بحلول عام 2021 يكون قد مضى على أحداث الحادي عشر من سبتمبر 20 عامًا، كانت القارة الأفريقية خلالها نقطة محورية لتمركز القوات الأمريكية لشن حربها ضد الإرهاب العالمي، وخلال هذين العقدين شهدت السياسة الأمنية والعسكرية الأمريكية بشأن مكافحة الإرهاب في أفريقيا، حالة من التأرجح بين اهتمام عسكري وأمني خلال فترة حكم جورج بوش الابن، وميل نحو الأداة الدبلوماسية الناعمة خلال فترة أوباما، في حين جاءت فترة ترامب لتعكس قدرًا كبيرًا من الإهمال في التعامل مع هذا الملف.
ومع وصول إدارة أمريكية جديدة إلى البيت الأبيض برئاسة جو بايدن، أثيرت تساؤلات عدة حول ما ستنتهجه تلك الإدارة من استراتيجيات أمنية وعسكرية لمكافحة الإرهاب في أفريقيا، في المقابل كان هذا الملف الأكثر ضبابية بين الملفات من حيث رؤية الإدارة الجديدة، واتضح ذلك جليًا أثناء الحملة الانتخابية للرئيس جو بايدن، فَجُل ما صرح به هو وعده بعقد قمة مع الرؤساء الأفارقة على غرار ما قام به أوباما عام 2014، حتى أنه لم يعلق على قرار ترامب بسحب القوات الأمريكية من الصومال قبيل مغادرته البيت الأبيض في ديسمبر الماضي.
ليثار بذلك تساؤل رئيسي حول موقع أفريقيا من أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة، وهل ستنتهج إدارة جو بايدن استراتيجية جديدة مغايرة لسابقيه بشأن مكافحة الإرهاب في أفريقيا؟
ولكن قبل تحليل المعطيات خلال الأشهر القليلة الماضية التي يمكن أن نستشف خلالها كيفية تعامل الإدارة الجديدة مع ملف مكافحة الإرهاب في أفريقيا، لابدّ أن نستعرض أنماط السياسة الأمنية والعسكرية الأمريكية تجاه دول القارة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهل ستكون تلك الأنماط بمثابة مرشد لبايدن في تحديد كيفية توجهه للقارة أم أنه سيحلق في مسار آخر.
أولا: أحداث 11سبتمبر وبلورة التوجه العسكري الأمريكي لمكافحة الإرهاب بأفريقيا
احتل ملف مكافحة الإرهاب في أفريقيا مكانة مرموقة لدى الفكر الاستراتيجي والعسكري الأمريكي، تحديدًا خلال السنوات الخمس التي أعقبت أحداث سبتمبر، حيث كان الملف على رأس أولويات البيت الأبيض،إلا أن الاهتمام به لم يمضِ على منوال واحد، لكنه تأرجح بين إدارة وأخرى، بل كانت مكانته تتأرجح في الإدارة الواحدة كنتاج للخلاف المتكرر بين الديمقراطيين والجمهوريين بشأنه.
1ـ سياسة بوش العسكرية
قامت واشنطن خلال إدارة الرئيس جورج دبليو بوش بتحركات مكثفة داخل القارة الأفريقية، ففي مارس 2002 شاركت الولايات المتحدة بعملية عسكرية مع أربع دول من دول الساحل (مالي، تشاد، نيجيريا، الجزائر)، لمواجهة تمدد الجماعة السلفية للجهاد والدعوى، وهو ما كان نواة لعقد اجتماع سري في مارس 2004 بمقر قيادة الجيش الأمريكي بمدينة شتوتغارت الألمانية، ارتكزت مخرجاته حول ضرورة التعاون العسكري من أجل المكافحة الشاملة للإرهاب في منطقتين رئيسيتين: أولًا منطقة الساحل الفاصلة بين شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، والأخرى بالمناطق النفطية في الشمال وخليج غينيا[1].
كما أطلق بوش مبادرات عدة استهدفت دمج أفريقيا في الحرب على الإرهاب، كانت أبرزها قوة العمل المشتركة الموحدة في القرن الأفريقي (CJTF-HOA) التي أطلقها في أكتوبر 2002 كعملية عسكرية لمواجهة التيارات الراديكالية والقرصنة، وكانت جزءًا من عملية الحرية الدائمة التي شكلت الإطار العام للولايات المتحدة في حربها على الإرهاب منذ أحداث سبتمبر[2].
واهتم بوش خلال فترة رئاسته بتوطيد أواصر العلاقات مع قادة الدول الأفريقية، حيث أجرى خلال عام 2003 زيارات لعدد من الدول الأفريقية (السنغال، نيجيريا، بوتسوانا، أوغندا،جنوب أفريقيا)،في حين زار مساعد قائد القوات الأمريكية في أوروبا حينذاك الجنرال تشارلز والد نحو عشر دول أفريقية[3].
وانعكس الاهتمام الأمريكي خلال فترة الرئيس بوش في إعلانه فبراير عام 2007 عن إنشاء قيادة عسكرية جديدة خاصة بالقارة عُرفت بـ”الأفريكوم”؛وذلك لضمان تمكن الولايات المتحدة من صون الإمدادات النفطية الخاصة بها، بجانب الاستمرار في حملتها العالمية لمواجهة الإرهاب[4].
ومنذ اللحظة الأولى للإعلان عن إنشاء القاعدة كان هناك حالة من التخبط وتضارب ردود الفعل لدى الدول الأفريقية، خشية أن تكون القاعدة حُجة لتدخل أمريكي كنظيره في أفغانستان والعراق وهو ما أدى لانهيارهما؛ فأدت حالة الريبة لدى الدول الأفريقية حول القرار الأمريكي إلى نقل مقر القاعدة لمدينة شتوتغارت الألمانية[5]، وفي عام 2001 أُسست قاعدة ليمونيير الأمريكية بجيبوتي، ويعمل بها قرابة 4000 جندي أمريكي[6].
