تدريس الأديان في جامعات الجمهوريّة ليس بالأمر البديهي، ونشأة علم للأديان متخلصا من الطابع الديني لم تحدث دون آلام. ويشهد التاريخ القريب على هذه اللّحظة الفريدة التي برز خلالها بين حقول الاختصاصات الجامعيّة علم يسعى إلى أن يكون مستقلاّ بنفسه وهو التاريخ المقارن للأديان، لكنه نشأ في صراع مع موضوعه، أي الدين معتبرا في حضوره الثقافي المسيطر الذي تمثل آنذاك بالمسيحية.
لقد نشأت الكراسي الأولى لتاريخ الأديان في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، في الوقت نفسه الذي كانت فيه المجتمعات الأوروبيّة تتجادل بقوّة حول العلمنة. وقد احتفظت فرنسا خاصّة بذاكرة الصراعات التي صاحبت ذلك المسار، واحتفظت بها في مؤسساتها وسلوكها. فتاريخ الأديان كان نتيجة علمنة العلوم ودافعا لهذه العلمنة في آن واحد. لذلك وجد هذا العلم نفسه مقحما مباشرة في تلك المجادلات. فالبحث العلمي في الدين لا يفترض فقط توافر مسافة نقديّة تجاه موضوع البحث، لكنه يفترض أيضا المقارنة المعقولة بين الظواهر والأنظمة الدينيّة، وهي مقارنة تؤدّي حتما إلى تنسيب الأشياء. فعندما تقوم ديانة مسيطرة، مثل المسيحية أو الإسلام، بتطوير خطاب لاهوتي يؤكّد طابعها الكوني والنهائي وتفوّقها المطلق على كلّ الأشكال الدينيّة الأخرى، تبدو النسبيّة وكأنها تهجّم على جوهر الدين نفسه.
1- عـودة سريعة إلى بدايات تاريخ الأديان في الجامعة:
ما من شكّ في أنّ ظهور اختصاص أكاديمي يهتمّ بالدراسة النقديّة والمقارنة للأديان، مثّل في أوروبا النتيجة المباشرة لعلمنة التعليم العالي ولمصير كليّات اللاهوت في الجامعات الحكوميّة. هكذا كان الأمر خاصّة في جنيف سنة 1873 عندما نشأ أوّل كرسي لتاريخ الأديان في الوقت نفسه الذي استبدلت الأكاديميّة القديمة التي أسّسها كالفن بالجامعة الجديدة(1). وهكذا كان الأمر أيضا في هولندا سنة 1877 عندما علمنت كليات اللاهوت البروتستانتي في لييد وأترشت وغرونينع وأمستردام، وحذفت منها الدروس العقائديّة لصالح تدريس موضوعي للأديان. وفي بلجيكا، كانت جامعة بروكسيل الحرّة مؤسّسة علمانية تنافس جامعة لوفان الكاثوليكية وقد أقدمت على إنشاء كرسي لتاريخ الأديان سنة 1884. أمّا في ألمانيا فقد تمكّنت كليات اللاهوت القوية من تأخير هذا المسار أكثر من ثلاثين سنة، فلم ينشأ أوّل كرسي لتاريخ الأديان جدير بهذا الاسم إلاّ سنة 1910 ببرلين، وألحق هذا الكرسي بكليّة الآداب، وكان عليه أن يمتنع عن الاهتمام بالمسيحية في تعليمه وأبحاثه.
وفي فرنسا، تأسّس أوّل كرسي لتاريخ الأديان في الكوليج دي فرانس سنة 1880، ولم يكن اختيار هذه المؤسسة أمرا عفويا. ذلك أنّ هذا «المعهد الملكي» كان قد تأسّس سنة 1530 بأمر من فرانسوا الأوّل، وبدفع من المفكر الإنسوي الكبير غيوم بيدي، وتمثلت مهمته آنذاك في تقديم تعليم مستقلّ عن الجامعة، التي كانت آنذاك تحت سيطرة الكنيسة وجماعة الدومينكان، وفي الاهتمام باختصاصات لا تهتمّ بها الجامعة(2). من هنا كان تأسيس كرسي تاريخ الأديان بعد 350 سنة من ظهور هذه المؤسسة في نفس أهميّة تأسيس أوّل الكراسي فيه لتدريس اليونانيّة والعبريّة والرياضيات، ففي سياق الجمهوريّة الثالثة كانت تلك الخطوة تعبّر عن الرّغبة في توفير تعليم حرّ ونقدي في الأديان، يقابل اللاهوت الذي كان يدرس آنذاك في جامعة السوربون.
