سأقدم عرضا عاما عن وضع تدريس الدين في المدارس العامة بألمانيا وسويسرا وشرق فرنسا (منطقة الألزاس والموزيل). إنها ثلاثة بلدان مختلفة وثلاثة أنظمة مختلفة، ويوجد في كلّ منها تعليم ديني وتجارب مفيدة لتدريس الدين في المدارس العامة.
سوف أعتمد مقاربة سوسيولوجية مقارنة، وقد كان لي حظ التعمّق في المسألة منذ سنوات عندما قمت ببحث ميداني بإشراف الأستاذ جون بول ويلام، من المدرسة التطبيقية للدراسات العليا، وقد جمعت عددا كبيرا من الوثائق واستجوبت 62 مدرسا. لن يتسع المجال هنا إلى عرض كل نتائج البحث الذي قمت به، لكني سأحاول أن أختصر الدور والوظيفة اللذين يضطلع بهما تدريس الدين في التعليم العام بين هذه البلدان الثلاثة وسأبرز بعض الرهانات الحالية.
فـردنة الدين وعولمته
أبدأ بكلمة عن العولمة. إنّ بعض الظواهر تشملنا جميعا نحن أبناء ضفتي المتوسط. لكن طرق تجاوبنا مع هذه الظواهر تختلف حسب الإقليم والثقافة والتاريخ، فهذه العناصر قد أسهمت إلى حدّ كبير في الهيكلة الاجتماعية الدينية لكلّ بلد. لقد تعلمت على مدير أبحاثي السيّد ويلام أن الظواهر الدينيّة تخضع في عصرنا إلى ضغطين متناقضين: ضغط الفردنة وضغط العولمة. فالفردنة تعني تعدّد الطرق التي تحدّد الهوية الدينيّة الواحدة، مثل الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة واليهوديّة والإسلام. فالعامل الفردي أصبح يضطلع بدور مهم في تحديد الهويّة الدينيّة وكيفيّة عيشها، هذا ما نلاحظه على الأقلّ في أوروبا. لم يعد الأفراد يكتفون بالبحث عن الانتماء إلى تقليد معيّن، لقد أصبحوا مدفوعين في بحثهم الروحي والديني بإيتيقا للأصالة.
وفي الوقت نفسه، نلاحظ أنّ جهود العولمة لم تسفر عن نتائج اقتصاديّة فقط، فقد ترتّبت عليها نتائج ثقافيّة بالمعنى الواسع. ويتجسّد ذلك بتوسّع التعدديّة في كلّ الأقاليم، وهذه الظاهرة تقلب الموروث التاريخي. فقد كانت الأديان والمذاهب في السابق شديدة الارتباط بالأقاليم، وفي أوروبا كانت الوحدة السياسيّة والوحدة الدينيّة مترادفين([1]). وكلّ مجتمع أوروبي يحمل إلى اليوم آثار تجذّره الديني الخاصّ به. ففي بلد مثل فرنسا، بيّن علماء الاجتماع كيف أنّ ظاهرة «التشفير الكاثوليكي» تظلّ قويّة.
لكنّنا نخرج شيئا فشيئا عن هذا البراديغم القديم. فكلّ البلدان، ومنها تلك التي طبعت بتقليد ديني طاغ، تشهد التوجّه نحو تعدديّة متفاقمة. فألمانيا مثلا تضمّ حاليّا ثلثا من الكاثوليك وثلثا من البروتستانت وثلثا من المنتمين إلى غير هذين المذهبين، ويشمل الثلث الأخير الناس الذين يرفضون الانتماء إلى دين معيّن أو الناس الذين ينتمون إلى أقليّات دينيّة وإلى الإسلام واليهوديّة. ويمكن أن نلتقي في المدن الأوروبيّة الكبرى بكلّ أنواع الأديان، وخاصّة البوذية والهندوسية وأشكالا متعدّدة من المسيحيّة. فالدين يتطوّر حينئذ بين الفردنة من جهة والعولمة من جهة أخرى.
لقد قال الأستاذ ويلام في إحدى محاضراته الأخيرة: «توجد جدلية تشمل كلّ فرد، طرفها الأوّل تأكيد الهويّة وطرفها الثاني الانفتاح، والدفاع عن الثقافة الذاتية والتبادل مع الآخرين. يحتاج كلّ فرد إلى هويّة، ومنها الهويّة الدينيّة، ويحتاج كلّ فرد إلى انفتاح وتبادل وتواصل مع الآخرين. فالمشكل الرئيس هو أن نحدّد طرق إدارة هذه الحاجة المزدوجة». هذا ما يمكن الانطلاق منه بصفة عامّة حول موضوع الدين والعولمة، أما الوضع في التعليم فهو جزء من هذا الموضوع الكبير. فالتعدديّة التي تعمّ المجتمع ككلّ تعمّ أيضا الفضاء التعليمي، وهذا هو دافع من الدوافع التي تسمح بتطوير دور تدريس الدين ووظيفته في التعليم العام بالبلدان الثلاثة التي سأتحدث عنها.
مسألتان حـول الـمنهج
ما أهميّة المقاربة المقارنية؟ ربّما لن يكون مفيدا التوسّع في الجواب لأنّ الندوة قد عقدت تحديدا لتشجيع المقارنة، وأكتفى بتأكيد أهميّة هذه المقاربة، فالمعنى ينشأ من الاختلاف، كما علّمنا الفيلسوف بول ريكور. فالمقارنة بين أوضاع جديدة هي التي تبرز خصائص كلّ وضع منها. ومن هنا تبرز أيضا الأسئلة حول تفسير سبب كلّ وضع من الأوضاع. من هنا تمثّل عملي في مقارنة وضع ودور التعليم الديني بين ضفتي نهر الران، مع اهتمام خاصّ بالتدريس البروتستانتي الذي أعرفه أكثر، لكني لم أهمل أيضا التدريس الكاثوليكي والتجارب المسكونيّة والتجارب بين الأديان.
مـحاولات في التنميط؟
سأحاول أن أقترح محاولة في التنميط. تعرفون طبعا المفهوم الفيبري لـ«النمط النموذجي»، وقد عرّفه كما يلي: «نحصل على نمط نموذجي عندما نقوم بتكثيف عنصر أو مجموعة من العناصر والربط بين عدّة ظواهر معروضة في عزلة عن بعضها أو موزعة أو متخفية… كي نحصل في النهاية على جدول فكر متجانس»([2]). لقد استفدت من هذا المفهوم، والدراسات التي اهتمّت بتدريس الدين في فرنسا قد عملت أيضا على القيام بتجميع الحالات المتشابهة وإقامة نماذج وأنماط. وقد صدر مؤخّرا كتاب بفرنسا([3]) قام فيه أصحابه بجمع مختلف التجارب الأوروبيّة في تعليم الدين واقتراح الأنماط التالية:
الدين يحدّد الوطن (إيطاليا، اليونان، الدنمارك).
