تقديم
أصدر مركز المسبار للدراسات والبحوث في نوفمبر (تشرين الثاني) 2010، كتاب «النسوية الإسلامية: الجهاد من أجل العدالة»، وفي 2013 أصدر كتاب «المرأة وتحديات الإسلام السياسي»، وعاد في يناير (كانون الثاني) 2015 فأصدر كتابه «نساء الخليج واليمن: جدل الحقوق والدين والإسلاموية»، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 أصدر كتاب «المرأة والمعرفة الدينية»، وفي الشهر نفسه من عام 2020 أصدر «سجالات نسوية في الأديان الإبراهيمية: التاريخ والمناهج». تنضاف إليها كتب أخرى عن واقع المرأة داخل الحركات الإسلاموية، فكرًا وممارسة، استهدفت تسليط الضوء على حقل «دراسات النوع الاجتماعي»، والتعددية، وتجارب التسامح، والمساواة، أرادت توفير مصادر في دراسات المرأة والتوازن بين الجنسين التي تمثّل ثغرة في المكتبة العربية، التي ربما يسود فيها نسق مؤدلج من الأبحاث توصلت إلى نتائج حدّية.
يأتي كتاب «النسوية الدينية: رحابة النص وسياج الواقع» (الكتاب الثمانون بعد المئة، ديسمبر (كانون الأول) 2021) ليبني على التراكم المعرفي الذي بناه المركز، مسلطًا الضوء على تعاطٍ مبتكر في البحث عن جذر المساواة داخل الحقل الديني، مراوحةً بين النصّ الرحب، والممارسة، فلا يكتفي بعرض معالجة النصوص التي ذكَرت النساء في الكتب المقدسة، وإنما يدرس الخبرة النسائية ضمن نماذج قيادية في التاريخ القديم والمعاصر.
تتشابه مسارات التجارب الإنسانية في الديانات الإبراهيمية ومدوناتها، مع تباينٍ معتبر مرده الخبرات المختلفة في الفهم والتعاطي والتقاط رحابة النص وحضور المجتمع والتاريخ فيه. لذا فمن المفيد، التركيز على نماذجٍ إيجابية يمكن البناء عليها، للإجابة عما يمكن أن يقدّمه التراث لإنصاف المرأة، ومساعدتها في الفِكاك والتملّص من القيود التي وضعها المتأسلمون من السياسيين أو المتعصبين.
يُقَدِّم الكتاب بضع قراءات حديثة عن حضور المرأة في الأديان التوحيدية الثلاثة، مسنودةً إلى المناهج التاريخية ودراسات الكتب المقدسة؛ ولئن سعت إلى تظهير فاعلية النساء وتأثيرهن في صناعة المعرفة الدينية، إلا أنّها تكاملت مع دراسات ركّزت على التجربة التاريخية المنبثقة عن النصوص، وما دار حولها من تفاوضٍ نسوي على المواقع والأدوار.
غطى المحور الأول من الكتاب حضور المرأة في العهد القديم (التناخ)، على مستوى النص الديني وتاريخيته، فتطرق إلى الشخصيّات النسائية المؤثِّرة، واقترح قراءةً لأسفار النساء في الكتاب المقدس، تُرَكِّز على راعوث وأستير ويهوديت. عكست هذه الأسفار الثلاثة التي تسمّت بأسماء نساء، محتوىً حكميًّا، انفتح فكريًّا على الشعوب، وعكست دورًا قياديًا وحكيمًا، تفوّقت فيه المرأة على الأنظمة الاجتماعية القاسية. وعلى صعيد الممارسة، وفي العهد الجديد، طرحت دراسة الحضور الكتابي لنافذةٍ المرأة التي سمّيت بالكنداكة ونُسِبَت إلى الحبشة، والتي حضرت في أعمال الرسل والتاريخ، وهي التي أرسلت رسولاً إلى القدس (أورشليم) في العقود الأولى لمبعث المسيح، فظهر هذا الرسول في إنجيل لوقا، فبرزت عبره عظمة ملِكته الحبشية التي أرسلته حينها، وأقره النص.
على الرغم مما قد تُثيره بعض الدراسات الكتابية المسيحية الحديثة من تحفظات لدى عدد من الدارسين والاتجاهات التقليدية، فإنها تمكنت عبر مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية، من إخراج ما تتضمنه المدونة الدينية من حضورٍ نسائي واضح، وقدرةٍ على تأكيد أدوارهن وفاعليتهن في صناعة المعرفة الدينية وإدارة المقدس كما ظهر في «الحركة النسوية الإنجيلية الأميركية»، وإن ضاقت المجالات أحياناً، ولم تتسع لهن، خصوصاً في قضية سيامة النساء التي استطاعت كنيسة إنجلترا إقرارها؛ فقرّرت رسم النساء كاهنات في نوفمبر (تشرين الثاني) 1992، ونفّذت الرسامات الأولى في مارس (آذار) 1994، لكن الكاهنات –كما تبين الدراسة الثالثة من دراسات المرأة في المسيحية- واجهن، قبل هذه الأحداث وبعدها، تحديّات من داخل «مجتمع غير رسمي» في الكنيسة.
