تقديم
يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «تجربة المغرب في تدبير التطرف العنيف: المؤسسات والأفراد» (الكتاب السابع والتسعون بعد المئة، مايو (أيار) 2023) دراسة التجربة المغربية في مكافحة التطرف، ويبني على كتابيه السابقين «السلفيون في دول المغرب العربي» (الكتاب التاسع والأربعون، يناير (كانون الثاني) 2011) و«الإسلام السياسي والتطرف في المغرب 2011 – 2021» (الكتاب السابع والثمانون بعد المئة، يوليو (تموز) 2022)، ويخصص هذا الكتاب؛ لمقاربة تعامل المؤسسات الدينية والقانونية والإصلاحية والحزبية والفكرية والإعلامية والدرامية مع التطرف والإرهاب، فيختبر أثر التفاعل الديني المؤسساتي، ويعيد دراسة برنامج مصالحة، ويبحث مواقف الأحزاب السياسية من التطرف، ويقرأ المنتوج الفكري المغربي سواء الذي اضطلعت به المراكز البحثية ومختبرات التفكير، أو الذي قام به المفكرون المغاربة في مواجهة التطرف العنيف. ورصد الكتاب التغطية الإعلامية المغربية لملف الإرهاب، وكيفية تفاعل صنّاع السينما مع الظاهرة، عبر مراحل، ما قبل تفجيرات الدار البيضاء 2003، وبعد ظهور داعش 2013 التي نقلت الأزمة المغربية إلى خطوط جديدة لسفر مجموعة من الشباب إلى مناطق النزاع.
تناولت دراسة الباحث المغربي منتصر حمادة، الاستراتيجية التي تبنّتها المؤسسة الدينية المغربية في التعامل مع التطرف العنيف، التي تبلورت بعد أحداث 16 مايو (أيار) الإرهابية 2003؛ وتمخض عنها إعادة هيكلة الحقل الديني، وتأهيله وتجديده، تحصينًا للمغرب من التطرف والإرهاب، وحفاظًا على هويته، فأُحِدثت مديرية التعليم العتيق، وأُنشئت وحدات أخرجت المؤسسة إلى الفعالية، وأُدمِجت فعاليات نسائية في تدبير الشأن الديني، وأُسِّس المجلس الأوروبي للعلماء الأفارقة. ثم سعى المغرب إلى سحب البساط عن الإسلاموية، وتدعيم المنسحبين منها، بتمكينهم في خطاب المؤسسات الرسمية، فتوظفت الجهود لتفكيك فورة الأدبيات الإسلاموية المقاتلة والعنيفة، ومفهوم الحاكمية والتكفير، وأطلقت المنتدى الأول للوسطاء للوقاية الاجتماعية من التطرف.
تناولت دراسة الباحث المغربي عبدالله الشرقاوي العلاج القانوني للتطرف برصد قوانين مكافحة الإرهاب، وتنزيلها على السوابق في المحاكم المغربية. أرّخت الدراسة لبداية الأحداث الإرهابية بأحداث تفجير فندق (أطلس أسني) في أغسطس (آب) 1994، ثم إيقاف أفراد خلية تابعة لتنظيم القاعدة سنة 2002. ثم ركّز الباحث على تكييف وضع العائدين من مناطق الصراع في سوريا والعراق، مشيرًا إلى القانون رقم (86,14) المتعلق بتجريم الالتحاق أو محاولة الالتحاق بشكل فردي أو جماعي بجماعات إرهابية، ولو كانت الأفعال الإرهابية لا تستهدف المملكة المغربية. ثم قدّمت الدراسة سردًا للموقوفين ومحاكماتهم، مع تقديم نبذة عن نماذج مثل خلية الفرنسي (روبير أنطوان) المفككة سنة 2003، وجماعة أنصار المهدي (2006) وخلية الدم بمكناس، وصولًا إلى خلايا شمهروش (2018). مدققةً في السجالات القانونية، ومداولاتها، مع ملاحظة أن أغلب المعتقلين في التطرف هم شباب لا ينتمون للأحزاب السياسية أو النقابات، وتكوينهم الدِّيني ومستواهم التعليمي متدنٍّ، فمن أصل (842) مدانًا وجد أن (47) لم يلجوا المدرسة، و(209) بلغوا الابتدائية، و(240) انتهوا إلى الإعدادية المتوسطة، و(180) بلغوا الجامعة، بينما أنهاها (166) فقط!
