تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «تطويع المحافظة: الأوراسيون – الإسلاموية – الغرب» (الكتاب التاسع والستون بعد المئة، يناير (كانون الثاني) 2021)، الاستجابات المتباينة لفكرة المحافظة والتقاليد والتحولات الاجتماعية والسياسية في المجالين الروسي والأميركي، ويتعمّق في دراسة تنظيرات التيار الأوراسي الصاعد، وما ارتبط به من نظريات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، واستراتيجيات وتحالفات قارية، اتخذت مساراً تصاعدياً مع سعي روسيا في عهد بوتين لاستعادة «عظمتها الإمبراطورية».
تقدّر النزعة المحافظة الأميركية -التي تطرق إليها الكتاب في ثلاث دراسات- التقاليد وتحترم الحكمة التراكمية للتجربة السياسية. يُعاد النظر إليها الآن بتوجس في إطار إعادة بناء القيم الأميركية، التي يدعو إليها الرئيس الأميركي جو بايدن، وفريق عمله، إذ حُسِبَت تيارات كبيرة منها على الرئيس السابق دونالد ترمب، وهي تنتظم في أكثر من تيار تحكمه اتجاهات اقتصادية بالدرجة الأولى. بينما تبدو الفكرة في المسار الروسي أكثر شراسة وتماسكًا، وسعيًا مكشوفًا «لمقاومة الليبرالية»، ولوراثة السطوة الأيديولوجية، وتحويلها إلى حزمة أفكار تنفيذية بديلة، تجمع شتات الاتحاد السوفيتي، وتقدم لورثته وثاقاً بديلاً يقوم على الاقتصاد، والروح التقليدية المحسّنة.
حاولت إحدى الدراسات فهم المحافظة الأوراسية بالنظر إليها ضمن متغيرات ثلاثة: السلطة (الدولة)، والربح (النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي)، والقيم (الدين، والأيديولوجيا)، وذلك بالعودة إلى الحقبتين القيصرية والسوفيتية، وعملت على تفسير إعادة بناء الروح في روسيا «الاتحادية»، ليس باعتبارها عودة إلى الأمام، بل إدراك أن الجغرافيا السياسية، تفرض على دعاتها توظيف الفكرة لخدمة روسيا، والحفاظ على تصوراتها القيمية، ورصيدها الروحي الذي يتغذّى من أرثوذكسيتها، وكونها «روما الثالثة».
يبرز في موازاة المحافظة الروسية التي تعبر عنها الأوراسية الجديدة في المضمار السياسي، تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، كمجموعة سياسية من اليمين المسيحي، تؤمن بقوة الولايات المتحدة ونفوذها، وتُعتبر –بدورها- أقوى تيار يجسد مفهوم «التفوّق الأميركي». وبعيداً عن التباين في توصيفها كـــ«تيار» أو «أيديولوجيا» محافظة أو فلسفة؛ يبيّن الكتاب أن المحافظة الأميركية الجديدة، ظهرت كحركة سياسية في ستينيات القرن العشرين، وسط صقور الليبراليين الذين وجدوا أنفسهم محبطين من سمة المهادنة، التي اتصفت بها السياسة الخارجية للحزب الديمقراطي آنذاك، وكذلك بسبب تصاعد زخم الثقافة التقدمية المضادة لهم في تلك الحقبة، لا سيما معارضي حرب فيتنام.
يؤمن المحافظون الجدد –كما تزعم دراسة في الكتاب- بضرورة تعزيز الديمقراطية، وزيادة التدخل في الشؤون الدولية وفرض السلام عن طريق القوة، كما أنهم يرفضون الشيوعية حيث كانت، وينظرون بحذر للتغيرات الراديكالية؛ ويصفونها بالتطرف السياسي.
