تواجه مالي تحديات بالغة الخطورة منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا في أغسطس (آب) 2020، واستيلاء قادته على مقاليد الحكم، ليفرز الانقلاب حالة من التوتر السياسي متعدد المستويات، برزت ملامحه في العقوبات الاقتصادية، والحظر التجاري الذي فرضته المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا “إيكواس” على موباكو، بعدما رفض القادة العسكريون إجراء انتخابات رئاسية وتسليم السلطة.
تتزامن العقوبات الاقتصادية المفروضة على مالي مع فشل باريس بمهمتها في مواجهة الجماعات الإرهابية، وانسحاب قواتها نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وسط اتهامات أوروبية وتنديد باتجاه مالي للاستعانة بشركات أمنية عسكرية لتحل محل القوات الدولية، الأمر الذي أثار غضب أوروبا ودفعها لاتخاذ خطوات لفرض عقوبات دولية على مالي.
ومع تضارب ردود الفعل من الجانب المالي الذي ينفي وجود مثل تلك العناصر، جاءت تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف؛ بعدما كشف في سبتمبر (أيلول) 2021 أمام الأمم المتحدة، أن مالي طلبت من شركة عسكرية خاصة مساعدتها في مواجهة المتمردين[1]، لتثير تلك التصريحات تساؤلات بشأن حقيقة وجود شركات أمنية عسكرية داخل الأراضي المالية، ومآلات هذا الوجود، إلى جانب مستقبل تلك الشركات في مناطق الصراع، وتحديدًا في حزامي الساحل والصحراء.
أولا: قراءة في الوضع المالي
تمر مالي بفترة حرجة مليئة بالتحديات، لعل أبرزها التحدي الأمني من حيث مواجهة التنظيمات الإرهابية، بالتزامن مع الانسحاب الفرنسي الذي يعود تمركزه في البلاد إلى 2013 للمساعدة في إبعاد الجماعات الراديكالية عن السلطة، بينما اتسمت معدلات تقدمه بالهشاشة، فلم تستطع القوات الفرنسية ردع المسلحين، حيث قامت باريس بسحب آخر جنودها من قاعدة تساليت بمالي عقب الانسحاب من قاعدة كيدال نهاية العام الماضي[2].
فالوجود العسكري الفرنسي على مدار عقد كامل أدى إلى تفاقم الوضع الأمني، لتصبح منطقة الحدود المشتركة بين كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو من أخطر المناطق في الإقليم الغربي بعدما تمركز بها عدد كبير من التنظيمات الإرهابية، في حين تسبب الانسحاب الفرنسي الكامل في مزيد من التأزم نتيجة عدم تأهيل الجيش المالي وهيكلته للتعامل مع التحديات الأمنية، من ثم كان المناخ مهيأ أكثر لاتجاه الجماعات الإرهابية نحو إعادة ترتيب أوراقهم، وتوسيع نفوذهم داخل البلاد.
في الوقت ذاته هناك قلق يساور باريس بشأن استبدال مالي الفراغ الفرنسي بعد سحب قواتها بشركات أمنية روسية كفاغنر، لا سيما مع تأكيد الخارجية الروسية طلب باماكو المساعدة لمواجهة التهديدات الإرهابية، وبالتزامن مع ذلك لم تنقطع التهديدات الأمنية ليس في مالي فقط، ولكن في إقليم الساحل ككل، فبعد مقتل أربعة جنود ماليين بآخر ساعات بالعام المنصرم، شهدت الحدود النيجرية- الليبية عمليات إرهابية على يد تنظيمات إرهابية أسفرت عن خسائر بشرية، فيما لقي عشرة أشخاص مقتلهم على يد متشددين في محافظة بام شمال بوركينا فاسو[3].
تأتي تلك التطورات في خضم إعلان المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا عقوبات اقتصادية على دولة مالي، وحظرًا تجاريًا وماليًا، إلى جانب إغلاق الحدود معها نتيجة رفض السلطة الحالية إجراء انتخابات رئاسية ومحاولة إرجائها لـ2025[4]، بل هناك تحركات من الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على باماكو، بعدما صدر بيان مشترك نددت فيه (15) دولة من بينها فرنسا وألمانيا وكندا بتورط شركات أمن روسية لأعمال انتهاكية في مالي[5].
