لم تعد مهددات السلم والأمن قاصرة على الحروب والمواجهات العسكرية، بل أصبح هناك أبعاد غير تقليدية مهددة لاستقرار الدول، يأتي في مقدمتها خطر الأمراض والأوبئة. فمع انتشار فيروس كورونا أواخر عام 2019 وصولًا إلى المتحور أوميكرون، عانى العالم بإثره أزمات متعددة المستويات، وكان للقارة الأفريقية النصيب الأوفر من المعاناة.
فأفريقيا تواجه على مدار عقود متلازمة الإرهاب والأوبئة، فلا تكاد تنتهي من تفشي وباء حتى يعقبه آخر، بدءًا من الحصبة والكوليرا ونقص المناعة المكتسبة والإيبولا، وصولًا إلى فيروس كورونا والمتحور الأخطر منه أوميكرون، وذلك بالتزامن مع مواجهتها خطر الإرهاب المستشري في كل أقاليم القارة، ومن المفارقة أن كورونا والإرهاب يتميزان بدرجة عالية من السيولة، من حيث سهولة الانتشار والانتقال من قطر لآخر.
من هنا نكون بصدد تساؤل رئيس: فهل ستستغل التنظيمات الإرهابية انشغال السلطات بمواجهة الفيروس، وتسرع من وتيرة عملياتها الإرهابية، أم سيكون الفيروس بمثابة معرقل لها يؤدي إلى تقلص نشاطاتها لحين السيطرة عليه؟
أولاـ انتشار الفيروس وأبرز عوامل القلق:
تتجاوز خطورة التهديدات البيولوجية ما تخلفه الحروب والمواجهات العسكرية التقليدية من آثار، وبرز ذلك عبر جائحة كورونا التي هددت العالم منذ أواخر عام 2019 حتى الآن، وبالرغم من المحاولات العالمية الحثيثة لاحتوائها، فإن الوضع لا ينذر بذلك لا سيما مع المتحورات الناتجة عن الفيروس، والتي كان آخرها المتحور أوميكرون بعدما ظهرت أولى حالاته في دولة جنوب أفريقيا نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
من هنا تثار علامة استفهام حول مآلات انتشار الفيروس، وتأثيراته الأمنية على دول القارة، لا سيما في ظل هشاشة الأوضاع الصحية بالتزامن مع انتشار التنظيمات الإرهابية.
ففي تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية ورد فيه زيادة كبيرة في معدلات الإصابة بالمتحور الجديد، لتشمل (63) دولة من بينها عدد من الدول الأفريقية (جنوب أفريقيا وناميبيا وزيمبابوي وبوتسوانا وليسوتو وإسواتيني وموزمبيق وغانا ونيجيريا)، في حين مثلت دولتا بوتسوانا وجنوب أفريقيا (62%) من إجمالي الحالات المبلغ عنها عالميًا، بينما كشف وزير الصحة الجنوب أفريقي جو فاهلا عن ارتفاع إجمالي الحالات المسجلة بنسبة (307%) وذلك بالتزامن مع استمرار الارتفاع في معدلات الإصابة بفيروس كورونا[1].
بناءً على ما سبق يبدو أن الانتشار الوبائي الجديد وما سيخلفه من تداعيات ستكون أكثر خطورة من الانتشار الوبائي لـ(كوفيد -19)، فالمتحور الجديد أسرع انتشارًا، وتحتل القارة الأفريقية المعدلات الأعلى بين المناطق الأكثر انتشارًا، ويصعد من تأزم الوضع ما تعانيه القارة من أزمات بنيوية في قطاعات الصحة، وعدم امتلاكها نظماً صحية قوية، إلى جانب الأوضاع الإنسانية والبيئية الهشة التي من شأنها أن تعزز من تحويل القارة إلى مركز لتفشي الأوبئة، وفيما يلي يمكن إبراز أسباب القلق إزاء المتحور الجديد.
1ـ ضعف القطاعات الصحية: يؤدي ضعف القطاعات الصحية لغالبية الدول الأفريقية وهجرة الكوادر الطبية للخارج، مع محدودية الموارد المالية، إلى صعوبة احتواء الأمراض المنتشرة، ووفقًا لمؤشر الاستجابة للأمراض المعدية خلال عام 2016 بعد تفشي وباء إيبولا تصدرت الدول الأفريقية نتائج المؤشر، حيث كان من بين الـ(25) دولة الأكثر ضعفًا (22) دولة أفريقية[2].
