يثير برنامج The Voice بنسخته العربية الجدل في معظم مواسمه، ولكنه اليوم تجاوز معظم الإشكاليات. السياق العربي مختلف عن سياقات النسخ الغربية من البرنامج، حيث اجتمع الوطن العربي، عبر النغمة الموسيقية وليس السياسة، فكان هناك أكثر من (20) دولة مشاركة، بينما تستقل البلدان الأخرى ببرنامجها الخاص بحسب حدودها الجغرافية وليس اللغة. وهنا كانت النسخ الغربية خالية من التأثير السياسي والجدل، حتى جاء هذا الموسم من البرنامج في فرنسا، فأطلّت الشابة منال ابتسام بصوت ملائكي ترتّل أغنية “هاليلويا” للمغني الكندي اليهودي ليونارد كوهين باللغة الإنجليزية. ما إنْ مرّت ثوانٍ حتى استدار، كما هو تقليد البرنامج، أحد الحكّام معلناً إعجابه بمنال، فشاهد الحكم ما شاهده ملايين المتابعين في بيوتهم: شابة محجبة بغطاء رأس عصري وعينين زرقاوين واسعتين تشعان براءة وطيبة. غنّت منال المقطع الثاني باللغة الفرنسية قبل أنْ تؤدي الدقيقة الأخيرة من الأغنية، مستخدمةً تعبير “يا إلهي”، باللغة العربية. عرف الحكّام والمشاهدون قطعاً ديانة المتسابقة، وهو أمر في بلد مثل فرنسا قد يكون مرفوضاً، حيث لا يرحّب بالرموز الدينية الشخصية بشكل عام، ولكن الجمهور رحّب بمنال، وفرح برسالة التسامح التي نقلتها عبر أوتار صوتها. ولكنها فرنسا، التي تلقّت ضربات قاسية خلال السنوات الماضية من الجماعات الإسلامية المتطرّفة، وهي فرنسا التي يكتسب فيها اليمين المتطرّف شعبية يوماً تلو يوم بسبب الإرهاب الذي تنفذه مجاميع باسم الإسلام، فما كان مستغرباً أنْ تثير منال حفيظة هذا اليمين، ولم يكن مفاجئاً سعيه لمحاربتها واعتبارها عالة أو نشازاً عن المجتمع الفرنسي، فنبشوا بتصريحات قديمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووجدوا ما يسرّهم: وقوع منال في الخطأ الذي يقع فيه عوام المسلمين في العالم، ولا سيما الأوروبيين منهم.
بعد هجمات نيس الدامية في يوليو 2016 والتي أوقعت أكثر من (80) قتيل، سارعت منال عبر منشور لها على موقع فيس بوك إلى السخرية، فقالت: “بالتأكيد سيحمل الجناة معهم هوياتهم لأنك حين تنفذ عملية إجرامية بهذا الحجم يجب ألّا تنسى هويتك.. لم تعودوا تخدعوننا”، في تلميح منها بتدبير الحكومة الفرنسية للعملية، ووضع هوياتٍ لشباب مسلمين زوراً لتحميلهم مسؤولية العملية. وبعد أقل من اسبوعين وقعت حادثة قتل الرهبان في مدينة نورماندي الفرنسية، فما كان من منال إلّا أن تكتب: “إن حكومتنا هي الإرهابية”.
تكثر العمليات المسلحة التي تستهدف المواطنين الآمنين في الغرب، ويقع ضحاياهم المئات من الأبرياء. تكثر مع العمليات أسباب ودوافع القتل، وهويات المجرمين، فيكون الدافع غامضاً وذا أبعادٍ نفسية غير مفهومة، كما في عمليات إطلاق النار على الجموع، والتي تقع غالباً في الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك دافع يفصح عن نفسه، فيدّعي الجهاد والقصاص من الكفّار والانتقام للمسلمين، وتكررت هذه الحوادث في فرنسا أكثر من أي دولة أوروبية ثانية. يختلف الكثير من أهل التخصص والعوام في تحديد أي من هذه العمليات تصنّف “إرهاباً، وتبرز أصواتٌ جماهيرية تميل إلى الشعبوية لتكذيب مصداقية هذه الحوادث وتحميل الحكومات والدول مسؤوليتها، أو اتهام تلك الحكومات بتلفيق قصص لغرض إشغال الإعلام والشارع وتمرير أجندة سياسية أو اقتصادية، وما جماعة 9/11 Truthers في أمريكا التي تكذّب أحداث سبتمبر (أيلول) الإرهابية، وتتهم الاستخبارات المركزية الأمريكية بتنفيذها، إلّا مثالٌ واحد. هذه الجماعة ليست دينية، ولا أيديولوجية، ولا مدافعة عن تنظيم القاعدة في اتهامها أمريكا نفسها بافتعال عملية خطف الطائرات ثم صدمها بالأبراج وقتل أكثر من (3000) مدني. هم مجموعة من الأمريكيين الذين لا يثقون بحكوماتهم، ويمتلكون سعة من حرية التعبير التي تتيح لهم نقل هذه الآراء الغريبة دون عواقب. إذن، ما الضرر أن يتّهم المسلمون الحكومات الغربية بالوقوف وراء الأعمال الإرهابية وتدبيرها؟
إنّ السياق في حالة الإرهاب المنفّذ باسم الجهاد والإسلام مختلفٌ، وهذا الفرق الهائل، وكيف يبدو من منظور الغرب، لا يزال أمراً لا يستوعبه العدد الهائل من المسلمين الذين يلجؤون فور وقوع حادث إرهابي إلى اتهّام الحكومات وأجهزة استخباراتها بافتعال العنف وتلبيسه ثوب التطرّف الإسلامي، لغرض تشويه صورة الإسلام أو لأغراض أخرى.