ونظرًا لوجود علاقة طردية بين تصاعد التوترات الأمنية مع عدم الاستقرار، وزيادة الطلب على الشركات الأمنية، فإن المستجدات الأخيرة على الساحة المالية تنذر بتحول جديد، يرتكز قوامه على الاستعانة بعناصر مختلفة كالشركات الأمنية لمواجهة الجماعات الإرهابية التي ستعمل على استغلال التوترات السياسية القائمة.
ومع الانسحاب الفرنسي وتراجع الدور الأميركي مقابل تصاعد التطلعات الروسية لتوسيع نفوذها في مالي، أصبح الوضع أكثر تعقيدًا وميلًا للعنف، لا سيما مع تشبث النظام العسكري بالسلطة ومماطلته في تسليمها لنظام منتخب، إلى جانب السجالات المستمرة بين السلطة العسكرية في مالي والمنظمة الاقتصادية في الغرب “إيكواس” والتي تخضع بالأساس لهيمنة وإملاءات فرنسية[6].
وبناءً على ما سبق، تواجه دول الساحل عمومًا ومالي تحديدًا عدة مشكلات تنعكس بالسلب على قدرتهم في مواجهة التنظيمات الإرهابية، مما يزيد من التوترات الأمنية، وبالتالي تصبح الحاجة للاستعانة بشركات أمنية ملحة، ويمكن استيضاح أبرز عوامل الخلل على النحو التالي:
- ضعف الدولة: يشهد النظام السياسي المالي حالة من الضعف والهشاشة المتجذرة، تجسدت أبرز ملامحها في عجز الحكومة عن استيفاء التزاماتها المالية إزاء المواطنين، كذلك فشلها في تحقيق توازن في معدلات التنمية بين مختلف الأقاليم، ناهيك عن انتشار الفساد والرشاوى وتغليب المصلحة الخاصة على العامة، إلى جانب تشبث النخبة الحاكمة بالسلطة واعتراضهم على مبدأ تداولها سلميًا أو إجراء انتخابات نزيهة، واستخدام الأجهزة الأمنية كأداة للعنف والقمع ضد المواطنين.
كل ما سبق أضعف مبدأ المواطنة والانتماء لدى المواطنين، وأصبح الانتماء للجماعة أهم من الانتماء للوطن، الأمر الذي كرس لمفهوم العنف الإثني، وسهل المهمة أمام الجماعات الإرهابية لاستقطاب هؤلاء الأفراد، وضمهم لصفوفها خصوصًا مع التزامهم بتوفير كافة احتياجاتهم ومتطلباتهم التي تعجز الدولة عن استيفائها.
- تشتت الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية: تكمن مهمة الجهاز الأمني في الحفاظ على أمن الدولة داخليًا وحدوديًا، إلا أن النظام العسكري الحاكم أصبح أكثر تشتتًا لا سيما مع مماطلته في إجراء انتخابات رئاسية وتسليم السلطة، مما أدى لفرض عقوبات إقليمية، واحتمالية فرض عقوبات دولية، جاء ذلك بالتزامن من الانسحاب الدولي، وتراجع الدعم في مهمة مواجهة التنظيمات الإرهابية، وبالتالي أصبح الوضع أكثر تعقيدًا، الأمر الذي سيدفع النظام للاستعانة بشركات أمنية، وهذا النوع من الشركات يمارس العنف والانتهاكات الحقوقية بطرق مماثلة لما تفعله التنظيمات الإرهابية.
بل إن الاستعانة بشركات أمنية، سيمنح التنظيمات الفرصة لاستقطاب المزيد من المواطنين لصفوفها وتوسيع رقعة تمددها، بحجة مواجهة العناصر الأجنبية على أراضي الدولة، كما ستكون هناك مساحة أكبر للتعاون بين التنظيمات الإرهابية.
