تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «تطرف العصبيات في لبنان: الدولة – الأحزاب -الإرهاب» (الكتاب التاسع والتسعون بعد المئة، يوليو (تمّوز) 2023) مؤشرات صعود التعصّب والتطرف والهُويّات الفرعية، والتحديات الجديّة التي تفرضها أمام الدولة ومؤسساتها في لبنان، في ظل بروز تنظيراتٍ سياسية تستعيد مشاريع الفيدرالية الموسَّعة. فيدرس العصبيات الطائفية والنزعات الانفصالية المتباينة، من أقصى الحالات الإسلاموية الداعشية المتجددة، إلى طروحات «الانفصالية المدنية» الراهنة، مناقشًا آلية توظيف التطرف لتبرير الهيمنة الحركية على الطوائف، عبر إعادة هندسة المجتمع لاستدامة الصراع، واستغلال الأزمة الإقليمية للتطبيع مع تنامي النفوذين الإيراني والتركي في لبنان.
بدأ الكتاب بمادة مفتاحية عن العصبيات الطائفية اللبنانية وصراعاتها، والسبيل إلى نهايتها، قدّمها الخبير النفسي والأكاديمي اللبناني مصطفى حجازي، جرد فيها العقبات التاريخية أمام تشكُّل الدولة؛ مستعيدًا زعم فرضها من الأعلى. وضعت المادة أسس مظلوميات الطوائف اللبنانية؛ التي تغذي عبرها العصبيات لتمنع تحوّل الوعي الجمعي إلى الفضاء المشترك. بنى حجازي سرديته عن تأسيس دولة لبنان الكبير؛ معتبرًا أن دخول جماعاتٍ بشكل قسري سنة 1920 في تشكيل الدولة، حفّزها لاحقًا، على تحيُّن الفرص لرفض الدولة ذاتها، مشيرًا إلى فرضيات العصبية التي طرحها الأكاديمي اللبناني فردريك معتوق في كتابه «خبز الموارنة وخبز الحياة: نشأة عصبيّة وتهاويها» ليقول: إن الدولة في لبنان ولدت بعوامل فنائها. اختتمت الدراسة ببيان الراهن السياسي وتحدياته، وأبرز حجازي مخاوفه من تحوّل «شباب الظِل المحروم» إلى أداة للعنف والعصبيات، ولعل الملف الأخطر –عنده- هو هجرة العقول اللبنانية، التي تزداد مع مرور الأيام، مع خشيته أن يخلو المجال للعصبيات الطائفية وزعاماتها وأدواتها.
تسببت التحديات المتوالية أمام الدولة المركزية القوية؛ في ظهور مبادرات لمشاريع فيدرالية؛ تحاول الاستناد إلى تجارب سابقة، لذا قدم الباحث والأكاديمي اللبناني زهير حطب جردةً لمشاريع الفيدرالية، بدأها بسرد نشأة لبنان الكبير، والتحليل الاجتماعي لما قبلها، منذ نظام القائمقاميّتين (1843-1861) ونظام المتصرفية (1861-1918)، وما صاحبهما من حروب طائفية؛ وثورات وصفها بأنها «طبقية» قادها «الفلاحون» ضد الاتجاه الإقطاعي. تبنى حطب -أيضًا- سرديّة قيام دولة لبنان الكبير بالضمّ القسري لبعض الطوائف التي يزعم أنها وجدت حضورها في دول أخرى، وصولاً إلى مرحلة الاستقلال التي أخذت بــ«الميثاق الوطني»، الذي أدى -بحسب رأيه- إلى تشكيل «تسوية للتعايش الطائفي على أساس الديمقراطية التوافقية، وهوية ملتبسة يكتنفها الغموض». أرّخت الدراسة لحلقات العنف التي شهدها لبنان بين سنتي (1958-2019) وتلتها أزمات عنفية وقلق سياسي ليس آخره «انتفاضة تشرين»، واكتفاء حزب الله بدولته وتعطيله المنظومة السياسية اللبنانية.