2ـ تغيرات فكرية في سياسة أوباما تجاه أفريقيا
شهدت فترة أوباما مراجعة شبه جذرية لتحركات الإدارة السابقة لها، فكانت أولى قراراتها أنها ستعيد النظر بشأن القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)؛ نظرًا لأن إنشاءها خلق حالة من التخبط وتضارب ردود الفعل الأفريقية إزاءها. وبالرغم من الزيارات الخمس التي أجراها أوباما للقارة وأوامره بزيادة الدعم العسكري للصومال والكاميرون وتشاد في حربهم على الإرهاب، بل وصل الأمر إلى إنشاء قواعد عسكرية في أكثر من عشر دول أفريقية؛ إلا أن الاهتمام بملف الإرهاب وتطوير السياسة الأمنية والعسكرية التي انتهجها بوش لم تكن على رأس أولوياته، في المقابل انصب تركيزه على مناطق أخرى من العالم؛ لتتحطم بذلك الآمال المعلقة عليه نظرًا لأصوله الأفريقية[7] .
بدا واضحًا أن سياسة أوباما لم تؤتِ ثمارها المرجوة بشأن مواجهة الإرهاب، فقد شهدت فترته تغلغلًا واضحًا للجماعات الإرهابية في أفريقيا جنوب الصحراء، بل كانت الأفريكوم سببًا غير مباشر في تمدد تلك الجماعات للعمق الأفريقي.
فعلى سبيل المثال، نجد أن التدخل الذي قامت به الأفريكوم في ليبيا عام 2012 للإطاحة بنظام القذافي بالتنسيق مع عمليات الناتو كان الدافع وراء هروب الكثير من الطوارق والمرتزقة الذين كانوا يعملون بالجيش الليبي، وعودتهم إلى دول عدة مدججين بالسلاح، كما حدث في شمال مالي وتعاونهم مع طوارق الشمال الذين تمردوا على الأوضاع السياسية والاجتماعية؛ ليشكلوا بذلك بقعة إرهابية غاية في الخطورة أثرت في أمن الساحل الغربي، ولم يكن للإدارة الأمريكية حينذاك تعليق سوى إعلان قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا الجنرال كارتر هام أنه لن يكن هناك حل عسكري، ولن تقبل الولايات المتحدة سوى بالحلول الحوارية والدبلوماسية لتهدئة الوضع في شمال مالي[8].
فإدارة أوباما كانت تسعى لخلق توازن بين السياسة الأمنية والأوضاع المدنية تجنبًا للانتقادات التي وجهت لإدارة بوش بتركيزها على الجانب الأمني مهملة حقوق الإنسان والقضايا المدنية، فركز أوباما اهتمامه على المشاريع التنموية ودعم تجارب الحكم الرشيد وتعنيف الانقلابات والانتقال غير السلمي للسلطة، وهو ما أسفر تدريجيًا عن تراجع نسبي لنفوذ الولايات المتحدة بأفريقيا لصالح فواعل دولية أخرى[9].
3ـ إدارة ترامب وإهمال تام للوضع الأمني
بوصول ترامب للسلطة تحول الاهتمام النسبي بملف مكافحة الإرهاب في أفريقيا، إلى تهميش مصحوب باحتقار أحيانًا، فخلال السنوات الأربع الأخيرة اتسمت العلاقات الأمريكية الأفريقية بالركود، وهو ما تسبب في إضعاف النفوذ الأمريكي بالقارة لصالح تمدد النفوذ الصيني والتركي والروسي.
فبمجرد توليه الحكم في يناير 2017 بدأ في الإدلاء بتصريحات حول ضرورة إعادة هيكلة السياسة الأمريكية الخاصة بأفريقيا، مبديًا رفضه لنمط العلاقات معها واستياءه من انخراط الولايات المتحدة في المساعدات الموجهة لأفريقيا بشأن مكافحة الإرهاب، في حين كان الطابع التجاري والمادي السمة الرئيسية لتحركات ترامب، سعيًا منه لتفعيل شعار “أمريكا أولًا”[10].
شهد النفوذ الأمريكي بأفريقيا خلال فترة ترامب انحسارًا شديدًا ، ففي مارس 2017 سعى ترامب نحو خفض الميزانية المخصصة لوزارة الخارجية ووكالة حماية البيئة الأمريكية بنسبة 31%، وعمل على إلغاء مؤسسات ذات أهمية استراتيجية للدول الأفريقية، كالمؤسسة الأمريكية للتنمية الأفريقية المعنية بتمويل عدة مشاريع تنموية في قرابة 30 دولة أفريقية[11].
وخلال فترة حكم ترامب كان هناك انتشار كبير للجماعات الإرهابية في الساحلين الشرقي والغربي، وشهدت تلك الجماعات نشاطًا كبيرًا وتغلغلًا مستمرًا، في المقابل كانت عمليات البعثات الخاصة لضرب تلك البؤر الإرهابية غير منظمة، ولم تمتلك خططًا مكتملة واضحة، ولم تصحبها جهودًا دبلوماسية، وهو ما تسبب في خسائر مادية وبشرية في صفوف تلك القوات، كما حدث في أكتوبر 2017 حين استهدف تنظيم داعش أربعة جنود أمريكيين في الصحراء الكبرى بالنيجر[12].
وتمسكًا بشعار أمريكا أولًا، ووعود ترامب بإنهاء حروب الولايات المتحدة الأبدية، وافق البنتاجون على خفض عدد القوات الأمريكية المتواجدة في أفريقيا إلى حوالي 10% على مدار خمس سنوات، بحيث يشمل التقليص قوات مكافحة الإرهاب المتمركز على الساحل الغربي بنسبة 25 %[13] . ويبدو أن الهدف وراء هذا القرار رغبة ترامب في توجيه الموارد المالية المخصصة لمواجهة الإرهاب في أفريقيا إلى قنوات اقتصادية وتجارية بغية مواجهة النفوذين الصيني والروسي.