ووفقًا لتقرير صادر عن اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، فالقارة الأفريقية تواجه معضلة حقيقية في قطاعها الطبي، وتحتاج إلى قرابة (11) مليار دولار من الزيادات غير المتوقعة في الإنفاق على الصحة، وأشار أيضا إلى أنه بالرغم من تمثيل سكان القارة لنحو (16%) من إجمالي سكان العالم، فإنهم يحصلون فقط على (1%) من الإنفاق العالمي على الرعاية الصحية[3].
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، تواجه الدول الأفريقية نقصًا واضحًا في أعداد أجهزة التنفس الصناعي المتاحة، وذلك بإجمالي ألفي جهاز تنفس في (41) دولة، ومما يزيد الوضع خطورة فشل بعض الدول في احتواء أمراض أخرى، حيث يعاني (7) ملايين من سكان جنوب القارة من مرض نقص المناعة المكتسبة، علاوة على أمراض أخرى كالملاريا والكوليرا، وهم المرضى الذين سيكونون على رأس ضحايا كورونا ومتحوراته[4].
وهناك شواهد توضح أبرز الكوارث الإنسانية التي تعرض لها سكان دول القارة نتيجة تفشي الأمراض المعدية، فنجد أنه خلال عامي 2014 و2015 بعد تفشي وباء إيبولا، خسرت ليبيريا أكثر من عشر العاملين في قطاع الصحة بعد إصابتهم بالفيروس، في حين وجهت غينيا (50%) من ميزانية وزارة الصحة لاحتواء الفيروس، لكنها لما تفلح في ذلك، بينما حصد الفيروس أرواح العديد من العاملين في القطاع الطبي هناك[5].
2ـ عدم الشفافية: من المصادر التي تبعث على القلق عدم شفافية بعض الدول في التصريح عن الحالات المصابة، وهو ما سيشكل تحدياً أمام محاولة احتواء بؤرة المرض، بل سيساعد في انتشاره بين الأفراد وعبر الحدود، حتى إن الدول التي تعلن عن حالاتها لا تمتلك نظم فحص فعالة، وفي ظل اعتلاء الدول الأفريقية قائمة الدول المصابة بالمتحور الجديد، فإننا نكون بصدد كارثة إنسانية، بل قنبلة موقوتة ستصيب العالم ككل وليس دول القارة فقط.
3ـ كوارث طبيعية:
يعزز من صعوبة الأزمة التوقيت الصعب الذي تمر به دول القارة، لا سيما مع تعرضها لكوارث طبيعية على مدار عام 2019 أثرت بشكل كبير في الناتج القومي، الأمر الذي سيكون له تأثير سلبي على توفير الإمكانيات المادية للقيام بالتجهيزات الطبية، واتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة الفيروس، فعلى سبيل المثال تعرضت دولتا زامبيا وزيمبابوي لأسوأ موجة جفاف منذ عام 1981، في حين تعرضت موزمبيق لموجة من الأعاصير التي أثرت على الإنتاج الزراعي وخلفت آلاف الخسائر، بينما تعرضت غالبية دول شرق أوروبا لأسراب من الجراد التي دمرت المحاصيل الزراعية للإقليم، وهددت الأمن الغذائي لدوله[6]، كل ما سبق ينعكس بالسلب على الناتج القومي والموازنات العامة للدول، ومن ثم التأثير على قدرة الدول الأفريقية في تطوير قطاعها الطبي.
4ـ موروثات سلبية:
تشتهر بعض القبائل في أفريقيا بإصرارها على طقوس تقوم على أساس التجمعات الكبيرة في مواسم معينة، بل هناك بعض القبائل التي تتبنى حياة الأسرة الواحدة، حيث المأكل والمشرب الواحد، كما يحدث في بعض قبائل الجنوب الأفريقي مثل: زامبيا، وزيمبابوي، وليسوتو، في حين لم تبادر تلك القبائل في إلغاء تلك المراسم مؤقتًا لحين انتهاء الجائحة، وهو الأمر الذي سيؤدي -بدوره- إلى انتشار الوباء بشكل سريع، فعلى سبيل المثال نجد في الفترة من بداية أبريل (نيسان) 2020 بلغت أعداد الإصابة بفيروس كورونا حوالي (570) حالة، وبالوصول لأواخر الشهر ذاته، تضاعفت الأعداد لتصل إلى أكثر من سبعة آلاف، في حين زادت أعداد الوفيات أيضا من (205) إلى (534)[7].