تأتي ردود الأفعال الأولية للمسلمين على هيئة اتخاذ الموقف المدافع، وكأن أسر الضحايا والإعلام والشارع العام المتخوّف والمفجوع تستهدفهم، وتتهم الإسلام بالمسؤولية إذا تأكّد وقوع التنظيمات المتطرفة مثل داعش أو القاعدة وراء العمليات، فيحاولون إيجاد ثغرات في القصة لاتهام الحكومة، أو أجهزة المخابرات، أو الموساد الإسرائيلي، أو أي طرف آخر غير الجماعات التي تتبنى العمليات برحابة صدر. ينبع هذا الموقف الدفاعي من عدّة تصورات، فهناك “إسلاموفوبيا” حقيقة منتشرة في الغرب، وهناك أعمال انتقامية تطال المسلمين في الغرب بعد كل حادثة إرهابية. التصوّر الثاني، وهو ما يراه الشارع العام في الغرب، هو إيمان حقيقي باستحالة قيام أي مسلم حقيقي بمثل هذا العمل الشنيع. ولما كان الموقف الدفاعي هذا يأتي –غالباً- قبل أن تجفّ دماء الضحايا على الأرصفة والطرق، وقبل أي تعبير حقيقي وصادق عن الأسف والحزن للأرواح التي زهقت، تكون ردود أفعال غير مسلمين غاضبة أو متضايقة، فالقتلى اليوم في باريس ونيس هم غربيون ومعظمهم من غير المسلمين، والحادثة وقعت في الغرب وليس الشرق الأوسط، والجناة هم مسلمون وليسوا يهوداً أو مسيحيين، وما وقع كان إرهاباً يستحق الإدانة والنكران، والصمت على أرواح الضحايا الحقيقيين الذين انتزعت منهم حياتهم على حين غفلة، وليس مسرحية حكومية تستهدف سمعة الإسلام.
ما كان من منال ابتسام بعد الضجة التي أحدثتها منشوراتها القديمة إلا أن تنسحب من برنامج The Voice وسط أسف الكثير من متابعيها، ولا يزال هناك من يتصوّر أنها استهدفت شخصياً بسبب دينها وحجابها الجريء، ولا يستوعب مدى الألم والجرح الذي تسببه تصريحات تبرئ –ولا تدافع- عن الإرهاب من غير قصد؛ لغرض كيل الاتهام للحكومات. لو صرّح غير مسلم بتصريحات مماثلة لواجه الضجة نفسها، ليس من اليمين المتطرّف ولكن من أسر الضحايا. ربما ما كان ليجد نفسه في موقف صعب لا يحلّهُ إلاّ الانسحاب من المسابقة الغنائية، لكنه كان سيضطر للاعتذار والالتماس. يستهدف اليمين المتطرّف المسلمين بالتأكيد، ولذا يسمّى “يمين متطرّف”، لم ينجح حتى الآن على الرغم من كثرة الإرهاب واتساع شعبيتهُ في إثبات أنه يمثل الرأي العام عبر صناديق الاقتراع.
يجدر التأكيد أنّ منال لا تمّت بصلة إلى التطرّف والهوية المسلمة المتزمتة، فحجابها حديث ولا يرضي المتشددين، ويتضح حبها للحياة عبر منشوراتها على موقع إنستغرام، حيث تعيش مثل أي شابة فرنسية بحرية وفرح. تغني حيثما استطاعت، وتمتّع المشاهدين بعزف جميل على البيانو في المقاهي والمطارات ومحطات القطار. يمكن القول: إنّ ملايين من الفتيات المسلمات في الشرق الأوسط قد يحسدنها على حياتها. كل ذنب منال أنّها أعطت رأياً خاطئاً في لحظة انفعالية، فتبنّت دور الخبير المحلل في فضائها الخاص في زمن يسجّل كل الزلّات، ولا تمحوها النقرة على “حذف”، حيث نسخها لا يستغرق ثواني.
هناك حكمة من لحظات الصمت التي نلتزم فيها للحداد على الأرواح، وعند وقوع المصائب يكون السكوت أفضل تعبير، خصوصاً مع الغموض الذي يحوم حول العمليات الإرهابية والأسئلة التي تصعب على كبار الخبراء والمحللين.
هل تعرضت منال ظلماً إلى الضغوطات لترك البرنامج؟ تبقى أسر الضحايا ومن كان شاهد عيان على فظائع هجمات نيس هم الحكم. إنّ التضامن مع الضحايا والوقوف مع أسرهم وإدانة الجاني حق جميع الدول على مواطنيها دون استثناء، وحين يبدو اليمين المتطرّف الذي يدعو صراحة إلى اقتلاع الإسلام أكثر تعاطفاً وإنسانيةً من شابة مرحة تعشق الألحان والسلام، فهذا لا شك إشارة إلى ضرورة مراجعة المسلمين كافة لكلماتهم.