ولم يكتفِ ترامب طيلة مدة رئاسته بما اتخذه من قرارات تسببت في تضاؤل الدور الأمريكي في مواجهة الإرهاب،حيث أعلن في ديسمبر 2020 أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها المؤلفة من 700 جندي في الصومال[14]، وهو القرار الذي سيسفر عن مآلات غير مرجوة، لاسيما مع اعتماد حكومة مقديشيو على تلك القوات في الحرب على حركة الشباب، لعل أبرزها تصاعد عنف الحركة التي شهدت أنشطتها الإرهابية مؤخرًا ارتفاعًا كبيرًا مستغلة الأوضاع غير المستقرة التي خلفتها جائحة كورونا وانشغال الحكومة بمواجهتها، فخلال الفترة من يناير 2020 حتى فبراير من العام ذاته بلغت عملياتها الإرهابية قرابة 106 عمليات، 99 داخل الصومال و7 عمليات داخل كينيا[15].
من ثمَّ فإن انسحاب القوات الأمريكية من الصومال سيؤدي إلى الانكشاف الأمني لقدرات الدولة العسكرية، ويبدو أن ترامب أراد من وراء هذا القرار الخطير تعريض بايدن لتحمل عواقبه تحت زعم أنه أوفى بوعده الانتخابي بأن ينهي الحروب اللانهائية بنهاية فترة رئاسته.
وبعد استعراض أنماط تعامل الإدارات الأمريكية منذ أحداث 11 سبتمبر حتى تولي الرئيس بايدن سدة الحكم، نجد أن إدارة بوش رغم قسوة نهجها إلا أنها كانت الأكثر حضورًا وفاعلية بالقارة الأفريقية، في حين جاءت سياسات أوباما المبنية على مفهوم القوى الناعمة بغية إثبات قدرة الولايات المتحدة على حل الأزمات وتعزيز مبدأ الدبلوماسية، لتثبت تقلص قدراتها على تحقيق الهدف المرجو من الوجود العسكري الأمريكي بالقارة، في حين جاء ترامب ليهدم ما بُني سواء على صعيد القوة الصلبة أو الناعمة، بل شهدت فترته انحسارًا واضحًا للدور الأمريكي.
من هنا يثار التساؤل الرئيسي حول الخطط التي سيتبناها الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، فهل سيستكمل إحدى هذه الاستراتيجيات أم سيضع إستراتيجية جديدة أكثر وضوحًا وفاعلية يتحقق من خلالها الهدف الرئيسي للوجود العسكري الأمريكي بالقارة وهو مواجهة الإرهاب.
ولكن قبل استعراض أبرز سيناريوهات تعامل الإدارة الأمريكية الجديدة مع ملف الإرهاب، لابدّ أولًا من التطرق للتحديات التي ستكون بمثابة المحدد والدافع الرئيسي لبايدن في تحديد آلية التعامل مع الملفات الخارجية.
ثانياـ تحديات بايدن الجديدة وتأثيرها في رؤيته بشأن مواجهة الإرهاب بأفريقيا
تشهد الولايات المتحدة حاليًا جُملة من التحديات التي ستؤثر بدورها في تحركات بايدن فيما يتعلق بالملفات الخارجية على رأسها ملف مكافحة الإرهاب بأفريقيا، وتنقسم تلك التحديات إلى داخلية وخارجية، في حين تشكل التحديات الداخلية الجانب الأكثر تأثيرًا على بايدن في بلورته لسياساته الخارجية.
1ـ التحديات الداخلية
- الانقسامات المجتمعية: جاء مشهد اقتحام بعض أنصار ترامب لمقر الكونجرس ومقتل امرأة بداخله عقب إصابتها بطلق ناري، ليعكس انقسامًا أصاب بنية المجتمع الأمريكي الذي طالما ادعى انصهار مكوناته كافة، وتُعد هذه الأزمة المجتمعية التحدي الأول الذي سيواجهه الرئيس بايدن،والتي لن تقتصر تداعياتها على الداخل الأمريكي فقط لكنها ستمتد لتطال شركاء الولايات المتحدة، وهو ما سينعكس بدوره على نمط التعاون والتواصل مع الحلفاء والمنافسين[16].
ومن المؤكد أن بايدن يعي جيدًا خطورة هذا التحدي وضرورة تحسين صورة أمريكا داخليًا وخارجيًا بوصفها رمزًا للديمقراطية الليبرالية ونبذ العنصرية، لكن الأمر الآن تجاوز حدود الإدراك، ويتطلب حلًا جذريًا سيستند بالتأكيد على مشروع فكري وأيديولوجي يحظى بقبول والتفاف من مكونات المجتمع الأمريكي، وبالتأكيد سيكون لذلك التحدي تأثيره على الدور الأمريكي في مكافحة الإرهاب، فالتركيز والاهتمام داخل البيت الأبيض سينصب حول البحث عن حلول لإعادة التئام المجتمع الأمريكي مرة أخرى، والاستعداد لمواجهة أي محاولات ترامبية لنشر الفرقة والانقسام، ما يعني أن ملف مكافحة الإرهاب ربما ستتراجع أولويته بالنسبة للإدارة الجديدة لحين استقرار الوضع الداخلي.
- مواجهةفيروس كورونا
تُعد الولايات المتحدة أكثر دول العالم تضررًا جراء انتشار فيروس كورونا المستجد، وهو ما دفع بايدن خلال حملته الانتخابية للتعهد بحشد القوى وتوحيد البلاد لمواجهة تداعيات الوباء عبر تأمين رعاية صحية شاملة لكافة الأسر الأمريكية، كما أعلن تكليفه فريقًا لإعداد إستراتيجية وطنية عبر سن قانون بالكونجرس يقضي بتمويل حملة اختبار وطنية، والمضي في صناعة المنتجات الطبية والعمل على توفير اللقاح مجاني للجميع على المدى القريب[17].
فبالرغم من حجم القوة الاقتصادية التي تمتلكها الولايات المتحدة إلا أنها تأثرت بانتشار فيروس كورونا، وهو ما سيكون له تبعات ملموسة على معظم دول العالم لاسيما الدول النامية، كأفريقيا التي تعتمد على الدور التمويلي الأمريكي في دعم العديد من الملفات على رأسها ملف مكافحة الإرهاب، حيث ستتراجع قدرة الولايات المتحدة على توفير الدعم العسكري والأمني للدول الأخرى، وستفقد قدرتها على تمويل أنظمة تسلح.