5ـ التوترات الأمنية:
تشكل التوترات الأمنية والأزمات السياسية السمة الأبرز لدول أفريقيا جنوب الصحراء، وهو الأمر الذي ينجم عنه إما لجوء خارج البلاد، أو نزوح داخل المناطق الأقل خطرًا، حيث تضم دول أفريقيا جنوب الصحراء أكثر من (26%) من إجمالي اللاجئين في العالم، ومن ثم تصبح أماكن تجمع هؤلاء بؤرة نشطة لانتشار الفيروس، فعلى سبيل المثال نجد أن التوترات الأمنية التي اجتاحت نيجيريا بفعل الأنشطة الإرهابية لجماعة بوكوحرام، أسفرت عن نزوح سبعة ملايين[8].
ومن ناحية أخرى فإن حالة العجز السياسي، وفشل تلك الدول في فرض سيطرتها إلى جانب افتقارها للموارد والإمكانيات، وهروب العمالة الماهرة والكوادر العلمية خارج البلاد، أو حتى فرار الأطباء والممرضين داخل البلاد من مناطق الصراع، كل ذلك يؤدي إلى تفاقم الأزمة وتردي الأوضاع الإنسانية، بما يعود بالسلب على قدرة البلاد في احتواء الجائحة الأخيرة.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يحدث شمال موزمبيق، حيث استيلاء داعش على أقاليم رئيسة، وكذلك الأوضاع الشمالية في بوركينا فاسو ومنطقة الأنجلوفون الكاميرونية والأوضاع المتردية جنوب الصومال، فوفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي تمتلك القارة الأفريقية (23) صراعاً من جملة (41) على مستوى العالم، أي ما يمثل (56%) من إجمالي الصراعات العالمية، وبطبيعة الحال تصبح تلك الدول بيئة خصبة لانتشار الفيروس وتناميه[9].
ثانيًاـ تأثير انتشار أوميكرون:
هناك عدد من الأدبيات والدراسات التي قامت ببلورة اتجاهات جديدة، تربط بين الأزمات الداخلية للدول وعلاقتها بالمتغيرات الطبيعية غير التقليدية كالتغيرات المناخية، ومعدلات الأمن المائي والغذائي، كذلك الأمراض والأوبئة، فعلى مدار العام الماضي منذ انتشار فيروس كورونا عانت اقتصاديات الدول الكبرى من أزمات بالغة، في حين أضحت الدول الأفريقية في وضع لا تحسد عليه؛ نظرًا لخصوصية نموذجها المعتمد بشكل رئيس على الدعم الخارجي، لتأتي جائحة كورونا والمتحورات الناتجة عنها كأوميكرون، لتتسبب في مزيد من التغيرات التي يمكن إبرازها على النحو التالي:
1ـ التأثيرات السياسية:
- على المستوى المحلي: تعانى الدول الأفريقية أزمات سياسية متجذرة، تتمثل أبرزها في معضلة الاندماج الوطني، وفشل السلطات في صهر مكونات المجتمع في بوتقة واحدة. من ناحية أخرى هناك أزمة في السلطة تتعلق بشخصنتها وارتكازها حول فرد داخل إقليم العاصمة، مع تهميش باقي الأقاليم اقتصاديًا وسياسيًا وتعليميًا وصحيًا وأمنيًا.
ففي ظل حالة التهميش وتردي الأحوال المعيشية، إلى جانب نقص الإمكانيات لمواجهة الأمراض والأوبئة المستجدة، واحتواء الوضع الوبائي وسرعة انتشار الفيروس، وانعدام مقومات الحياة السوية حيث انهيار البنى التحتية، وتدهور القطاعات الطبية، إلى جانب انتشار الفساد في مختلف قطاعات الدولة ومن بينها القطاع الصحي، ومع تعالي المظلومية لتلك الشعوب، يصبح هناك حالة من الطعن في شرعية الأنظمة السياسية، لا سيما مع انعدام القبول المجتمعي لها، مما ينذر بإمكانية الضغط الشعبي لتغيير تلك الأنظمة، كما يحدث الآن في الحالة الإثيوبية وفي جنوب السودان.
