أفاق العالم على خبر قيام السلطات الأمنية الألمانية بحملة اعتقالات واسعة طالت حتى الآن أكثر من (50) شخصاً، بتهمة التخطيط لـ”انقلاب” على النظام السياسي الألماني، من قبل مجموعة تسمي نفسها «حركة مواطنو الرايخ». الكلمة الألمانية رايخ (Reich) تعني «الإمبراطورية».
اعتبر البعض أن هذا الحادث دليلا على صحة مزاعم القائلين بتراجع الديمقراطيات الغربية، وعودة شيوع الأفكار اليمينية المتطرفة، والحنين لزمن الإمبراطوريات الكلاسيكية. بينما ادعى فريق آخر أن “قوة” الديمقراطية الغربية جلبت حاسدين وحاقدين عليها نظرًا لما حققته من إنجازات، ومن الطبيعي أن يسعى هؤلاء “الحاسدون” لتدميرها من الداخل عبر استخدام القوى “المتطرفة”.
التفاصيل كـ”المؤامرة”
صباح يوم الأربعاء 7 ديسمبر (كانون الأول)، أعلنت السلطات الأمنية الألمانية، إلقاء القبض على (25) شخصاً متورطاً في “مؤامرة” انقلابية. بحسب مكتب المدعي العام، كانت هذه المجموعة: “تستعد للإطاحة بالحكومة الألمانية الحالية عبر استخدام العنف، وتنصيب أمير حاكمًا للبلاد“. وقال ممثلو الادعاء: إن المجموعة استلهمت أفكارها من “نظريات الدولة العميقة من حركة مواطني الرايخ الألمانية، وحركة كيو أنون الأميركية، الذين كان مناصروهما من بين أولئك الذين اعتقلوا بعد اقتحام مبنى الكابيتول الأميركي في يناير (كانون الثاني) 2021”.
بينما صرح رئيس الشرطة الجنائية الألمانية (BKA)، هولغر مونش (Holger Münch)، بأنه تم العثور على شخصين آخرين متصلين بالمؤامرة المناهضة للحكومة، وبذلك يصل العدد الإجمالي للمشتبه بهم إلى (54)، ويمكن أن يستمر عدد المشتبه بهم في الازدياد. وقال مونش: إنه تم “التعرف” على أشخاص آخرين وإن الشرطة تعمل على تحديد وضعهم فيما يتعلق بالشبكة. ثم أضاف: “لدينا مزيج خطير من المتورطين في المؤامرة، بعضهم لديه الكثير من المال والبعض الآخر أسلحة، مع خطة يريدون تنفيذها”. وهذا يجعل الأمر خطيرًا ولهذا السبب تدخلنا الآن ووضعنا علامة “قف” واضحة. كما أفادت التقارير بأن عملية البحث يوم الأربعاء غطت (150) عقارًا في (11) ولاية ألمانية. وقال مونش، مساء الأربعاء: “إنه تم العثور على أسلحة في أكثر من (50) عقارًا تم تفتيشها ترتبط بشبكة (حركة مواطنو الرايخ) المتطرفة، وهي جماعة غير مترابطة ودعت إلى حل الدولة والحكومة الألمانية”.
وقال وزير داخلية ولاية تورينغن الألمانية، جورج ماير (Georg Maier)، لمحطة دي إل إف (DLF) يوم الخميس: إن المزيد من الاعتقالات كانت: “متوقعة” بعد أن أصبح لدى الشرطة الوقت لمعالجة وتحليل الأدلة التي تم الاستيلاء عليها خلال المداهمات، بما في ذلك الهواتف المحمولة. يتمتع المشهد اليميني المتطرف في ألمانيا بحضور قوي في الولاية الشرقية، التي تضم نزلًا للصيد مملوكًا للأمير هاينريش الثالث عشر، القائد المزعوم للانقلاب، والذي أصبح الآن مسرحًا للتحقيق. وأضاف ماير، أن حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) اليميني المتطرف قد وفر منتدى للخطاب المناهض للحكومة في تورينغن وأماكن أخرى. مؤكدًا: “أن حزب البديل من أجل ألمانيا، أصبح أكثر تطرفًا، وينشر خيالات المؤامرة وأوهام إمكانية الإطاحة بالحكومة”، ويجري بالفعل مراقبة حزب البديل من أجل ألمانيا في تورينغن، بحثا عن أنشطة “مناهضة للدستور” مشتبه بها.
كان مدبرو المؤامرة المزعومة، يهدفون -وفق تحقيقات الشرطة- لتأسيس دولة ألمانيا على غرار نموذج الدولة الألمانية لعام 1871، أو ما تسمى «الرايخ الثاني».