2_ التحديات الخارجية
- انتشار الجماعات الإرهابية وتغلغلها داخل أفريقيا
في قراءة تحليلية لتقرير مؤشر الإرهاب العالمي، الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام (سيدني) لعام 2020، الذي أوضح وضع الإرهاب العالمي خلال عامي 2019 وجزء من 2020، نجد أن الدول الأفريقية كانت على رأس دول العالم تأثرًا بالعمليات الإرهابية، فقد شهد عام 2020 تزايدًا ملحوظًا في معدلات نشاط التنظيمات الإرهابية، حيث وصل عدد الهجمات لحوالي 3471 عملية، أسفرت عن مقتل 10460 ضحية، في حين صُنف تنظيم داعش المتوضع غرب القارة متمركزًا بشكل رئيسي في كل من (الكاميرون تشاد نيجيريا والنيجر) بالأكثر خطورة حيث بلغ عدد أعضائه تقريبًا حوالي 3500 إرهابي[18].
يرجع ارتفاع معدلات الانتشار في القارة لاسيما في منطقة الساحل والصحراء لعدة سياقات كانت بمثابة عوامل محفزة ومثالية هيأت مناخًا لإعادة تمركز تلك الفصائل، لعل أبرزها هشاشة القبضة المركزية وعدم امتلاك رؤية سياسية وأمنية لمواجهة هذه التنظيمات، كذلك استشراء الفساد في كافة مؤسسات السلطة ما هيأ مناخًا عامًا لانتشار جرائم الاتجار بالبشر والجنس،إلى جانب الانقسامات الاثنية التي نخرت ولا زالت في بنية هيكل الدولة حتى أصبحت على حافة الهاوية[19].
جدير بالذكر أنه بعد انحسار التنظيمات الإرهابية في بعض مناطق الشرق الأوسط وتحولها للتمركز في بعض دول أفريقيا، أصبح هناك تحدٍ هيكلي وتنظيمي أمام هذه الجماعات، فعلى سبيل المثال نجد أن تنظيم داعش بوصفه الأخطر والأكثر نشاطًا في القارة يواجه حاليًا تضاربًا في المصالح بين أفرعه المختلفة، فنجد أن ولاية داعش المتمركزة في الصحراء الكبرى تتطلع نحو مزيد من الانتشار في منطقة الساحل والصحراء، في حين تسعى ولاية غرب أفريقيا لاستقطاب مجموعات من أبرز الفصائل العرقية المتمركزة كالبودما في محيط بحيرة تشاد و الهوسا شمال نيجيريا وجنوب النيجر، فهذا الصدام سيؤدي إلى محاولة كل فرع إظهار قوته والكشف عن أنيابه، ولن يثبت ذلك إلا عن طريق عمليات إرهابية واسعة النطاق؛ ما يعني تزايد معدلات التهديدات الإرهابية طالما استمرت الصدامات الداخلية للتنظيم[20].
فالانشقاقات والتصدعات التي تحدث داخل تنظيم معين لا تعني بالضرورة انهيار التنظيم وزواله بل ربما تكون سببًا في إعادة هيكلته من جديد، وإعادة النظر في أوجه القصور التي يعاني منها، وإصلاحها والعودة من جديد بشكل أشرس وأشد ضراوة، ولعل مثال داعش شاهد على ذلك بعد تلقيه هزيمة ضارية في سوريا والعراق، حينها تعالت الأصوات التي تتحدث عن انهيار التنظيم بلا رجعة، إلا أن الجميع فوجئ بتسلل العناصر الهاربة إلى منطقة الساحل والصحراء وغرب أفريقيا، وأعادوا هيكلتهم من جديد، ليُصنف داعش وفقًا لمؤشر الإرهاب لعام 2020 بأنه الأكثر خطورة في القارة[21].
وزاد الأمر خطورة بعد قرار ترامب سحب القوات الأمريكية من الصومال، حيث سيعزز ذلك تنامي أنشطة حركة الشباب في الإقليم الشرقي، بالتزامن مع شراسة الهجمات الداعشية في أقاليم القارة المختلفة، ما يعني أن العمليات الإرهابية ستشهد تصاعدًا مستمرًا خلال الفترة المقبلة، ليمثل ذلك تحديًا ثقيلًا بالنسبة للإدارة الجديدة فيما يتعلق بملف مكافحة الإرهاب بالقارة، الذي تزامنت خطورته مع التحديات الداخلية التي يواجهها بايدن.
- تأثير التحالفات الأمريكية العالمية الجديدة في ملف مواجهة الإرهاب
منذ تولي ترامب للرئاسة الأمريكية، وتبنيه مبدأ “أمريكا أولًا”، بدأ في اتباع نهج عزل الولايات المتحدة تدريجيًا، وذلك من خلال تعميق الخلافات مع عدد من دول العالم كالصين وروسيا وبعض الدول الأوروبية، إلى جانب مزيد من التهميش لدول القارة الأفريقية، وعزز من تلك العزلة إقدامه نحو إلغاء بعض المعاهدات والانسحاب من اتفاقيات أُبرمت في وقت سابق؛ وهو ما تسبب في تراجع الثقة الدولية بالقيادة الأمريكية، ويستدل على هذا التراجع مما حدث على سبيل لمثال في مايو الماضي بعد تفشي جائحة كورونا، فلم نلحظ أي دور فاعل للولايات المتحدة، في المقابل شاركت نحو 40 دولة ومانح في تقديم مساعدات طبية، والتعهد بدفع أكثر من 8 مليارات دولار للمساعدة في تطوير لقاح ضد فيروس كورونا [22].