التعدديّة المقبولة: نحو تعليم ديني متعدّد الانتماءات (بريطانيا، ألمانيا، سويسرا).
مناقشة بين تقليدين: تقليد ديني وتقليد علماني (بلجيكا، أسبانيا، روسيا، تركيا).
الانتماء الديني مفصول عن الدراسة: الحياد الجمهوري (الولايات المتحدة، فرنسا).
تتمثّل الصعوبة الأكبر عند محاولة التنميط في وجود عدد ضخم من الضوابط التي يمكن اعتبارها عند عمليّة المقارنة، كي تتحدد المجموعات بأكثر دقّة. ولن أدّعي الوصول إلى تنميط نهائي وحاسم. لكن أظنّ أني قادر على إبراز مجموعة من التوجهات سوف تتّضح في خاتمة عملي.
أقدّم لكم الآن قائمة ضوابط أرى أنه من الضروري الاهتمام بها في كلّ دراسة دقيقة للتعليم الديني في المدارس العامّة:
ماذا تطلب النصوص القانونيّة وبماذا تسمح؟ (نصوص الدولة أو نصوص المجموعات المحليّة) هل توجد استثناءات؟ وإذا وجدت فما مبرراتها؟
في أيّ مستوى قانوني تدرج النصوص المنظمة للتعليم الديني؟ الدستور أم القوانين العامّة أم المناشير التنظيمية؟
ما الأهداف البيداغوجية؟
من يحدّد المحتويات ومن يتولّى المصادقة عليها ومن يتولّى مراقبتها؟
كم الساعات المخصّصة لهذا التعليم؟
هل التعليم الديني موزّع بين الطوائف الدينيّة أم يشمل طوائف عديدة أم يشمل كلّ الطوائف (مع الاختلاط بينها أم في حالات دون أخرى)؟
هل يخضع التعليم الديني إلى التقييم؟ وهل هناك أعداد تسند للمتعلمين، وهل تحتسب هذه الأعداد في النتائج العامة؟
من يتولى مهمّة التعليم الديني؟ هل هي المدرسة نفسها أم المجموعات الدينية بمشاركة المدرسة؟ أم المجموعات الدينيّة في المدرسة خارج أوقات الدرس؟
كيف تحدّد المجموعات أثناء الدراسة؟ هل تتحدد حسب الانتماء الطائفي أم حسب ضوابط أخرى؟
كيف يمكن الحصول على الإعفاء من حضور هذه الدروس؟
هل من دور للانتماء الديني أو المذهبي للمدرّس؟
ما هو وضع مدرسي المادة الدينيّة؟
ما مجالات تكوينهم الأصليّة وتكوينهم المستمر وما هي الجهة التي تتولّى التكوين؟
الدرس الديني في التعليم العام بألمانيا:
إذا تأملنا في مكانة التعليم الديني بالمدرسة العامة الألمانيّة منطلقين من الواقع الفرنسي، فسنصطدم بالنتيجة التالية: إنّ مبدأ اللائيكية بفرنسا قد ألغى حضور الأديان الحيّة من حقل التعليم المدرسي، بينما دفع الدولة الألمانيّة إلى التنازل إلى الكنيسة بدور التكوين الأخلاقي لمواطنيها.
ويمكن أن نخرج بنتيجة أخرى للمقارنة بين البلدين، وقد وقعت الإشارة إليها عند مناقشة ميثاق الحقوق الأساسيّة للاتحاد الأوروبي قبل إقراره بالقمّة الأوروبية بمدينة نيس (الفرنسية) نهاية سنة 2000. لقد نجحت الحكومة الفرنسية في حذف مفهوم «التراث الديني» من مقدمة الميثاق، وبقي ما يلي في النصّ النهائي: «شعورا منه بتراثه الروحي والأخلاقي، يتأسس الاتحاد الأوروبي على قيم… الكرامة الإنسانيّة والحريّة والمساواة والتضامن»([4]). وكانت ألمانيا في الصف المقابل لفرنسا، وقد مثلها الرئيس السابق للجمهورية الفدرالية رومان هرزوغ وهو الذي ترأس أعمال تحرير الميثاق ودافع عن وجهة النظر المخالفة للفرنسيين. ويلاحظ أنّ الترجمة الألمانية الرسمية قد احتفظت بكلمة «ديني» وأضافتها إلى «روحي» في الميثاق الصادر بالألمانية. توجد إذن اختلافات أساسيّة بين فرنسا وألمانيا يمكن تفسيرها بالمسارات التاريخيّة المختلفة للبلدين وتاريخ اللائيكية بفرنسا مقابل الدور الذي احتفظت به الكنائس في ألمانيا في عهد الرايخ الثالث.
ويتضمن النظام التعليمي في ألمانيا مرحلة ابتدائية تبدأ من سنّ السادسة، ثمّ مرحلة ثانية تتوزّع على ثلاثة أنماط من المدارس، ثمّ مرحلة ثانوية عليا تنقسم إلى معاهد ومدارس مهنيّة. فبحكم تنوّع هذا التعليم فإنّ النظام الألماني يبدو معقّدا ويتميّز خاصّة بالمسؤولية التي تتحمّلها كلّ حكومة فدراليّة في الميدان التعليمي. والنظام الألماني ليس نظاما مركزيّا، فيمكن لكلّ مقاطعة أن تضيف قوانينها التعليميّة الخاصّة إلى القانون العام للتعليم الألماني.
يرجع الدستور الألماني الحالي إلى سنة 1949 وهو عبارة عن «قانون أساسي» يتضمّن مبدأ فصل الدولة عن الكنائس لكنه يتضمّن أيضا أشكالا للتعاون بينهما، خاصّة في الميدان التعليمي الذي هو محور حديثنا. ويرد الحديث عن التعليم في المادة السابعة من الدستور، ولن أذكر كلّ التفاصيل لأنّ زميلي ولفغونغ بوك قد خصّص مداخلته لهذا الموضوع؛ ولأنّي لست رجل قانون مثله، بل أنا متخصّص في علم الاجتماع، لكن علم الاجتماع مضطرّ لأن يدرس القوانين الجاري بها العمل! لا بدّ لي حينئذ من أن أعرض عليكم محتوى هذا البند: «التعليم الديني مادّة قارّة في المدارس العامّة باستثناء المدارس غير الطائفيّة. ويقدّم التعليم الديني حسب مبادئ الطوائف الدينيّة وتحت مراقبة الدولة. ولا يمكن أن يجبر مدرس على تدريس مادّة دينيّة إذا لم يكن راغبا في ذلك»([5]).