- الصدام الإثني: تحولت مالي منذ انقلاب 2012 إلى ساحة كبيرة لاستقطاب وتنامي الجماعات الجهادية، حيث قامت تلك الجماعات على أساس إثني وتبنت مبدأ الدفاع عن القومية، فعلى سبيل المثال نجد مجموعات الدفاع الذاتي التي بررت هجماتها وعملياتها بالدفاع عن إثنيتهم، الأمر الذي دفعها للتصادم مع قبليات أخرى في صراع محموم خلف آلاف الضحايا، على الصعيد ذاته نجد أن الصراع بين قبيلة “الفولاني” وقبيلتي “دوجون وبامبارا” ارتبط بالأساس بالحفاظ على المقومات الاقتصادية والمالية المرتبطة بكل منهم، فنجد أن مصادر اقتصاد الأولى يعتمد على الرعي، بينما الأخريان تعتمدان على الزراعة، فأصبح هناك صدام فيما يتعلق بالهيمنة على الأراضي الزراعية، ليسفر الأمر في النهاية عن صراع دامٍ بين الطرفين[7].
- التغيرات البيئية والمناخية: تشهد منطقة الساحل عمومًا ومالي تحديدًا تغيرات بيئية ومناخية أثرت في ديموغرافية الدولة، حيث دفعت موجة الجفاف التي انتابت الشمال القبائل الموجودة فيه، والتي تعتمد على الرعي للانتقال والنزوح نسبيًا تجاه الجنوب، مما أدى إلى حالة من الصدام مع القبائل الموجودة في الوسط والجنوب الذين يعتمدون على الزراعة والاستقرار حول منابع المياه، ومن ثم عُززت فكرة العنف الإثني حيث يدافع الجميع عن إثنيته، فقبائل الشمال تسعى للحفاظ على بقائهم واستمراريتهم، وقبائل الجنوب والوسط تسعيان للحفاظ على أراضيهم وموطنهم، كل ما سبق ساهم في تعميق جذور الأزمة لتصبح إحدى سمات العنف في مالي حاليًا[8].
- تردي الأوضاع الأمنية في الجوار: تشهد دول الساحل والصحراء توترات أمنية بالغة الصعوبة، زاد من صعوبتها فكرة التداخل الإثني عبر الحدود، ومع ضعف الدولة وفشلها في ضبط وإدارة تعدديتها، يصبح من الطبيعي أن يحدث تمادٍ للعنف عبر الحدود، وهذا الأمر نجده جليًا بوضوح في حالة بوركينا فاسو وغينيا.
- اختلال الجهود الدولية: تشهد الجهود الدولية لمواجهة الإرهاب في إقليم الساحل والصحراء حالة شديدة من التخبط، لا سيما مع انسحاب القوات الفرنسية بعد فشلها في إحراز أي تقدم في مجال مكافحة الإرهاب، واتجاه الإدارة الأميركية لتقليص وجودها الخارجي في حروب خارج القارة، إلى جانب قلق برلين من مبدأ المساهمة في قوات مكافحة الإرهاب، في المقابل هناك تطلع روسي للتمدد عبر القارة، سواء من خلال وجود روسي عسكري صريح أو بالوكالة من خلال شركات أمنية، وهو الأمر الذي ترفضه أوروبا وواشنطن، مما جعل غرب القارة ساحة للحروب بالوكالة والصدام بين القوى الكبرى، لتهيأ بذلك حالة الصدام بين القوى الدولية المناخ والبيئة لتنامي الجماعات الإرهابية واستشرائها.
ثانيا: محفزات انتشار الشركات الأمنية في دول الساحل
يرجع الرفض الدولي لمبدأ الاعتماد على مرتزقة، وتجريم الارتزاق إلى الانتهاكات الجسيمة التي يتم ارتكابها من قبل هؤلاء، وبالرغم من ذلك فإن المستفيدين من هذا الاستثمار تحسسوا سبلاً عدة لتقنين وضعهم عبر الاندراج تحت مسمى شركة أمنية، ليصبح ذلك الشخص الاعتباري بمثابة ملاذ آمن يقنن وضعهم العام، بالرغم من استمرار الممارسات والانتهاكات نفسها التي جُرم بسببها الارتزاق.