من هنا بدأ حلفاء الولايات المتحدة التقليدين، الذين اعتمد ترامب على مدار فترة رئاسته من التقليل منهم، بالبحث عن شركاء آخرين أكثر موثوقية،ولا يمكن التغافل عن العداء الأمريكي الصيني الذي عززه ترامب دون وعي منه بثقل الصين وأهميتها الدولية، نظرًا لما تمتلكه من موارد ساعدتها في النمو بشكل متسارع مقارنة بواشنطن، وجدير بالذكر أن الصين تُعد من أعظم الاقتصادات التي تمكنت من تحقيق أكبر معدل نمو خلال عام 2020، ما يعني تمكنها من أن تحل محل الولايات المتحدة التي اعتبرت على مدار عقود عدة المحرك الأساسي للنمو العالمي .
فمن أخطر الأخطاء التي وقع فيها ترامب وعمقت عداءه مع الدول الأوروبية هو مساومته الحلفاء بالاختيار بين العلاقة الأمنية والعسكرية مع واشنطن أو الاقتصادية مع بكين، ولكن كانت الأفضلية للخيار الاقتصادي، خاصة وأن الصين تعتبر بمثابة ورشة التصنيع الأولى في العالم، والشريك التجاري الأهم للدول الأوروبية، إلى جانب الانسحاب من اتفاقيات ومنظمات عدة، على سبيل المثال الانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ واتفاقية المناخ ومنظمة اليونسكو، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وأخيرًا الانسحاب من منظمة الصحة العالمية[23].
فالولايات المتحدة لم يكن لها أي دور ملموس خلال فترته في أبرز القضايا الدولية والإقليمية، كما في المشهدين السوري والليبي، وكذلك ملف سد النهضة المصري، والأوضاع المتوترة في العراق،فالعداءات التي رسخها ترامب تلقي بتحدِ خطير حول آلية تعامل الإدارة الجديدة معها، وكيفية مواجهة بايدن كل هذه الإشكالات .
وبالتأكيد سيكون لتداعيات إستراتيجية بايدن في التعامل مع تلك التحديات، أثرها الممتد على قدرته في مواجهة الإرهاب، ففي حال سار على نهج ترامب واستمرت الحروب الاقتصادية، سيتسبب ذلك في مزيد من العزلة الأمريكية، وهو ما سيؤثر بدوره على ميزانية تمويل قوات مواجهة الإرهاب في القارة.
ثالثا: الاستراتيجية العسكرية لبايدن تجاه أفريقيا.. بين 3 سيناريوهات
رغم أن الرئيس بايدن لم يبِد الاهتمام المطلوب أثناء حملته الانتخابية بشأن ملف مواجهة التنظيمات الإرهابية في أفريقيا، حتى أنه لم يعلق على قرار ترامب ديسمبر المنصرم حول سحب القوات الأمريكية من الأراضي الصومالية، وجُل ما تناوله بشأن أفريقيا أثناء حملته الانتخابية هو نيته عقد قمة للقادة الأفارقة على غرار ما فعل الرئيس أوباما عام 2014[24]؛ إلا أنه يوجد ثلاث سيناريوهات متوقعة لسياسة بايدن العسكرية تجاه مكافحة الإرهاب بأفريقيا.
السيناريو الأول: المُضي على استراتيجية ترامب
هناك عدة معطيات تدفعنا لطرح هذا السيناريو، لعل أبرزها تجاهل ملف مكافحة الإرهاب، وتراجع أولويته تمامًا على صعيد الخطاب السياسي لبايدن، الذي لم يلتفت إلى الوضع الأمني في القارة وكيفية التصدي له، في المقابل تصدرت التحديات الداخلية جُملة خطابه، كالانقسامات التي دبت في بنية المجتمع الأمريكي، والتي شاهدناها بوضوح فور الإعلان عن نتيجة الانتخابات الرئاسية، إلى جانب وضع الاقتصاد الأمريكي، وتأثير جائحة كورونا على بنيته، والبحث عن آليات للمواجهة[25].
ويعكس تصريح بايدن المتكرر بشأن رغبته في إنهاء حروب الولايات المتحدة الأبدية علامة استفهام بشأن ماهيته، فهل يُعد بمثابة إعلان ضمني عن تخلي واشنطن عن حروبها بالخارج، وانكبابها على ملفات أخرى دون الملف الأمني والعسكري بالخارج[26]؟
ولو افترضنا صحة هذه الفرضية فهذا يعني أن الوضع الأمني بالقارة في خطر بالغ، ولعل قرار الرئيس بايدن في الرابع من فبراير الجاري بتوقف دعم الولايات المتحدة للعمليات العسكرية في اليمن، بما في ذلك بيع الأسلحة[27]، من أهم المعطيات التي تدفعنا لطرح هذا السيناريو، ومن ناحية أخرى لابد أن نضع المواقف السابقة لبايدن على مدار حياته السياسية ضمن المعطيات، حيث اعتراضه عام 2007 على زيادة القوات الأمريكية في العراق وإشرافه على السياسة الأمريكية لسحب القوات من العراق عام 2011، ما يعني أنه يميل إلى حد كبير نحو تقليل التدخلات العسكرية الخارجية.
ولكن رغم ما سبق يظل هذا السيناريو الأضعف، خاصة وأن رؤية بايدن تستهدف إعادة مكانة الولايات المتحدة، وريادتها للعالم، وانسحابه من ساحة مواجهة الإرهاب، يعني مزيد من تراجع ثقل واشنطن وإفساح المجال لعواصم أخرى كي تسد الفراغ الأمريكي .
السيناريو الثاني: سياسة عسكرية صارمة
يرتكز هذا السيناريو إلى انتهاج جو بايدن سياسة مغايرة تمامًا للرئيس ترامب، الذي لم تحظ أفريقيا ولا ملف مكافحة الإرهاب تحديدًا بأي اهتمام خلال فترة حكمه، حتى أنه لم يُجرِ أي زيارة لدولة أفريقية، وكذلك سياسة مغايرة لسياسة أوباما، الذي تجنب فكرة الصدامات العسكرية مع تلك التنظيمات، وانصب اهتمامه على الحقوق المدنية والسياسية، إلى جانب التركيز على المشروعات التنموية، مع إهمال الجانب الأمني والعسكري بالشكل المطلوب، لتتسبب سياسة أوباما الأمنية الرخوة تجاه أفريقيا بتغلغل الجماعات الإرهابية وتمركزها في مناطق عدة داخل القارة.
