في البدء، أود الإشارة إلى أنَّ مَن يتناول مثل هذه المواضيع عليه تلقي الغضب؛ والاستحسان أيضًا، والفريقان الغاضب والمستحسن، يتبادلان المواقع، بين موضوع وآخر، وفق قناعات كلٍّ منهما، فيكونون يومًا معك وآخر عليك. عندما كتبتُ عن عدم صحة تلمذة الإمام أبي حنيفة النُّعمان (تـ: 150هـ) على يد الإمام جعفر الصّادق (تـ: 148هـ)، واختلاق مقولة: “لولا السنتان لهلك النّعمان” (الدَّهلويّ، التُّحفة الاثني عشريّة)، غضب عليّ مَن غضب واستحسن مَن استحسن؛ وفق اختلاف العقائد، وعندما أكدتُ براءة الوزير ابن العلقمي (تـ: 656هـ) من خيانة الخلافة العباسيّة لصالح المغول، تبادل الغاضبون والمستحسنون المواقع، وفق العقائد أيضًا، ولما بينتُ عظمة هارون الرّشيد (تـ: 193هـ) ونجله الخليفة المثقف عبدالله المأمون (تـ: 218هـ) وفضلهما بازدهار بغداد، تبدلت المواقع، ضدي ومعي، وفق العقائد أيضًا. وعندما نفيت أن يكون للشيعة قرآن غير ما بأيدي المسلمين كافة، غضب فريق واستحسن فريق آخر. فهذا الموضوع سيجلب الغضب عليّ، ومَن يستحسن أيضًا، مع أنّه لا شأن للعقائد بما كتبتُ، إنما هذا تاريخ، ومَن يتغافل عمّا يراه حقيقةً، خشية مِن غضب أو طمع باستحسان، عليه كسر القلم وغلق الفم.
عودة إلى العنوان، اشتهر كتاب “المُراجعات” لرجل الدّين اللُّبنانيّ العامليّ عبدالحسين شرف الدّين الموسويّ (1873-1957)، قل ما يشتهر كتابٌ مثله، خصوصًا بين أتباع المذهب الشّيعي الإماميّ، حتَّى يمكن وصفه بـ”المانفيستو”، لأنّه كان حوارًا مع ممثل المذهب السّنيّ والعقيدة الأشعريّة الأكبر، وهو إمام الأزهر الشّيخ سليم البِشِريّ (1832-1916).
صدر الكتاب بطبعته الأولى (1936)، نشرته “مطبعة العرفان” بصيدا، ثم ظل يُطبع، وبلغت عدد الطَّبعات حتَّى (1983) خمسًا وعشرين طبعةً، وأمامي طبعة الكتاب الأولى والخامسة والعشرون، وما زال يُطبع، فالكتاب صار مِن الشّهرة والموثوقيّة، ما أن يجري نقاشٌ في العقائد إلا ويُنصح بمراجعته بين المذهبين.
لكنّ هل كان الكتاب فعلاً هو زبدة حوار بين إمام الأزهر؛ وكان عمره آنذاك (79) عامًا (عام الحوارات ذو القعدة 1329 إلى جمادى الأولى 1330هـ/ نوفمبر/ تشرين الثاني 1911 إلى أبريل/ نيسان 1912)، بينما كان عُمر شرف الدّين (38) عامًا، وحينها لم يكن مرجعًا بلبنان ولا خارجها، فالمرجع المعروف بالنَّجف كان السّيد محمَّد كاظم اليزديّ (تـ: 1919)، فهل يمكن أن يجري حوارٌ عقائديٌّ، ويتنازل فيه الإمام المالكيّ الأشعري، وهو إمام الأزهر، عن عقيدته الأشعريّة ومذهبه السُّنيّ المالكيّ، ويُهزم عقائديًّا أمام شابٍ، ينتظره مشوارٌ طويلٌ كي يكون مجتهدًا ومرجعًا، مثلما صار إليه شرف الدّين في ما بعد؟!
جاء في تنازل إمام الأزهر، المنشور في “المراجعات”، في ختام الكتاب، الآتي: “أشهد أنكم في الفروع والأصول، على ما كان عليه الأئمة من آل الرَّسول، وقد أوضحتَ هذا الأمر فجعلتَه جليًّا، وأظهرتَ مِن مكنونه ما كان خفيًّا، فالشّك فيه خِبالٌ، والتَّشكيكُ تضليلٌ، وقد استشففته فراقني إلى الغاية، وتمخرت ريحه الطَّيبة، فأنعشني قدسيٌ مهبها بشذاه الفياح، وكنت ـقبل أن أتصل بسببكـ على لبسٍ فيكم؛ لما كنت أسمعه من إرجاف المرجفين، وإجحاف المجحفين، فلما يسر الله اجتماعنا آويت منك إلى علمِ هدى، ومصباح دجى، وانصرفتُ عنك مفلحًا منجحًا، فما أعظم نعمة الله بك عليَّ، وما أحسنُ عائدتك لدي، والحمد لله رب العالمين” (المراجعات/ المراجعة قبل الأخيرة: 111).