لكن الخطوة الأكثر دلالة تمثّلت في تأسيس الفرع الخامس المعروف بـ«العلوم الدينيّة» في المدرسة التطبيقيّة للدراسات العليا بباريس، وقد حصل ذلك سنة 1886. لقد احتلّت العلوم الدينيّة مكانا في مؤسّسة حكوميّة للتعليم العامّ، لكن الأكثر طرافة هو مواردها الماليّة. فالموارد التي خصّصت لتمويل 12 كرسيا في هذا الفرع مصدرها فواضل الاعتمادات التي توافرت بسبب إلغاء كليات اللاهوت الكاثوليكية من الجامعة في السنة السابقة. وقد ترتّب على هذا القرار جدل سياسي حادّ، ذلك أنّ هذا الانقلاب المؤسساتي كان يعني الاعتراف الرسمي بانتقال الموضوع الديني من اللاهوت إلى التاريخ فيما يتعلّق بالحقل الجامعي التابع للدولة.
ومن ضمن الكراسي الأولى للعلوم الدينية التي تأسست في المدرسة التطبيقيّة للدراسات العليا، نجد أنّ خمسة منها تخصّصت آنذاك في تاريخ المسيحيّة. وإذا نظرنا إلى هذا الأمر من جهة التاريخ المقارن للأديان فإنّنا قد نعتبر حضور المسيحيّة طاغيا، لكن الحقيقة أن هذا الوضع يعكس الرّغبة آنذاك في توجيه الدراسات التاريخية صوب المسيحية تحديدا، وبصفة خاصّة أصول المسيحية واليهودية وتاريخ المسيحية في العصر القديم.
لقد بدا تاريخ الأديان وهو يطأ عتبة الكوليج دي فرانس وكأنه مأسسة لخطاب نقدي حول الدين بصرف النظر عن المواقف اللاهوتيّة. إنّ نشأة هذا الفرع المسمّى «العلوم الدينية» في المدرسة التطبيقية، كان يبدو بمثابة البديل العلماني للمواد اللاهوتية التي كانت تدرس سابقا في الجامعة الفرنسية.
تقدّم ظروف نشأة كرسي تاريخ الأديان في جامعة سترازبورغ سنة 1919 نموذجا آخر لهذا الصراع الأصلي بين هذا الاختصاص والدين الذي كان مسيطرا آنذاك. وهي تشهد أيضا على الوضع الغامض لهذا الاختصاص داخل الجامعة الفرنسية. فمنطقة الألزاس كانت منطقة فرنسيّة منذ أن ألحقها لويس الرابع عشر بعد حرب الثلاثين سنة، ثمّ أصبحت ألمانية بعد حرب 1870 ومعاهدة فرنكفورت بتاريخ 10/3/1871. وقد أنشأ غيوم الثاني في سترازبورغ مركبا جامعيا، وحدّد له موارد سخيّة وسعى من خلاله إلى أن يحوّل النخبة المحليّة إلى اللّغة والثقافة الألمانيتين، وأن يدعم صيت الجامعة الألمانية. وفعلا فإنّ جامعة سترازبورغ الألمانية التي دشّنت بتاريخ 10/5/1872. وقد أخذت مكانها بسرعة بين أكبر الجامعات الألمانية المرموقة. وكانت الكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية تعتبر آنذاك في ألمانيا «طقوسا دينيّة معترفا بها»، وهذه الوضعيّة موروثة عن التشريع النابليوني حول الأديان مع بعض التنقيحات التي أدخلتها الإدارة الألمانيّة. وفيما كانت فرنسا تتقدّم باتّجاه الفصل النهائي بين الكنيسة والدولة، أقدمت جامعة سترازبورغ (الألمانية آنذاك) على إنشاء كليتين للاهوت على النمط الألماني، إحداهما بروتستانتية والأخرى كاثوليكية. وقد واصلتا عمل مؤسسات دينية سابقة وعهد إليهما بتكوين رجال الدين في اللّغة والثقافة الألمانية يمكن لهم أن يسهموا إسهاما فاعلا في إضفاء الطابع الألماني على منطقة الألزاس.
