-1-
هل لا يزال السؤال عن المستقبل يحمل معنى القلق من “تراجع” الدين كما كان يحمله في القرن التاسع عشر الأوروبي، وكما تنبأ فلاسفة الاجتماع الكلاسيكيون مين كونت وماركس إلى دوركايم وماكس فيبر؟ أم على العكس من ذلك، يحمل معنى القلق من “تصاعد” الدين وتوغله على حساب الدولة والحرية الفردية ومكاسب العقل، كما يوحي المشهد الاجتماعي والسياسي الراهن في الشرق الإسلامي؟
هذه الصياغة المزدوجة تلفت الانتباه إلى سياقين دينيين مختلفين تاريخيًا، بقدر ما تشير إلى “الدين” كنسق اعتقادي ومعرفي مشترك يخضع لقانون تفسيري واحد من حيث العلاقة بالاجتماع. لم يتعرض الإسلام في محيطه الإقليمي بعد، أو لم يتعرض للدرجة ذاتها من القوة، للصدام مع سؤال “التطور” الذي تعرضت له المسيحية الغربية قبل ثلاثة قرون، لكنه لم يسلم تمامًا من نتائج هذا الصدام، الذي كان في جوهره موجهًا إلى فكرة الدين في ذاتها.
عند منتصف القرن التاسع عشر الأوروبي، كانت المسيحية الكاثوليكية قد بدأت تراجعًا ملموسًا عن موقع الهيمنة الذي ظلت تشغله طوال العصور الوسطى، في المجالين العام والفردي. جرى تراجع تدريجي متزامن مع التطور في حركة الهياكل الكلية: العقلية، والاقتصادية، والاجتماعية (تفاقم نمط التفكير العقلي/ ظهور نتائج العلم التجريبي/ تبلور الرأسمالية الصناعية/ تكون الطبقة الوسطى/ الوعي المتزايد بالفردية/ ومفهوم الحرية بالمعنيين السياسي والاجتماعي). ضمن هذه العوامل سيبرز “العلم” كمحرك أول، ونقيض مقابل للكنيسة عصي على المواجهة، ليس فقط كفكرة، بل بإنجازاته العملية ذات التأثير الاقتصادي اليومي المباشر.
مع تواصل حركتي التطور والتراجع، كان بإمكان كونت -الخارج من أتون الثورة الفرنسية- أن يتحدث عن علاقة تلازم عكسي بين تطور العلم وتراجع الدين. فالتقدم العلمي، و هو المرحلة الأخيرة من مراحل التطور البشري، سيتمكن من معالجة الأسئلة الكبرى التي كان الدين تقليديًا يحتكر الإجابة عنها. تكلم كونت عن قانون موحد لتاريخ المجتمع البشري يسميه قانون “الحالات الثلاث” بمقتضاه يتطور العالم عبر مراحل ثلاث: الأولى غيبية لاهوتية (خرافية)، والثانية غيبية عقلية (تجريدية)، والأخيرة نهائية تتوج بانتشار العقلانية العلمية. في المرحلة اللاهوتية يقوم المجتمع على نظام مستمد من كائن إلهي متعالٍ، أي على نظام “فوق اجتماعي” أو قادم من خارج الإنسان. وفي المرحلة الثانية يتوجه الإنسان لتفسير الكون ليس استنادًا إلى كائن أعلى مفارق، بل على ضوء التفكير المجرد، أي استنادًا إلى الفلسفة. أما في المرحلة الأخيرة فتسود المعرفة العلمية التي تكشف، عبر ملاحظة الوقائع، عن قوانين عمل الطبيعة والمجتمع.
-2-
ندرك -الآن- كيف اختبرت نبوءات كونت والاجتماعيين التنويريين: لقد تم تجاوز فكرة المسار الطردي للتاريخ باتجاه التقدم، لكن تداخل المراحل لا ينفي وجود خط متصاعد من إحدى زوايا النظر. مرحلة الفلسفة لم تمح اللاهوت، ومرحلة العلم لم تمح الفلسفة ولا اللاهوت، ومع ذلك لا نستطيع رصد المسار الإجمالي دون استخدام مصطلح “التطور”.
وفقًا لتحليل كونت، تمثل الفلسفة نقلة نوعية واسعة في مسار التفكير البشري، وكان يفترض -من ثم- أن تشكل تحديًا حقيقيًا للدين. لكن المرحلة الفلسفية لم تسفر عن تقلص في الظاهرة الدينية، بل على العكس، شهدت ظهور الديانات التوحيدية الكبرى الثلاث، ولم تستطع أن تطرح نفسها بديلًا عن الإيمان من خلال جواباتها العقلية عن أسئلة الطبيعة والاجتماع. لقد انغمست الفلسفة في الموضوع الإلهي، وتَديَّن قطاع منها، فيما قدم القطاع الآخر إسنادًا عقليًا لفكرة الإيمان بالله. المؤثرات الهيلينية التي تظهر في النصوص المتأخرة من العهد القديم، بلغت ذروتها في الفكر اليهودي النظري مع فيلون السكندري في القرن الأول. وفي المسيحية ظهر مفهوم الفيلسوف القديس أو القديس الفيلسوف، من أوغسطين الذي أمم أفلاطون لحساب اللاهوت المسيحي في القرن الخامس، حتى توما الإكويني الذي نصَّر أرسطو في القرن الثالث عشر. وفي الإسلام لم يمنع الستار الحديدي الذي شيدته مدرسة الحديث من تسرب الفلسفة اليونانية واندماجها بالفكر الإسلامي خارج دائرة الرواية والفقه. تحضر الأفلاطونية القديمة والأفلاطونية المحدثة بشكل مباشر في الفارابي وابن سينا، فيما يحضر أرسطو في ابن رشد وابن باجة. وفي منظومة الكلام بجميع توجهاتها تسري خطوط منهجية وموضوعية، صريحة أو مضمرة، خصوصًا في طورها التنظيري المتأخر.