يتألف الكتاب مِن (112) مراجعة، كانت مناصفةً بينهما، والأولى كانت للبشري، وفيها اقترح قائلاً: “سيكون توقيعي في أسفل مراجعاتي كاخا (س)، فليكن توقيعك (ش)”. وكانت الأخيرة لشرف الدّين، التي يعلن فيها تصريح البشري بالحق: “حتّى برح الخفاء وصرح الحقّ عن محضهِ”. اللافت للنّظر أنّ الكتاب اشتهر على أنه مناظرات بينهما، ولم نجد أثرًا لاسم البشريّ ولا موقعه كإمام الأزهر، إنما المراجعات كافة ذُيلت بحرفي (س) و(ش)، وهنا لنا تفسيرها بالسُّني والشِّيعي، مع أنّ الشّائع لـ(سليم) و(شرف الدّين). فإذا كان الحرفان رمزين للشخصيتين، فمثلما كان (س) الحرف الأول لسليم البِشريّ، يكون حرف (ع) لعبدالحُسين شرف الدّين، وإذا كانا يرمزان للقبين فيكون حرف (الباء) للبشري، مثلما الشّين لصاحب الكتاب، فالقصد من الحرفين كان بين سني وشيعي، أي حوار بين السّنة والشّيعة.
تأتي البينة الأخرى مِن أنّ الحوار كان متخيلاً، وليس مثلما شاع على أنه مناظرات حصلت بين إمام الأزهر والسَّيد شرف الدِّين، أنَّ الأسلوبَ واحدٌ تمامًا بين المراجعات (س وش)، وأنّ كاتبها واحد، فكان التَّعبير متطابقًا تمامًا، والواضح أنَّ السَّيد شرف الدّين كان يحاور نفسه، بما في داخله مِن رغبةٍ التَّأثير في الخلاف المذهبيّ، وبالأخير أراد أنّ يكون مذهبه هو السّائد، فقدم محاوره المتخيل متنازلاً عن مذهبه. لكنَّ، السّؤال: هل يُعقل أنَّ إمام الأزهر، صاحب المؤلفات والباع في المذهب المالكيّ والعقيدة الأشعريّة، يوافق على كلّ ما يطرحه الشّاب شرف الدّين، وبهذه السّهولة، حتّى تنتهي المحاورات بهزيمته عقائديًّا، وباعترافه؟!
هذا، وختم شرف الدّين “المراجعات” بسطرين، يلفت بهما نظر القارئ إلى أنّ الكتاب كتابه، عندما يقول: “تم الكتاب بمعونة الله عز وجلّ، وحُسن توفيقه تعالى بقلم مؤلفه عبدالحُسين شرف الدِّين الموسويّ العامليّ، عامله الله بفضله، وعفا عنه بكرمه، إنه أرحم الرّاحمين” (المراجعات).
لم يكن الأزهر مؤسسة ثانويّة وحديثة التّأسيس، إنما تاريخه يعود إلى أكثر مِن ألف عام، ولا إمامه البشريّ كان شخصًا مجهولاً، كي يتم التّنازل عن عقيدةِ مؤسسةٍ، ومذهب تتدين به الملايين، بالشّرق والغرب، مثل المذهب المالكيّ، ولو حدث لَما خُفي الأمر في تاريخ الأزهر نفسه، ولسُجلت تلك الحوارات، ولعُزل إمامه عن المشيخة، مثلما حدث مع عديدين نزعت عنهم جبة الأزهر وعمامته. إضافة إلى ما تقدم أنّ شرف الدّين في ذلك الوقت كان شابًا، يصعب أنه حاور إمام الأزهر، وانتصر عليه بالضَّربة القاضية، مثلما ورد في “المراجعات”، اعترف بها في آخر مراجعة سجلها مع شرف الدِّين.
ظل الأزهر صامتًا أو متغافلاً عن كتاب “المراجعات”، فهو مثلما تقدم لم يُذكر فيه اسم شيخ الأزهر “سليم البِشريّ”، إنما أشير إليه بالإيماء. قال شرف الدّين: “هبطتُ مصرَ أواخر 1329 مؤملاً في نيله، نيل الأمنية التي أنشدها، وكنتُ ألهمتُ أني موفق لبعض ما أريد، ومتصل بالذي أداور معه الرّأي (إلى قوله) كذلك كان عَلم مصر وإمامها، وهكذا كانت مجالسنا، التي شكرناها، شكرًا لا انقضاء له، لا حد” (مقدمة مؤلف المراجعات). فلو ذكر شرف الدّين إمام الأزهر باسمه، أو لقبه، أو منصبه لربّما تنبهت مشيخة الأزهر، وقالت كلمتها في الكتاب. مع العِلم، أنَّ الكتابَ طُبع بعد عشرين عامًا على وفاة المحاور، المتخيل، إمام الأزهر سليم البِشريَ (1916) والكتاب طُبع (1936).