فمن خلال الخبرة السياسية لبايدن الذي تم انتخابه ست مرات عضوًا في مجلس الشيوخ، إلى جانب مواقفه السابقة يمكن استشراف توجهه السياسي بشأن ملف ما، حيث دعا بايدن إلى تدخل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في حرب البوسنة خلال عامي 1994 و 1995، كما صوت لصالح قرار السماح بشن حرب العراق عام 2002[28]، ورغم اعتراضه على زيادة القوات العسكرية في العراق وإشرافه على العملية السياسية لانسحاب تلك القوات،لكن يبدو أن هناك طورًا في حياة بايدن السياسية آثر التوسع الخارجي، ولا نستبعد أن يكن له تأثير ما على قراراته بشأن التدخل العسكري في أفريقيا لمواجهة الإرهاب.
ومن جهة أخرى نجد أن خلفيات كبار مساعديه ربما تعزز هذا السيناريو، حيث قام بتعيين أنطوني بلينكين وزيرًا للخارجية، فبلينكين يمتلك وجهة نظر تتمحور حول ضرورة أن تتولى الولايات المتحدة دور قيادي في العالم، وعدم السماح للصين بملء أي فراغ، وكان بلينكن من أبرز داعمي أوباما للتحرك الأمريكي في سوريا، كما دعا بايدن مؤخرًا لدعم العمل العسكري في ليبيا[29].
ومن جهة أخرى هناك دور مرتقب يمكن أن تلعبه أفريل هاينز مديرة المخابرات المركزية في إدارة بايدن، والتي أسندت إليها وظائف مجلس الأمن القومي، ووكالة المخابرات المركزية في إدارتي بوش وأوباما، حيث كانت من رعاة برنامج أوباما الذي استهدف تصفية الإرهابيين بطائرات مسيرة، وأثارت قلقًا كبيرًا لدى جماعات حقوق الإنسان نتيجة لسياستها الشرسة، فربما سيكون لهؤلاء المساعدين بخلفياتهم العسكرية والأمنية دورًا في اتجاه بايدن نحو تبني سياسة عسكرية صارمة تجاه أفريقيا، عبر الحفاظ على الوجود العسكري الأمريكي وتوسيع عمليات مكافحة الإرهاب، عن طريق إعادة هيكلة تمركز القوات الأمريكية[30].
فالتحديات التي تواجهها الإدارة الجديدة ربما تدفعه لتفعيل هذا السيناريو، فمن جهة تعمل واشنطن على احتواء وتحجيم النفوذ المتنامي للصين وروسيا على حساب المصالح الأمريكية، ومن جهة أخرى تسعى لطمأنة الحلفاء الأوروبيين التقليدين، كفرنسا التي أبدت قلقًا كبيرًا إزاء القرار الأمريكي بسحب القوات الأمريكية من الصومال أو تقليل الدعم الأمريكي لجهود مكافحة الإرهاب.
السيناريو الثالث : استراتيجية هجينة
يرتكز هذا السيناريو حول قيام الإدارة الجديدة بالتوليف بين استراتيجيتي بوش وأوباما عبر المزج بين التوجه العسكري والقوى الناعمة، ويعزز من ذلك موافقته على تفعيل استراتيجية الرئيس أوباما، التي أوصى بتطبيقها في أفغانستان والمعروفة باستراتيجية مكافحة الإرهاب الزائد Counterterrorism Plus، وذلك خلال عمله في منصب نائب الرئيس خلال الفترة من 2009 _2017[31] .
ترتكز تلك الاستراتيجية على استخدام مجموعة صغيرة من القوات الخاصة والدعم الاستخباراتي، والقيام بتوجيه ضربات عسكرية مركزة في مناطق ارتكاز التنظيمات الإرهابية، كما الحال في مالي وشمال نيجيريا وشمال موزمبيق والصومال[32]، وتجمع تلك الاستراتيجية بين التوجهين الناعم والصلب، وهناك عدة مؤشرات ترجح هذا التوجه :
- تُعد الاستراتيجية المذكورة متعددة الفوائد،حيث ستضمن استمرار الوجود العسكري الأمريكي في القارة وتقلل نفقات الدفاع والتمويل العسكري، وقد أثبتت فاعليتها بالصومال خلال فترة أوباما الثانية واستمر ترامب في تطبيقها خلال رئاسته.
- التحديات الاقتصادية التي فرضتها جائحة كورونا ستدفع الإدارة الأمريكية الجديدة نحو تخفيض نفقاتها الدفاعية والعسكرية لمواجهة الإرهاب بالخارج، وبخاصة أن الموازنة الفيدرالية الأمريكية سجلت عجزًا بلغ 3.1 تريليونات دولار خلال العام المالي الماضي[33]، ومن أهداف إستراتيجية مواجهة الإرهاب الزائد هو مواجهة سريعة للتنظيمات الإرهابية بأقل تكلفة عسكرية، وهو ما سيعزز تبني بايدن لها.
- تحدي الانقسامات المجتمعية الأمريكية ومحاولة تغيير الانطباع العالمي السلبي الذي اتخذته معظم دول العالم، والذي زعزع فرضية أن الولايات المتحدة هي واجهة الديمقراطية والليبرالية والتنوع العرقي، وهي مهمة ليس بالسهولة تحقيقها في أشهر بسيطة، حيث سيتطلب مواجهتها العمل على إصلاح الخلل الهيكلي في بنية جهاز الاستخبارات الذي اتهم مرارًا بالفساد، بالإضافة إلى مواجهة التطرف العرقي لليمين الأبيض العنصري؛لذا من الصعوبة أن تورط الإدارة الجديدة نفسها في سباقين طويلي الأمد: داخليًا من حيث محاولة إعادة اللُحمة المجتمعية، وخارجيًا على صعيد مواجهة الإرهاب في أفريقيا الذي سيتطلب دعمًا ماديًا وعسكريًا كبيرًا يصعب التضحية به في ظل هذا الوضع المضطرب.
- وجود اتجاه غالب يجمع بين الديمقراطيين والجمهوريين بشأن دعم نهج أقل عسكرة على الصعيد الخارجي فيما يتعلق بمواجهة التطرف[34].