ولما استعادت فرنسا منطقة الألزاس بعد الحرب العالمية، وجدت نفسها مضطرّة إلى المحافظة على الوضع القائم، فلم تطبّق في هذه المنطقة قانون الفصل بين الدين والدولة، واحتفظت المنطقة بوضعيّة خاصّة. وبذلك تمكنت كليتا اللاهوت في جامعة سترازبورغ من الاستمرار وأصبحتا فرنسيتين تتمتعان باستقلالهما المذهبي بفضل وضع قانوني متميّز ومعاهدات وقعت مع الفاتيكان. لكن المقابل لهذا القرار بالمحافظة على اللاهوت في الجامعة تمثّل تحديدا في إنشاء كرسي تاريخ للأديان سنة 1919 في كلية الآداب كي يكون المعادل العلماني لذلك الحضور المذهبي. فجامعة سترازبورغ التي تحتفظ إلى الآن بأحد الكراسي القليلة لتاريخ الأديان بفرنسا، لم تكن لتحصل على ذلك لولا وجود الكليتين اللاهوتيتين. واهتمّ هذا الكرسي منذ أوّل متوليه، وهو بروسبير ألفاريك، بدراسة اليهودية القديمة وأصول المسيحية. إنّ الاهتمام بهذين الموضوعين يمثّل بدون شكّ انخراطا في المسار الذي اتخذته كلّ كراسي تاريخ الأديان كما ذكرنا، لكنّه كان يعني أيضا في سترازبورغ وجود منافسة بين اللاهوت وتاريخ الأديان، تتجسّد في تجاور الكرسي وكليتي اللاهوت. كأنه كان يراد من تاريخ الأديان أن ينتصب حارسا أمام آخر المعاقل الدينية داخل المؤسسة التعليمية الجمهوريّة. ولم يقع تعيين مختص في غير المسيحية على هذا الكرسي إلاّ في السبعينيات من القرن العشرين.
كي ندرك جيّدا الطابع الاستثنائي لوضعية سترازبورغ لا بدّ أن نتذكّر أنّه لم يكن يوجد إلاّ كرسي واحد لتاريخ الأديان بفرنسا قبل الحرب العالمية الأولى، وهو كرسي الكوليج دي فرانس الذي تحدثنا عنه، أي إنه كان يوجد خارج الجامعة. وإدارات الأبحاث في فرع العلوم الدينيّة بالمدرسة التطبيقيّة التي تحدثنا عنها –وقد ناهز عددها الخمسين حاليا(3)– هي أيضا خارج المسارات الجامعية العادية، فهي متخصّصة كلها في ميادين ثقافيّة دقيقة ولا تحمل واحدة منها تسمية التاريخ المقارن للأديان، ولا يوجد برنامج عابر للاختصاصات يمكّن من قيام دراسة مقارنة في هذه المؤسسة. إنّ غياب تاريخ الأديان أو هامشيته النسبية في الجامعة يعود إلى أسباب عديدة حلّلها ميشيل ويسبلاند ببراعة، ويمكن أن نختصرها كما يلي: قوانين علمنة التعليم الثانوي (قانون فيري وغوبلي في ثمانينيات القرن التاسع عشر) قد حذفت التعليم الديني من المعاهد والثانويات الحكومية. كلّ المحاولات لإدخال تعليم علماني لتاريخ الأديان في البرامج المدرسيّة قد انتهت إلى الفشل، ففي غياب برنامج لتعليم الأديان في المدارس الحكوميّة، تغيب الحاجة لتكوين سلك تعليمي متخصّص، لذلك لم ينشأ كرسي جامعي لتاريخ الأديان بفرنسا باستثناء كرسي جامعة سترازبورغ الذي ارتبط بالظروف الاستثنائيّة التي تحدثنا عنها. إنّ غياب هدف واضح لتعليم جامعي في تاريخ الأديان، قد صرف الدولة الفرنسية عن المضيّ في مسار من شأنه أن يؤجّج ما عرف بـ«الحرب بين الفرنستين» (أي الحرب بين الفرنسيين المتدينين والعلمانيين). ولم ينشأ أوّل كرسي لتاريخ الأديان والأنثروبولوجيا الدينيّة إلاّ سنة 1970، بسعي من ميشيل ميلان ودعم من جمعيّة أرنست رينان، وقد ألحق بجامعة السوربون بباريس.
إذا تجاوزنا الكثير من التفاصيل، فإنّه يمكن أن نحتفظ من هذا التذكير التاريخي الموجز بالأمر التالي، وهو أنّ التاريخ المقارن للأديان كان في الآن ذاته ثمرة وعنصرا في مسار العلمنة الذي شهدته المجتمعات الأوروبيّة نهاية القرن التاسع عشر. لكن النموذج الفرنسي يبرز بوضوح أنّ هذا الاختصاص كان محتاجا إلى اللاهوت كي يكون له موقع قدم في المؤسسات الرسميّة، إمّا بأن جعل منافسا للاهوت (المدرسة التطبيقية للدراسات العليا بباريس) أو اعتبر المقابل المعلمن لللاهوت (الكوليج دي فرانس ثمّ جامعة سترازبورغ). إنّ هذه العلاقة المزدوجة بين الاختصاصين: تاريخ الأديان واللاهوت، يمكن أن تمثّل أيضا عنصرا من عناصر تفسير أسباب الهامشيّة النسبيّة لتاريخ الأديان في الجامعة الفرنسية، إذ ما إن اختفى اللاهوت من هذه الجامعة حتى انتهت الحاجة إلى تاريخ الأديان في المؤسسات الرسميّة، باستثناء وضع سترازبورغ كما رأيناه.