من هنا أصبحت تلك الشركات بمثابة تحول جديد في مفهوم الحرب والصراع الحديث، وبطبيعة الحال تصبح الدول الهشة أمنيًا هي البيئة الأخصب لاستقطاب تلك الشركات، وهناك محفزات عدة دعمت ظهور تلك الشركات وتناميها في الدول الأفريقية، منها ما يلي:
- هشاشة الجيوش وضعف الأجهزة الأمنية: تعانى غالبية الجيوش الأفريقية حالة من الضعف، ولم تبال الأنظمة بهذا الخطر، الأمر الذي هيأ المناخ لانتشار التنظيمات الراديكالية، كما أن فساد الأنظمة السياسية وانتشار الفساد والرشاوى وتغليب المصلحة الخاصة على العامة، كل ذلك صرف اهتمام السلطات الحاكمة عن أولوية تقوية المؤسسات الأمنية، وبالتوازي مع ذلك لم تهتم القوى الدولية المعنية بحفظ السلام في مناطق النزاع، بتأهيل جيوش الدول الأفريقية أو تطوير منظومة التسلح لمواجهة التحديات الأمنية، بل كرست من السياسة الاعتمادية وطمست أي محاولات للتطوير، فجاء الانسحاب الفرنسي ليكشف هذا الخلل، مما دفع السلطات في باماكو للاستعانة بشركات أمنية لسد الفراغ الأمني الذي سببه الانسحاب[9].
- التعددية الإثنية: تأتي معضلة إدارة التعددية السياسية وحالة التهميش السياسي التي تتبعها الأنظمة ضد الأقاليم الحدودية البعيدة عن العاصمة، لتسبب حالة من الحنق السياسي والمجتمعي ضد السلطات، مما أسفر عن مواجهات داخلية، الأمر الذي أدى -بدوره- لتشتت القوات الأمنية، سواء في مواجهات المدنيين المتمردين، أو على صعيد مواجهة التنظيمات الإرهابية، من جهة أخرى تستغل التنظيمات الإرهابية حالة الغضب المجتمعي، وتعمل على استغلالها في استقطاب العديد من المدنيين لصفوفها، مما يؤدي -بدوره- إلى تأزيم الوضع، لذا تصبح هناك حاجة ملحة للاستعانة بشركات أمنية.
على سبيل المثال، شركة فاغنر الروسية التي تم الاستعانة بها عدد من الصراعات الأفريقية كما حدث في موزمبيق عام 2019 لتأمين آبار البترول وحقول الغاز، وفي عام 2018 استعانت بهم أفريقيا الوسطى لتأمين أنشطة التعدين ومناجم الذهب والماس، إلى جانب تأمين المؤسسات وتدريب عدد من قوات الحرس الرئاسي، وفي 2014 استعانت الحكومة النيجيرية بشركة “ستيب” الجنوب أفريقية لمحاربة بوكو حرام، فيما تدخلت شركة “إكسيكتيف أوتكومس أو” لفض النزاع في أنغولا بين الحوكمة وحركة يونيتا عام 1993 مقابل (30) مليون دولار، في حين تدخلت الشركة ذاتها عام 1995 في سيراليون، لاستعادة مناجم الذهب التي استولت عليها الجبهة المتحدة الثورية مقابل (2) مليون دولار[10].
وفي عام 2020 تعاقدت حكومة موزمبيق مع شركة “ديك أدفيسوري جروب” الجنوب أفريقية للتعاون مع الجيش لمواجهة التنظيمات الإرهابية في كابو ديلجادو، بعدما تمكن تنظيم داعش من فرض سيطرته على مناطق واسعة من شمال البلاد، وأيضا هناك شركة “ساندلاين إنترناشيونال” البريطانية التي شاركت في إنهاء التوترات بغينيا الجديدة عام 1997، كما تدخلت في ليبريا عام 2003 لحماية النظام الحاكم من حركات التمرد، ولا ننسى شركة “دينكورب” الأميركية المرشحة من الأمم المتحدة لتدريب قوات حفظ السلام بالسودان، وفي مالي تشير تقارير عدة ومعلومات مسربة لتعاقد الحكومة مع (1000) عنصر مسلح من فاغنر بعد انسحاب القوات الفرنسية نوفمبر (تشرين الثاني) 2021[11].