أطلقت السلطات المغربية برنامج «مصالحة» لتشجيع المتطرفين السابقين على اتِّباع مسار النقد الذاتي والمصالحة مع النص، عبر ضبط التأويل بالمذهب المالكي، وتأمين مفاهيم السكينة والمصالحة مع المجتمع. تناولته الباحثة المغربية لمياء العمراني، مشيرةً إلى أنّ البرنامج يقدم الخيارات القانونية المرسخة لمبدأ المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات، ويرعى التأهيل النفسي ويوفر الرعاية الاجتماعية والاقتصادية، ويهدف إلى الإدماج السياسي للمتطرفين المتراجعين؛ إذ سعى في جانبه السياسي إلى استيعاب تحوّلات المتراجعين عن التطرف داخل السجون، ودمجهم في العملية السياسية الوطنية وأدواتها القانونية، فانخرط إثر ذلك بعض المتراجعين في الأحزاب السياسية الوطنية.
تناول الباحث المغربي هشام الطرشي موقف الأحزاب السياسية المغربية من قضية التطرف والإرهاب، إذ بلورت مواقف عكستها تصريحات سياسية، فأشار إلى أنّ ديدن حزب العدالة والتنمية -مثلًا- كان التشكيك، بل واتّهام أجهزة الدولة الأمنية، وأنه كان يختزل الإرهاب في «جرائم عادية يعاقب عليها القانون الجنائي»، بينما راوح حزبا النهضة والفضيلة في التعامل بين مخاطبة الأسباب؛ وإدانة النتائج. واعتمد حزب الأصالة والمعاصرة مواجهة التطرف العنيف على منظمات المجتمع المدني، والتفاعل بمساءلة وزارة الأوقاف حول «حكم المرتد»، ومبادرات تسوية ملفات معتقلي التطرف العنيف، والاهتمام باستصدار موجِّهات برلمانية حول «وقف تسفير المغاربة للقتال في سوريا»؛ ومبادرة اللجنة الاستطلاعية حول الأطفال والنساء المغاربة في مناطق التوتر.
رصد الباحث المغربي ياسين بوشوار، أعمال المراكز البحثية المغربية، وتناولها للتطرف العنيف بعد سنة 2010، سواء المراكز التابعة للهيئات ذات المنفعة العامة مثل «مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد»، الذي سعى للتعاون مع دول الجنوب عبر المؤتمرات للحوارات الأطلسية والأمن الإفريقي؛ أو مؤسسة «الرابطة المحمدية للعلماء» التي يتبعها (16) مركزًا بحثيًا، ويصدر عنها سلسلة «دفاتر تفكيك خطاب التطرف». تطرقت الدراسة أيضًا إلى المراكز والمختبرات الجامعية التي يبلغ عددها (55) مركزًا، وبعد رصدٍ مبدئي وتقدير منهجي، اتّضح أنّ المعطيات بعيدة عن الواقع الميداني للبحث حول الإرهاب والتطرف العنيف حسب البيانات المتاحة في قاعدة توبقال.