2- تدريس تاريخ الأديان في سترازبورغ:
عودة إلى وضعيّة سترازبورغ لنقول: إنّ تميّز هذه الجامعة في مجال تاريخ الأديان لا يقتصر على وجود الكرسي المذكور؛ إذ إنّ كليتي اللاهوت أنشأتا بدورهما كرسيين لتاريخ الأديان، سنة 1921 بالنسبة إلى كلية اللاهوت البروتستانتي و1924 بالنسبة إلى كلية اللاهوت الكاثوليكي. وبعد حوالي ثلاثين سنة نجح مارسيل سيمون، المختصّ في أصول الديانة المسيحيّة وصاحب كرسي تاريخ الأديان بكلية الآداب (1947 – 1977) –وقد تولّى أيضا عمادة هذه الكليّة (1948 – 1968)- نجح في إنشاء خطّة مساعد تعليم عال تحوّلت سريعا إلى خطّة أستاذ. وقد تمكن الكرسي بفضل هذه الخطّة الإضافيّة من توسيع الحقل التقليدي لتاريخ الأديان إلى ميادين أخرى غير اليهوديّة القديمة وأصول المسيحيّة. وتدعم ذلك مع خلف سيمون؛ إذ عيّنت فرنسواز دوناند (1971 – 2003) في الكرسي وهي مختصّة في تاريخ مصر الهلنستية والرومانية. أما صاحب الكرسي حاليا: جون ماري هوسر (كاتب هذا النصّ) فهو مختصّ في اليهوديّة القديمة والوثنيات السامية الغربيّة، أمّا تعيين غيوم ديكور في هذا الكرسي سنة 2003 فقد أكّد الرّغبة في توسيع حقل التدريس والبحث؛ إذ إنّ ديكور مختصّ في الهند القديمة والبوذيّة.
من الواضح أنّ وضع سترازبورغ يمثّل استثناء في المشهد الأكاديمي الفرنسي؛ بما أنّ الجامعة تضمّ حاليا 5 خطط لتدريس تاريخ الأديان موزّعة بين كلية العلوم التاريخية (خطتان) وكلية اللاهوت الكاثوليكيّة (خطّة واحدة) وكلية اللاهوت البروتستانتية (خطتان). يوجد عدد استثنائي من المختصين في تاريخ الأديان في هذه الجامعة، ولم يؤدّ ذلك إلى تغذية الصراعات القديمة بين اللاهوت والعلوم النقديّة بين اللاهوت والعلوم النقديّة في الأديان، بل على العكس أصبحت سترازبورغ معلما جامعيا في هذا الميدان. وقد تأسست تقاليد تعاون بين كليتي اللاهوت وكلية الآداب (التي أصبحت تسمّى اليوم: كلية العلوم التاريخيّة).
وبمبادرة من مارسيل سيمون تأسّس سنة 1954 مركز البحث في تاريخ الأديان، وتكوّن أعضاؤه القارّون من أساتذة تاريخ الأديان في الكليات الثلاث(7). وتحيط بهذا المركز حاليا بعض المصاعب لأنّ التنظيم الحالي للبحث لا يعترف ولا يموّل إلاّ فرق البحث الضخمة التي تقدّم برامج تمتدّ على أربع سنوات وترتبط بوحدات بحث وتدريس أو بكليات، لذلك أصبح ظهور هذا المركز مرتبطا بمناسبات قليلة مثل تنظيم ندوات أو أيّام دراسيّة(8).
توجد حاليا في كلية العلوم التاريخية مادّة اختيارية عنوانها «تاريخ الأديان» وهي معروضة على الطلبة الذين يتابعون المسارات الثلاثة في العلوم التاريخية: التاريخ والأركيولوجيا وتاريخ الفنّ. وينظر إلى هذه المادّة على أنّها تسهم في توسيع معارف الطلبة، وتنويع قدراتهم على تحليل مجتمعاتهم والظواهر الثقافيّة المحيطة بهم. ودورها مهمّ في التكوين باعتبار زمننا الذي يتميّز بشدّة الجهل بالأمور الدينيّة لدى شبّان البلدان الأوروبيّة، مع ما يترتّب على هذا الجهل من مشكلات. ويندرج التكوين من السنة الأولى من الإجازة إلى مرحلة الماجستير، ويقوم على مقاربة تاريخيّة ومقارنة أنثروبولوجية للشأن الديني، ويرفض أن يقدّم ثقافة دينيّة موسوعيّة.
