تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه المعنون: «تأهيل المتطرفين في مصر: النماذج والتحديات» (الكتاب الخامس والتسعون بعد المئة، مارس (آذار) 2023)، تجربة الدولة المصرية في إدماج المتراجعين من متطرفي الجماعات الإسلاموية في المجتمع، مرورًا بما سُمّي بـ«المراجعات» الفكرية لجماعات العنف والإرهاب الإسلاموية في العقود الماضية، عبر رصد نموذجي الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وأوجه القصور في الحد من العنف، وآليات التحديث المطلوبة لهذه «المراجعات».
عرض الباحث المصري أحمد شلاطة؛ في فاتحة الكتاب، الخطوط العامة لاستراتيجيات مكافحة الإرهاب؛ مع التركيز على المسارات «الاستباقية» و«المتوازية مع الحدث الإرهابي»، ثم التالية للمواجهات. أعادت الدراسة النظر في فاعلي الإرهاب والموقوفين؛ فقيَّمت البرامج، وطرحت سيناريوهات أوضاعهم بعد المحاكمة، وسبل دمجهم في المجتمع. تحدد الدراسة أزمات التطبيق، وتحدّيات برامج المكافحة، موصية بضرورة «إنتاج معالجات أكثر قدرة وكفاءة في التعامل مع العوامل المركبة المفضية لإنتاج الإرهاب».
تناول المستشار القانوني المصري حسين حمودة مصطفى، سردية «إعادة إدماج عناصر التنظيمات الإرهابية في الحالة المصرية»؛ انطلاقًا من تقويم مفهوم الاندماج نفسه من زاوية دراسات الأمن الفكري؛ متتبعًا أسباب وصول المتطرف لمرحلة الاندماج، فيربط نجاحها بالطريقة التي انتهى بها الفعل الإرهابي؛ عبر واحدة من المسارات الثلاثة: الهزيمة نتيجة الضغط، التفكك، إغراء الاندماج داخل النظام السياسي. ركّزت الدراسة على محاولة إعادة إدماج التائب من الإرهابيين والمتطرفين، وأقرّت بالمشاكل أو العقبات في استراتيجيات الدّمج الفوقي أو البراغماتي؛ فتتبعتها في مصر، منذ عهد الملك فؤاد، وبعد ثورة يوليو (تموز) 1952؛ مرورًا بمراحل في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، والرئيس أنور السادات الذي شهد عهده محاولة دمج مطعمة بأهداف سياسية؛ انقلبت نتيجتها وأدت إلى اغتياله. ثم تناول الباحث محاولات دمج التائب من الجماعات الإرهابية في عهد الرئيس حسني مبارك، التي على نجاحها المحدود، ارتكست بعد ردِّة الجماعة الإسلامية التي لحقت بالإخوان في تبنّي مواقف انتهت بها إلى أن أُدرجت عام 2018 على قوائم الكيانات الإرهابية. تضمنت الدراسة شهادة من رجال الأمن والمفكرين، على رأسهم اللواء فؤاد علام؛ الذين فرّقوا بين إدماج جماعة الإخوان الإرهابية؛ والجماعات الإرهابية الأخرى، في التاريخ المصري.
قدّم أستاذ الطب النفسي محمد المهدي دراسة تقييمية للتجربة المصرية في دمج المتطرفين؛ عبر تشريح منهج تحفيز العقل المتطرف، وبحث نمط التدين الصراعي؛ الذي يتبني الرؤية الأحادية، ويعتمد الوثوقية الإقصائية، والتعبد بمفاهيم التقية والسريّة واليأس والعنف، وتقديس الخطوات نحو العزلة الشعورية، التي يحميها بالمبالغة في الدفاعات النفسية، كالإنكار والتبرير والتهويل والإزاحة، واستدعاء الكراهية والمحنة والمظلومية والاضطهاد. أبرز الباحث استراتيجيات تفكيك هذه التطرفية المفرطة، في بيئة السجون، التي يحذر من إمكانية تحولها إلى محضن تجنيد وترسيخ، ما لم تؤخذ خطوات التأهيل الإيجابي، عبر برامج يعمل عليها المتخصصون في علم النفس والاجتماع والتربية، مفصّلاً ملامح تطور التجربة المصرية منذ أواخر التسعينيات، كما عرض جهود مؤسسة الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، في مواجهة التطرف، مع توصية حول ضرورة «تدريس أدب الخلاف الديني والفكري والسياسي الاجتماعي ضمن المناهج الدراسية» لتطوير المواجهة الشاملة.