إنّ اكتشاف وضع التعليم الديني ودوره في ألمانيا يتضمّن العديد من المفاجآت. فمادّة «التعليم الديني» هي من بين المواد التي تدرّس للغالبيّة العظمى للتلاميذ، وهي مدرجة في البرامج من المدرسة الابتدائيّة إلى الباكالوريا، والأعداد التي يتحصّل عليها التلاميذ تحتسب في معدلاتهم العامّة، ويتمّ تكوين الأساتذة في كلّ مقاطعة فدراليّة بشراكة مع الكنائس. ويمكن للمسؤولين عن الطقوس الكنسية أن يمارسوا، حسب الحالات، أدوارا غير هيّنة في هذا التعليم.
لن أهتمّ كثيرا بنسب مشاركة التلاميذ في هذه الدروس، إذ ستأخذ مني هذه المسألة وقتا طويلا. ذلك أنّ الأمر يختلف كثيرا بين أنواع المدارس. أكتفي بالقول على سبيل الاختصار: إنّ التلاميذ الذين يرغبون في الإعفاء من الحصص الدينيّة عليهم أن يحضروا حصصا في الأخلاق، لذلك كانت نسبة حضور الدروس الدينيّة نسبة عالية إجمالا. لكنها تختلف حسب السياقات المحلية. فنلاحظ بصفة عامّة أنّ نسبة حضور الدروس الدينيّة مرتفعة بغرب ألمانيا، وأنّه لا يسجل من تلاميذ هذه المناطق إلاّ عدد قليل في دروس الأخلاق، ولا توجد مخاطر على الدروس الدينيّة وعلى تأثيرها في التكوين الأخلاقي والمدني للمواطنين، أمّا في المقاطعات الألمانيّة الشرقيّة التي كان فيها التعليم الديني غائبا (في العهد الشيوعي) قبل توحيد ألمانيا فإنّ الأمر هو على العكس ممّا وصفنا.
ولا ترى الكنائس أنّ ذكر التعليم الديني في القانون الأساسي الألماني يمثّل هبة لصالحها، فالدولة إنّما تؤكّد بذلك حرصها على تكريس التعدديّة الدينيّة والتسامح بين الأديان. وقد قام مجلس الكنائس البروتستانتيّة سنة 1994 بتأكيد أنّ الحريّة الدينيّة وحريّة المعتقد يمثّلان ركيزتين أساسيتين للدولة الديمقراطيّة. فمن وجهة نظر هذا المجلس الذي يمثّل كنائس عديدة، يضطلع التعليم الديني بمهمّة ضمان ممارسة الحريّات الفرديّة ممارسة تامّة.
أمّا الطابع الطائفي للتعليم الديني، فإنّه يعود إلى طبيعة التكوّن الفدرالي للدولة. فالتعليم الديني ينبغي أن ينظّم «باتّفاق مع مبادئ كلّ مجموعة دينيّة»، وينسحب هذا الأمر على الحكومات الستّ عشرة المكوّنة لألمانيا. إلاّ أنّ من حقّ كلّ حكومة أن تضع قوانين وسياسات ثقافيّة خاصّة بها. وهناك اختلافات كانت موجودة من السابق واختلافات أخرى ظهرت بعد عمليّة الوحدة. وتوجد استثناءات في شمال ألمانيا، إذ إنّ مدينة برلين وبريم وكذلك مدينة هامبورغ (لأسباب أخرى) عرفت قبل 1949 تنظيمات مختلفة لا تتناسب مع البند 7/3 من الدستور، فلذلك تضمن البند 141 ما يفيد بأنّ هذه الاستثناءات يمكن أن تستمرّ.
إنّ هذا الموضوع مطروح بإلحاح حاليا. فقد أطلقت في 26/04/2009 استشارة بمبادرة شعبيّة هدفها إدخال التعليم الديني الطائفي منذ بداية التعليم وتمكين التلاميذ وأسرهم من الاختيار بين دروس الدين ودروس الأخلاق، وشملت هذه المبادرة العاصمة برلين. وقد ذكرنا أنّ هذه المدينة تمثّل استثناء عن النظام العام؛ لأنّ التعليم الديني فيها تعليم اختياري، والدروس الدينيّة تبرمج خارج أوقات الدرس. وقد أدرج فيها مؤخّرا درس أخلاق من السنوات 7 إلى 11 كي يتدرّب التلاميذ على قواعد العيش المشترك والتسامح بين بعضهم البعض. وتبعا لهذه المبادرة التي رعتها المجموعات الدينيّة والأحزاب السياسية كي يقع إقحام المواد الدينيّة في البرامج التعليميّة، فقد دعي مواطنو برلين للتصويت، لكن المبادرة انتهت بفشل مزدوج، فلم يحصل النصاب بين الناخبين (25% من المسجلين على قائمات الانتخاب) وتغلبت الإجابة بالرفض على المصوتين (51,3%)، فلذلك سيبقى التعليم الديني مادّة اختياريّة في برلين بينما تبقى الأخلاق مادّة إجباريّة في المرحلة التعليميّة التي ذكرناها.
تذكّر هذه المبادرة التي اتخذتها السلطات السياسيّة بمدينة برلين منذ سنتين، بأنّ طريقا أخرى كانت قد اقترحت بمقاطعة براندبورغ، إذ تمّ إدخال مادّة عنوانها: «تكوّن الحياة – الإيتيقا – علوم الأديان»، وقد تمّ اعتماد المادّة 141 من الدستور لتأكيد حقّ هذه المقاطعة في التمتّع بهذا الاستثناء، ورفض إدخال التعليم الديني على مقتضى المادّة 7/3.
ينصّ القانون التعليمي لمقاطعة براندبورغ الصادر في 04/1996 على أنّ الأهداف التعليميّة لهذه المادّة الجديدة هي التالية:
«مادّة: تكون الحياة – الإيتيقا – علوم الأديان هي مادّة تساعد التلاميذ على تصوّر حياتهم واختياراتهم بحريّة ومسؤوليّة وتعينهم على التوجّه بطريقة مستقلّة وواعية، في ظلّ مجتمع ديمقراطي وتعددي يتميّز بتعدّد القيم والمعاني، فهذه المادّة تهدف إلى ترسيخ المبادئ الكفيلة بضمان حياة اجتماعيّة قائمة على آراء أخلاقيّة أو دينيّة أو فلسفيّة».