أمّا في كليتي اللاهوت فيمثّل تدريس تاريخ الأديان جزءا أساسيّا من التكوين اللاهوتي، ويعتبر انفتاحا على الأنثروبولوجيا الدينيّة، يسهم في هيكلة تفكير ينزّل المسيحية في أفق تاريخي (هذه إحدى مميّزات الممارسة اللاهوتية في سترازبورغ) وفي علاقة جدلية بالأديان الأخرى. وصاحب كرسي تاريخ الأديان حاليا بكلية اللاهوت الكاثوليكي هو فرانسوا بوسبنليغ، وهو مختص في الإيقونغرافيا المسيحية، ويعمل في أبحاثه ودروسه في الماجستير متمحورا حول موضوع وظيفة الصور وعلاقتها بالديانات التوحيدية الثلاث. وصاحب الكرسي المقابل بكليّة اللاهوت البروتستانتي هو رالف ستاهلي، وهو عالم إسلاميات مختصّ في الحديث النبوي. أمّا تيري لوغران، الأستاذ المحاضر، فهو مختصّ في اليهوديّة المتأخرّة.
دروس الإجازة في كلية العلوم التاريخية
يقوم معهد تاريخ الأديان التابع لكلية العلوم التاريخية بالإعداد للإجازة، ويحتوي برنامج سنتها الأولى على درس سداسي للتمهيد لتاريخ الأديان، وقد وضع له عنوانا قصد منه إثارة الطلبة وهو: بعض مؤسسي الأديان: يسوع – محمد – بوذا – زرادشت. وليس الغرض من هذا الدرس عرض السير، بل هو يسعى من خلال الحديث عن مؤسسي الديانات إلى تعويد الطالب على محاور ثلاثة كبرى في ممارسة تاريخ الأديان:
– أهميّة القراءة النقدية للوثائق المرجعيّة، وهي في هذه الحالة النصوص المقدسة التي تعرض حياة المؤسسين.
– صعوبة الوصول إلى الحقيقة التاريخية انطلاقا من التمثّلات اللاهوتية، بسبب المسافة الفاصلة بين الشخصية التاريخية والشخصية التي أنشأها التقليد الديني.
– المقاربة النقدية أخيرا كما تتمثّل من خلال بعض معطيات المقارنة الممكن القيام بها عبر هذه الملفات الأربعة.
وفي السنة الثانية من الإجازة تصبح الدروس أكثر تعمقا في الجانب النظري، وتعرض المفاهيم والمناهج المستعملة في تاريخ الأديان عبر درسين سداسيين: تمهيد «للمفاهيم الأساسية لتاريخ وأنثروبولوجيا الأديان» (هوسر) و«تمهيد للمنهج المقارن في تاريخ الأديان» (ديكور). فالدرس الأوّل يقدّم أهمّ المفاهيم المستعملة في التاريخ المقارن وأنثروبولوجيا الأديان، وهدفه أن يعرض مختلف أوجه الشأن الديني مع وضع المفاهيم والمصطلحات التقنية التي تمكن من تحليلها تحليلا موضوعيا. ويقع التركيز على ضرورة التخلص من المفاهيم التقليدية المستعملة في تاريخ الأديان (الإله، الكاهن، الأسطورة، الفرقة، القربان، المقدس… إلخ) كي لا نقع في المركزية الإثنية عند تحليل الأنظمة الدينية، وتأكيدا لخصوصية الظواهر في سياقاتها التاريخية المختلفة. أما الدرس المخصّص للمقارنية فهو يعرض تاريخ المنهج المقارن في العلوم الدينيّة، وكذلك الأعمال وأهمّ النظريات لكبار مستعملي المنهج المقارن مثل: ماكس مولر، وجورج ديمزيل، وميرسيا إلياد، مع عرض نقدي للطرق التي استعملوها.
أمّا دروس السنة الثالثة فهي تهدف إلى التخصّص في ميداني اليهودية القديمة والهند القديمة (الفيدية والبوذية). والغرض يتمثّل هنا في تقديم استكشاف أوّل لوضع البحث العلمي في موضوعات محدّدة، مع تهيئة الطالب لفهم المنظومات الدينية المعنية ومدوّنات النصوص المقدسة. ومن جملة الدروس التي قدمت في السنوات الأخيرة نذكر ما يلي:
حول الهند القديمة: التضحية بالنفس في البراهمانية والبوذية–حياة بوذا وتعاليمه حسب المصادر الهندية– أرباب الأساطير الفيدية والبوذية.
حول اليهودية القديمة: المخلصون ومعلنو نهاية العالم: الدين والتاريخ والسياسة في اليهودية القديمة – مسائل حول مصادر التوحيد التوراتي – جماعة قمران: فرقة يهودية في أفق مقارن – هيكل القدس، تاريخ رمز.
