يعد “تاريخ التسامح في عصر الإصلاح” من أهم المراجع الحديثة حول الكتابات التي عالجت موضوع التسامح والحرية الدينية في الغرب، الذي كان مثار جدل كبير في أوساط المسيحيين الكاثوليك والمنشقين على السواء. إن التنظيرات المرتبطة بمفاهيم التعايش والتعددية الدينية والإثنية وتدبير التنوع والإدارة الرشيدة للجماعات، باتت تحتل -ومنذ عقود- أهمية كبيرة لدى علماء الإنسانيات وصنّاع القرار والسياسات، نظراً لما تطرحه هذه القضية الحيوية والشائكة من تحديات عدة في الاجتماع والثقافة والدين.
يقدم الأب اليسوعي جوزيف لوكلير (1895-1988) في كتابه توثيقاً وتحليلاً علمياً حول كيفية تعامل السلطات الدينية والسياسية في أوروبا مع التعددية الدينية والتسامح بدءاً من الحقبة “الآبائية” وصولاً إلى مسارات الإصلاح في عدد من الدول الأوروبية إبان القرن السادس عشر.
وجدت معظم الأمم الأوروبية نفسها، نتيجة تشظي المسيحية الوسطية وحركة الإصلاح، في وضع غير مسبوق، هو وضع التعددية الدينية، وطَرَحت مواجهة عالم من الكنائس والفرق الباحثة عن حق المواطنية، على الحكّام، بحدة، مسألة التسامح. والتسامح، وإن لم يحقق -آنذاك- سوى إنجازات محدودة، فقد أصبح في قلب النقاش الدائر في القرن السادس عشر الذي أرسى مبادئه للقرون المقبلة.
إن كبار المفكرين والمصلحين يلتقون ويتخاطبون في هذا الكتاب الذي وضع من أكثر من نصف قرن، ولكن التاريخ المعاصر يجعل منه كتاباً لا تعوَّض قراءتُه، وكذلك سماعُه، لذا يضع مركز المسبار للدراسات والبحوث تسجيلات صوتية ينشرها على حلقات، حول ما تضمنه هذا الكتاب، بشكل موجز وملخص، وسيبدأ بنشرها على موقعه مع اليوم الأول لشهر رمضان المبارك، وقد سُجلت بصوت الأستاذ أحمد لطفي. وهنا يتبادر إلى الأذهان السؤال الآتي: ما حاجة العرب والمسلمين لهذا الكتاب في الزمن الراهن؟ إن الغاية منه ليست بدافع المعرفة فقط، إنما بدافع استلهام التَّجربة عربياً وإسلامياً لتكون منطلقاً لإدارة التَّسامح بمنطقتنا، التي تغلي في مِرْجَلِ الطَّائفية والكراهية الدِّينية. نستمع لــ«تاريخ التَّسامح في عصر الإصلاح» لأنه مهم في عرض تجربة التَّسامح بالأقطار الأوروبية، في عصر ظهور الطَّوائف المسيحية، والنِّزاعات التي كلفت أوروبا دماء غزيرة، وقُتل وأُحرق فيها علماء ورجال دين وأدباء، وأدت إلى معارك طاحنة دامت فترات طويلة خلفت الآلاف المؤلفة مِن البشر، بين قتيل ومعوق، وكم تبددت ثروات، تكفي لبناء عالم آخر على عدد بلدانه.
نأمل أن تحقق هذه التسجيلات الصوتية لفصول منتقاة من هذا الكتاب المرجعي غايتها في إيصال رسالتها لعدد كبير من الناس في العالم العربي، بغية أخذ العبر والدروس وتأكيد ضرورة النظر إلى التعدد والتنوع كجزء أصيل من تراثنا ومجتمعاتنا وتاريخنا ومستقبلنا، وتكثيف مساحات العيش المشترك بين كل المكونات المجتمعية، في زمن نحن بأمس الحاجة فيه إلى التشديد على القيم المشتركة، وتوطيد السلام وإعلاء مبادئ التسامح، والتخفيف من وطأة الذاكرات المتنازعة.