«مادّة: تكوّن الحياة –الإيتيقا– علوم الأديان تدرس بطريقة محايدة عن مختلف الانتماءات المذهبيّة والدينيّة والفلسفيّة، ويقدّم للأولياء في الوقت المناسب عرض بأهداف هذه المادّة ومضامينها وطرق تدريسها. وينبغي ضمان الانفتاح والتسامح بالنسبة إلى الميولات الدينيّة والفلسفيّة للتلاميذ».
لقد اهتمّت العديد من الدراسات بتجارب يمكن أن تشكّل نماذج جديدة في تعليم الأديان، فلا تتنازل الدولة إلى الكنائس بالتكوين الأخلاقي والروحي لمواطنيها، بل تسعى إلى الاضطلاع بهذا الدور في شكل مقترح يوجّه إلى التلاميذ.
وقد جربت هذه المادّة بمشاركة الكنيسة البروتستانتية وتعرّضت إلى انتقادات عديدة، ووصل الأمر إلى رفع دعاوى قضائيّة أمام المحكمة الدستوريّة التي أمضت سنوات في دراسة الملف، ثمّ حاولت أن تجد موقفا توفيقيا سنة 2001، فتمّت مراجعة القانون سنة 2002([6]). ويبدو حاليّا أنّ هذه التجربة ستظلّ محدودة بمقاطعة براندبورغ والعاصمة برلين.
لا تتوافر لنا المسافة الكافية للحكم على هذه التجربة، لكن يمكن أن نلاحظ أنّها لم تمكّن من إيجاد نموذج جديد للتعليم الديني، لكنها مثّلت أيضا تجربة لم تتوقف ولم يقع الإعلان بأنّها مخالفة للدستور، فهي تجربة مازالت متواصلة. إنّها تجربة غير مسبوقة لذلك بدت للكنائس تجربة تحتمل مخاطر لمستقبل التعليم الديني، لكنّها جلبت أيضا اهتمام العديد من المختصين في الموضوع (راجع البيبليوغرافيا).
تـدريس الإسـلام؟
الجانب الآخر المترتّب على العولمة يخصّ مكانة الإسلام في النظام التعليمي. يسمح القانون الأساسي الألماني بأن يكون للإسلام حضور في التعليم العامّ، فالمادّة 7/3 تشير إلى أنّ التعليم الديني غير محصور في الطوائف المسيحيّة، عكس ما كان عليه الأمر قبل 1919. فالقصد من التعليم الديني هو منح كلّ مواطن حرياته الدينيّة وحقوقه الدستوريّة. ثمّ إنّه جزء من الخدمات العامّة التي تقدمها الدولة عبر حكومات المقاطعات التي تعتبر مسؤولة عن السياسة الثقافيّة. فمن حقّ كلّ مواطن أن يطالب لنفسه ولأبنائه بالحقّ في التمتّع بثقافة عامّة تحتوي على مرجعيّات دينيّة، وعليه فقط أن يتقيّد بالمبادئ الدستوريّة.
ويضطلع النظام الفدرالي بدور مهمّ في المسألة التي نحن بصدد معالجتها. فحكومات المقاطعات هي المؤهّلة للحكم في مسألة إدخال تعليم الإسلام في المدارس. وبالنظر إلى توزّع الجاليات الإسلاميّة في ألمانيا فإنّ 11 مقاطعة (على 16 مقاطعة) تبدو معنية مباشرة بالموضوع، وأغلبها تقع في غرب ألمانيا. وقد وقع إلى حدّ الآن اعتماد حلول مختلفة لتدريس «اللّغة والثقافة لبلد المنشأ»([7])، فالممارسات شديدة الاختلاف في هذا المجال. ففي منطقة ريناني الشمالية – وستفالي، تتولّى الدولة الاضطلاع المباشر بهذا التدريس. أمّا في باد – ويتمبرغ فقد عهد بالمهمّة إلى القنصليّة التركيّة. وقد تطوّرت الممارسة في منطقة ريناني – وستفالي باتّجاه تقديم دروس دينيّة في الإسلام للتلاميذ المسلمين.
فالدولة هي التي تضمن –إذن- إطار التعليم الديني، والمجموعات الدينيّة هي التي تحدّد القواعد الخاصّة بكلّ دين. فليس للدولة أن تكون الطرف المباشر في وضع تعليم إسلامي وإجبار التلاميذ المسلمين على التسجيل فيه. إنّ الدستور يفرض على الدولة والمجموعات الدينيّة أن تتعاون على وضع هذا التعليم. والمبادرات التي اتخذتها مقاطعة ريناني – وستفالي تثير العديد من المشكلات، ومن المرجح أنّها ستخضع لاعتراضات شتّى. وربّما لن تحصل أصلا على قبول المجموعات المسلمة.
إنّ الأسس القانونيّة الألمانيّة تفترض وجود شرطين لقيام تعليم ديني إسلامي، أوّلهما أن تطالب المجموعات المسلمة بذلك، وثانيهما أن تنسّق هذه المجموعات فيما بينها كي تشكّل مخاطبا موحّدا مع الدولة في ميدان تكوين مدرّسي الدين الإسلامي وتحديد مضامين الدروس الإسلاميّة.
خـلاصـة: التعليم الديني يـواجه رهانات غير مسبوقة.
إنّ التعليم الديني في ألمانيا، سـواء كان كاثوليكيّا أم بروتستانتيا، يتمتّع بحضور راسخ في المنظومة التعليميّة، وبدور معترف به. وقد استنتجنا من استجواب المدرسين أنّهم يشعرون في الغالب بالاندماج التامّ في المدارس. ومع ذلك فإنّ العديد من الأسئلة تبقى مطروحة. فالوحدة الألمانية سنة 1989 غيّرت التوازنات الاجتماعيّة الدينيّة، وخفضت من نسبة الذين يعلنون انتماءهم إلى الكنائس. فالتعدديّة الدينيّة المتصاعدة تضاف إلى نتائج العلمنة في بلد مطبوع بحضور خاصّ للكنائس دفعت المجتمع الألماني إلى تساؤلات غير مسبوقة.
فرنسا والاستثناء في الألزاس والموزيل
قد يحدث أن تنتقل عائلات فرنسيّة للعيش في منطقة الألزاس والموزيل وستكتشف حينئذ، بتعجّب أحيانا، أنّ بإمكانها أن تسجّل أبناءها في حصص دينيّة تقدمها المدارس العامّة، بمعدّل ساعة في الأسبوع.