ماجستير مشترك في علوم الأديان
سنة 2005، وقع تدشين فضاء أوروبي للتعليم العالي حسب «مسار بولونيا» المسمّى في فرنسا «نظام أمد»، ومنحت الفرصة آنذاك لبعث ماجستير في سترازبورغ مخصّص لعلوم الأديان، واشتركت كليتا اللاهوت مع معهد تاريخ الأديان بكلية العلوم التاريخية في هذا المشروع منذ 2003، كي تتّحد الإمكانات في التدريس والبحث. وأقرّ اختصاص «علوم الأديان» مقسما حسب مسارات الماجستير (تاريخ – لاهوت كاثوليكي – لاهوتي بروتستانتي). ولم يتكلّف ذلك ميزانية خاصّة ولا فتح خطط جديدة(9). فقد وقع توزيع دروسه على البرامج الموجودة في مختلف فروع التاريخ واللاهوت والآداب وعلم الاجتماع، سواء الدروس المتصلة مباشرة بالعلوم الدينية أو الدروس التكميلية (منهجية، لغات… إلخ). وعلى هذا الأساس أصبح ممكنا تقديم حوالي 12 درسا في كلّ سداسي (تتوزّع بين دروس وندوات) تتنوّع محاورها وحقولها الثقافية، مثل: الوثنيات القديمة (اليونان وروما) واليهودية القديمة والمسيحية (القديمة والوسيطة والحضارة) والإسلام والهند الفيدية والبوذية. وتتمثّل الفكرة الأساسية لهذا الماجستير في منح الطالب وسائل تكوين تمكنه من مواصلة البحث في الاختصاص الذي يختار، مع تشجيعه على توسيع حقل معارضة في الميدان الديني.
ويقع التركيز في البحث على التكوين المنهجي واكتساب وسائل التعامل مع الوثائق والمصادر، خاصّة في اللّغات القديمة والنقوش… إلخ. وكي تتطوّر مهارات الطالب في المقاربة المقارنية والأنثروبولوجية للظاهرات الدينية، فإنّه يدعى في السداسيتين الأوليين على الأقلّ إلى متابعة دروس في سوسيولوجيا الأديان، ودرس في ميدان ديني آخر غير الذي تخصّص فيه. أمّا بحوث الطلبة فهي شديدة التنوّع، لكنّ عددا كبيرا منهم يستغل فرصة هذا الماجستير ليتعرّف على ميدان ثقافي جديد ومختلف غير الميادين الأربعة التقليدية الحاضرة في الدروس الفرنسية للتاريخ، مثل الإسلام والشرق الأوسط القديم والهند واليابان والعالم الأمريكي السابق لعصر كولمبوس وأنتولوجيا الديانة الشعبية… إلخ. فهذا الانفتاح يصبح ممكنا للطالب بفضل تعاون العديد من الزملاء الذين يقبلون إدارة البحوث في هذا الماجستير.
تبدو محصلة هذا الماجستير بعد سنوات أربع من قيامه محصلة قابلة للاختلاف، فقد أسندت خلاله 18 شهادة منها 17 شهادة لطلبة التاريخ، وشهادة واحدة لطالب في اللاهوت. ومن الواضح أنّ هناك قلّة اهتمام بهذا الماجستير لدى طلبة كليتي اللاهوت وأساتذتها، وقد دفع ذلك إلى إعادة مركزته حول كلية العلوم التاريخية –تحديدا- بالنسبة إلى السنوات الأربع القادمة. لكن الصعوبة الأكبر تمثّلت في إيجاد فرص عمل للمتخرجين من هذا الماجستير في بلد لائيكي مثل فرنسا. فالطلبة المتخرجون يتّجهون إلى الإعداد لمناظرات التعليم (الكابيس والتبريز) لكن ندرة الخطط المفتوحة حاليا تجعل حظوظهم ضئيلة للحصول على عمل، فينعكس ذلك على الإقبال على الماجستير الذي ما يفتأ يتقلّص، وعلى عكس الأمل الذي برز مع صدور «تقرير دوبريه» سنة 2002 فإنّ تأسيس المعهد الأوروبي لعلوم الأديان في السنة نفسها وما صاحبه من نقاش طويل حول ضرورة تطوير تعليم الشأن الديني لدى تلاميذ المعاهد الثانوية، وهو جدل تواصل منذ 20 سنة، فإنّ ما نلاحظه هو أنه لم يسفر عن ذلك كلّه إنشاء خطط جامعيّة تسهم في تفادي النقص الحاصل وفي تجسيد تلك الرّغبة المعلنة. أمّا الجماعات المحلية فإنّها تشعر حقّا بضرورة إيجاد خبراء يعينونها على إدارة الصراعات، أو وضع سياسات إدماجيّة متجانسة للأديان في ظلّ احترام مبادئ اللائيكيّة، لكنها لم تطوّر مع ذلك قدراتها من ناحية توفير الموارد البشريّة الضروريّة. ثمّ إنّ الوضع الاقتصادي الحالي يدفع الطلبة المتحصلين على الإجازة إلى البحث عن تكوين مهني بدل الانخراط في ماجستير بحث لا تتأكّد قيمته المهنية. إنّ هذا الاختصاص مهدّد بالاختفاء على الأمد القريب، والأمل الوحيد هو أن ينفتح على جمهور أوسع (العائدون إلى مقاعد الدراسة، تكوين إضافي لدوافع مهنية).