- إمكانية التنصل السياسي: لا يمكن لشركة عسكرية أو أمنية أن تقوم على رأسمال فردي، فلا بد أن تدعم ماليًا وعسكريا وتسليحيًا من دول كبرى ذات ثقل، فتلك الشركات تمثل ظلاً للدول الراغبة في التدخل العسكري دون إحداث مشكلات، وفي حالة مالي هناك تقارير تفي بالتعاقد مع (1000) مسلح، الأمر الذي يضمن تدخلاً عسكرياً روسياً خفياً لا ينبني عليه أي عقوبات دولية، حيث يمكن للدول بسهولة التنصل من تحركات تلك الشركات، فعلى سبيل المثال نجد أن الولايات المتحدة نتيجة لاعتمادها في حربها بالعراق وأفغانستان على عدد لا بأس به من شركات الأمن كشركة بلاك ووتر، فإن ذلك خفف من وطأة الاتهامات الموجهة إليها بارتكاب جرائم بحق المدنيين في تلك البلاد، كما تمكنت روسيا من توظيف فاغنر في الصراع بشبه جزيرة القرم، وتمكنت من تحقيق مكاسب هامة.
- حماية المصالح الربحية: كثير من الشركات العسكرية والأمنية يندرج تحتها شركات أخرى كشركات استخراج المعادن والتنقيب عن الغاز والنفط، فنجد -مثلا- أن شركتي لوباي إنفيست وإم إنفيست تابعتان لشركة فاغنر، وكانتا قد حصلتا على ترخيص لاستخراج الذهب والماس واليورانيوم من أفريقيا الوسطى عام 2017[12]، ونتيجة لعدم ثقة فاغنر في تأمين القوات الأمنية الحكومية للصناعات الاستخراجية والتعدينية، أصبح البديل الأمثل الاعتماد على الجهود الذاتية الممثلة في الشركات الخاصة.
- السيولة في تبادل المصالح: تأخذ الشركات الأمنية الطابعين الدولي والمحلي، فعلى سبيل المثال نجد النموذج السوري الذي تمكن من عقد مساومة مع شركات أمن محلية تشكلت بعد الحرب السورية لإعلان دعمها وموالاتها لنظام الأسد، من جهة أخرى استعانت واشنطن بشركات أمن محلية أفغانية للقيام بمهام الجيش الأميركي أثناء حربه في أفغانستان، بالتالي هناك تبادل للمصالح حيث الخدمات اللوجيستية ومهمة التأمين مقابل ملايين الدولارات التي تسعى تلك الشركات لكسبها[13].
- أداة غير مباشرة للتنافس الدولي: فكما سبق وأشرنا إلى أن الشركات العسكرية تعتبر بمثابة ظل لجيوش الدول، فالدول الداعمة لها تسعى لإثبات حضورها في مناطق الصراع بشكل غير مباشر، بما لا يدع مجالاً لتداعيات سلبية عليها، أو ردود فعل معادية من المجتمع الدولي، فعلى سبيل المثال، تسعى موسكو معتمدة على فاغنر لتعزيز وجودها في الدول الأفريقية مستغلة تراجع الوجود الأوروبي والأميركي، كذلك شركة سادات التي تسعى أنقرة من وراءها لتنفيذ سياستها التوسعية، وظهر دورها جليًا في عملية نقل مرتزقة من سوريا لليبيا في يناير (كانون الثاني) 2020 للمشاركة في الصراع هناك.