ويعزز من هذا السيناريو معضلة إدارة التعددية الإثنية، فالمواطن يرى أن مصلحته مع جماعته وليس مع الدولة، حيث تمثل الجماعة الإطار الذي يشعره بكينونته وقيمته، على عكس الدولة التي لا تفي بواجباتها تجاهه، ولا تقوم بوظائفها الأساسية التي يكمن أبسطها في الحماية الصحية من الأوبئة والأمراض.
- أما على الصعيد الإقليمي: فسيكون لانتشار كورونا دور كبير في تغيير خارطة التحالفات الدولية، الأمر الذي ربما ينعكس بشكل إيجابي على العلاقة بين دول القارة، فالقوى الدولية (الولايات المتحدة وأوروبا) بدأت بنهج الانكفاء الذاتي للتغلب على استشراء الوباء، مما يعني تقلص دورها في مساعدة الدول الأفريقية لمواجهة أزماتها الداخلية، ومن ثم إتاحة الفرصة لإعادة هيكلة علاقات القارة بالقوى الصاعدة الأخرى كالصين وروسيا، وعلى الصعيد الإقليمي ربما يفسح ذلك المجال لتقوية المنظمات الإقليمية، ومنحها سلطات أقوى للتعامل مع قضايا ومشكلات القارة.
2ـ التأثيرات الاقتصادية:
يعتبر القطاع الاقتصادي أكثر القطاعات تضررًا جراء أزمة كورونا، لا سيما مع ارتباط الاقتصاد الأفريقي بالاقتصاد العالمي، فوفقًا لإحصائيات صادرة عن منظمة الأمم المتحدة، انخفضت معدلات النمو الاقتصادي خلال العام الماضي بنحو (29) مليار دولار، في حين توقعت اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة في أحد تقاريرها انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للدول الأفريقية بنحو (1.4%)، في حين يتوقع أن تبلغ الخسائر الأفريقية من عائدات التصدير مليارات الدولارات[10].
وتوقع التقرير انخفاض النمو الاقتصادي بنسبة تقارب (0.8%)، لا سيما مع انخفاض معدلات العمالة، كما أعلن الاتحاد الأفريقي في أحد تقاريره، تكبد القارة خسائر في الوظائف تقدر بنحو (20) مليون وظيفة، ومن ثم انخفاض معدلات الإنتاج، حيث بلغت الخسائر في قطاع التجارة الخارجية نحو (270) مليار دولار، وهو ما من شأنه التأثير على الأوضاع الاجتماعية، فنجد -مثلا- تأثر قطاع السياحة بشكل كبير بالجائحة، حيث تعرضت شركات الطيران الأفريقية لخسائر تصل إلى (4) مليارات دولار خلال العام الماضي، نتيجة حظر الطيران وانخفاض الحجوزات الدولية إلى أفريقيا بنسبة (20%)[11].
وأشارت دراسة أعدها الاتحاد الأفريقي إلى وجود توقعات تشي بأن استمرار حدة الوباء، من شأنه أن يتسبب في انخفاض متوسط النمو ليهبط إلى نسبة (1.1%)، مما يعني خسائر في معدلات الإيرادات الحكومية الناتجة عن الضرائب والرسوم والتعريفات الحكومية تقدر بحوالي مليار دولار[12].
ونظرًا لاعتماد عدد كبير من دول القارة على عوائد صادرات البترول، فقد تأثرت تلك الدول بشدة نتيجة لتأثيرات الجائحة السلبية على أسعار النفط الذي هبط سعره لأقل من (20) دولاراً، وهو ما أثر -بدوره- على ميزانية تلك الدول، وحمل أعباء عليها لمواكبة تطوير منظومتها الصحية، وبالتبعية ثقلت أعباء الديون لترتفع من (30%) خلال عام 2012 إلى (95%) خلال عام 2020[13].
مما سبق نجد أن الميزانية العامة للدول الأفريقية تشهد اختلالات كبيرة، تؤثر على قدرة الدول في تطوير منظومتها الطبية لاحتواء الأمراض والأوبئة، الأمر الذي يزيد الأوضاع سوءًا، ويتيح الفرصة أمام التنظيمات الإرهابية لاستغلاله وتسريع وتيرة هجماتها الإرهابية، كما حدث في بنين أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بعد أن شن إرهابيون هجمات في بلدتي ميكرو ببلدية بانيكوارا شمال شرق بنين، وبورغا شمال غرب البلاد، مما أسفر عن عدد من القتلى والجرحى[14].