بينما تناول الباحث المغربي يوسف شريف الميموني أبرز الكتب التي تناولت التطرف في المغرب، متخيّرًا مجموعة من الإنتاجات، التي تبنّت المواجهة الفكرية مع التطرف العنيف، وناقش كتاب «دولة الإسلام السياسي: وَهْم الدولة الإسلامية» لسعيد بنسعيد العلوي، وكتابه «الإسلام والسياسة»، الذي يبحث دور الحركات الإسلاموية في المجال السياسي، وكتاب «أطفالنا المفخخون بين الانحراف والتطرف» للكاتب رشيد المناصفي، الذي أكد أنّ أحداث سبتمبر (أيلول) 2001 يجب أنْ تُغيّر طريقة تربيتنا لأطفالنا، لنعلمهم القيم الإنسانية المغذية لخيار العيش المشترك، وعدم تركهم نهبًا لعنف العالم الرقمي والمنابر وغيرها من التحولات. والاختيار الرابع خصصه الباحث لنقد كتب طه عبدالرحمن، وكان الأنموذج الخامس هو إعادة قراءة متن ابن تيمية لحمو النقاري، الذي يعتمد نظرية أن الأصولية مرتبطة بالأزمات الحضارية، ويحاول توظيف «ابن تيمية» للرد على «ابن تيمية» نفسه! بينما اختتم الباحث النماذج بكتاب الخوارج بالمغرب، لعلي بن صالح الغربي، الذي حاول التمييز بين التيارات التكفيرية التي نسبها إلى «ميمون أوموسى» المتأثر بكتب سيد قطب، ومصطفى شكري؛ ليشير إلى طيفٍ واسع من أنماط التفكير، في الاستجابة لمواجهة التطرف، أو مهادنته كما بدا في بعضها!
رصدت سهيلة الريكي نهج الإعلام المغربي في مواكبة ملفات الإرهاب في عقدين (2001-2022)، فلاحظت أنّ الخطاب المتشدد استغل الانفتاح السياسي الذي رافق تتويج الملك محمد السادس، خلفًا للملك الحسن الثاني، فظهرت حوارات لقادة التيارات المتشددة في صحف، اتّسمت بمهاجمة رجال الدين التقليديين. وتشير الباحثة إلى أنّ الصحف المحسوبة على اليسار، ظلّت تروِّج إلى أنّ الهجمات الإرهابية ربما ارتكبها المحسوبون على جهات رسمية؛ متبنين نظريات المؤامرة.
قدّمت آمال الزيتوني دراسة عن الأعمال الدرامية والسينمائية المغربية ومعالجتها للتطرف والإرهاب، فاستعرضت مجموعتين من الأفلام المنتجة داخل المغرب، أو المنتجة عنه، فناقشت فيلم «يا خيل الله» المنتج سنة 2012 المقتبس عن رواية نجوم سيدي مؤمن، وفيلم «أوليفر بلاك» المنتج سنة 2020، وفيلم «الطريق إلى الجنة»؛ وهو مغربي هولندي، يعالج التطرف الديني العنيف من زاوية الهجرة إلى أوروبا، ثم استعرضت الإرهاب الداعشي، في فيلم «رهائن» المنتج سنة 2019، والذي يروي تجارب انضواء الشباب في تنظيم داعش، وفيلم «يوم الفداء» المنتج سنة 2021.
تناولت سهام أبعير الاستفادة الإفريقية والأوروبية من التجربة المغربية في مكافحة الإرهاب، وَحَدّدت أبرز عناصر الإصلاح وهيكلة الحقل الديني في المغرب، في صيغة تراعي وحدة المذهب المالكي مع اعتماد اجتهاد منفتح، ثم إصلاح تشريعي ومؤسساتي يحارب الجرائم ذات الدافع الإرهابي. وفي البعد الأمني سلّطت الباحثة الضوء على الاستراتيجية الاستباقية، والسعي لدمج المتراجعين من المتطرفين في المجتمع، كما تابعت مبادرات توسيع دائرة الأمن الروحي أو الدبلوماسية الروحية المغربية وتأثيرها في محيطها الجغرافي الإفريقي. وسلّطت الضوء على مبادرات مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، بالاشتراك مع المجلس الأعلى للأئمة والمساجد والشؤون الإسلامية في أبيدجان، كما ركّزت على التعاون المغربي الأوروبي في تكوين رجال الدين التقليديين والملفات الأمنية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، والشكر موصول للزميل منتصر حمادة منسق العدد، ونأمل أنْ يسد هذا الكتاب، ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
مايو (أيار) 2023