كانت هاتان المنطقتان قد ضمتا إلى ألمانيا بعد حرب 1870 ومعاهدة فرانكفورت بتاريخ 10/05/1871، فأصبحتا تعدّان مقاطعة تابعة للإمبراطورية، وظلتا على هذا الوضع إلى سنة 1918. وكانت فرنسا في هذه الأثناء قد شهدت إقرار قانون 1905 المشهور الذي يقضي بفصل الدولة عن الكنائس. وقد حاولت حكومة هريوت سنة 1924 أن تطبق هذا القانون في الألزاس والموزيل لكنها اصطدمت بمعارضة قويّة جعلتها تتراجع عن الفكرة. وبعد أن ألحقها الرايخ الألماني الثالث في 1940 عادت الألزاس والموزيل إلى فرنسا، لكن تطبيق القوانين الفرنسيّة عليها لم يشمل الميدان الخاصّ للممارسة الدينيّة.
ومن دون الدخول في التفاصيل نقول: إنّ ثلاث مقاطعات من الشرق الفرنسي تتميّز بأنّها تقدّم تعليما دينيّا في مدارسها العموميّة. وقد يستغرب البعض هذا الأمر لكنّه موجود، وعلى عكس نظيره الألماني فإنّ هذا التعليم لم يندمج بنجاح في المنظومة التعليميّة العامّة. فهو يقتصر على ساعة واحدة في الأسبوع، ويبرمج في الغالب آخر اليوم، ووضع مدرّسيه سيء جدّا، وهو يتّجه إلى الانهيار على الرغم من بعض الجهود التي خصّصت له، لكنه ضعيف في البرامج والكتب المدرسيّة والتكوين.
إنّه إرث من الماضي، تضبطه نصوص قانونيّة موروثة عن القرن التاسع عشر، وهو محميّ بالقانون لكنّه مهدّد على مستوى التطبيق وربّما استحال إصلاحه. ومع ذلك فإنّ أهل المنطقة لا يرونه أمرا غريبا ولا يشعرون بأنّه مهدّد بالاضمحلال. وهم يتمسكون بالعديد من خصائصهم المحليّة ومنها إمكانيّة تسجيل أبنائهم في دروس دينيّة داخل المدرسة. فالقانون المحلّي للممارسة الدينية يمثّل في نظرهم جزءا من هويتهم المحليّة، حتى وإن شاهدنا حركة نحو مزيد الانصراف عن الممارسة الدينيّة على المستوى الفردي بالمقارنة بالأجيال السابقة.
فالأطفال في التعليم الديني حريصون على متابعة الدروس الدينيّة (75% حسب بعض التقديرات الجديرة بالثّقة)، لكن عددهم يتراجع في مستوى التعليم الثانوي، فلا يتجاوز 30% أو 40%، أمّا التلاميذ الذين يحضرون الدروس الدينيّة في آخر مرحلة من التعليم الثانوي فإنّ نسبتهم أقلّ من 10%.
وهناك سبب يفسّر لماذا تتضخّم نسبة الرافضين كلما تقدمت مراحل التعليم، وهو غياب مواد تعوّض التعليم الديني في المرحلتين الأخيرتين. أمّا في المرحلة الابتدائيّة فإنّ التلميذ الذي لا يحضر دروس الدين يجد نفسه مضطرّا لحضور درس آخر في الأخلاق. أمّا إذا ما وصل التلميذ إلى السنة السادسة فإنّه يعفى من المادّة الدينيّة من دون أن يطالب بتعويضها، ويترتّب على هذا الوضع العديد من المشكلات التنظيميّة التي لا تعمل لصالح التعليم الديني.
وقد كتب جون بول ويلام مقالا يختزل عنوانه اختزالا جيّدا وضع المسألة: التعليم الديني في المدرسة العموميّة بشرق فرنسا: تراث بين الاضمحلال وإعادة التركيب. ويرى ويلام أنّ هناك رابطا بين التمسّك بالقانون المحلّي للممارسات الدينيّة والإسهام في التعليم الديني. ولا يستغرب ارتفاع نسبة التلاميذ الذين يتابعون هذه الدروس في المرحلة الابتدائيّة: «إنّ وجود تعليم ديني في المدرسة يمكّن أولياء لا يمارسون الشعائر الدينيّة أو لا يرتبطون بمجموعة دينيّة أو يتردّدون في القضايا الدينيّة من أن يفوّضوا للمدرسة مهمّة الاضطلاع بالتربيّة الدينيّة لأبنائهم من دون أن يضطروا للتواصل بأنفسهم مع هيئات دينيّة». أمّا ارتفاع عدد الذين يطلبون الإعفاء من هذه الدروس مع تطوّر مراحل التعليم فيرجع -حسب عالم الاجتماع المذكور- إلى شعور المراهقين بأنّهم أصبحوا المسؤولين عن أنفسهم.
لن أدخل في تفاصيل المسائل القانونيّة، فالقانون المطبق في التعليم الديني بمدارس الألزاس والموزيل هو قانون قديم يضمّ طبقات متعاقبة بعضها فرنسي وبعضها ألماني([8]). ومع أنّه خليط ومتعدّد المراجع، فإنّه يوفّر إطارا للتعليم الديني وتعترف به السلطات العموميّة وتقوم بتطبيقه. ولن أتمكّن أيضا من تقديم عرض مفصّل للبرامج والكتب المدرسيّة. سأكتفي بالتركيز على نقطة محدّدة: المفهوم الأساسي لـ«ثـقافة دينيّة». لقد أصدرت الكنائس البروتستانتيّة في 11/1999 ملفّا حول موضوع التعليم الديني يتضمّن ما يلي: «درس الثقافة الدينيّة يتميّز في الآن نفسه عن التعليم الديني الرسمي الذي يدرّس في المعابد بهدف دعم الإيمان وعن التعليم التاريخي الصرف. فهو درس يقيم علاقة مع مدرسين واختصاصات أخرى ويتولاّه مدرّس ينقل في الآن ذاته معرفة وشهادة، لكنه لا يعمل على الدعاية والتبشير وبحرص على احترام مختلف العقائد. إنّ الحديث عن ثقافة دينيّة هو تنزيل للدين في النسيج العامّ للمواد الأخرى المدروسة. إنه يهدف إلى فسح مكان للكتاب المقدّس في علاقته وتأثيره في الفنّ والأدب والتاريخ. ويهدف إلى تقديم مناهج قراءة تعدديّة. ويهدف إلى الرّبط بين الدين من جهته تعاليا كما يفهمه البعض، وبين مجموعة من القيم الاجتماعية. كما يهدف إلى فسح المجال أمام تعدديّة الأديان».
يقبل هذا التعريف منطلقا للعمل، ويتلوه عمل طويل النفس لإعادة صياغة البرامج، واحتفظ على ذمتكم بوثائق هذا العمل. وهناك عدّة اختيارات مطروحة. فأحد الاختيارات يتمثّل في التركيز على العناصر التقليديّة للثقافة البروتستانتيّة مثل الكتابات التوراتية والمعارف المرتبطة بها والقيم المسيحيّة والشخصيات الروحية في التاريخ البروتستانتي. والاختيار الآخر يتمثّل في الانفتاح أكثر على مضامين تاريخ الأديان. لكن البروتستانت، كيفما تنوعت تياراتهم الفكريّة، يرحبون دائما بعبارة «ثقافة دينية» لأنّها تفتح الكثير من الممكنات وتجعل كل مدرّس مسؤولا ومؤهّلا أن يترك بصمته الخاصّة على المهمّة التي كلّف بها وتمنح إمكانيّة التوافق مع مقاربة لائيكية للأديان.
أي مستقبل للوضع التعليمي بالألزاس والموزيل؟ لا شكّ أنكم سمعتم باللجنة التي أمر بتشكيلها السيّد جاك شيراك، رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة، في سنة 2003، وأسند إدارتها إلى برناد ستازي. لقد قدمت تقريرها في 12/2003 وكان قانون الرموز الدينية بالمدرسة أحد نتائجها. يرد في الفقرة 1.1.1.4. من هذا التقرير التي تحمل عنوان «إعادة تأكيد اللائيكية» أنّ «اللّجنة تقدّر أنّ إعادة تأكيد اللائيكيّة لا تتطلّب ضرورة مراجعة وضع منطقة الألزاس والموزيل؛ لأنّ سكّان المقاطعات الثلاث للمنطقة شديدو التمسّك به… وتقدّر اللّجنة أن من حقّ التلاميذ المسلمين أن تقدّم لهم دروس دينيّة في الإسلام مثل بقيّة التلاميذ».
وقد بقيت هذه الرّغبة المعلنة في التقرير من دون تطبيق. لماذا؟ المسلمون يمثلون اليوم أقليّة عدديّة مهمّة بالمنطقة، وهم في صدد الاندماج فيها، لكنهم لا يشاركون أهلها كلّ تاريخهم. وقد اعتبرت لجنة «ستازي» أنّ هذا الوضع لا يبرّر تأخير تقديم دروس دينيّة إسلاميّة للتلاميذ المسلمين، تطبيقا لمبدأ المساواة بينهم والآخرين. واعتبرت أنّ التمييز سيحدث في المستقبل مشكلات متفاقمة.
ومع أنه يوجد مجلس ممثل للشعائر الدينية الإسلاميّة فإنّه لم يحصل إلى حدّ الآن تقدّم في مقترح تنظيم دروس دينيّة إسلاميّة تتوافر فيها كلّ الضمانات التي تطلبها الدولة والشركاء المحليون الممثلون للشعائر الدينيّة الأخرى. وأرى شخصيّا أنّ غياب التنسيق في موضوع الإسلام هو شاهد على الجمود النسبي للوضع، فمع أنّ بعض البروتستانت قد بادروا في بعض المرّات بطرح المسألة، فلم نشهد إلى حدّ الآن قيام فريق عمل للاضطلاع بالمهمّة.
ويرى عالم القانون فرانسيس مسنر، وهو المتابع للوضع المحلّي وتطوراته، أنّ هناك «أزمة عميقة» لأنّ التعليم الديني في منطقة الألزاس والموزيل لم يعد يمثّل «حلاّ مهيكلا»، خاصة في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي. فالغياب الجماعي للتلاميذ يؤدّي إلى «أزمة هوية لدى المدرسين وخلط في مادة التدريس»([9]). ولم تفتأ مسألة الملاءمة المدرسية تفرض نفسها لكنها نادرا ما انتهت إلى قرارات حاسمة وقواعد جديدة. ويبدو أنّ السلطات العموميّة قد راهنت خاصّة على اضمحلال ذاتي لهذه الممارسات المحليّة.
كيف يمكن أن يتجه مصير نظام استثنائي؟ يرى فرنسيس مسنر أنّ الوضع لم يعد يستجيب للمشكلات الجديدة التي أصبحت تطرحها أديان الأقلية، سواء المعترف بها أم غيرها. كيف يمكن معالجة اللامساواة التي يصبح عليها التلاميذ في ظلّ الوضع الحالي؟ هل ينبغي انتظار صدور أحكام قضائيّة؟ إنّ عشرات من السنين لم تشهد غير إدارة الجمود، فلذلك كان من العسير تصوّر قيام إصلاحات جذريّة، لكنّ الإصلاحات المحدودة لم تعد كافية أيضا ولا يمكن لها أن تمنح الجدارة لنظام تعليمي استثنائي. ولا يمكن أن تعاد صياغة التعريفات والأهداف البيداغوجيّة إلاّ بقيام حوار واسع وتفكير معمّق باشتراك كلّ الأطراف المعنية، كي تعاد المشروعيّة إلى الحضور الاجتماعي والمدرسي للتعليم الديني. وليس من الخطورة أن نأمل بذلك!
التـدريس الديني في التعليم العمومي بسـويسرا
تمثّل سويسرا فسيفساء من الحالات المختلفة. وتضمّ الكنفدرالية أنماطا متنوعة من الأوضاع ليس من المبالغة القول إنّها تمثّل نماذج مصغّرة لكلّ الأوضاع الموجودة في أوروبا! فهي تتراوح بين الغياب الكلّي للتعليم الديني في جنيف وحضور تعليم ديني كنسي يضاف إلى البرامج التعليميّة الرسميّة، ويشمل كلّ التلاميذ في مناطق أخرى. ويرى أغلب المراقبين أنه يمكن تلخيص الحالات في ثلاثة نماذج كبرى هي التالية:
1- التعليم الديني الطائفي داخل المحلاّت المدرسية من دون أن تمارس فيه المدرسة مسؤوليّة خاصّة.
2- التعليم الديني الطائفي داخل البرامج المدرسية وتحت مسؤولية الكنائس.
3- تدريس التاريخ التوراتي، أو المتعارف حول الأديان، تحت مسؤولية المدرسة التي تتمتع شيئا فشيئا بالحياد تجاه الطوائف، وبالقدرة على تنظيم هذه الدروس من دون مساعدتها.