3ـ التوترات الأمنية:
تعاني غالبية الدول الأفريقية حالة من الامتعاض الشعبي وعدم الرضا إزاء النظام الحاكم، وبالتزامن مع عجز حكومات الدول عن تلبية احتياجات المواطنين، لم يعد هناك أي التزام بتوجيهات الحكومة إزاء التعليمات الخاصة بالحظر المفروض لاحتواء الجائحة، الأمر الذي أدى إلى صدامات بين القوات الأمنية والمواطنين، ليتسبب ذلك في مزيد من الحنق الشعبي إزاء الحكومة.
في المقابل تسعى التنظيمات الإرهابية المنتشرة في أرجاء القارة لاستغلال تلك الثغرات لصالحها، في محاولة لتقوية جذورها وتوسيع أرضيتها، عبر استغلال الأوضاع الاجتماعية الهشة لهؤلاء المواطنين، والعمل على استقطابهم بشتى الطرق، ولا تلبث هذه الجماعات أن تستغل انشغال القوات كافة بمحاولة احتواء الفيروس، وتقوم بهجمات ضدهم كما حدث في بنين ونيجيريا وموزمبيق وزيمبابوي.
وذكرت إميلي إستيل مديرة الأبحاث في مشروع التهديدات الحرجة في معهد أميركان إنتربرايز، أن معظم بعثة الاتحاد الأفريقي الموجودة في الصومال، تم وضعهم في حجر صحي داخل قاعدتهم لبعض الوقت، وذلك بالتزامن مع تراجع القوى الكبرى، بعد أن سحبت الولايات المتحدة قواتها من الصومال، إلى جانب إيقاف بعض الدول عمليات التدريب الخاصة بها في أفريقيا وتقليص عملياتها العسكرية، ومن ثم فالمناخ أصبح مهيأ للاستغلال من قبل التنظيمات الإرهابية، حيث رصدت وكالات أنباء غربية اتجاه الجماعات الإرهابية؛ لتصعيد خطاب الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وإثارة الرأي العام ضد حكومات الدول، إلى جانب استمرارها في شن الهجمات الإرهابية.
ثالثاـ كيف تستغل الجماعات الإرهابية أزمة انتشار الأمراض؟
يرتكز المبدأ الرئيس الذي تقوم عليه الجماعات الإرهابية على “الموت في سبيل بقاء التنظيم” والعمل على استغلال كل المقومات لإفشال الدولة في القيام بوظائفها الأساسية؛ بغية تصدر تلك التنظيمات للمشهد، وبالإسقاط على الحالة الأفريقية في ظل انتشار فيروس كورونا والمتحور أوميكرون، نجد أن المناخ مهيأ للاستغلال من قبل الجماعات الإرهابية.
فالدول الأفريقية توجه كل مجهوداتها وإمكانياتها لاحتواء الفيروس، ومحاولة دعم المنظومة الصحية، الأمر الذي سينعكس بالسلب على القطاع الأمني اللازم لمواجهة تلك التنظيمات، ومن ثم يبدأ التنظيم في مضاعفة هجماته الإرهابية، كما حدث في هجوم بوكو حرام على قرية بولاية بورنو شمال شرق نيجيريا يونيو (حزيران) 2020، والذي أسفر عن مقتل (69) شخصاً[15]، وكذلك المذبحة التي قام بها داعش مارس (آذار) 2021 على مدينة بالما بمقاطعة كابو ديلجادو شمال موزمبيق[16].
من جهة أخرى تساهم المشكلات المتجذرة التي تعاني منها الدول في تعزيز وضع التنظيمات الإرهابية، فغالبية الدول الأفريقية تعاني بالأساس من تدهور الأوضاع المالية والاجتماعية والصحية، كما أن معدلات الفقر والبطالة في ارتفاع متزايد، الأمر الذي يترتب عليه حالة من الفوضى والاضطرابات، مما سيهيئ المناخ لتلك التنظيمات لاستغلال هشاشة الأوضاع، والعمل على مظلومية هؤلاء الأفراد واستقطابهم إلى صفوفها، عبر إغرائهم بتلبية احتياجاتهم المعيشية التي عجزت الدولة عن الاستجابة لها، وهو ما نجده جليًا في نموذج تجنيد الجماعات المسلحة للأطفال، ويعزز من هذا التوجه الراديكالي ضعف وهشاشة الأنظمة السياسية وانتشار الفساد في كافة القطاعات.
