يواصل كتاب المسبار الشهري «النقشبندية: النص، التاريخ، الأثر» (الكتاب الرابع والثلاثون بعد المئة، فبراير (شباط) 2018) دراسة الظاهرة الدينية وتشكلها عبر التّدين الجماعي والفردي، وتأثرها بالمحيط الثقافي، ثم تطورها وفقًا للزمان والمكان والرجال. ويختار الطريقة النقشبندية لتوضيح معاني التصوّف السّني، وهو واحد من أعمدة في الطرق الصوفيّة السنية اللاحقة لها، وقد عمّ تأثيرها النطاقين الآسيوي والأفريقي. ولا يزال حضورها السياسي والاجتماعي محط اهتمام الباحثين، كما استطاعت مبادئها في الذكر والتربية الروحية أن ترسخ قيمًا جديدة على الممارسة الصوفية.
تهتم الطرق الصوفيّة في بنائها المعرفي والسلوكي بالاتصال والسند الشفهي، والتربية الروحية، لذا جاء تناول أطوار النشأة الأولى للطريقة النقشبندية فاتحةً لدراسات الكتاب، مع التركيز على السند المزدوج لها، فهي تنسب الذِّكر الخفي إلى الصحابي أبي بكر الصديق، بينما تحافظ على السند العلوي في الذِّكر العلني، كما تفعل بقيّة الطرق الصوفية.
لقد كان للنقشبندية -كما تبين إحدى دراسات الكتاب- من القسمات والخصائص المائزة ما جعلها نمطًا فريدًا من التصوف السُّني؛ فالنقشبنديون أكثرُ تمركزًا حول الشريعة، وأوفرُ عنايةً بتحصيل علومها، وأعظمُ تشددًا في رعاية مبادئ المذهب السُّني والصدور عنه في القول والعمل، وأشدُ انفتاحًا على المجتمع، وحرصًا على الاتصال بدوائر الحكم والسياسة، ولهم قبل ذلك طريقةٌ خاصةٌ في التأمل والسلوك، فضلاً عن قاعدة شعبية متسعة، وإقبالٍ على الشأن العام والاشتباك مع تفاصيله ومفرداته على نحو وَسَمَها بطابع نضالي لا تخطئه عينُ القارئ البصير.
إن الحضور الآسيوي في النقشبندية جلب النفوذ السياسي في بلاد ما وراء النهر، خصوصاً أن الموقف الصوفي السلبي من السياسة انكسر في حالات جعلت مشايخ الطريقة النقشبندية يلعبون أدوارًا سياسية مهمة، تنقل فيها دور يوسف الهمذاني، وعبدالخالق الغجداوني، إلى أن يأتي الدور التأسيسي لمحمد بهاء الدين الذي هو عامود الطريقة، وواضع جانبٍ رئيسٍ من مبادئها. ثم المجددين للطريقة مثل الشيخ أحمد السرهندي. واعتنى الكتاب بتتبع التفاعل الثقافي في أنماط التلقين والتلقي والذكر والتعبد مع البيئة الهندية.
لا يمكن تفسير المفاهيم الصوفية الراهنة، وفكّ رموز لغة الذوق والشطح لكل المتصوفة من لدن الحسين بن منصور الحلاج، وأبي القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري، وعبدالقادر الجيلي أو الجيلاني، وأبي الحسن الشاذلي، وعبدالحق بن سبعين، وصولاً إلى متصوفة اليوم، دون الاستعانة بمخزون الطريقة النقشبندية في الشرح وأدبياتها الروحية التي سعت أن تصبح «المفسّر» و«الموضح» والجاذب لعالم الحقيقة ليوافق الشريعة.
وضمن مشروع دراسة التصوف والتدين الرسمي والموازي معًا، جاءت الإضاءة على حالة من حالات التصوّف السّني السلوكي؛ إذ تأتي النقشبندية حلقة وصل بين دائرة التصوف المولوي والمدرسة الأكبرية، لذلك كانت الشخصيات التي ربطت بين الطرق مثل عبدالرحمن الجامي، وعبدالغني النابلسي محط دراسة الكتاب.
تعددت تفرعات الطريقة النقشبندية تحت مسميات التجديد وغيره، لموافقة البيئة المحلية لكل مكان، فكانت الطريقة النقشبندية المجددية في الحجاز، في القرن السابع عشر، التي تركت تأثيرها في سيبيريا، علماً أن الإسلام قد دخل سيبيريا في فترة مبكرة نسبياً، عن طريق التجار التتار والبخاريين وبمناسبة حملات الأسلمة. ونادراً ما كان الصوفية غائبين بل لهم أيضاً نصيب في هداية الوثنيين إلى دين الإسلام وإنشاء المساجد والمدارس الإسلامية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لجميع المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلين خالد محمد عبده، وعمر البشير الترابي، اللذين نسقا العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهدهما وفريق العمل.
رئيس التحرير
فبراير (شباط) 2018