ونلاحظ بصفة عامّة أنّ ما يقدّم إلى التلاميذ في مجال التعليم الديني هو في صدد التحوّل. لماذا؟ لأنّ المشهد الديني نفسه قد شهد تحوّلات كبرى في القرن المنصرم. فالبروتستانت كانوا يمثّلون في بداية القرن العشرين بين 55% و60% من مجموع السكان، لكنهم أصبحوا لا يمثلون سنة 1990 أكثر من 40% من السكان. وبموازاة ذلك، تطوّر عدد المنتمين إلى الأديان والطوائف الأقلية في العقود الثلاثة الأخيرة. ولم تحدث هذه التحوّلات بالكيفية نفسها في كلّ المقاطعات. ثمّ إنّ المقاطعات (الكنتونات) الست والعشرين كانت من الأصل مختلفة في وضعها الاجتماعي – الديني (يضيق المجال هنا عن تفصيل كلّ هذه المعطيات).
يعمل النظام التعليمي السويسري حسب مبدأ اللامركزيّة والفدراليّة، كما هو الشأن في ألمانيا، وعكس ما هو عليه بفرنسا. وتنصّ المادّة الثالثة في الدستور الفدرالي على أن «الكنتونات تتمتع بالسيادة في ما لم يحدّده الدستور الفدرالي، وتمارس كلّ حقوقها التي لم تعهد إلى الكنفدراليّة»([10]). ومنذ أن تأسست الدولة الفدراليّة إلى يومنا هذا، أسندت المسؤوليّة السياسيّة إلى الكنتونات للتعهّد بالمدارس وتكوين المدرسين. وترتب على هذا التطوّر تميّز الأنظمة التعليميّة بالكثير من المرونة، وانسحب ذلك على التعليم الديني المدرسي أو التعليم الديني الطائفي عندما يقدمان -حسب الحالات- داخل أقسام المدارس العموميّة.
اخترت أن أتحدث عن ثلاثة نماذج كي يتّضح موضوعنا: كانتون «فود» الذي سيعيننا على فهم المقصود بتعليم ديني مفصول عن الطوائف، وكانتون «بال» الذي شهد قيام تعليم ديني مسكوني في كلّ المستويات التعليميّة، وأخيرا كانتون «زوريخ» الذي شهد مؤخّرا تغيّرات مشهودة.
كانتون «فود»: على مدار بضعة عقود، شهدت أهداف مادة «التاريخ التوراتي» تطوّرات مهمّة. ناهيك عن أنّ الناشر المدرسي «أنبيرو» (التعليم التوراتي الرومندي) غيّر اسمه وأصبح يطلق على نفسه «التعليم الرومندي للتوراة وما بين الأديان». هذا التطوّر يختزل النقاش القائم بين دعاة فتح التعليم التاريخي على كلّ التقاليد الدينية، ودعاة المحافظة على الأولويّة للتاريخ اليهودي – المسيحي أو الاقتصار عليه، كما يرد في مقدمة أحد الكتب المدرسيّة الجديدة. وقبل جيلين، كان التاريخ التوراتي مادة غير طائفيّة، لكنها كانت مطبوعة بالطابع البروتستانتي. ثمّ تحوّلت في الجيل السابق إلى مادّة مسكونية، وأعدّت مقرراتها المدرسية من قبل لجان مشتركة تضمّ مدرسين كاثوليك وبروتستانت. واليوم، يبدو الرهان مزدوجا، في الوقت الذي تعدّ فيه كتب مدرسية جديدة؛ إذ كيف يمكن مواصلة الاقتصار على الثقافة اليهودية – المسيحية أمام المشكلات التي تطرحها الذاكرة؟ ويرى المسؤولون البروتستانت أنّ هذا التعليم ينبغي أن لا يقتصر على التلاميذ المرتبطين بالتقليد المسيحي.
كانتون «بال»: بادرت كنيستان مسيحيتان (إحداهما إصلاحية والثانية كاثوليكية) إلى توحيد جهودهما كي تواصلا الاضطلاع بالتعليم الديني، مع كونهما في وضع الأقلية. وقامتا بإرساء تعليم مشترك بين الطائفتين والتعهّد بإعداد مشترك للمدرّسين.
كانتون «زوريخ»: قرّرت سلطات هذه المقاطعة القيام بعمليّة خفض النفقات في الميدان المدرسي، فتمّ منذ ثلاث سنوات حذف مادّة التاريخ التوراتي من البرامج. وقامت مبادرة شعبيّة تطالب بإعادة هذه المادّة. واضطرت السلطات أمام الضغط الشعبي إلى إقحام مادّة جديدة عنوانها «الدين والثقافة» توجّه إلى كلّ التلاميذ، ولا يمكن الإعفاء من متابعة دروسها. وقد بدأ العمل بهذا الدرس في السنة الحالية، وينبغي أن تستضيفوا شخصا من زوريخ ليحدثكم عن هذه التجربة!
الـخـلاصـة
لقد وعدتكم بالحديث عن توجّه، وهذا ما يمكن أن أرسمه في شكل «نمط نموذجي» يلخّص الواقع ويتخلّى عن تفاصيله. ففي البلدان الثلاثة، التي اهتممت بها، كان التعليم الديني إلى فترة قريبة يتّخذ شكلا طائفيّا، ويتوزّع التلاميذ في الدروس حسب انتماءاتهم الطائفيّة، وكذلك توزّع الدروس على الأساتذة بالنظر إلى دياناتهم وانتماءاتهم. ويقع تحديد البرامج والمضامين باتّفاق مع المجموعات الدينيّة، مع الأخذ بعين الاعتبار تنامي التعدديّة الدينيّة في المجتمع. ويقع اختيار المدرسين بالاتّفاق أيضا مع المجموعات الدينية التي تتولّى تكوينهم. ويمكن للأولياء أن يطلبوا إعفاء أبنائهم من هذه الدروس، وفي بعض الحالات يدعى التلاميذ الذين تمتعوا بالإعفاء إلى متابعة مادّة أخرى بديلة.
يبدو أنّ هناك تصوّرا في صدد البروز، وأنّ نموذجا آخر هو في صدد البناء، ويتمثّل في اقتراح درس في «الثقافة الدينية» و/ أو «الأخلاق» يكون موجها لكلّ التلاميذ، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينيّة، وبصرف النظر أيضا عن الانتماءات الدينيّة والطائفيّة للمدرسين. وتتولّى السلطات التعليمية بنفسها الاضطلاع بتحديد البرامج والمضامين، وتتراجع بذلك التأثيرات التي تمارسها المجموعات الدينية، كما يصبح المدرسون مستقلين عن السلطات الدينية.
إنّ التعليم الديني في المدارس العموميّة أو تدريس الشأن الديني قد أصبحا، بفعل العولمة، رهانا اجتماعيا في العديد من البلدان الأوروبيّة. فقد ظلّت المدرسة أحد مواقع تنمية الشعور بالانتماء الوطني، إن لم تكن الموقع الأخير. من هنا كانت الاختيارات التي تعتمدها السلطات التعليمية والحكومات خطيرة النتائج في المستقبل، سواء في تشجيع الإمكانات المقدمة في ميدان التكوين الديني المدمج في الخدمات العمومية للتعليم، أو في التضييق عليها.
الأستاذ جيرار جانيس حاصل على الدكتوراه من المدرسة التطبيقية للدراسات العليا بباريس وقد أعدّ أطروحته تحت إشراف الخبير الأوروبي المشهور في تعليم الأديان «جون بول ويلام».
النص معرب من الفرنسية.
بيبليوغرافيا
أوروبا
Schreiner Peter, Elsenbast Volker, Schweitzer Friedrich (ed), Europa, Bildung, Religion : demokratische Bildungsverantwortung und die Religionen, Münster, Waxmann Verlag, 2006.
Valk Pille, Bertram-Troost Gerdien, Friederici Markus, Béraud Céline (Eds), Teenagers’s Perspectives on the Role of Religion in their Lives, Schools and Societies : A European Quantitative Study, Münster, Waxmann, 2009.
ألمانيا
Böhm Uwe, Ökumenische Didaktik : ökumenisches Lernen und konfessionnelle Kooperationen im Religionsunterricht deutschsprachiger Staaten, Göttingen, Vandenhoeck und Ruprecht, 2001.
Heckel Martin, Religionsunterricht in Brandenburg : zur Regelung des Religionsunterrichts und des Faches Lebensgestaltung – Ethik – Religionskunde (LER), Berlin, Duncker & Humblot, 1998.
Identität und Verständigung : Standort und Perspektiven des Religionsunterrichts in der Pluralität – eine Denkschrift der Evangelischen Kirche in Deutschland, Gütersloh, Gütersloher Verlagshaus, 1994.
Oebbecke Janbernd, „Islamischer Religionsunterricht an deutschen Schulen : Aktuelle Fragen und Problemstellungen“, in : Islamischer Religionsunterricht, Peter Schreiner, Karen Wulff (ed), Comenius Institut, Münster, 2001.
Schreiner Peter, „Germany“, in Religious Education in Europe : a collection of basic information about Religious Education in European countries, Münster, Comenius Institut, 2000.
فرنسا
Baubérot Jean, Histoire de la laïcité française, Paris, PUF, 2000.
Boyer Alain, Le Droit des religions en France, Paris, P.U.F., 1993.
Campiche R.J. (ed), Cultures jeunes et religions en Europe, Paris, Cerf, 1997.
Massignon Bérengère, « Laïcité et gestion de la diversité religieuse à l’école publique en France », Social Compass 47(3), 2000, 353-366.
Messner Francis, Prélot Pierre-Henri, Woehrling Jean-Marie (eds), Traité de Droit Français des Religions, Paris, LITEC, 2003.
La Revue du Droit Local, n° spécial sur l’enseignement religieux en Alsace – Moselle, n°33, octobre 2001.
Vierling André, Messner Francis, L’enseignement religieux à l’école publique, Oberlin, Strasbourg, 1998.
Willaime Jean-Paul, « École et religions : une nouvelle donne ? », Revue française de pédagogie, n°125, oct-déc.1998.
Willaime Jean-Paul, Le retour du religieux dans la sphère publique : vers une laïcité de reconnaissance et de dialogue, Lyon, Olivétan, 2008.
Willaime Jean-Paul, Mathieu Séverine, Des Maitres et des dieux : écoles et religions en Europe, Paris, Belin, 2005.
سويسرا
« Enseignement et Religion », Cahiers de L’Institut Romand de Pastorale, n°36, avril 2000.
Eggenberger Hans, «Religious Education in Switzerland», in Religious Education in Europe, Peter Schreiner (ed), ICCS / Comenius-Institut, Münster, 2000.
Kohler-Spiegel Helga, Loretan Adrian (ed), Religionsunterricht an der öffentlichen Schule : Orientierungen und Entscheidungshilfen zum Religionsunterricht, NZN Buchverlag, Zürich, 2000.
[1] مثالان على ذلك: الأوّل هو مبدأ «عقيدة واحدة، قانون واحد، ملك واحد» وقد كان سائدا في العصر الملكي بفرنسا وفي فترة إلغاء مرسوم «نانت» سنة 1685. الثاني مبدأ «دين الملك هو دين الرعية» وقد كان سائدا في البلدان الألمانية وغيرها في أوروبا.
[2] ماكس فيبر: محاولة في نظرية العلم. باريس، 1965 (بالفرنسية).
[3] جون بول ويلام وسيفرين ماتيو: حول المعلمين والآلهة: المدارس والأديان في أوروبا. باريس، 2005 (بالفرنسية).
[4] هناك مادتان أخريان لا تخلوان من أهميّة بالنظر إلى موضوعنا. فالمادة 10 تضمن «حريّة التفكير والإيمان… ويتضمن هذا الحق حريّة التعبير عن المعتقد الديني أو الشخصي جماعيا أو في المجال العام أو في الحياة الشخصية ويكون التعبير عبر الطقوس أو التعليم أو الممارسات…»
وتضمن المادة(14) «الحقّ للأولياء في أن يتوافر لأبنائهم تعليم ودروس تتناسب وقناعاتهم الدينية والفلسفية والبيداغوجية… بمراعاة القوانين الوطنية التي تسيّر التعليم».
[5] وردت مختلف الصيغ لدى إيكارت مارغراف في كتاب:
Europa, die kirchen and dire Bilonng
[6] الترجمة المستعملة هي الواردة في «مجموع الدساتير الأوروبية»، نشر في بروكسيل، 1994.
[7] أصدرت محكمة كالسرو حكما وفاقيا يقضي بإدماج التعليم الديني في التوقيت الرسمي والإبقاء عليه مع تمتيع من يرغب في حق الإعفاء منه، ويمكن أن يتولّى مدرسون تابعون للدولة القيام بهذا التدريس إلى حدّ أقصاه 8 ساعات في الأسبوع.
[8] أحد هذه القوانين هو قانون فالو الفرنسي بتاريخ 15/03/1850 والثاني قانون ألماني صادر في 12/02/1873 والثالث قانون فرنسي صادر سنة 1936… إلخ.
[9] فرانسيس ماسنير: التمثل، تحديات التعليم الديني، ضمن كتاب جماعي: التعليم الديني في المدرسة العمومية، ستراسبورغ، 1998.
[10] مثال: هانس إيفانبرجر، التعليم في سويسرا، ضمن كتاب جماعي: التعليم الديني بأوروبا. 2000.