قصدت الدراسات عن الإسلام البدء بدراسة للباحثة والخطيبة الفرنسية كاهنة بهلول (Kahina Bahloul)، التي أثارت جدلاً برؤاها وطروحاتها العملية، فأبرزت تصورها لحضور النساء في سور القرآن الكريم، معتمدةً على منهج المفكر الجزائري الفرنسي محمد أركون في بناء النسق القائم على تحليل الخطاب، في ضوء ما أسمته «ألسنية التلفظ» (linguistique de l‘énonciation) فبحثت في سير «أسماء الشخصيات» النسائية، ووظفته لاستنطاق النص الديني ومنحه الفرصة للتعبير عن ذات الواقع، دون تعطيل شروطه التاريخية. وراقبت دراسةٌ تالية التحوّلات الرمزية في قصّة بلقيس، من النصّ الواضح؛ إلى تأويلات أحد المؤرخين، واختارت الباحثة المقريزي وتعقبته، لتزعم أنّ الحمولات الذكورية قيّدت رحابة النص.
في سياق الخبرة التاريخية العمليَّة، تناولت دراسة نماذج من الشخصيات النسائية المؤثرة في تاريخ المسلمين، في مجال المعرفة الدينية وإدارة الشأن السياسي والسلطة، فاختارتها من حقب تاريخية مختلفة. ولئن احتفت الدراسة السابقة بالحضور الضافي -حسبما تصف- فإنّ دراسة الباحثة التونسية ناجية الوريمي، التالية، سجلت اعتراضها على الطريقة التي عُرِّفت بها المرأة العالمة في كتب «الطبقات»، والاقتضاب الذي أرّخ به حضورهن في الواقع التاريخي. وحاولت دراسة اختبار هذا التجاهل أو الذكر، بتتبع سير النساء المتعبدات أو السالكات، في كتب التراجم، من خلال مخطوطة تعود إلى القرن الثامن الهجريّ لتقيّ الدين الحصنيّ الدمشقيّ، كشفت عن تاريخ المتصوّفات في الإسلام.
في التاريخ الحديث المعاصر سعت دراسة في الكتاب إلى توضيح التغيير الذي حدث في قيادة النساء الصوفيات للمجتمع، في تجارب أفريقية، فركّزت على أربع نساء شكلن قيادة روحية لبعض مسلمي نيجيريا والسنغال والجزائر وإريتريا؛ فقمن برعاية مقام «خلافةٍ» مجتمعية، في ظروف سياسية دقيقة، وسجلن حضوراً سياسياً قياديًا مؤثرًا وهنَّ: نانا أسماء بنت عثمان دان فوديو (1793-1864) والسخنة ماغات ديوب (Sokhna Magat Diop) (1917-2003)، والشيخة الجزائرية زينب القاسمي (1850-1904) والشريفة علوية الميرغني (1892-1940).
في تحليل حضور النساء داخل السلطة الدينية في روسيا، عرضت دراسة لشخصية القاضية مُخلِصَة بوبي (Mukhlisa Būbī ) (1869-1937) المنتَخَبة في 11 مايو (أيار) 1917، بعد أسبوعين من إزاحة القيصر نيكولاي الثاني (Nikolai II)، ضِمنَ «مؤتمر مسلمي كل روسيا» (All–Russia Muslim Congress)، فاُختِيرت لتكون قاضية شرعيّة في «الإدارة الروحية المركزية لمسلمي سيبيريا وروسيا الداخلية»، فشكّل هذا حدثًا متفرِّدًا في تاريخ مسلمي روسيا. تناولت الدراسة الأخيرة، حضور الواعظات الأزهريات ودورهن الإفتائي، اللواتي تلقين تدريباً مكثفًا لمخاطبة النساء بجميع فئاتهن وطبقاتهن، وركزت على المبادرات التي تقودها الدولة المصرية لدعم خطوات الأزهر الإصلاحية الراهنة.
خصصت قراءة الكتاب لـ«النسوية البوذية: تحويل الغضب ضد البطريركية» (Buddhist Feminism: Transforming Anger against Patriarchy) لمؤلفته سوكذان يينغ (Sokthan Yeng) الصادر عام 2020، والذي عكس مسارًا مثيرًا للدراسات النسوية، واقترحت مؤلفته تحليلات مختلفة لأشكال من النسوية البوذية، عن النسوية الآسيوية والبيضاء والأميركية والأفرو أميركية والآسيوية والإثنية وما بعد الكولونيالية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث، بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج منسقة الملف، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودها وفريق العمل.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي