تقديم
يُواصِل مَركَز المسبار لِلدِّراسات والبحوث، دِراسة الدَّعائم المعزِّزة لفِكرَة الدَّولة؛ والمحصِّنة لِلمجتمع مِن أحابِيل الحركات الإسلاموية المتطرِّفة، فيخص هذا الكِتَاب الذي يأتي بعنوان «تحدِّيَات قِيم المواطنة: الإسلامويَّة والحَرب» (الكتَاب الحادي والثَّمانون بَعد المِئة، يناير (كانون الثاني) 2022)، قِيم المواطنة بالبحث، ويُركِّز على التَّحدِّيات والفرص التِي تُواجههَا مَنظُومة القيم المتَّصلة بها؛ المتمثِّلة في التَّسامح والتَّضامن والاحترام والاعتراف والالتزام بِالقانون والوطنيَّة، فيتناول أنماطًا مُتَعددَة مِن المواطنة وقيمها التي طورتهَا مُلاحظات الفلاسفة والمنظِّرين السِّياسيِّين، اِستجابةً منهم لِمَا واجهَته بُلدانهم مِن نِزاعَات أهليَّة وولاءات عابرة، وتحدِّيات للعيش المشترك.
تَنَاولَت فَاتِحة دِراسَات الكتَاب، ثَلاثَة طُروحَات لِفلاسفة ألمَان؛ تَبايَن حُضُور قِيم المواطنة فِي نظريَّاتهم. فَنَاقشَت تنظيرات أكسِيل هُونيث (Axel Honneth)، وجدليات يورغن هابرماس (Jürgen Habermas)، وطروحات هانس يُوناس (Hans Jonas). إِذ اكتسَب مَفهُوم الاعتراف عِند هُونيث أهَميَّةً قُصوى فِي تَشكِيل الهوِية الذَّاتيَّة، فبِغيابه يَفقِد الفرد صِفَته الشَّخصيَّة ووضعيَّته الفرديَّة. بينمَا اِحتلَّت قِيم الحوار والتَّواصل واحترام القانون والمجال العام مَكانَة كَبِيرَة فِي كِتابَات هابرماس، الذِي نظر لِمواطنةٍ العالميَّة، فِيمَا يُشدِّد على أخلاقيَّات النِّقَاش أو الحوار القائمة على: التَّواصل والتَّفاهم والحرِّيَّة والعقلانيَّة والتَّحرُّر. بينمَا أولَى يُوناس أهَميَّة لِلفلسفة الإيكولوجيَّة فِي تنظيراته، وأراد التَّأسيس لِأفكَار جَدِيدَة حَول حَاضِر ومستقبل البيئة والإنسان. لَم تُشِر الدِّراسة إِلى المسارات السِّياسيَّة والثَّقافيَّة التي نَشأت فِيهَا النظريّات، ولا أزمَات ألمانيَا فِي القرن الماضي، التِي أنتَجت المدارس الثَّلَاث، التي تتطوّر إلى الآن، ويمكِن مُلَاحظَة صِلة كُلِّ فيلسوف بِأزمة مِن الأزمات، نتاج الحروب، أو سياسة الذَّاكرة، والمسؤوليَّة المستقبليَّة. ولئِن اِختلَفت هَذِه المدارس ونزعاتهَا، إِلَّا أنهَا تَتفِق فِي تَعزِيز قِيم العيش المشترك والتَّسامح.
إِذن، فَقيَم المواطنة تَبرُز عن تحدٍّ بِعينه، وتترافق مع ظَرف الوعي السِّياسيِّ والقانونيِّ بِأهمِّيَّة السِّلم المجتمعيِّ، لِذَا تَنَاولَت المادَّة الثَّانية، سِياقَات وِلادة الوعي بِالمواطنة فِي ثَلاثَة نَماذِج: الأول الأنموذج الرَّاوندي، الذِي بَانَت فِيه صَدمَة الإبادة والحرب، فتَطرّقَت إِلى المعاناة والدُّروس المستفادة مِنهَا؛ فِي سبيل إِعادة البنَاء الدَّاخليِّ وتحقِيق المصالحة، وكيفِية بُلُوغ العدالة والعَمل مِن أجل المستقبل، أمّا النَّموذج الثَّاني؛ فهو السِّويسريُّ الذِي تَسببَت فِي صناعته، مُشَاركَة المرتزقة السِّويسريِّين فِي الحُروب الخارجيَّة؛ إِذ اِنتهَى مُسلسَل النِّزاعات السِّويسريَّة عام 1515 على إِثر هَزِيمَة فِي مَعرَكة خَارجِية، إِذ كان لِلمشاركة فِي مَعرَكة مارينيانو تحديدًا، دَور أساسِي فِي تَظهِير عَقد اِجتماعيٍّ جديد لِلعيش معًا فِي الكانتونات، وإعادة النَّظر بِالمشاركة فِي الحُروب الإقليميَّة، بَعد الخسائر الفادحة فِي الأرواح التِي تَكَبدهَا المحاربون السِّويسريُّون. فبدأت تَتَبلور قناعَات لَدى المجموعات السِّويسريَّة بِضرورة تَشكُّل مَنظُومة مُواطنيَّة، تَحصُر قِيم التَّضحية والفداء بِالحدود السِّياسيَّة لِلوطن، مِمَّا يَستدعِي عدم المشاركة فِي حُرُوب الآخرين. وقد وصفَت سِويسرَا نفسهَا بِأنَّهَا مُحَايدَة مُنذ عام 1674، فانتهجت الحيَاد كسياسة خَارجِية. بينمَا الأنموذج اللُّبنانيُّ الثَّالث لَا يَزَال يَتَخلَّق عَبر جُهُود لافِتة فِي الجانب النَّظَريِّ لِجهود المجتمع المدَنيِّ، بينمَا تَرتَفِع التَّحدِّيات والعقبات، التِي تَسببَت بِهَا الأزمات السِّياسيَّة الإسلامويَّة؛ وكَثافَة الولاءات الدِّينيَّة العابرة لِلحدود، التِي يتقدَّمهَا إِشكَال حِزب اللَّه اللُّبنانيِّ، إِذ أفرَزت تمزُّقًا دَاخلِيا، اِستجَاب لَه البعض بِطَرح صِيغ مُواطنَة مُجَزأة مِن فَرط الإحباط!
لَم يُمَثِّل الإِسلَامُ السِّيَاسِيُّ عَقَبَةً لِمَنظُومَةِ قِيَمِ المُواطَنَةِ فِي لُبنَانَ فَحَسبَ، بَل تَتَرَابَطُ نَظَرِيَّتُهُ الأسَاسِيَّةُ بِتَفكِيكِ الولَاءِ لِلدَّولَةِ ومُجتَمَعِهَا، هَذَا مَا عَالَجتْهُ دِرَاسَةٌ دَرَسَت جُذُورَ مُنَافَاةِ المُواطَنَةِ فِي حَالَتِي تَنظِيمَ الإِخوانِ فِي مِصرَ، وفِي العِرَاقِ.
انبَنَى الجِذرُ الأول لِهَذِهِ المُنَافَاةِ عَلَى حُزمَةِ مَفَاهِيمِ التَّكفِيرِ والتَّنفِيرِ القُطبِيَّةِ، وعَلَى رَأسِهَا «الجَاهِلِيَّةُ والحَاكِمِيَّةُ». أمَّا عُضوُ هَيئَةِ التَّحرِيرِ بِالمَركَزِ، البَاحِثُ والأكَادِيمِيُّ والمُفَكِّرُ التُّونِسِيُّ مُحَمَّد الحَدَاد، فَأكَّدَ عَلَى إِشكَالِيَّةِ الإِسلَامِ السِّيَاسِيِّ ودَورِهِ فِي تَشكِيلِ مَا يُسَمِّيهِ حَالَةَ «الدَّولَةِ العَالِقَةِ»؛ الَّتِي لَا يَستَطِيعُ المُجتَمَعُ إِكمَالَ مَدَاميكِهَا بِسبَب الفِخَاخِ الاسترَاتيجيَّةِ الَّتِي يَنصبُهَا الإِسلامَويُّون، ولَكنَّهُ حَاولَ تَقديمَ دَعوةٍ لدرَاسَة تَجَاربَ مُتعدِّدَةٍ، منها الحَالَةُ الإِندُونِيسِيَّةُ في الوُصُولِ إِلى دَولَةٍ بمَبَادِئَ مَدَنِيَّةٍ تُدِيرُ التَّنوُّع، مُنطَلِقَةً مِن حيَادِ تجَاهَ الدِّينِ والإثنِيَّةِ. ولتَقيِيمِ أثَرِ التَّجربَة التَّاريخيَّة، عَلَى رجال الدين المُعَاصرِينَ؛ تنَاولَت دِرَاسَةٌ تَعَقيبِيَّة الوضعَ الإِندُونيسِيَّ الرَّاهِنَ، فِي شَخصِ الأمين العَامِّ الجَدِيد لجَمَاعَة نَهضَة العُلَمَاء؛ وأفكَاره الَّتي تُعَالجُ القَضايَا ذَاتَهَا، ممَّا يَدُلُّ عَلى أنَّ الجِدَالَ المَفتُوحَ لَم يَنغَلِق، ولَكِن تَخلَّق قِيَمَ المُواطَنَةِ، والمُمَانَعَةُ لَهَا، يَكتَسي بحَالةِ كُلّ دَولة، وأنَّ المفَاهِيمَ الكونيَّةَ وإِن تمَادَى صَلاحُهَا، يَجِبَ أن تَتَأقلَمَ.
فيمَا بَيَّنَت درَاسَة «قِيمَةُ تَعزَيز المَعرِفَةِ بِالمُواطِنَةِ لَدَى الشَّبَابِ»، كَيفِيَّةَ الانتِقَال مِن المَعرِفَةِ بِمَاهِيَّةِ المُواطَنَةِ ومَا يَنبَثِقُ عَنهَا ويُحِيطُ بِهَا، إِلى الفِعلِ والتَّصَرُّف أو السُّلُوكِ المُعتَبَرِ؛ مُؤَشِّرًا على مُمَارَسَة مُواطنَةٍ صَحِيحَةٍ صَادِرَةٍ عَن قَنَاعَةٍ وحِسٍّ ذَاتِيٍّ لَدَى الشَّبَابِ. وبَحَثَت دراسَةٌ في دَور وسَائِلِ الإِعلَام ومَسؤُولِيَّتِهَا فِي تَعزيزِ خِطَابَاتِ المُواطَنَةِ، وكُلِّ ما يُؤَدِّي إِليهَا من مَضَامِينَ تُرَاعِي المَسؤُوليَّةَ الاجتِمَاعِيَّةَ؛ والتّوازن بَين الجنسَينِ وحُرِّيَّةَ الاختِلَافِ والِابتِعَادِ عَن خِطَابِ الكَرَاهِيَةِ والتَّميِيزِ علَى أسَاسِ الجِنسِ والعَرَقِ والدِّينِ، وتَوقَّفَت عندَ تَجَارُب بَعض الدُّول في التَّنظِيمِ الذَّاتِيِّ للإِعلَام؛ الهَادف لتَعزيز الوعي بالمُواطَنَةِ، مع مُحَاولَةِ فهم تَأثِيرِ المِيديَا الجَدِيدَةِ فِيهَا.
عَرَضَت درَاسَة تَجَارب، بلجِيكَا وفرَنسَا وألمانيَا وإِيطَاليَا والبُرتُغَال وإِسبَانيَا؛ في تَحوِيلِ المُهَاجِرين إِلى مواطِنين مُندَمِجِين فِي مَنظُومَةِ القِيَم الجَدِيدَةِ؛ عبر الإِجَابَةِ عَن أَسئِلَةٍ تَنَاوَلت العَناصِر الأَكثَرَ تَأثِيرًا في وَضعِيَّةِ اَلمُوَاطَنَةِ لِلمُهَاجِرِ، وبَحَثَت الطُّرُق لتَحفِيزِ اَلمُوَاطِن الجَديدِ عَلَى أَن يُصبِحَ جُزءًا طَبِيعِيًّا فِي اَلبَلَد اَلَّذي هَاجَرَ إِلَيهِ. وقَرِيبًا منهَا قَدَّمَت قرَاءَةٌ في كتَاب «اَلمُوَاطَنَةِ اَلدِّيمُقرَاطِيَّة في تَقَلُّبٍ مُستَمِرٍّ: مَفَاهِيم المُوَاطَنَةِ فِي ضَوءِ اَلتَّشَرذُمِ اَلسِّيَاسِيِّ والِاجتِمَاعِيِّ» (Democratic Citizenship in Flux : Conceptions of Citizenship in the Light of Political and Social Fragmentation) الصَّادِرِ عَامَ 2021، دِرَاسَةَ اَلنَّظَرِيَّاتِ حَول اَلمُوَاطَنَةِ فِي مَجَالَاتِ عِلمِ اَلِاجتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالقَانُونِ وَالتَّارِيخِ.
كَشَفَ الكِتَابُ، أنَّ الحَرَكَات اَلمُتَطَرِّفَة؛ والجَمَاعَاتِ اَلإِسلَامَوِيَّةَ، اَلَّتِي تُحَاولُ توظِيفَ ثِمَارِ «قِيَمِ اَلْمُوَاطَنَةِ» لأَغرَاضٍ سِيَاسِيَّةٍ، نَزَعَت قِيَمَ المُوَاطَنَةِ مِن سِيَاقَاتِهَا، ووظَّفَتهَا ضِدَّ مَرَامِيهَا، وأَهمَلَت النَّظَرَ فِي جَوَانِبِهَا اَلْإِنسَانِيَّةِ اَلرَّئِيسَةِ مِن مُسَاوَاةٍ، وَتَسَامُح، وَحِوَار.
فِي اَلخِتَام، يَتَوَجَّهُ مَركَزُ اَلمِسبَارِ لِلدِّرَاسَاتِ وَالبُحُوثِ، بِالشُّكرِ لكُلّ فَريق العَمَلِ، والبَاحِثِينَ اَلمُشَارِكِينَ في الكِتَاب؛ ويَخُصُّ بالذِّكرِ، اَلزَّميلَةَ ريتا فَرج الَّتي اقترحت العَدد وأشرفت عليه ونَسَّقَته, والمثقف والمفكر السعودي الزميل فهد بن سليمان الشقيران الذي دعم المشروع.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
يناير (كانون الثاني) 2022