وعلى الرغم من الاشتباكات المستمرة بين أفراد التنظيمات الإرهابية والجيوش في القارة الأفريقية، فإن الوضع يزداد سوءًا مع انتشار الأوبئة والأمراض، لا سيما المتحور الأخير، فأفراد الأمن سيكون منوط بهم مهام عدة منها: فرض حظر التجول، والتأكد من تطبيق المواطنين له، والعمل على منع التجمعات بشتى الطرق، إلى جانب انشغالهم بتوزيع المواد الغذائية والطبية على المستشفيات، الأمر الذي يؤدي -بدوره- إلى تشتت هذه القوات، وفي الوقت ذاته يتم منعهم من الإجازات والزيارات الأهلية؛ نظرًا لحالة الطوارئ التي ستفرضها البلاد، مما يعني زيادة الأعباء النفسية والجسدية، ومن ثم يصبح هؤلاء الأفراد منهكين بشكل يصعب القيام بوظائفهم الرئيسة، مما سيسهل المهمة أمام تلك التنظيمات لشن هجمات أكبر، كما حدث في نيجيريا وتشاد وأفريقيا الوسطى، وقت تفشي فيروس كورونا، وهو ما أسفر عن مقتل المئات من أفراد الأمن.
أما على صعيد الحكومات، فدائمًا ما تصاب الوزارات المختلفة بحالة تخبط أثناء انتشار الأمراض والأوبئة، لا سيما في حالة إصابة أحد الوزراء أو المسؤولين الكبار، الأمر الذي يؤدي إلى التشتت وعدم التركيز، ومن ثم التأثير على المصلحة العامة للمواطنين، وحدوث حالة من الاضطراب، ففي مارس (آذار) الماضي أصيب عدد من الوزراء في حكومة بوركينا فاسو، مما تسبب في تخبط داخلي هيأ المناخ لإعادة انتشار بعض أفراد من الجماعات الإرهابية وشن هجمات إرهابية.
وعلى الصعيد النفسي، فالجماعات الإرهابية تسعى إلى ترويج شائعات بين المواطنين بشأن أعداد الإصابة والوفيات، وعدم قدرة الدولة على احتواء الموقف، الأمر الذي من شأنه أن يثير حالة من الذعر بين المواطنين، وخلق رأي مجتمعي ناقم على الدولة.
أما على صعيد الموقف الدولي، فنجد أن القوى الكبرى دائما ما كانت تدعم الدول الأفريقية في حربها على الإرهاب، ويستدل على ذلك من عمليتي سيرفال وبرخان اللتين نفذتهما فرنسا في مالي وعلى امتداد الساحل، حيث ساهمتا في كبح جماح التنظيمات الإرهابية بتلك المنطقة، وتمكنت الدول من استعادة نفوذها على بعض المناطق التي سيطرت عليها التنظيمات، إلا أنه مع تفشي فيروس كورونا بدأت المجهودات الدولية في التراجع، لا سيما فرنسا والولايات المتحدة، نتيجة للخسائر الاقتصادية الضخمة التي خلفتها كورونا، ومن ثم أصبحت فكرة الحملات العسكرية الخارجية تشكل عبئاً مادياً وبشرياً على تلك الدول، وربما يدفع ذلك الدول الكبرى لإعادة ترتيب أوراقها فيما يخص الإجراءات التقشفية، التي ربما ستطال المساعدات العسكرية، والعمل على تقليل الوجود العسكري الخارجي.
وبالرغم من مساعدة منظمة الصحة العالمية الدول الأفريقية بأجهزة تنفس صناعي والكشف عن كورونا، إلا أن المشكلات الداخلية بجانب تراجع الدول الكبرى، أعجز المنظمة العالمية عن احتواء الموقف، وهو ما كان في صالح الجماعات الإرهابية، ناهيك عن تخوف القوات الأجنبية الموجودة من الانخراط في أي مواجهات خوفًا من انتقال الفيروس، مما يعني استغلال الجماعات الإرهابية لتلك الثغرات والقيام بشن هجمات.
