تقديم
يتناول كتاب مركز المسبار للدراسات والبحوث «انقلابات الإخوان التنظيمية: قطبية الفكر وبراغماتية السياسة» (الكتاب الثالث والثمانون بعد المئة، مارس (آذار) 2022) الانقسامات الإخوانية التي تصاعدت في العامين الأخيرين، والانقلابات التي بدأت منذ 2014 داخل الجماعة، فقيَّم حقيقتها، وناقش أسباب ظهورها، وعلاقتها بالصراع على مكاسب الشتات، وانتهى بملاحظة سيادة التيار القطبي المتطرّف على جناحي التنظيم.
فاتحة دراسات الكتاب، تناولت تاريخ الأزمات في الجماعة؛ وتتبعت محددات الخروج من التنظيم وتحوراته، عبر التمييز بين الانشقاق والانفصال والإقالة. عرّفت الدراسة المسميات المتعلقة بالأزمة الراهنة، سواء «لائحة 2009»، والأمانة العامة الملغاة في 2021، واللجنة الإدارية العليا التي شرعنها محمود عزت، والرابطة التي تشكلت في تركيا، بديلاً عن مكتب الإرشاد، ولجنة إدارة الجماعة التابعة لإبراهيم منير، منذ أغسطس (آب) 2021. وثّقت الدراسة لجوء الإخوان في أزمة لجنة محمد كمال العليا في 2015، لتحكيم الإخواني العراقي محمد أحمد الراشد، الذي انحاز لمحمود عزت، وزعم أن «الحق مع محمود عزت» وأن كل الإخوان ملزمون بطاعته وبيعته، مما يكشف تحجّر الفكر الإخواني عند مسائل البيعة، ورفض الوطنية. ولم تُنقَض أزمة كمال، سوى بموته وسط اتهامات إخوانية متبادلة بأنّه تم التخلص منه تنظيميًا.
تابعت الدراسة أزمة محمود حسين منذ سبتمبر (أيلول) 2021؛ والتي بدأت باعتقال محمود عزت، واستشعار إبراهيم منير؛ القائم بأعمال مرشد الإخوان، أن أمين الجماعة محمود حسين يتلاعب به، فألغى الأمانة العامة، وشكل لجنة لإدارة التنظيم؛ وحلّ المكتب الإداري لشؤون التنظيم بتركيا في يوليو (تموز) 2021، وفضح الفساد والمخالفات المالية والإدارية التي تطال محمود حسين وجماعته، وشكل لجنة إدارة في تركيا، وأجرى الطرفان انتخابات انتهت بخسارة جبهة حسين. فردت مجموعة حسين بفرض رجالها الإعلاميين الذين أعلنوا إعفاء منير من منصبه، ورفضوا تسليم الموقع الرسمي للجماعة «إخوان أون لاين».
انهارت بالخلاف المقولات الكبرى للتنظيم المحترف، وانجرفت معها الثقة القاعدية في القيادة الإخوانية، وتبددت مزاعم الأخوة، وانفضح وهم التجرّد وبان الفساد.
في الحركات المتطرّفة؛ لا يستطيع تيارٌ هزيمة خصومه إلا باحتكار التصلّب في التنظيم، والمغالاة في التطرف فكريًا وعقائديًا. من هذا المنطلق، فَرض المنهج القطبي نفسه على تيارات الإسلاموية السياسية والعنفية، خصوصًا مع انقضاء مرحلة «صبره الاستراتيجي» الذي تخفى فيه. فبعد عقود من النقد الناعم للتيار، أُعيد تركيب أفكاره، وتظهير شخوصه ليكونوا في قيادة مرحلة المواجهة، وجرى بثّ أفكار مؤسسه، وإلباسها ثياباً جديدة، بأسماء «المقاومة» و«الحقوق»، تولّد عنها جماعات عنفية مثل «حركة حسم» (2015)، ولواء «الثورة»، وغيرهما.