ولعل سيناريو الاستراتيجية الهجينة هو الأكثر ترجيحًا بين السيناريوهات، فهناك حاجة ملحة لإعادة هيكلة الاستراتيجية العسكرية والأمنية للولايات المتحدة تجاه أفريقيا، ومحاولة إيجاد نهج سياسي جديد يتم خلاله اجتثاث جذور التطرف، وذلك عبر المزج بين القوتين الصلبة والناعمة، ودمج الدول الأفريقية الأكثر تأثرًا بالعمليات الإرهابية كمالي ونيجيريا وبوركينافاسو في تلك الاستراتيجية، من خلال إنشاء مراكز عمليات مشتركة تعتمد على تبادل المعلومات الاستخباراتية، وهو ما من شأنه توفير تفاصيل ومعلومات مكثفة قبل شن أي هجمة، من ثم تقليل الخسائر بين صفوف المدنيين.
رابعا: ماذا ينبغي على الدول الأفريقية؟
رغم السيناريوهات التي عرضناها، إلا أن نمط تعامل الإدارة الأمريكية الجديدة مع ملف مكافحة الإرهاب لازال غير واضح المعالم، فحتى الآن لم يصدر أي تصريح أمريكي رسمي في هذا الصدد، لذلك أصبح لزامًا على الدول الأفريقية أن تكون جاهزة للسيناريو الأسوأ، وعليها أن تتحمل مهمة مواجهة خطر تمدد التنظيمات الإرهابية بمفردها، ولن يحدث ذلك إلا عن طريق:
- تخلي الدول الأفريقية عن اعتمادها المطلق على الخارج لحل مشكلاتها، فما أحرزته المشاركة الأمريكية والأوروبية في أزمة الحروب الأهلية ومواجهة الإرهاب بالقارة من إيجابيات، لا يضاهي ما سببته من أزمات بنيوية في هيكل الدول الأفريقية، أفضت به نحو مزيد من الضعف والهشاشة،فأصبح هناك اعتماد كلي على ما يستورد من خطط ومناهج أمنية وعسكرية من الخارج كي تفعّل أفريقيًا، لُيلغي بذلك الدور الأفريقي في وضع ما يناسب بيئته من رؤى عسكرية، وهو ما يذكرنا بأزمة المساعدات الأجنبية التي جعلت الدول الأفريقية أكثر فقرًا وإذلالًا وغرقًا في الديون، ما تسبب في مزيد من الفقر انعكس على معيشة الفرد، وأدى لانقسامات داخلية وحروب مستمرة كانت نواة لتشكيل واستقطاب الجماعات الإرهابية.
- حاجة السياسة الأمنية الأفريقية للتركيز على الحلول السياسية عبر تحسين العلاقة بين الدولة والمجتمع، فالمجتمع السوي المتماسك يصعب اختراقه من قبل جماعات متمردة، لكن بالنظر إلى الدول الأفريقية نجد أنها أكثر هشاشة وضعفًا وتسلطية وفسادًا[35]، ارتكز جُل اهتمام قادتها على استمرارية شبكة المحسوبية، التي تضمن استمرار النخبة الحاكمة في السلطة، بدلًا من السعي لتحقيق السلام والأمن والانسجام المجتمعي، فوصل الأمر في أحيان لاستغلال السلطة لحالة الانقسام المجتمعي وإثارة المواطنين ضد بعضهم لتحقيق مكاسب سياسية تعود بالنفع على النخبة الحاكمة.
فالدول الأفريقية لم يكن لديها استراتيجية وطنية واضحة لمكافحة الإرهاب والتطرف حتى أنه لم يكن لديها الإرادة السياسة اللازمة لتفعيلها، وهنا تكمن المشكلة فالرؤية الأفريقية لمواجهة الإرهاب القاري هي الأهم لاستئصاله.
- على الدول الأفريقية أن تتبنى النهج الاستباقي لمواجهة الإرهاب عبر تفعيل الإمكانيات والموارد المحلية ومساهمة كافة الجهات الفاعلة محليًا وإقليميًا، بدلًا من الاعتماد على المساعدات الأجنبية سواء على مستوى التخطيط والمنهجية أو التنفيذ، فالوجود العسكري الأمريكي قائم منذ 20 عامًا، حيث كانت القارة واجهة للقوات الأمريكية في حربها ضد الإرهاب، وبُني العديد من المراكز والقواعد العسكرية في قرابة 12 دولة إفريقية، ومع ذلك شهدت العمليات الإرهابية ازدياد في معدلاتها، وهو ما يثير الريبة بشأن فاعلية تلك القوات وأهمية تواجدها[36].
وأخيرًا،لا ننكر أن الدول الأفريقية تترقب ما يمكن أن يقدمه بايدن من سياسة أمنية وعسكرية لمواجهة التنظيمات الإرهابية في القارة، لكن عمليًا مهمة مواجهة الإرهاب يجب أن تقودها الدول الأفريقية من تلقاء نفسها دون الاعتماد كُلية على المساعدات الخارجية، ولعل مستوى الالتزام والجدية التي وجدناها بين الدول الأفريقية عند تصديقهم على منطقة التجارة هو المستوى الذي تتطلبه عمليات مكافحة الإرهاب. بالتأكيد الدول الأفريقية لديها رؤى واستراتيجيات قومية تتعلق بمكافحة الإرهاب لكنها تفتقد للقيادة السياسية الواعية التي تمكنها من تفعيلها، فما تحتاجه دول القارة الآن هو التركيز على أهمية التعاون المؤسسي وتنحية الخلافات والانقسامات العرقية جانبًا، والشعور بأن سيادة الدولة وثبوتها أمام الإرهاب المستشري أهم من أي مصالح عرقية أو شخصية.
من جهة أخرى فإن إدراك خطورة الوضع الراهن لن تأتي من واشنطن أو أيًا من عواصم العالم خارج القارة حتى لو أثبتت الإدارة الأمريكية الجديدة حسن نيتها إزاء ملف مكافحة الإرهاب، لكن الإرادة السياسية والتعاون المؤسسي هما سلاحي مواجهة خطر الإرهاب، وهو ما يجب أن تنتبه له دول القارة خلال الفترة المقبلة.