لاحظ الباحث والخبير المصري حسن محمد في دراسته، أن برامج الدمج يجب أن تأخذ في الاعتبار، الخصوصية المجتمعية والتاريخية للمستهدفين، وانطلق من ذلك باستحضار التجربة المصرية، منذ التسعينيات من القرن المنصرم، شارحًا هياكل ومؤسسات الدمج وإعادة التأهيل وجانبها الفكري والأيديولوجي؛ بالتركيز على الرعاية الاجتماعية اللازمة لعمليات الدمج والتأهيل. حاول الباحث عكس مراحل التجنيد؛ بدءًا من فكّ ارتباط المتطرف بجماعته؛ وإيجاد الحاضنة البديلة؛ وإعادة بناء الثقة في المجتمع لكسر جدران العزلة الشعورية التي استثمرت فيها التنظيمات المتطرفة. تشير الدراسة إلى المؤسسات العامة والدينية المشاركة في هذه العمليات، وعلى رأسها مراكز البحوث، ومؤسسات استشعار التطرف، والأزهر الشريف؛ للمساعدة في التأهيل، وتصحيح المفاهيم الداعية للموت وبناء المفاهيم الحيوية. اعتبر الباحث أنّ توظيف المتطرفين في سلك مكافحة التطرف، يقدم لمحةً مفيدة، داعيًا إلى رعاية برامج «العائدين من التطرف»، وتعزيزها، لإنجاح الإدماج؛ وتحويل التائب، إلى عضو مفيد في مجتمعه الذي يعود إليه، يثري مسار المحتوى البديل؛ عارضًا مجموعة الخطوات الرعائية الاجتماعية التي تحتاجها العملية لكي تنجح.
وفي الجانب العملي، المباشر، ناقش الباحث المصري ماهر فرغلي، تجربة اندماج الجماعة الإسلامية المصرية، بالتركيز على جانب المراجعات التي انطلقت عام 1997؛ برعاية اللواء أحمد رأفت، مع قيادات الجماعة، والتي أفضت إلى تجربة حاولت الدول المجاورة استنساخها في مكافحة التطرف وتبريده. تناولت الدراسة مراحل ظهور الجماعة الإسلامية، من الانشقاق عن الإخوان في السبعينيات من القرن الماضي، إلى التورط في عمليات إرهابية كاغتيال الرئيس أنور السادات، واقتحام محلات غير المسلمين، وتبرير ذلك عبر كتب ومجلات تابعة للجماعة. ورصدت الدراسة أيديولوجية الجماعة قبل التحول والدّمج عبر تفصيلٍ في أدبياتها؛ ثم وازنت ذلك بإنتاج فترة التحول نحو وقف العنف، بقيادة بعض رموز الجماعة، التي صاغت الكتب الأربعة، لتبرير وقف العنف، وعذر الحاكم وتبني الموقف الاستراتيجي لقتال الطائفة وتجويز العمل الحزبي. وبعد «25 يناير» انكسرت سلسلة السُّبات، لغياب البرنامج السياسي التفصيلي، ولتحولات جهوية في القيادة أدت إلى انقلاب على «كرم زهدي» و«ناجح إبراهيم»، قلبت الموقف من المراجعات نفسها. فبعد أن انتقدت الجماعة وأقرت بخطأ اغتيالها للسادات، عادت نبرة الفخر بالعملية من جديد، وتبنى قياديون زمرة من الأفكار تبرر العودة عن المراجعات، وتنظر لأفكار متباينة، لا يزال خط البناء على تجربة المراجعات 1997 هو الأضعف من بينها، لا يقويه إلا دعوات الحوار الوطني؛ وآمال إعادة الدخول في المشهد السياسي من بوابته.