ولئن أدت المنافسة في التطرف إلى خلاف داخل المتطرفين، وانقسمت الجماعة إلى قسمين، بمتحدثين رسميين، وموقعين إلكترونيين، فإنهما حافظا على الجذر القطبي العنفي التكفيري للدولة والمجتمع.
يشير الباحث ماهر فرغلي، إلى أن رأس الجماعة نفسه؛ أعاد تعريف السلميّة على أنها «ما دون القتل»! وأصدرت الجماعة كتاب «فقه المقاومة الشعبية» الذي عُدّ بمثابة تأسيس جديد لعنف الجماعة، دمجت فيه أفكار دفع الصائل، وأدبيات التثوير العنفي، وكراهية مؤسسات الدولة. لقد أدى انهيار الخطط الإخوانية أمام يقظة الدولة، إلى التفكير في كمونٍ قطبي استراتيجي في العام 2021، يستهدف إنشاء عمل مسلح ينطلق من خارج مصر، حسبما أعلن قيادي في الجناح المسلح عام 2021.
تتبع الباحث والمفكر محمد البشاري، الانقسامات الإخوانية المتتابعة في الأردن والجزائر وليبيا وتونس والسودان. وطرحت دراسته تأثير انقسامات الحركة الأم، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، على فروعها الخارجية في الدول العربية وأوروبا، ورأت أن هشاشة المركز وتصدع الفروع الأخرى سوف يؤديان إلى تقوية التيارات المتطرفة فكريًا، وتفعيل التقية السياسية والنهج البراغماتي؛ وباسم حرية التعبير سوف تتسع مساحات المناورة بين الدعوي والسياسي.
في شهادة من الداخل، نقلت دراسة المناهج التربوية الجديدة المعتمدة في الجماعة، فدرست عملية التجنيد، وصناعة الفرد داخلها، من خلال طريقة اختياره، باستهداف المرحلة العمرية بين (10-21) سنة، وإغراقه بالأنشطة والجلسات التربوية الأسبوعية، التي تحرص الجماعة على تمتينها لإحاطة أفرادها بسياج يعزلهم عن المجتمع، حتى تستطيع تشكيل شخصيتهم، ثم بالتعرف على المناهج التربوية التي تُلقَّن، والقناعات التي تُرسَّخ، فتتبعت الدراسة المراحل الزمنية المختلفة للتعبئة الإسلاموية الإخوانية، فعرضت المناهج التربوية قبل وصول الجماعة للسلطة عام 2013، حيث اعتمدت في الخمسينيات حتى السبعينيات على تفسيرات سيد قطب لبعض السور القرآنية، وكتب المودودي المترجمة. وفي بداية القرن الجاري كانت كتب مبادئ الإسلام للمحب، ورحاب الإسلام للمؤيد، ونور الإسلام للمبايع. وبعد سقوط حكم الإخوان بعد «ثورة يونيو»، عدّلت الجماعة في الكتيبات التربوية، وزعم الباحث أنه «حصل على أنموذج لجزء من منهج شهري»، وبتحليله وجد أنه يتضمن بعض الفقرات من تفسير سورة القلم، مأخوذ بتصرف من تفسير «الظلال» لقطب، وتمجيد لأدب المحنة والسجون وغيرها. وركزت الدراسة على آليات التربية العسكرية للأفراد بعد سقوط الجماعة، وتبنت إصدارة: «فقه المقاومة الشعبية»، توصيفات متطرفة تتبنى شرعنة داعشية للعنف، تستحل دماء رجال القانون. وقامت إدارة «التدريب» بتنظيم عمليات تدريبية، لتعميق شرعنة العنف، كان الخلاف في درجة العنف، وأسلوب إدارة الجماعة واضحًا، ولكنّ الاتفاق بين أجنحتها على وهم أن أفكار الجماعة هي الدين ذاته.
تطرق الكتاب إلى إعلام التنظيم الإخواني، وتأثره بالانقسامات المزعومة (2013-2021)، فدرس أدواته وأشكاله وتحوراته الإعلامية على مستوى خطاب الذات والآخر، وما مر به من إعادة هيكلة تستهدف تسهيل عمله في الخارج، وتحالفاته المؤقتة وتوفير واجهة لحركة المال وتوجيه الموارد المالية إلى خارج مصر، تُمكِّن التنظيم من بناء غرف تستهدف فكرة الدولة، وتثير السخط، وتحاول تجنيد الناشئة.