أما عن السيناريوهات المتوقعة فإننا نكون بصدد سيناريوهين:
الأول: استمرار الجيوش النظامية في الانشغال باحتواء الأمراض والأوبئة المستجدة، والتركيز على تقديم المساعدات للقطاع الطبي بالتزامن مع إغفال الجانب الأمني، الأمر الذي سيسفر عن خسائر فادحة سواء في صفوف المدنيين أو العسكريين، لا سيما مع استغلال الجماعات الإرهابية للفراغ الأمني، والقيام بشن هجمات دامية كما حدث في هجمات بوكوحرام على الإقليم الغربي، وهجمات داعش وحركة شباب المجاهدين في الإقليم الشرقي.
الثاني: ترتيب الأوراق وتقسيم المهام، بحيث لا يتم إغفال المهمة الرئيسة للقوات الأمنية، وهي الحفاظ على الأمن والسلم، وفي هذه الحالة يمكن احتواء خطري الأوبئة والجماعات الإرهابية، لكن يعد هذا السيناريو هو الأقل ترجيحًا؛ نظرًا لمشكلات هيكلية تنتاب النظم السياسية الأفريقية، سواء على صعيد البعد التكتيكي والتخطيطي، أو فيما يخص بعد الانتماء، وهو الأمر الذي يرجع بالأساس لمعضلة إدارة الإثنية، وفشل النظام السياسي في احتواء التعددية.
رابعًا- أبرز الحلول:
هناك عدة حلول يمكن تفعيلها على المدى القريب لاحتواء الأزمة، ومعالجة التداعيات السلبية لانتشار فيروس كورونا ومتحوراته لعل أبرزها:
1ـ دعم قطاع الرعاية الصحية: عبر زيادة حصة وزارات الصحة من موازنة الدولة، والعمل على تقديم التدريبات المهنية المؤهلة للعاملين في هذا القطاع، واستقدام أحدث الأجهزة الطبية، من أهمها أجهزة الكشف عن فيروس كورونا، وزيادة أعداد العيادات المتنقلة ومستشفيات الحجر الصحي ومدها بالإمكانيات اللازمة، فحتى فبراير (شباط) 2020 لم يكن في القارة الأفريقية سوى دولتين فقط تستخدمان هذه التقنية وهما: السنغال، وجنوب أفريقيا، إلا أن منظمة الصحة العالمية تمكنت خلال العام الماضي من تمكين (47) دولة من استخدام أجهزة الكشف عن الوباء، كما ساعدت (43) دولة في إنشاء مختبرات علمية[17].
وخلال أزمة كورونا قامت الحكومة النيجيرية بتقديم قرابة (270) مليون دولار لقطاع الصحة، كما قامت الحكومة المصرية بتوفير اعتمادات بقيمة (6) مليارات دولار من ميزانية العام الماضي لمواجهة تداعيات الفيروس على مختلف القطاعات[18].
2ـ الاستفادة من خبرة مقاومة الأوبئة: فعلى مدار العقود الماضية تعرضت القارة للعديد من الأوبئة، ومنها الكوليرا وإيبولا الذي ضرب القارة عام 2014، وحاولت الدول احتواءها بشتى الطرق، لذا يمكن الاستفادة من منهجية التعامل مع تلك الأوبئة، وتطويرها للتجاوب مع المستجد الأخير من خلال اتباع نفس إجراءات الكشف عن المرض، والقيام بإجراءات العزل الصارمة منع انتشار المرض.
3ـ زيادة الوعي المجتمعي بخطورة المرض: وذلك عبر توضيح أضرار التجمعات ودورها في تسريع انتشار المرض، وكذلك توضيح الإجراءات الواجب اتخاذها في حالة الشعور بأي عرض من الأعراض، إلى جانب تنفيذ إجراءات الحظر والتباعد الاجتماعي، سواء الكلي أو الجزئي، وعمل الحكومات على تفعيل خدمات تنفيذ المصالح عبر الإنترنت حرصًا على منع التجمعات، وكذلك تفعيل التعليم عن بعد خوفًا من تجمعات الطلاب في المدارس والجامعات، وبالفعل قامت بذلك عدد من الدول الأفريقية وعلى رأسها مصر وإثيوبيا وغانا وساحل العاج والسودان وزامبيا ورواندا وتونس والمغرب والجزائر.