من هو القائد المزعوم للمؤامرة؟
قائد التحرك هو الأمير هاينريش الثالث عشر، من مواليد بلدة بودينغن الألمانية، عام 1951، وينتمي إلى عائلة «آل رويس» النبيلة، التي حكمت عدة مقاطعات ألمانية في غيرا ومنطقة تورينغن في شرق ألمانيا من (1700-1918). وقد أصدرت العائلة بياناً عبر راديو وسط ألمانيا (MDR)، أكدت فيه: “عدم وجود علاقة لها بهذه المحاولة، ورفضها لتصرفات الأمير”. عُرف عن الأمير: “اهتمامه بنظريات المؤامرة والميول المعادية للسامية”، وقد ألقى في يناير (كانون الثاني) 2019، محاضرة في منصة (WorldWebForum) في زيورخ، بسويسرا، بعنوان “تجربة صعود وسقوط النخب من ذوات الدم الأزرق”. في الخطاب الذي استمر (15) دقيقة “انتقد عائلة روتشيلد، وادعى أن الحرب العالمية الأولى فُرضت على القيصر الألماني من خلال أصحاب المصالح المالية الدولية”، ملمحًا لدور اليهود في هذا السقوط، وأن “ألمانيا الديمقراطية الحديثة مجرد وهم”. يملك الأمير عدة شركات من مجال التطوير العقاري، ولديه ثروة من هذا النشاط، وساهم في ترميم قبور العديد من النبلاء المنتمين إلى عائلته.
المتورطون والتحقيقات
حسب نتائج التحقيقات المعلنة من الجانب الألماني، أبرز المتورطين هم: القاضية وعضو البرلمان السابق عن حزب البديل من أجل ألمانيا، بيرغيت مالزاك فينكمان (Birgit Malsack-Winkemann)، والضابط السابق في الجيش الألماني روديغر فون بيسكاتور (Rüdiger von Pescatore)، بجانب مجموعة من ضباط الشرطة والجيوش السابقين، ورجال أعمال، وموظفون في الدولة، وأرستقراطيون.
حركة مواطنو الرايخ
تُعرف مؤسسة كونراد أديناور الألمانية (Konrad-Adenauer-Stiftung) حركة مواطنو الرايخ (Reichsbürgerbewegung)، على أنها: “مجموعة من الأفراد والجماعات والمنظمات الذين يعتقدون أن جمهورية ألمانيا الاتحادية، دولة غير شرعية، وضرورة إعادة إحياء (الرايخ الألماني) بمناطقه الحدودية السابقة كونه الشكل القانوني الوحيد للدولة الألمانية”. لا تعتبر هذه الحركة كياناً واحداً مؤسسياً، بل “فكرة” ينطوي تحتها العديد من الجماعات المتنافسة، التي تدعي كل منها “الشرعية”، ولكنهم متفقون جميعًا على هدف واحد.
بحسب عالم الاجتماع السياسي الألماني، أرمين فاهل تراوغبر (Armin Pfahl-Traughber)، تعتمد استراتيجية هذه الحركات، على “إثارة سخط المجتمع”، تجاه الحكومات الألمانية المتعاقبة، والقيام بـ”أعمال العنف من أجل تحقيق أهداف شخصية وسياسية”. كما تنشط بين الجماهير عبر المؤتمرات ووسائل التواصل الاجتماعي، لإثارة الحنين إلى الماضي، من خلال وثائق مزعومة مثل “رخص قيادة الرايخ” أو “بطاقات هوية الرايخ”. كما أنهم لا يقرون بالقوانين والأنظمة واللوائح الألمانية، ويحضوا أتباعهم على عدم دفع الضرائب للدولة؛ كونها “كياناً غير شرعي”. بالإضافة إلى ذلك، يرفضون كل ما هو أجنبي، وباسم “الحفاظ على القيم الألمانية” يناهضون الأجانب في البلاد. سبق وأن أرسلت هذه الجماعات، رسائل تهديد إلى الجاليات اليهودية والمسلمة تخبرهم بضرورة مغادرة البلاد، رافعين شعار “ألمانيا للألمان”. كذلك هاجموا في عدة مرات رجال الشرطة ووكالات إنفاذ القانون، كما حدث عام 2016.
هل الانقلاب اليميني المتطرف ممكن في ألمانيا؟
تحت هذا العنوان، ناقشت الباحثة الألمانية ليزا هانيل (Lisa Hänel)، ومجموعة من الباحثين والسياسيين الألمان، حول ظاهرة تنامي التيارات اليمينية المتطرفة في ألمانيا، برغم مرور أكثر من (75) عامًا من حكم الدستور، والديمقراطية، والهياكل القانونية الراسخة، والفصل بين السلطات. قال أندرياس زيك (Andreas Zick)، رئيس معهد البحوث حول الصراع والعنف في جامعة بيليفيلد: “برغم خطورة هذه الظاهرة، فإن الدفاع عن الدولة ممكن، فالأغلبية المطلقة من المواطنين لا يعتبرون ديمقراطيين فحسب، بل يجدون أيضًا الديمقراطية تستحق الحماية”.