إنّ تدريسا مخصوصا لتاريخ الأديان في هذا المستوى من الماجستير، يلتقي بصفة ضيّقة بمجالات بحث المدرسين، إذ يقدّم مركز تاريخ الأديان كل سنة 3 ندوات لمجموع الطلبة، وبصفة خاصّة إلى طلبة ماجستير «علوم الأديان»، ندوتان منهما مخصصتان لميادين الوثنيات السورية – الفينيقية والهند القديمة، وواحدة متعددة الاختصاص تنظم بمشاركة مؤرّخي الأديان في كليتي اللاهوت. وقد وقع مؤخّرا تخصيص الندوتين للموضوعات التالية: «ديانة الأوغاريت: المجتمع والطقوس والعقائد في غرب سوريا أثناء القرن الثالث عشر قبل الميلاد»– «الأحلام والمصائر والأرباب في ديانات الشرق الأوسط القديم» – «أدونيس والآلهة التي تموت وتبعث من جديد في الحوض الشرقي للمتوسط القديم» – «أسطورة الطوفان في الهند الفيدية والقديمة» – «الموت والبعث في الهند الفيدية والبوذية» – «الواجبات والسعادة، الجنس والتخلص في الهند الكلاسيكية».
أمّا الندوة متعدّدة الاختصاص فهي موضوعة تحت التسمية العامّة: «الترتيب والمقارنة في تاريخ الأديان»، وغايتها تجسيد المنحى المقارن حول محاور تتغيّر كلّ سنتين أو ثلاث سنوات، فقد وقع التطرّق حديثا إلى ما يلي: «التضحية في الأديان: النظريّات واللاهوت والممارسات» – «السلطات الدينية المتنافسة من العصر القديم إلى العصر الوسيط» – «الهياكل والفضاءات المقدسة من العصر القديم إلى اليوم».
التكوين المستمر الذي توفّره جامعة سترازبورغ:
يبقى أن نذكر، كي يكون عرضنا شاملا، أنّ جامعة سترازبورغ توفّر تكوينا مستمرّا في تاريخ الأديان، وأنّ هذا التكوين يتولاّه هيكلان يجمعان مدرّسين جامعيين، ويشرف عليه معهد تاريخ الأديان. فالهيكل الأوّل هو «جامعة الوقت الحرّ» وقد تأسس سنة 1975 بمبادرة من جامعة سترازبورغ، وهو في شكل جمعيّة محليّة تقدّم كلّ سنة تعليما ثقافيا في أغلب المواد المدرسية في الجامعة في شكل محاضرات عامّة. ويحضر تاريخ الأديان في هذه المحاضرات عبر دورة سنويّة تتضمّن محاضرات تدور حول محور مشترك، ويتولّى القيام بها متدخلون من مختلف الاختصاصات (تاريخ، آداب، علم الاجتماع، اللاهوت). وقد تمّ التطرّق في السنوات الأخيرة إلى الموضوعات التالية: «الخلط وإعادة التركيب للممارسات والمعتقدات الدينية» – «الكهنة ورجال الدين» – «التيارات الصوفية في الأديان» – «الحج: الممارسة والأمكنة المقدسة».
أمّا الهيكل الثاني، فقد جاء نتيجة مباشرة للدفع الذي قام به «تقرير دوبريه»، ورغبة رئيس أكاديمية سترازبورغ بضمان تكوين مستمر للمدرسين بالمعاهد الثانوية في الميدان الديني. ويقدم هذا التكوين في إطار مخططات أكاديمية للتكوين، فهذا التكوين يتّخذ شكل دورات سنويّة بيومين (12 ساعة) تنظم منذ 2002 بمعدّل دورة واحدة أو دورتين في السنة، حسب توافر الموارد المالية. أمّا حقل التكوين فيتضمّن أهمّ الأديان الموجودة على التراب الفرنسي: المسيحية (كاثوليكية وبروتستانتية) واليهودية والإسلام والبوذية. ويهدف التكوين إلى تقديم آخر المعلومات والمقاربات المتعلقة بالنصوص المؤسسة والممارسات، وهناك وحدة تكوينية ثالثة تقارب الشأن الديني عبر الأنثروبولوجيا.