قلتُ ظل الأزهر متغافلاً، لعقود طويلة، خلالها كان الكتاب يُطبع بغزارة، حتّى جاءت إمامة الِشَّيخ جاد الحقّ عليّ جاد الحقَ للأزهر (1982)، بدأ الانتباه للكتاب المذكور، وزج اسم سليم البشريّ فيه، وتخليه عن عقيدته الأزهريّة، وهذا أمر خطير، فكلف جاد الحقّ مَن يرد على الكتاب، ولم يرض عن الرُّدود، حتى ردّ على الكتاب، بتكليف مِنه، الشّيخ عليّ أحمد السَّالوس (تـ: 2023)، وظهرت نقائض عديدة للكتاب في ما بعد، وطرق القضية “مركز المسبار للدراسات والبحوث” في اثنين مِن كتبه الشّهريَّة “التّشيع في مصر، الكتاب (77) والأزهر مرجعيّة التّقليد السُّنيّ في أزمنة التّغير، الكتاب (88)”.
اتصل السَّالوس بالشَّيخ محمَّد بن سليم البشريّ، واستفسره عن هذا الحوار مع والده، فأجابه: “قرأت الحديث على أبي ثلاثين سنةً، فما ذَكر لي شيئًا عن الشّيعة، وما كان يخفي عني شيئًا” (السّالوس، نقض المراجعات: المقدمة)، ثم أصدرت أسرة البِشري بيانًا أشارت فيه إلى عدم صحة ما نُسب للبشريّ الأب.
كان يمكن للشيخ السّالوس أنْ يرد بغير هذا الأسلوب، فكان الحقّ العلميّ معه، لكنه انشغل عن ذلك بتخوين طائفة كاملة، والسَّب والقذف، ولم يبق بحدود مؤلف الكتاب وكتابه، فصحيح أنَّ الكتاب اشتهر على أنه حوار بين البشريّ وشرف الدِّين، لكنَّ الحُجَّة التي على السّالوس التَّمسك بها أنَّ شرف الدين لم يدون اسم البشريّ صريحًا، ولم ينظر بما رمز له الحرفان، في ذيول المراجعات، فأنت عندما ترد لا تحتاج إلى إقناع أهل طائفتك، فهم لا تعوزهم القناعة، مِن أنّ إمام الأزهر لا يمكن أن يعلن تنازله عن عقيدته، وهو إمامها في عصره، إنما تحتاج إقناع الطائفة التي شاع الكتاب بين أتباعها كـ”مانفيستو”، مثلما تقدم، وبيانها الأول، فإذا ملأت ردك بالسَّبّ والتَّكفير عزف عن قراءة كتابك مَن تريد توضيح الأمر لهم، هناك يجب العمل في التّاريخ لا في نزاع العقائد، وهو هل كان الكتاب واقعًا أم مزورًا أم متخيلاً؟
أرى أنَّ هذا النّوع، أو الضَّرب مِن التَّصانيف أو المؤلفات كان معروفًا، عندما تريد تقديم فكرة أو نقض أخرى تتخيل محاورًا، وأنت تسأل وتُجيب، وبالأخير تنتصر لعقيدتك، فعلها الطَّبيب مصطفى محمود في كتابه “حوار مع صديقي الملحد”، وهو ادعى أنه كان شيوعيًا وانقلب وصار يعظ ضد عقيدته الأولى، وهذا الكتاب المتخيل ساهم في تكريس الصَّحوة الدِّينية ثقافيًا، وقبله كان كتاب العلامة محمد جواد البلاغي (تـ: 1936)، أدار حوارًا مع نفسه متخيلاً، أنه مع شخص سماه “عمانوئيل”، فكان كتابه “الرّحلة المدرسيّة بحوث في التّوراة والإنجيل” (صدر 1928)، وظهر انتصاره كمسلم على الآخرين، ومنه فصل كبير في الحوار عن نظرية داروين، لنقضها، والأمثلة كثيرة، على هذا النّوع مِن التَّأليف، بين الأقدمين والمتأخرين.
ما أعتقده أنَّ تأليف السّيد شرف الدِّين لهذا الكتاب، كان متخيلاً، دفعه ما بين السّنة والشّيعة من جدل وخلاف، وهذا ما وضحه في مقدمة “المراجعات”، وأراد “إسلامًا بلا مذهبيه”، ولكنْ كيف يكون شكل هذا الإسلام، بالنِّسبة لرجل دين شيعيّ، لا بد أنْ يكون شيعيًّا في تصوره؛ واختار محاورة شخصية كبرى، مثل إمام الأزهر البشريّ، وينتصر عليه في مخيلته، وكانت مِن نقاط الحوار، سؤال البشري لشرف الدّين: لماذا لا تعتقدون بمذهب الأشعري؟، فكان الحوار، فالكتاب “المراجعات” المتخيل، على أنّ إمام الأزهر راجع نفسه، فسميت الحوارات بالمراجعات. أقول، وأحسب نفسي متخيلاً، في ما أدعيه، وهو أنّ الجماعات الإسلاميَّة التي ناقشت فكرها، وأعادت النّظر في ممارستها العقائديّة، نظرت العنوان، فسمت كتبها بالمراجعات.