تضمّن الكتاب شهادتين: الأولى للقيادي الأبرز في تجربة المراجعات ناجح إبراهيم، ألقى فيها الضوء على مساهمة قادة الأجهزة الأمنية في صدور هذه المبادرة، ودورهم في إنفاذ خطواتها إلى العلن، وترغيب العناصر الهاربة في تأييدها؛ وإشاعة حالة من التواصل الإيجابي. ومثلها وثقت شهادة نبيل نعيم سجالات التكفيريين وخروج مبادرات إيقاف العنف، وأشادت باللواء أحمد رأفت، الذي استغل جنوح القيادات إلى المراجعات والتحولات السياسية، فاختار نخبة جدّية لحوار العناصر المتطرفة التي بلورت رؤيتها في ترك العنف، بعد تمحيص شرعي واستدلالات. يشير الشاهد إلى أن الدولة عملت على تدعيم حياة التائبين بالفرص؛ وتقديم تسهيلات ورعاية منتظمة، جعلت علائق التائبين بالأجهزة المصرية معتادة. وخلص إلى أن المنهج المصري دعم الحوار والمراجعات في مراكز التأهيل؛ ودعّم حياة العناصر خارج السجون، وأولى العناية بتفكيك الأيديولوجيا.
عرض الباحث في العلوم السياسية محمد كمال محمد، أبرز التجارب الدولية في برامج فكّ الارتباط ورعاية السجون التي اهتمت بها الحالة المصرية، سواء على المستوى العربي كالحالة السعودية أو على المستوى الدولي، كالحالة الأميركية والدنماركية والألمانية والسنغافورية. عرضت الدراسة التجربة الأميركية، وكشفت عن انتقال السجناء إلى بيئات أقل تقييدًا؛ وأشارت إلى تجربة إدارة السجون في ولاية إنديانا، وناقشت مشروع الإفراج المبكِّر وتقييم التطرف. وتطرق الباحث إلى برنامج العودة للمسار الصحيح في الدنمارك، الذي يعنى بالتطرف اليساري واليميني ودوراته، ومتابعة التائب من التطرف بعد خروجه بالدعم، وإعادة الإدماج الاجتماعي والأمن المالي. تناولت الدراسة إشراك منظمات المجتمع المدني والاتصال بالأسر، ودورها في إنجاح تجربة التعافي من التطرف، وحددت مخاطر وإيجابيات لم شمل السجين مع أسرته وفقًا لكل حالة. عالجت الدراسة الوصمة السلبية للتائبين والخطوات الممكنة لتفريغها، وتقليل خطر الارتكاس؛ ودللت على التجربة الإندونيسية في إنشاء شبكة بديلة للشخص المفرج عنه؛ حتى لا يشعر بالوحشة والاغتراب، وهو ما قد يدفعه لاستعادة صِلاته السابقة، وهو ما ركّزت عليه عبر تجربة سنغافورة، حيث تم ربط المفرج عنهم بالقيادات الدينية المحلية في مجتمعاتهم ممن لديهم أفكار وسطية.
أما دراسة الباحثة المصرية تُقى النجار، فكشفت عن العلاقة بين المرأة والتنظيمات الإرهابية، مستعرضة تطورها ودوافعها وأدوارها المختلفة، فألقت الضوء على مدى تأثير وتأثر «النوع الاجتماعي» بالظاهرة الإرهابية، لا سيما أنه يُعد بُعدًا أساسيًا ومحوريًا في تفسيرها.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، والشكر موصول للزميل ماهر فرغلي الذي نسّق العدد، ونأمل أن يسد هذا الكتاب، ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
مارس (آذار) 2023