوجهات أكثر تحفظاً لأجيال عديدة.
إنّ المشكلة في الغرب تختلف، إذ جاءت الموجة العلمانية التي اجتاحت المجتمعات منذ عقود عديدة، وقامت بالتشويش على الآفاق التاريخية للموروث الديني الإبراهيمي في الغرب. لقد بدأت هذه الظاهرة منذ مطلع القرن الثامن عشر بأفكار نيتشه وهيجل وروسو وغيرهم، الذين سعوا إلى إبدال ذاكرة علمية حديثة بذاكرة التاريخ الإبراهيمي. جاء استبدال آخر في القرن العشرين أساسه المساواتية غير المتمايزة، وهي ليست شكلاً مختلفاً من أشكال الذاكرة التاريخية، بل إنكار ورفض للذاكرة التاريخية إجمالاً. على الرغم من وجود الإنحياز التقليدي ضد المرأة. على سبيل المثال، تعليقات تيم هانت الأخيرة حول العالمات من النساء في المختبرات، فإن الكثير من الغربيين يؤمنون بأنّ أدوار الذكر والأنثى هي من تشكيل المجتمع، وأنّ الطبيعة البشرية لا تعترف بالفروقات بين الذكر والأنثى. واستناداً إلى مثل هذه الأفكار الغربية تمكن الغرب، -بين ليلة وضحاها- من تقبّل الإجهاض وزواج المثليين؛ لأنهم قطعوا أنفسهم عن معرفة واحترام موروثهم الثقافي والحضاري.
ماذا يعني كل هذا؟ أولاً: يعني أن الغرب ليس متقدماً على العالم العربي في طريقٍ ذي اتجاه واحد من تقدّم الجنس البشري. لا يمكن للعرب المسلمين، ولا يجب أن يكونوا مثل الغرب تماماً. يعني هذا أنّ الغرب اليوم، وبحيرته الخاصة بالعلاقات بين الجنسين، لا حق له في تقديم الموعظة للآخرين الذين لا يفهمون أسباب وأصول توجهاتهم. بل يمكن للغرب الإفادة من دراسة تاريخ “دار الإسلام” في دمج التقليد بالتقدّم، الإيمان بالبراغماتية، ويمكن للعرب المسلمين الإفادة من الغرب في معرفة ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في حال حصل عدم توازن في دمج الاثنين، أو تمّ التخلي عن أحدهما بشكل تام.
يجب علينا أن نجد دربنا الخاص، وأن نحترم اختلافات الآخرين. علينا أن نتعلم كيف نتعاطف مع بعضنا دون اللجوء إلى التنظير من برج عالٍ مبني من الجهل، فإنّه من المرجح -على المدى البعيد- أن المرأة ستقود الطريق لمداواة الآلام وسوء التفاهم التي حلّت بيننا.
* بروفيسور أمريكي حاصل على شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية عام 1979. من أبرز خبراء الخطاب السياسي في الولايات المتحدة. عملَ في كتابة خطابات وزير الخارجية الأمريكي. يترأس حالياً مركز “أميركان انترست” البحثي السياسي. له مؤلفات عدّة ومشاركات في دوريات ومجلات معروفة يتناول فيها قضايا الشرق الأوسط والسياسة الخارجية الامريكية والعلاقات الدولية.