وأخيرًا، فإنه يمكن أن يتم استغلال الجائحة لتسطير صفحات جديدة للتعاون الإقليمي بين دول القارة، فالاتحاد الأفريقي قام بصوغ الاستراتيجية الأفريقية المشتركة لمواجهة كورونا في فبراير (شباط) 2020، وتهدف إلى منع انتشار الوباء بين دول الاتحاد، ومحاولة تقليل العواقب الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الناجمة عنه، إلى جانب إطلاق مفوضية الاتحاد الأفريقي مبادرات عدة، منها مبادرة الشراكة لتعجيل اختبار (كوفيد -19) بهدف القدرة على احتواء الفيروس، والقيام بإجراء اختبارات سريعة ودقيقة.
فمن ناحية يمكن لهذه الإجراءات دفع دول القارة نحو احتواء انتشار الفيروس، ومن ناحية أخرى تمكنهم من سد أي ثغرة أمام التنظيمات الإرهابية لاستغلالها؛ بغية توسعة نشاطاتهم والتأثير على أمن واستقرار الدول.
[1]– (كوفيد -19): دولتا بوتسوانا وجنوب أفريقيا تمثلان (62%) من حالات الإصابة بأوميكرون في العالم، موقع منظمة الأمم المتحدة، 12 ديسمبر (كانون الأول) 2021، متاح على الرابط: https://cutt.us/gdz6F
[2]– Identifying Future Disease Hot Spots Infectious Disease Vulnerability Index,Rand national defense research institute ,available at: https://cutt.us/PQRZe
[3]– رمضان قرني محمد، قارة أفريقيا في مواجهة وباء “كورونا المستجـد”: جوانب الخطر .. التداعيات.. وسياسات المواجهة، موقع تريندز للبحوث والدراسات، 30 أبريل (نيسان) 2020، متاح على الرابط: https://cutt.us/Lwsf0
[4]– Nigeria: UN and partners acting to avert coronavirus spread in displacement camps, UN News, available at: https://cutt.us/0MI04
[5]– اللاجئون يساهمون في التصدي لمرض إيبولا في ليبيريا، المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة، 2 يونيو (حزيران) 2016، متاح على الرابط: https://cutt.us/43LOG
[6]– ANDREW MELDRUM ,Drought parches southern Africa, millions faced with hunger,abc news,7/11/2019,available at: https://cutt.us/chi6t
[7]– الأرقام واردة من موقع الاتحاد الأفريقي، متاحة على الرابط: https://au.int/ar/taxonomy/term/1472
[8]– الإحصائيات واردة من موقع المفوضية السامية بالأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، متاح على الرابط: https://www.unhcr.org/ar/4be7cc2825b.html
[9]– Global Terrorism Index 2020,available at: https://visionofhumanity.org/wp-content/uploads/2020/11/GTI-2020-web-1.pdf
[10]– اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، متاح على الرابط: https://www.un.org/africarenewal/section/coronavirus
[11]– المرجع السابق.
[12]– رمضان قرني محمد، مرجع سابق.
[13]– التأثيرات المحتملة لفيروس كورونا على بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مدونات البنك الدولي، متاح على الرابط: https://cutt.us/iYFcq
[14]– قيادة أركان الجيش البنيني تعلن الاستنفار إثر هجومين إرهابيين، موقع قراءات أفريقية، 6 ديسمبر (كانون الأول) 2021، متاح على الرابط: https://cutt.us/5sfRc
[15]– تقرير أميركي: جماعة «بوكو حرام» تستغل الوباء وترهق الأجهزة الأمنية في نيجيريا، جريدة الشرق الأوسط، 14 يونيو (حزيران) 2020، متاح على الرابط: https://cutt.us/KqxBT
[16]– مذبحة دموية لداعش فى موزمبيق، جريدة الأهرام، 30 مارس (آذار) 2021، متاح على الرابط: https://cutt.us/GRGfR
[17]– المرجع السابق.
[18] احصائيات واردة من مدونات البنك الدولي، متاح على الرابط: https://blogs.worldbank.org/ar/voices/astrad-hsad-am-2020-tathyr-fyrws-kwrwna-almstjd-fy-12-shklaan-byanyaan