كما أكد تيمو راينفرانك (Timo Reinfrank)، المدير التنفيذي لمؤسسة أماديو أنطونيو، التي تهدف إلى تعزيز المجتمع المدني ضد التطرف اليميني، أن: “الانقلاب الحقيقي لا يمكن أن ينجح في ألمانيا، في ظل وجود نظام للدولة ودستور صلبين للغاية”. ومع ذلك، حذر محللون سياسيون هذا الأسبوع من الاستهانة بالمجموعة التي تم القبض عليها، والمشهد المتشدد المرتبط بها. وحذر سيباستيان فيدلر (Sebastian Fiedler)، المتحدث باسم سياسة العدالة الجنائية في الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني (SPD)، من أن المجموعة “خطيرة للغاية”. بينما يقول خبير الإرهاب بيتر ر. نيومان (Peter R. Neumann): إن «حركة مواطنو الرايخ»، ككل: “قادرة وراغبة في تنفيذ هجمات إرهابية خطيرة ضد الدولة، والقاسم المشترك بين جماعاتها المختلفة هو رفضهم للدولة الديمقراطية، على الرغم من أنهم ليسوا جميعًا شخصيات على هامش المجتمع أو متطرفين يمينيين”.
لتحليل هذا الظاهرة، قال عالم النفس الاجتماعي أندرياس زيك (Andreas Zick): “إنهم مجموعات متعلمة، وأغلبهم يعملون في مهن جيدة، يرغبون أن يصبحوا في صدارة المشهد، وبناء مجتمع موازٍ لهم. على مدى عدة سنوات كانوا قادرين على تطوير بيئة متماسكة وصياغة تحالفات مع مجموعات أخرى”. يحذر عالم الاجتماع، من أن الكثير من الناس: “توحدهم مجموعة مختلفة من الأفكار الأيديولوجية الخطيرة، حيث يعتقد البعض منهم أن هناك دولة داخل الدولة تعمل في الخفاء، ويؤيدون نظريات المؤامرة المعادية للسامية”. وأوضح زيك أنه: “من الأمور الأساسية في هذا أيضًا أن العديد من الجماعات تطالب فعليًا بالإطاحة بالنظام، لأنها لا تعترف بشكل الحكومة الحالية وجوهرها الديمقراطي”. كما خلص العديد من الخبراء إلى أن جائحة (كوفيد-19)، والاحتجاجات المرتبطة بها على وجه الخصوص: “قد ساهمت في تطرف المشهد، وزعزعت لدى بعض الناس الثقة في الدولة، وأصبحوا متقبلين للنضالات المتصورة من أجل الحرية والمطالبة بإقامة دولة بديلة”.
قال زيك: “لقد جمعت احتجاجات فيروس كورونا مجموعات مختلفة من وسط الطبقة الوسطى والشعبوية اليمينية والتطرف اليميني وأصحاب نظرية المؤامرة، وغيرها من الأوساط حول أيديولوجيات المقاومة والحرية”. بينما أوضح فيدلر: “أن سلطات الدولة والسياسيين الآن يفهمون جيدًا كيف يعمل التطرف اليميني والإسلاموي، ووضعوا برامج لإزالة التطرف وفقًا لذلك. لكنهم لم يبدؤوا بعد في اتخاذ إجراءات للتعامل مع أساطير المؤامرة”. كما دعا زيك إلى: “تحليل آراء هذه الجماعات لوضع خطة وقائية”. حيث يبدو وضع خطة وقائية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى: “الأزمات على وجه التحديد في عالم معقد يمكن أن تدفع الناس بعيدًا عن الديمقراطية، والتي قد تبدو أحيانًا مملة ومعقدة، ليتبنوا التفسيرات البسيطة التي تجعل أساطير المؤامرة جذابة للغاية”. وحذر زيك من أن “التطرف -على وجه الخصوص- يتغير وخاصةً في أوقات الأزمات. ولأننا: “نميل إلى التركيز على غالبية الناس، لكن الجماعات الصغيرة مثل الخلايا الإرهابية هي التي يمكن أن تجعل الدولة غير مستقرة”.
الخاتمة
من السخرية القول: إن استخدام حلم إعادة إحياء «الرايخ الثاني» أو “الإمبراطورية الألمانية”، هو الحلم نفسه غير القابل للتحقيق، الذي تروج له الجماعات الإسلاموية باسم “الخلافة”، أو أن كلا الطرفين يرفضان الحدود القائمة بين الدول، ويدعون للعنف والإرهاب لتحقيق هذا الهدف، ولكنها سخرية واقعية! وربما ينبغي، لمن أراد الحفاظ على فكرة الدولة، التركيز عليه في المشاريع الفكرية المشتركة بين مراكز الأبحاث العربية ونظيرتها الغربية.