ثالثًا: تداعيات وجود تلك الشركات
يحفل تاريخ الشركات الأمنية بخلفيات مظلمة لما خلفته من آثار سلبية غاية في السوء، نتيجة للانتهاكات الكبيرة التي ارتكبتها سواء ضد سيادة الدولة، أو ضد مواطني الدول التي يتمركزون فيها، ويمكن إبراز تداعيات وجود مثل تلك الشركات على النحو التالي:
- تراجع سيادة الدولة وهشاشة النظام السياسي: تعاني الدول الأفريقية من إشكالية ضعف الثقة بين المواطن والنظام الحاكم، نتيجة لحالة التهميش المستمرة والتجاهل المتعمد من قبل الحكومة المركزية تجاه مواطني الهامش، الأمر الذي تسبب في علاقة توتر بين المدنيين والأجهزة الأمنية، ودائما ما يحدث حالة من الصدام بين كلا الطرفين، والتي تعتبر بمثابة النواة الأولى في نشأة التنظيمات الإرهابية، وتناميها كما حدث في حالة داعش موزمبيق، وحركة شباب المجاهدين بالصومال.
وفي حالة اعتماد الدولة على عناصر أجنبية لحماية أمن الدولة، تتوسع الفجوة بين القائمين على السلطة والمواطنين، وتنعدم الثقة في قدرة النظام على القيام بالمهام المطلوبة، مما يدفع المواطنين للتشكك في مشروعية النظام. من جهة أخرى، فإن الشركات الأمنية تعمل لصالح أجهزة استخباراتية، وتكشف تلك الشركة مواطن الضعف لدى الدول المتمركزة فيها، وبالتالي تصبح تلك الدول الأسهل اختراقًا.
- انتهاكات حقوقية: أثبتت تقارير حقوقية قيام أفراد تابعين لشركات أمن بانتهاكات حقوقية، حيث تلاحق شركة فاغنر اتهامات تتعلق بانتهاكات حقوقية في أفريقيا الوسطى منذ ديسمبر (كانون الأول) 2020 تشمل اعتقالات تعسفية وإعدامات جماعية، إلى جانب استهداف عشوائي للمدنيين، بجانب التعديات الجنسية على الفتيات والأطفال، ومع تعقد المساءلات القانونية لهؤلاء الأفراد، يزداد الوضع سوءًا ويستمر الخطر محيطاً بهؤلاء المدنيين[14].
- خلق الصراعات: مع تصاعد حالة الصراع والقلق واشتداد حدته، يزداد الطلب على الشركات الأكثر قوة لإعادة الاستقرار، لذا هناك اتجاه داخل تلك الشركات للسعي نحو إثارة الأزمات، ففي 2017 اقترح رئيس شركة بلاك ووتر على الإدارة الأميركية سحب القوات الأميركية من أفغانستان، الأمر الذي سيسفر عن كوارث أمنية مما سيزيد الاعتماد على الشركات الأمنية، وبالرغم من رفض الإدارة الأميركية هذا الطلب، فإن التوجه ذاته يثير الرعب[15].
- استنزاف موارد الدولة: تسعى الشركات الأمنية دائما للحصول على صلاحيات غير مستحقة، كالحصول على حق التنقيب عن حقول غاز، وآبار النفط كذلك، وحق استخراج المعادن النفيسة والهيمنة على مناجم الماس والذهب، كما فعلت شركة فاغنر.
فالتجريم الدولي للارتزاق لم يكن كفيلاً بمنع تلك الظاهرة من التطور والتنامي في صور جديدة، الهدف الرئيس منها تنفيذ أجندات خارجية، وتحقيق مصالح دول كبرى على حساب دول العالم الثالث، وتبقى معضلة الإرهاب مستمرة، ذلك لأن جذورها نابعة بالأساس من داخل الدول الأفريقية، لذا حلها لن يتم إلا من داخل الدول الأفريقية ذاتها.
وبناءً على ما سبق نصبح أمام سيناريوهين:
السيناريو الأول: تمدد النفوذ الروسي؛ حيث ستسعى موسكو لاستغلال الفراغ الذي سببته باريس بعد انسحاب القوات الفرنسية، عبر توسيع نفوذها بطريق مباشر من خلال التوقيع على اتفاقيات ومعاهدات كما حدث في يونيو (حزيران) 2019 عندما وقعت اتفاقية تعاون أمني مع مالي، أو بطريق غير مباشر من خلال إتاحة الفرصة لشركات أمنية وعسكرية تابعة لها، للتوغل داخل الدولة المالية، كما يحدث حاليًا فيما يتعلق بالاتفاق مع (1000) فرد من شركة فاغنر الروسية.