عُرِفَ الإخوان قبل ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013 بلسانين: الغربي يخاطب قيم المجتمع الدولي الحقوقية، والعربي يستثير العواطف الدينية ويزايد عليها؛ أما بعد ذلك، فيفترض الباحث أن الجماعة اعتمدت استراتيجية «يد تقتل وأخرى تستنكر»، ففصّلت الدراسة حول الحرب النفسية، ملاحظةً أن الجماعة تحتاج إلى قنوات إعلامية رديفة تستوعب هجرة الهاربين من تركيا.
حاولت دراسة كشف توظيف الإخوان لقضايا حقوق الإنسان وتسييسها؛ واستغلال تحفيز القوى الأجنبية على مهاجمة الدول الوطنية وانتهاك سيادتها، فأنشات الجماعة المنظمات الحقوقية المؤقتة؛ وتواصلت مع المنظمات الحقوقية العالمية، وتبنت خطابًا انتقائيًا، قصر الحقوق في تصورها على «الحقوق السياسية». قدمت الدراسة إحصائيات كشفت ضعف التدقيق والتثبت في صدقية معلومات الجماعات الحقوقية، وتبنيها منهجاً مختلطًا. وضربت المثال بقضية «عمر الديب» الذي أعلنت الجماعة اختفاءه لمزاعم سياسية في مصر، ثم ما لبث أن ظهر في صفوف تنظيم داعش! لاحظ الباحث أن المنظمات الحقوقية الإخوانية «لم تخرج خلال التعرض لقضايا حقوق المرأة عن السياقات السياسية». مفسرًا توظيف الإخوان للمفاهيم الحقوقية لتوسيع مجال المناورة البراغماتية، مستفيدين من احتواء الجذر الإخواني على تناقضات تترك بلا حل، وتعيد تنظيميًا خلق دعاة جدد بأسماء متنوعة مثل «التأسيس الثالث»، و»الطريق الثالث»، و»الإسلاموية الديمقراطية»، والتوفيق بين الحقوق والإلزامات، حتى إنّ الجماعة في سبيل الدعاية للمستقبل والتنافس عليه تزعم أنها تجاوزت الإخوان!
طرح الباحث حسين القاضي، دور الأزهر الشريف في التصدي للتمدد الإخواني، إذ ظلت الجماعة تعمل منذ نشأتها على تحطيم مرجعية الأزهر؛ ورجل الدين التقليدي. تناولت الدراسة «محاولات الاختراق الإخوانية للحصون الأزهرية»، وأشارت إلى ريادة الأزهر في مواجهة الفكر الإرهابي؛ عبر مؤتمر الأزهر العالمي، ولكنّ الباحث ألمح لعدم إشارة المؤتمر للإخوان بتصريحٍ، وتركيزه على ملاحقة الأكاذيب الداعشية كما فعل في المرصد، إلا أنّه وثّق ربط الأزهر بين تنظيم الإخوان وداعش في بيانين: الأول، يوم 27 أغسطس (آب) 2017، والثاني في 23 فبراير (شباط) 2019. كما ركزت على الجهود التي بذلها الأزهر للحد من نفوذ الجماعة، والنهوض بأدوار في مجال رفع الوعي حول مخاطر الخطاب المتطرف الذي تروج له الإسلاموية، خصوصاً الجهود المميزة لفضيلة الشيخ الدكتور علي جمعة؛ الذي توجها بكتاب «حكاية الإرهاب»، وقام فيه بتحليل شخصية سيد قطب ومسيرة التحولات في حياته، والخلل الفكري في تفسير «ظلال القرآن».
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث، بالشكر لكل فريق العمل، والباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل ماهر فرغلي الذي نسق العدد، والباحث والمفكر السعودي الزميل فهد الشقيران، الذي أشرف على العدد.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
مارس (آذار) 2022