ختاما، نسجّل أن إدخال تاريخ الأديان في المؤسسات الجامعية قد شهد تغيّرا ملحوظا منذ بدايته في الثلث الأخير من القرن العشرين. فقد كان في بدايته مادة طليعية في علم تاريخي وعلماني للأديان، ملتزما قليلا أو كثيرا بمسار العلمنة، وبعد سيطرة طويلة ومريحة طيلة القرن العشرين تحت رعاية «لائيكية مخفّفة»، فإنّ هذه المادّة أصبحت منذ عشرين سنة مطالبة بنقل ثقافة دينية، والدفاع عن علمانية يرى البعض أنها أصبحت اليوم محاصرة. ومع ذلك فإنّ هذه المادة لم تتنكّر لمناهجها في البحث ولا لمبادئها الهرمنطيقية. إنّها تلتزم مجدّدا بمقاومة الجهل بالأديان ومقاومة الخطابات الأصولية. وهذا الالتزام الجديد يؤكّد أن «علمانية مخففة» لا يمكن أن تعمل من دون معرفة معمّقة وموضوعية بدين الآخر، ومن دون مسافة نقدية تجاه الهوية الدينية الخاصّة.
الأستاذ جون – ماري هوسير هو عميد جامعة سترازبورغ الفرنسية ومختص في تاريخ الأديان.
النص معرب من الفرنسية.
الهـوامـش:
(1) فيليب بورجو: تاريخ الأديان في جنيف. الأصول والتحوّلات. المجلة الجنيفية لأنثروبولوجيا وتاريخ الأديان، عدد 1، سنة 2006، ص 13-22 (بالفرنسية).
(2) مشترك: الكوليج دي فرانس، الكتاب التذكاري بمناسبة المئوية الرابعة، باريس 1932 (بالفرنسية).
(3) يمكن الاطلاع على التفاصيل من خلال الموقع
www.ephe.sorbonne.fr
(4) ميشيل ديسيلاند: العلوم الدينيّة في فرنسا 1880-1886 – العلوم التي تستعمل ولا تدرس ضمن كتاب: المقارنية والمسيحية، باريس 2002 ص 127-154 (بالفرنسية).
(5) من أجل نظرة عامة لتاريخ الأديان بفرنسا يراجع مقال فرنسوا بومبفلوغ: تاريخ الأديان والبحث الفرنكفوني بأوروبا، يصدر في «هومانيتاس» (2009) ومن أجل تاريخ (مع بيبليوغرافيا) لتاريخ هذه المادة في القرن العشرين يراجع : ناتال سبيناتو: الأديان (الدراسات المقارنة للتواريخ) ضمن: المعجم التاريخي الديني. إشراف ألبرتو ميلوني (يصدر قريبا).
(6) تضاف إلى ذلك خطّة أستاذ محاضر في دراسة الشأن الديني أحدثت سنة 2003 في المعهد الجامعي لتكوين معلمي منطقة الألزاس، وقد أدمج المعهد في جامعة سترازبورغ سنة 2009.
(7) أصدر مركز البحث في تاريخ الأديان عدّة أعمال وندوات لدى المنشورات الجامعيّة الفرنسية.
(8) فرانسوا بوسفبلوغ وفرانسواز ديناد (إشراف): المقارنة في تاريخ الأديان (ندوة عقدت سنة 1996 ونشرت 1997) وجون ماري هوسر وإليس موتون (إشراف): الكوابيس في المجتمعات القديمة (ندوة عقدت سنة 2007 وهي في صدد النشر).
(9) لم يخل هذا الماجستير المشترك من طرح بعض المصاعب الإداريّة المتعلقة بالتنظيم.
(10) هناك مراجع كثيرة يمكن العودة إليها ومنها التالية:
Philippe Joutard, Rapport au ministre de l’Éducation nationale (septembre 1989), publié dans Laïcité : lesens d’un idéal, «Éducation et pédagogie» 7, 1990 ; Jean Bauberot, Vers un nouveau pacte laïque, Paris, Le Seuil, 1990 ; Jean-Paul Willaime, Univers scolaire et religion, Paris, Cerf, 1900 ; François Boespflug, Françoise Dunand, Jean-Paul Willaime, Pour une mémoire des religions, Paris, La Découverte, 1996 ; Francis Messner (dir.), La Culture religieuse à l’école. Enquête, prises de position, pratiques européennes, Paris, Le Cerf, 1995 ; Francis Messner, André Vierling (dir.), L’Enseignement religieux à l’école publique, Strasbourg, Oberlin, 1998 ; Régis Debray, L’Enseignement du fait religieux dans l’école laïque. Rapport au ministre de l’Éducation nationale, Paris, Odile Jacob, 2002 ; Mireille Estivalez, Les Religions dans l’enseignement laïque, Paris, PUF, 2005 ; Dominique Borne, Jean-Paul Willaime, Enseigner les faits religieux, quels enjeux ?, Paris, Armand Colin, 2007.