السيناريو الثاني: إعادة توجيه أوروبي عن طريق وضع خطط وسياسات أمنية وعسكرية أوروبية أكثر اتساقًا ومواءمة للوضع الأمني الجديد لإقليم الساحل، وذلك حتى لا تتكرر التجربة الفاشلة مرة أخرى.
ويبدو أن سيناريو التمدد الروسي هو الأرجح؛ نظرًا للتراجع المحتمل للدعم الأوروبي المقدم إلى باريس فيما يتعلق بوجود قوات عسكرية أوروبية في القارة، إلى جانب الانتقادات الداخلية الموجهة لماكرون على خلفية التكلفة العالية التي تتحملها باريس في حربها بالقارة، والتي أثرت بالسلب على موازنة الدولة، ومع ذلك تبقى كافة السيناريوهات مرهونة بتطورات الأوضاع السياسية في مالي، خاصة ما يتعلق بنتائج الانتخابات المرتقبة، وما إذا كانت السلطة ستنتقل لحكومة مدنية منتخبة، أم ستظل في قبضة العسكريين.
[1]– لافروف: مالي تطلب مساعدة شركة عسكرية روسية.. وباريس تعترض، موقع العربية، بتاريخ 26 سبتمبر (أيلول) 2021، متاح على الرابط: https://cutt.us/TM5nb
[2]– انسحاب آخر الجنود الفرنسيين من قاعدة تساليت في مالي قرب الحدود الجزائرية، فرنسا 24،16 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، متاح على الرابط: https://cutt.us/NDpf3
[3]– At least 10 Civilians Killed in Burkina Jihadist Attack,news18,16/1/2022,available at: https://cutt.us/53U2Y
[4]– Economic Sanctions on Mali Tightened as West African Leaders Reject Proposed Timetable for Presidential Election, Special Representative Tells Security Council,un,11/1/2022,available at: https://www.un.org/press/en/2022/sc14762.doc.htm
[5]– بعد تصريحات زخاروفا.. هل تظهر فاغنر في مالي قريبا؟، سكاي نيوز عربي،1 يناير (كانون الثاني) 2022، متاح على: https://cutt.us/guVlt
[6]– د.أحمد أمل، مستقبل الصراع في مالي بين الإرهاب والعنف الإثني، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 18 أبريل (نيسان) 2019، متاح على: https://ecss.com.eg/4446/
[7]– د.أحمد أمل، مرجع سبق ذكره.
[8]– تقى النجار، التغيرات المناخية والإرهاب.. هل من علاقة؟، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية،1 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، متاح على: https://ecss.com.eg/17284
[9]– محمد بشندي، تمدد “فاجنر”: دوافع تصاعد تسليع الصراعات عبر الشركات الأمنية الخاصة، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، متاح على: https://cutt.us/0Vju6
[10]– من أنغولا إلى مالي.. الشركات الأمنية الخاصة تهدد أفريقيا، تقرير على موقع سكاي نيوز، 9 سبتمبر (أيلول) 2021، متاح على: https://cutt.us/Azh1v
[11]– المرجع السابق.
[12]– Uranium Mining in Africa, available at: https://www.files.ethz.ch/isn/154040/saia_sop_122%20_dasnois_20121005.pdf
[13]– EVALUATING U.S. FOREIGN ASSISTANCE TO Afghaistan, available at: https://www.govinfo.gov/content/pkg/CPRT-112SPRT66591/html/CPRT-112SPRT66591.htm
[14]– MERCENARISM AND PRIVATE MILITARY AND SECURITY COMPANIES,available at: https://www.ohchr.org/Documents/Issues/Mercenaries/WG/MercenarismandPrivateMilitarySecurityCompanies.pdf
[15]– Why private foreign security companies are booming in Africa, DW, available at: https://www.dw.com/en/why-private-foreign-security-companies-are-booming-in-africa/a-58134009