دراسة تربُّح حزب الله من تنامي التعصّب الديني والطائفية؛ ناقشتها الباحثة والأكاديمية اللبنانية منى فياض، التي اتهمت الأحزاب باستغلال تطبيق اتفاق الطائف، لتعزيز الانتماء الطائفي لقواعدها الشعبية، ولتحويل الصراعات السياسية العادية إلى صراعات طائفية. فعمل حزب الله -مثلاً- على بناء أرضية «خطاب ثوري مؤمن» موالٍ لإيران؛ وأتى بطبقة سياسية، استبدلت العائلات التقليدية الشيعية، بمجموعة حركية جديدة كل الجدة؛ تُكفِّر «تديّن الأهل» التقليدي وتقلِب العادات رأسًا على عقب، ويعتمد قادتها على تنمية مسار الولاءات الطائفية المشروطة والزبائنية لخدمة الهُويّات الفرعية الجديدة، على حساب الدولة والهُوية الوطنية. تحدد فياض أهم المخاطر الناجمة عن توظيف الحزب خطاب العنف ورفع السلاح بوجه الآخر السياسي؛ مستدلةً بذلك على ما سُمي بهجوم «القمصان السود» على أحياء في العاصمة في أحداث عدة، من بينها ما تسميه «غزوة بيروت» سنة 2008 و«تظاهرات تشرين» سنة 2019، مشددةً على أن «المجتمع المقاوم» المتخيَّل تمت أدلجته ليستهدف الآخر داخل الطائفة نفسها بتخوينه ونسبته إلى العمالة لتبرير إباحة دمه.
درس الباحث والأكاديمي اللبناني علي خليفة، تحوير حزب الله للمناسبات الدينية، والطقوس الشعائرية، فعرض المظاهر الدينية الوافدة من إيران، بدايةً من انتقال إحياء الشعيرة الحسينية من داخل البيوت أو المساجد إلى الساحات والعلن. إلى أن تمّ في سنوات حزب الله، إضفاء الصبغة الأيديولوجية وجعل الأربعينيات فرصًا للتعبئة العقائدية والحزبية والسياسية، وبسط النفوذ على محل إقامة الشعائر كالحسينيات والتكايا وأوقافها. حلَّلت الدراسة مجموعة من الخطب والأناشيد الدينية وكيفية تحويلها الولاء، من النشيد الوطني اللبناني، إلى أناشيد مؤدلجة تنشد عصور الظهور الإمامي المهدوي المنسوب للخميني، فتُشكل بذلك تجسيدًا لصراع الهويات الطائفية، والتعريض بثقافة الآخر ورموزه.
تأثير الأحداث في سوريا (2011-2022) وتوظيفها في الداخل اللبناني، ناقشته دراستان: الأولى للباحث المصري عبدالمنعم علي، الذي تتبع دعم الارتباط الأيديولوجي، ومزاعم التغيرات الديمغرافية، والاستراتيجية العسكرية لحزب الله داخل سوريا. بينما قدمت الدراسة الثانية للباحث السوري حمّود حمّود، أثر هذا الدخول العسكري في إعادة «تطييف الأصوليات اللبنانية»، خصوصًا بعد قتال الحزب في منطقة القصير، مما دفعه لإضفاء طابع شرعي ديني على معاركه، بحجة الدفاع عن مقام السيدة زينب، بالإضافة إلى الإشارات لمكافحة الإرهاب. ويزعم الباحث أنّ الحزب سعى إلى هندسة أصولية جديدة للطائفة، وحاول استثمار الأحداث في سوريا لخدمة غرضه.