[1] Pierre abramovici,”activism militaire de Washington en afrique”,le monde diplomatique,juillet 2004,p.p14-15
[2] Combined Joint Task Force – Horn of Africa,available at: https://cutt.us/5JP8k
[3] ibd
[4] Lauren Ploch, “Africa Command : US Strategic Interests and the Role of the US Military in Africa”, CRS Report for Congress, updated in August 22, 2008, p.1.
[5] Yves Boyer, “Le Regain d’Intérêt Américain pour l’Afrique : Quelles Conséquences Militaires et Stratégiques ?”, Fondation pour la Recherche Stratégique, 8 Décembre 2006, p.7.
[6] Camp Lemonnier, Djibouti, militarybases,available at: https://cutt.us/dbSjg
[7] محمد الزواوي، “افريكوم:إدارة النفوذ والنفط بالقارة السمراء”،قراءات أفريقية،عدد4سبتمبر2009،ص101
[8] تحولات استراتيجية على خريطة السياسة الدولية:معضلة أمريكا”،السياسة الدولية،عدد194،أكتوبر 2003
[9] نفس المرجع السابق
[10] LILY ROTHMAN,The Long History Behind Donald Trump’s ‘America First’ Foreign Policy,time,23 march,available at: https://cutt.us/yfhlG
[11] إدارة ترامب تقلص تمويل المساعدات الأجنبية لصالح ميزانية الدفاع، هيئة الإذاعة البريطانية،16/3/2017، متاح على الرابط: https://www.bbc.com/arabic/business-39292159
[12] Leaders of U.S. soldiers killed in Niger filed misleading mission plan, say officials,NBCnews,available at: https://cutt.us/5C1v5
[13] د. حمدي عبد الرحمن، أولويات متراجعة:لماذا تقلص إدارة ترامب وجودها العسكري في الساحل الأفريقي، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 23 فبراير 2020، متاح على: https://cutt.us/9EpfD
[14] U.S. Forces to Begin Withdrawing From Somalia on Trump’s Orders,Bloomberg,available at: https://cutt.us/DyX16
[15] أحمد عسكر، حدود وتأثير تصاعُد نشاط حركة “الشباب المجاهدين” في القرن الأفريقي،مركز الإمارات للسياسات،18/2/2020،متاح على: https://cutt.us/Zv3Nb
[16] Bente Birkeland ,Colorado Trump Voters Question What’s Next After Storming Of The US Capitol,CPR News,8/1/2021, available at: https://cutt.us/hK95R
[17] Sheryl Gay Stolberg,Biden Unveils National Strategy That Trump Resisted,the New York times,21/1/2021,available at: https://cutt.us/5sPam
[18] global terrorism index2020, available at: https://www.visionofhumanity.org/wp-content/uploads/2020/11/GTI-2020-web-1.pdf
[19] ibd
[20] ورشة عمل عقدتها مؤسسة راند، بعنوان سيناريوهات مستقبلية بديلة لسوريا: التدعيات والتحديات الإقليمية بالنسبة للولايات المتحدة، ديسمبر كانون 2013، على الرابط: https://cutt.us/GalXS
[21] نفس المرجع السابق
[22] World leaders pledge $8 billion to fight COVID-19 but U.S. steers clear,reuters,available at: https://cutt.us/YlBAs
[23] Charles E .Morrison,tradition,trump,and the future of us participation in multilateralism,available at: https://cutt.us/vX8ny
[24] us.africa leaders summit 2014,the white house,available at: https://cutt.us/keI8k
[25] Facing Intensifying Crises, Biden Pledges Action to Address Economy and Pandemic,the new York times,14/1/2021,available at: https://cutt.us/4ukAi
[26] Biden declares ‘America is back’ as he announces major foreign policy shifts,cnn,4/2/2021,available at: https://cutt.us/0VLYm
[27] الرئيس الأمريكي جو بايدن يعلن وقف الولايات المتحدة دعمها للعمليات العسكرية في اليمن، هيئة الإذاعة البريطانية،4/2/2021،متاح على الرابط: https://www.bbc.com/arabic/world-55936748
[28] A Democratic Leader on Foreign Policy, in Iraq and the Balkans,the new York times,23/8/2008,available at: https://www.nytimes.com/2008/08/24/us/politics/24policy.html
[29] Biden Chooses Antony Blinken, Defender of Global Alliances, as Secretary of State,the new York times,22/11/2020,available at: https://www.nytimes.com/2020/11/22/us/politics/biden-antony-blinken-secretary-of-state.html
[30] Biden inauguration: How the White House gets ready for a new president,bbc news,18/1/2021,available at: https://www.bbc.com/news/election-us-2020-55683895
[31] Kevin Marsh, Obama’s Surge: A Bureaucratic Politics Analysis of the Decision to Order a Troop Surge in the Afghanistan War ,Oxford University Press,Vol. 10, No. 3 (JULY 2014), pp. 265-288 (24 pages),available at: https://www.jstor.org/stable/24910832?seq=1
[32] C. CHRISTINE FAIR ,False choices in Afghanistan,foreign policy,11/1/2011,available at: https://foreignpolicy.com/2011/01/11/false-choices-in-afghanistan/
[33] Budget Deficit Hits Record $3.1 Trillion,the new York times,20/1/2021,available at: https://cutt.us/0bNmH
[34] Republicans, Democrats Split on Increasing US Defense Budget,The Chicago council on global affairs,17/12/2020,available at: https://cutt.us/7Yje7
[35] د. حمدي عبد الرحمن، متطلبات الفاعلية:هل يغير بايدن سياسة مكافحة الإرهاب في أفريقيا، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 4/2/2021، متاح على الرابط: https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/6059
[36] محمد الدابولي، التواجد العسكري الأمريكي في أفريقيا.. دوافعه وتداعياته على استقرار دول القارة، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية،17/11/2019،متاح على: https://pharostudies.com/?p=2887