تاريخيًا، لم تمثل الفلسفة طورًا “زمنيًا” فاصلًا بين اللاهوت والعلم، ويمكن اعتبارها –كما لاحظ برتراند راسل- وسطًا “موضوعيًا” جامعًا بين خصائص اللاهوت والعلم. فهي كاللاهوت من جهة كونها تأملات غير تجريبية، وهي كالعلم من جهة استنادها إلى العقل.
ينتج العلم في مجاله التجريبي مقولات يقينية، إلا أنه لا يستطيع تجاوز مجاله التجريبي. ولذلك فهو لا يستطيع أن يجيب عن جميع الأسئلة التي كان اللاهوت والفلسفة يحتكران الجواب عنها، بغض النظر عن يقينية أو عدم يقينية هذا الجواب وفقًا لمقاييسه التجريبية. ولاحقًا سيدرك الوعي أن اليقينية ذاتها مفهوم متحرك، بمعنى أن كل مجال يعتمد يقينيته الخاصة: يقينية العلم تشترط التجربة، ويقينية الفلسفة تشترط المنطق، فيما يقينية اللاهوت تستند إلى محض الإيمان الذي لا نزال نجهل حتى الآن مصدره الجواني الغامض داخل الذات الفردية.
-3-
القرن التاسع عشر –المفتون بالتجريبية- آمن بقدرة مطلقة للعلم على الإحاطة بالكائن البشري من جميع جوانبه، والوصول إلى قانون شامل يجمع في صعيد تفسيري واحد بين علم البيولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع.
لكن مع انتقال العلم إلى مراحل أكثر طموحًا وتطورًا بامتداد القرن العشرين، سنستمع إلى نغمة أكثر تواضعًا في الحديث عن قدرته المطلقة. وصار واضحًا أنه وقد مضى بعيدًا في طريقه، لم يعد يحفل كثيرًا بفكرة الصدام مع اللاهوت، الذي صار –بدوره- أقل اعتدادًا بذاته. واقعيًا، لم يعد ثمة مواجهة بمعنى المعركة بين اللاهوت والعلم، أو بعبارة أوضح، لم يعد لهذه المواجهة توترها “التنويري” المبكر حيث كان اللاهوت يخوضها من موقع السلطة.
لكن -في المقابل- صار من الواضح أيضًا أن خسارة اللاهوت ممثلًا في الكنيسة لموقع السلطة، لم تؤد إلى زوال الدين، بل وعلى الرغم من جسامة التطور الكلي بما في ذلك منهجية التعقل وسيادة العملانية العلمية، ظلت فكرة الدين حاضرة وبقوة: ثقافات التدين التاريخية واصلت تمددها وانتشارها على نطاق واسع، ليس داخل الأوساط العامية فحسب، بل داخل قطاعات تنتمي إلى التفكير العلمي، وعادت إلى التعبير عن ذاتها من خارج الأطر المؤسسية التقليدية في أشكال أكثر تشددًا، فيما كانت المؤسسة الرسمية تبدي مرونة لافتة أسفرت عن عمليات متعددة من إعادة التكيف مع الهياكل المتطورة. (الفارق هنا واضح بين مرونة الكنيسة الغربية بفرعيها الكاثوليكي والبروتستانتي، ومرونة “المؤسسة” الإسلامية المعنوية التي تعرضت لمؤثرات تطور أكثر جسامة).
رصد الفكر الاجتماعي المعاصر تواصل الظاهرة الدينية على المستوى العامي الذي تحتضنه المؤسسة، وتوقف بوجه خاص أمام صور التجمع الديني الجديدة التي تعمل من خارج المؤسسة في شكل حركات سياسية، يتعدد ظهورها عبر العالم في سياقات اجتماعية وثقافية متباعدة. كما توقف أمام ظاهرة الانبعاث المتأخر لمفهوم “التدين الذاتي” كتجربة روحية خاصة تصدر عن الوعي الفردي.
أبدى الفكر الغربي نوعًا من الدهشة حيال هذه الظواهر التي قرأها تحت عنوان “عودة المقدس”، لكنه كان قد شرع بتوجهاته ما بعد الحداثية، في مراجعة المسلمات التي أطلقها الفكر التنويري عن التلازم العكسي بين التطور وحضور الظاهرة الدينية، وتجاوز تكييف العلاقة بين الدين والحداثة كمعركة بينه وبين العلم ستنتهي حتمًا بزوال الدين، إلى فكرة التعاطي معهما كموجودين ضروريين على العالم أن يعيش بهما معًا، على الأقل في المدى المنظور. لاحقًا، ومع تفاقم الحضور السياسي العنيف للدين (الأصولية الإسلامية خصوصًا) سيتطور النقاش ليدور حول كيفية التوفيق بين دوجما اللاهوت وحركة الاجتماع المتطور. أو حسب صياغة هابرماس، كيف يمكن عمليًا وضع الدين مع العلمانية في سياق واحد. يتبع