رصدت الباحثتان مايا يموت ونانسي يموت، تأثير الأحداث السورية في رفع منسوب التطرف النسائي الإسلاموي في لبنان، فدرستا آليات التجنيد لدى المنضويات إلى تنظيم داعش، كما عرضتا دور «الهيئات النسائية» في حزب الله عبر تطبيع عمليات موت المقاتلين التابعين له في سوريا، والدعاية بأسرهم لاحقًا. كشفت الدراسة عن آلة الدعاية الموجهة للأطفال في «مدارس المهدي»، إذ زعمت أنها تحاكي عمليات تجهيز الأطفال في إطار الكشافة لتحويلهم لمشاريع «شهداء» لتطبيع صناعة الموت.
قدمت الباحثة مها مهدي الوضعية القانونية التي تعامل معها المشرّع اللبناني والقانون الدولي في توصيف المسافرين للقتال في سوريا من حزب الله، أو من الدواعش، وتحاول الباحثة التفريق بين الصنفين، بزعم موافقة الدولة السورية على تدخل حزب الله! فعملت على إبراز تسمية مقاتلي الحزب في سوريا بالموالين للنظام السوري، ولكنها أغفلت النظر لعدم موافقة الدولة اللبنانية لسفر الطرفين؛ من الدواعش أو مقاتلي حزب الله، كمبدأ للتجريم. كما تبنّت الدراسة توصيف النزاع على أنه مسلح غير دولي. وقبل مناقشة إمكانية انعقاد الاختصاص الجنائي لمحاكمة المسفّرين للقتال خارج الحدود اللبنانية ومرتكبي جرائم الحرب خارج البلاد؛ فإنها تشير إلى مبدأ التكامل الذي يصرف الاختصاص أولاً إلى القضاء الوطني، ما دامت الدولة تمارس ولايتها. ولكنها تشير إلى أنّ المشرع اللبناني يعاني فراغًا تشريعيًّا على الصعيد الوطني في مسألة المقاتلين خارج لبنان، وفي الوقت نفسه لم ينضم لبنان إلى المحكمة الجنائية الدولية، فيصبح الملف معلّقًا!
عرض الباحث والمحلِّل السياسي اللبناني أمين قمورية ملف الموقوفين الإسلامويين بتهم الإرهاب في السجون اللبنانية، محددًا المسار السياسي والتاريخي الذي يتم فيه تداول الملف، بين المخاوف من غياب محاسبة الإرهابيين، والمحسوبيات الطائفية وتحديات مشروع قانون العفو المتراكم منذ التسعينيات من القرن المنصرم، والصراعات الحزبية حوله والموزعة على ثلاثة ملفات: «تجار المخدرات» و«اللبنانيين الهاربين» إلى إسرائيل، و«الموقوفين الإسلامويين». أشار قمورية إلى أنّ ملف الموقوفين بتهم الإرهاب من الطرابلسيين بقي معلقًا، وسقطت محاولات إقراره، محذرًا من تحوّل الملف إلى مادة تغذي مشاعر المظلومية، يمكنها أن تؤجِّج السخط.
قَارَبَ الباحث اللبناني في الحركات الإسلاموية محمد علوش، الفرضيات التأسيسية للمظلومية، التي تحلِّل محاولات الانفصال الإسلاموية في لبنان، بدايةً من حركة التوحيد الإسلامي، التي سعت إلى إقامة «إمارة» في طرابلس، منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم، وانتهت مغامرتها بدخول الجيش السوري إلى المدينة سنة 1985. فتحت الدراسة المسار لتفسيرات غاضبة وحيّة داخل دوائر طرابلسية، تزعم أن المدينة دُمِرت بقصد وعمد، مما أدى إلى كمون الغضب لدى المتشددين، وفورانه بدءًا من سنة 2005 مع انسحاب الجيش السوري من لبنان، ثم تناميه مع الأحداث السورية بين سنتي (2011-2020). في بداية الألفية الجديدة (1999-2000) ظهرت «مجموعة الضنية» في شمال لبنان؛ فخاض الجيش اللبناني معركته ضد الحركات الإسلاموية التكفيرية. وبعد سبعة أعوام وقعت «معركة نهر البارد» بين الجيش اللبناني و«تنظيم فتح الإسلام» في شمال لبنان، انتهت بالقضاء على التنظيم الإرهابي. أما النموذج الأخير الذي درسه الباحث فهو الحركات الإسلاموية الانفصالية في المخيمات، التي تضم تنظيم «جند الشام». حلَّل علوش المزاج الغاضب من الواقع السياسي وتوظيفه في التطرف، وزعم أن اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري سنة 2005 و«التنازلات المستمرة أربكت الشارع السُني» فمهدت لصعود التطرف وجعلت ظواهر مثل ظاهرة أحمد الأسير غير مفاجئة!