تطرق الكتاب إلى منابع الفكر السياسي المعاصر في روسيا، ومراحل تطور الاستراتيجية الخارجية في مجالها الجغرافي الحيوي وصولاً إلى منطقة الشرق الأوسط. شرحت دراسة المُنَظِّر الروسي الأبرز ألكسندر دوغين الدعائم التي تقوم عليها «النظرية السياسية الرابعة» كما يسميها، ورؤيتها إلى الشرق الأوسط، وموقفها من الإسلام السياسي؛ وما يراه «هيمنةً أميركية» على العالم! ترك «فيلسوف الأوراسية الجديدة» تأثيراً سياسياً كبيراً في الداخل الروسي ومجاله الحيوي والإقليمي والقاري، ولقيت مواقفه وآراؤه السياسية، نقداً في مراكز الأبحاث الأميركية التي عرضت لها إحدى الدراسات بالنقد والتحليل، إذ اعتبره البعض «أخطر الأيديولوجيين على الكوكب»!، ووصف بأنه «عقل بوتين الاستراتيجي»، وهو الذي حول الخصومة «الكلاسيكية الأوراسية» من أوروبا الرومانية الجرمانية؛ إلى أميركا، التي يراها مركزَ الثقافة الليبرالية الجديد، لتأكيد خصومة التيار الأوراسي للثقافة الغربية أيّاً كانت قيادتها!
طرح الكتاب البدائل الدينية والفكرية التي قدمتها «النظرية السياسية الرابعة»؛ وتوفيقها مع موقف الكنيسة الروسية الأرثوذكسية المطوّر لقضايا الوحدة، والتقليد والمحافظة، وتحديات العصر و«ما بعد الحداثة»، إذ حاولت الاستثمار في هذا التوافق، بعناية. اقترح أحد هذه البدائل «الانطلاق من إرادة الإنسان المشروطة بروحه، لا بحاجاته المادية، مع النظر إلى الإنسان ذاته كجزء من متحدٍ (شعب، إثنية… إلخ) لا كجزء ذري من مجموعٍ بلا هيئة، أو أفرادٍ مجردين من أية هوية جماعية»!
حاولت تيارات إسلاموية في تركيا وإيران، مد جسور أيديولوجية عابرة لبناء تحالف مع التيار الأوراسي، تناولته دراسة بالتمحيص والنقد، وفي حين يُظهِر تطور آراء دوغين، انفتاحاً إيجابيًا نحو المحافظة التقليدية في الدول العربية، برزت انتقادات جديّة لعلاقته بقيادات ومنظري تنظيمات الإسلام السياسي في إيران ودول أخرى، لكون هذا التيار السياسي الإسلاموي يتبنى فوضوية سياسية، وثورية لا تحترم التقليد.
نوّه الكتاب بِقِدَم الإسلام في روسيا، وعُمق صلة مؤسساته التقليدية بمنطقة الشرق الأوسط، عبر بعثات روسيا التاريخية إلى الأزهر الشريف، للتعليم الديني. كان للمسلمين التقليديين ملاحظات جدية في نقد الأوراسية الكلاسيكية لتشبعها بالبعد الأرثوذكسي والسلافي، بينما كانوا أكثر انفتاحاً تجاه التيار الجديد؛ بوصفه محافظاً، وقابلاً للتعددية الدينية داخل روسيا ما دامت تقليدية، كما توافق بعضهم؛ مع رفضه للحركات السياسية الانشقاقية داخل الإسلام، خصوصاً التيارات المتطرفة كالإخوان المسلمين.
عرض الكتاب دور المرأة الاجتماعي والسياسي في المجتمع الروسي المعاصر، وقدم تحليلاً تاريخياً مقارناً بين الاتجاه المحافظ والاتجاه الليبرالي. تضمنت الدراسة رصداً للتحولات في مؤسسة الزواج وعادات الزفاف والأعراس التقليدية، آخذة بالاعتبار التنوع الإثني (التتار، البشكير والسلاف) وطابع التعددية الدينية (الأرثوذكس، المسلمون) في روسيا. ونظّرت الدراسة؛ لأفكار محافظة بديلة، لما تراه أفكارًا غربية، كالنظريات النسوية، ومأسسة الزيجات المثلية، وغير ذلك من الظواهر التي تتعارض مع الأنماط الأسرية التقليدية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل أحمد لطفي دهشان الذي نسق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهوده وفريق العمل.
هيئة التحرير
يناير (كانون الثاني) 2021