على مستوى بحث النفوذ في طرابلس نفسها؛ تناول الباحث اللبناني يغيا تاشجيان (Yeghia Tashjian) نفوذ تركيا على السُّنة الطرابلسيين والكريتيين والمردينيين والشركس، مشيرًا إلى الدعم الذي تلقاه الماردينيون ومؤسساتهم الثقافية بمساعدة الجمعيات والسفارة التركية، عبر ما أسماه «الدبلوماسية الإنسانية» التي تركز على الأفراد، خصوصًا بعد تدهور علاقة أنقرة بالطوائف الأخرى إثر الحرب في سوريا. لفت الباحث إلى مجموعة من المؤشرات الاجتماعية والسياسية حول النفوذ التركي في لبنان، أولها العلاقة القوية بين الجماعة الإسلامية وتركيا «وقد بدا ذلك واضحًا خلال احتفالية أُقيمت سنة 2015 بعد مرور مئة عام على الإبادة الأرمنية»؛ عندما نظّم إخوان لبنان وحركات أخرى تظاهرات معادية للأرمن في بيروت وطرابلس. أما المؤشر الثاني الاجتماعي، فيظهر في الطريقة التركية في ارتداء و«لف الوشاح»، وتعزيز الهويات عند الأقلية التركية في لبنان، والاحتفاء بتصريحات وزير الخارجية الأسبق مولود جاويش أوغلو بمنح الجنسية التركية لكل من يقول: «أنا تركي أنا تركماني».
في المسار نفسه، درس الباحث والأكاديمي اللبناني عفيف عثمان، حال الجماعة الإسلامية في لبنان، منذ تأسيسها سنة 1964 بتأثير مباشر ورعاية من تنظيم الإخوان في مصر، وتطرق إلى كيفية تعاطيها مع الوقائع اللبنانية والتحولات في الإقليم بين سنتي (2010-2022)، محلِّلاً أفكار فتحي يكن وتأثره بتنظيرات أبي الأعلى المودودي وسيد قطب ويوسف القرضاوي وانعكاسها على إنتاجه الفكري، وانتقاله بعد دخوله الحياة السياسية إلى الخطاب البراغماتي. وخصَّص القسم الأخير من الدراسة لتحليل انتخاب الأمين العام الجديد للجماعة الإسلامية سنة 2022، بوصفه مؤشرًا على دخولها طورًا جديدًا، مع ملاحظة تنامي نفوذ حزب الله وحركة حماس داخل هياكلها التنظيمية الجديدة.
خاتمة الدراسات قدمها الباحث والأكاديمي فادي نصّار؛ تطرق فيها لما آلت إليه المظاهرات في لبنان بين سنتي (2019-2020)، مفنِّدًا إمكاناتها في تخطي الانقسام الطائفي، ومتسائلاً عمّا إذا نجحت في مناهضة التطرف والعصبية، وسعت للتوافق بين اللبنانيين على أسس جديدة.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخصّ بالذكر الزميلة ريتا فرج التي نسقت هذا الكتاب، الذي نأمل أنْ يسد ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
يوليو (تموز) 2023